إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 7 أبريل 2020

سلوك حضاري

سلوك حضاري
                                                                                أ. د/ محمد شامة
فضل الله الإنسان على سائر المخلوقات كلها، حيث نفخ فيه من روحه، وأمر ملائكته بأن يسجدوا له تكريماً وتشريفاً، وسخر له ما في الأرض جميعاً، ولذا كان لزاماً على الإنسان أن يشكر الله على هذه النعم، وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصي. ومن أولى واجبات الشكر والعبادة لله العلى القدير، ألا يعتدى على أخيه الإنسان، فيحافظ على النفس، والعرض، والنسب، والمال، فقد جعل الله الاعتداء عليها من الكبائر، فحمى بذلك حرمة الإنسان، وصان قدسيته، فقد قال رسول الله r في خطبته المشهورة في حجة الوداع : " أيها الناس ! إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ..... " كلمات قليلة ، تحمل مبادئ عامة - لم تتوصل المجتمعات البشرية إلى الاعتراف بها إلا في القرن العشرين ، وذلك في مبادئ حقوق الإنسان التي أعلنتها الأمم المتحدة في منتصف القرن الماضي – ولم يكن هذه هي أول الوصايا التي تأمر بالحفاظ على النفس ، والأعراض ، والأموال ، بل سبقتها أوامر محددة للجيوش ، ينبغي على المحاربين ألا يتجاوزوها ، ومن بين هذه المبادئ وصايا رسول الله للجيوش والسرايا التي كان يرسلها لرد الاعتداء على المسلمين ، أو لتأديب الخارجين عن القانون ، فقد كان r يأمرهم بألا يقطعوا شجراً ، ولا يهدموا بيتاً ، ولا يقتلوا طفلاً ولا امرأة ، ولا أعزل من السلاح ( تعبير عن المدنيين الذين لم ينخرطوا في سلك الجيش المحارب ) ، كما بين لهم أنهم سيجدون أناساً يعبدون الله في صوامعهم ، فليتركوهم وشأنهم ، أي لا يقاتل ، ولا يُقْتَل – إن اقتضى الأمر ذلك – إلا من يحمل السلاح ، ويستعمله في مواجهة المسلمين .
أرسى الإسلام هذه المبادئ، فأصبحت قواعد مقدسة، يلتزم بها الجيش في ميادين القتال، فحفظ بذلك أرواح المدنيين، وصان البيئة من التدمير والتخريب، وتلك أمور لا يلتزم بها إلا المتحضرون، ولم يصل المجتمع الدولي إلى صياغتها في مبادئ إلا في منتصف القرن العشرين، بل إنه على الرغم من صدور هذا البيان (بيان حقوق الإنسان) من المجتمع الدولي ، وموافقة جميع الأعضاء عليه ، وتشدق أبواق الدعاية وآلات البث الإعلامي بكل أنواعها ، بمبادئ حقوق الإنسان ، ودعوة الدول المارقة  – كما يسمونها – إلى الالتزام بهذه المبادئ التي ارتضتها الأمم المتحدة إطاراً لحماية حقوق الإنسان ، فلا زالت بعض الدول الكبرى – التي تدعى أنها حامية هذه المبادئ – تضرب بهذه الحقوق عرض الحائط ، إذا تعارضت مع مصالحها الاستعمارية ، أو قلصت من استغلالها لموارد الثروات في مناطق نفوذها . وأوضح دليل على ذلك ما يجرى على الساحة الدولية من تدخلات عسكرية لفرض السيطرة على منابع البترول، أو لبسط الهيمنة على المواقع الاستراتيجية، وإخضاع الحكومات لنفوذها وسيطرتها. وليتها التزمت في حملاتها العسكرية بالقانون الدولي في تعاملها مع الشعوب ، وفى إدارتها لهذه المجتمعات التي استعمرتها ، بل ضربت بكل المبادئ الإنسانية عرض الحائط ، فطفقت تقتل الآمنين العزل من السلاح ، وتهدم وتدمر المؤسسات بكل أنواعها ، بحجة محاربة الإرهاب ، وما يقومون به هو الإرهاب بعينه ، وإلا فليفسر لي المدافعون عن هذا العدوان ما تقوم به هذه القوى الغاشمة من تدمير الأخضر واليابس ، وما تمارسه من ترميل النساء وتيتيم الأطفال ، بل قتلهم في كثير من الأحيان واغتصابهم ، مما يروع الآمنين من جراء هذا العمل الهمجي الذى يطحن الأبرياء والمساكين .
إن ما تقوم به هذه الجيوش من الجنود الرسميين، والمقاتلون المرتزقة الذين يستعين بهم هؤلاء المعتدون على أوطان الغير، يتناقض كلية مع ما تدعو إليه أبواق دعايتهم من الدعوة إل حماية حقوق الإنسان، ويتعارض مع ما يتفاخر به هؤلاء من حضارة، وينافى ما يوحون به إلينا بأن شعوبهم وصلت إلى أعلى درجات الرقى والحضارة في القرن الواحد والعشرين، بل إن هذه الأعمال الوحشية التي يرتكبونها مع شعوب الدول النامية فاقت ما كانت ترتكبه الجيوش في العصور الوسطى، فهي أشبه بأعمال الحروب في عصور بدائية الإنسان وهمجيته.
فأين هذا من المبادئ التي أوصى بها رسول الله r أصحابه ، وأمرهم أن يلتزموا بها في قتالهم مع الأعداء ، فلم يقاتل رسول الله r إلا في الظروف التي لا تسمح إلا بالقتال ، فإذا لاحت بارقة أمل في تجنب القتال مال إلى السلم وكف أصحابه عن سفك الدماء ، فكان مما وصى به أمراء جيشه حين وجههم لدخول مكة ، ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم . وإمعاناً في تجنب القتال وعدم سفك الدماء، أمر أن ينادى في الناس أن رسول الله r يقول : " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ."
وهذا إجراء حضاري لم تعرفه جيوش الأمم التي تدعى أنها متقدمة ، وتزعم أنها تتصرف بأسلوب حضاري، ولم تباشره جيوش " العالم المتحضر " في ذلك القرن الذى مُلِئَ بنداءات وشعارات تذكر الناس صباح مساء عبر وكالات الأنباء وأجهزة الإذاعات المرئية والمسموعة والمقروءة بما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان المتحضر ، فما الفظائع التي ارتكبت في القرن الماضي، ولا زالت ترتكب في هذا القرن الواحد والعشرين بعيدة عن أذهاننا ، ولن ننسى ما يرتكب من وسائل الفتك والتعذيب للمدنيين العزل والأطفال الأبرياء ، ولن يمحى من ذاكرتنا ما يرتكب كل يوم من فظائع في حق الإنسانية على أيدى من يزعمون أنهم دعاة الحضارة ، وأرباب التقدم ، وحاملو لواء المدنية .
بعد أن دخل المسلمون مكة، طاف رسول الله بالبيت، ثم قام على باب الكعبة و نادى في الناس : " يا معشر قريش ! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم، وآدم من تراب ... "، ثم تلى قوله تعالى: ﱡﭐ        [الحجرات: ١٣]  ، ثم قال: " يا معشر قريش ! ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: " اذهبوا فأنتم الطلقاء. "
يجب أن يتنبه المتشدقون بالحضارة، وبما ينبغي أن يكون عليه تصرف الرجل المتحضر إلى نقطتين هامتين في هذا الخبر:
أولاهما: دعوة الرسول r - وهو في قمة انتصاره ، حيث الظروف مدعاة للفخر والتباهي – الناس إلى نبذ التفاخر بالأنساب و الأحساب ، والتعالي على الناس بما يملكه الإنسان من مال زائل ، وجاه وسلطان لا يدخلان في تقييم الإنسان في مجال السلوك والأخلاق .
وثانيهما: العفو العام عن أهل مكة، وهم الذين آذوه، وطردوه من بلده، ونقضوا العهد والميثاق الذى أبرموه معه قبل سنتين.
ألا يعد هذا دليلاً واضحاً على أن الإسلام يلزم المسلمين بأن يتجنبوا القتال كلما أمكن ذلك؟ أيوجد مثيل لهذا الموقف في عالمنا الذي مُلِئَ بالمتشدقين بالحضارة وبالسلوك الحضاري؟ ثم بعد هذا، أهناك مجال لتصديق من يدعى أن الإسلام انتشر بالسيف؟ لا، فقد وضح وضوحاً لا لبس فيه أنه يدعو إلى السلام، وأن المسلمين لا يلجؤون إلى القتال إلا في حالة الدفاع، أو لتأمين حرية العقيدة، حيث لا يكون هناك طريق آخر لتأمينها، يقول الله تعالى: ﱡﭐ  ...... ﱿ      [البقرة: ١٩٤]
                                                                                              أ. د/ محمد شامة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...