الإسلام تنوير قبل التنوير بأكثر من ألف عام
أ. د/ محمد شامة
وصلت أوروبا إلى ما هي عليه من تقدم وحضارة عبر
مرورها بمرحلتين في مجال الفكر والإبداع، وهما: عصري النهضة والتنوير؛ فقد بدأ عصر
النهضة في إيطاليا في القرن السادس عشر الميلادي، حيث بدأت ظواهر اجتماعية،
واقتصادية، وسياسية، وأدبية، وفنية، وتاريخية؛ إذ ركز علماء هذا العصر جهودهم في
العلوم الطبيعية، والفلسفية، والرياضيات. ولم يهملوا الجانب الديني؛ إذ ركزت
العديد من أعمالهم في الدين المسيحي من منظور إصلاحي، حيث تغير في الطريقة التي
اقترب منها المثقفون إلى الدين، فانعكس ذلك على المجالات الثقافية المختلفة. ويمكن
أن ننظر إلى عصر النهضة على أنه محاولة من قِبَل المفكرين لدراسة وتطور الجانب
العلمي والدنيوي من خلال بعض الأفكار القديمة، بالإضافة إلى مناهج فكرية حديثة
مبتكرة.
وتتلخص معالم عصر التنوير –الذي يحدد العلماء
بدايته في القرن الثامن عشر الميلادي-فيما يلي: حرية الفكر والعقيدة، والمساواة
بين البشر، بصرف النظر عن الجنس والدين والوضع الاجتماعي، وحقوق الإنسان في جميع
مجالات الحياة، والفصل بين المطلق والنسبي، وحرية البحث في جميع المجالات:
الطبيعية والإنسانية، وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بالإنسان وما حوله ومن حوله بما فيها عدم
قبول عصمته مهما كانت درجته الدينية والعلمانية، وما يتعلق بهذا كله في جميع
مجالات المجتمعات الإنسانية، وما يتصل بها من المظاهر الكونية، وما يتعلق بها من
نظم وقوانين.
فهل يسمح الإسلام بهذا كله؟ وهل قامت الحضارة
الإسلامية في عصر صدر الإسلام على مثل هذه المبادئ والقيم؟ وهل يجوز للمسلم أن
يعتنق تلك المبادئ التي قامت عليها الحضارة الأوروبية ليستعيد ما فقده من المظاهر
الحضارية؟ ألا يحرم الإسلام بعض عناصرها ويمنع المسلم من تقليد أصحاب الحضارة
الحديثة في كل ما يمارسونه، سلباً أو إيجاباً؟ أم أن هناك من العناصر ما طبقها
المسلمون في عصور الإسلام الأولى وبنَوْا عليها حضارتهم؟
ذلك ما سوف نبينه في عرضنا القادم للإسلام
والفكر الإسلامي:
الفرق بين الإسلام
والفكر الإسلامي:
فالإسلام: هو نص القرآن الكريم -وليس التفسير-،
والسنة العملية، والأحاديث المتواترة. والفكر الإسلامي: هو ما كتبه المسلمون حول
هذه النصوص. وعليه فمن أنكر نصًّا من نصوص القرآن الكريم-ولو حرفاً واحداً-، أو
رفض عنصراً من السنة العملية، أو جحد حديثاً متواتراً فليس مسلماً.
ولما كانت أساليب الحياة متجددة، ونظمها
متطورة، فقد وضع الله التشريعات المتعلقة بها في صورة قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة
والعصور، وتتمشى مع ما ينبغي أن تكون عليه الحياة من الاستقرار والاطمئنان، وتتفق
مع الظواهر التي يشترك فيها جميع الأجناس البشرية. أما التفاصيل والتفريعات فقد
تركها الله لعقل الإنسان يستخلصها حسب عصره وبيئته، ويستنتجها طبقاً لمتطلبات
ظروفه المحيطة به، بحيث يلبي احتياجات العصر، وفي الوقت نفسه لا تخرج عن الخط
الرئيسي الذي رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع، أو كدستور يتخذه الناس
قاعدة أصلية للتشريع، ينبثق عنه كل ما يقررونه، وما يرسمونه من لوائح ونظم.
وتكفي نظرة واحدة إلى ما يشغل المجتمعات من
قضايا كبرى، وهي على سبيل المثال لا الحصر:
-
الشورى في مجال الحكم.
-
وحرية النقد في جميع مجالات الحياة.
-
وقضية المساواة بين الناس على أساس القدرة
الذاتية، لا على أساس عرق، أو لون، أو أىّ مظهر من مظاهر الحياة المادية.
-
والعدل في توزيع الثروات القومية.
وغير ذلك من الأمور الأساسية التي تقوم عليها
حياة المجتمعات، وتؤثر تأثيراً بالغاً في رقي الأمم والمجتمعات، وموقف الإسلام
منها: يبين أنه جاء موافقاً فيها -وفي غيرها من القضايا الأساسية-لقوانين
الحياة، فرسم قواعد كلية ثابتة، وترك التفصيلات والتفريعات للفقهاء، لتكون مجالاً
للاجتهاد والاستنباط، سعياً وراء الصيغ القانونية التي تلائم بيئاتهم وعصورهم.
وعليه فقد أتاح الإسلام للعقل مساحة كبيرة يجول
فيها طبقاً لمتطلبات عصره مادام مؤمناً بوحدانية الله، ومصدقاً برسالة محمد e ، ومعترفاً بان القرآن الكريم وحى الله
أنزله على محمد بواسطة جبريلu
للناس ليكون دستوراً لهم في حياتهم، ومسلماً بالسنة العملية مطبقاً كل ما جاءت به،
ومُقِراً بصحة الأحاديث المتواترة على أنها بيان من الرسول e يجب العمل بها. وما عدا هذا فيجوز استعمال عقله في تفسير النصوص
المقدسة واستخراج الأحكام منها مادام لا يصطدم مع نص قطعيّ الدلالة. بل إن الإسلام
حث المسلم على استعمال عقله في كل ما يقابله من الأمور، سواء كانت ممارسة أخلاقية،
أو عملاً يتعلق بحياته وعلاقته بالظواهر الكونية؛ فالقرآن الكريم يدفعه في كثير من
آياته على استعمال العقل فيما يقابله من أمور حياته، أو يراه من مظاهر الطبيعة
وتقلباتها؛ فقد جاءت فيه آيات كثيرة تحث الإنسان على التفكير في نفسه، وفي كيفية
خلقه، وتوضح له أن وظيفة العقل هي التفكير، الذي يقود صاحبه إلى الهداية، وإلى
معرفة الواحد القهار، وإلى الوقوف على أسرار ماحوله من مظاهر الطبيعة. وتنوع
التعبير عن هذه القوة المدركة في الإنسان، فجاء الحديث عنها مرة بالتفكر، وتارة
بالعقل، وأخرى: بالتفقه. فلو تتبعنا الآيات التي تحدثت عنها بكلمة:
"التفكر" ومشتقاتها اللغوية، لوجدنا أن القرآن الكريم ذكر هذه المادة في
سبع عشرة آية، منها ما يحث على النفكير في آيات الله، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﱠ [البقرة: ٢١٩]، وما يدعو إلى التفكر في النفس،
كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱱ ﱠ [الروم: ٨] ، وما يوجه الإنسان إلى التفكير في
خلق السموات والأرض، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﱠ [آل عمران: ١٩٠ – ١٩١] ، وفي مظاهر الحياة حوله، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ [يونس: ٢٤].
كما أن منها ما ينفي المساواة بين ما يعطل هذه القوة، ومن
يستخدمها فيما خلقت له، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ [الزمر: ٩] ، كذلك كرر الإسلام كلمة:
"العقل" ومشتقاتها اللغوية، لحث الإنسان على عدم تعطيل ما أنعم الله به
عليه، فجاءت في أكثر من أربعين آية، منها قوله تعالى: ﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﱠ [البقرة: ٧٣]، وقوله: ﱡﭐ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﱠ [الأنعام: ١٥١] ، وقوله:ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ [البقرة: ١٦٤]
و "التعقل" و "التفكر": وظيفتان للقوة
المحركة في الإنسان، لا يجوز له أن يهملهما، وإلا كان معطلاً لما يميزه عن
الحيوان؛ إذ ليس هناك فرق حيوي بينهما سوى هذه القوة، فإذا لم تمارس فيما خلقت له
أصبح الإنسان كالأنعام، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ [الفرقان: ٤٤] ، ولم يقتصر القرآن الكريم على
دعوة الإنسان إلى التفكير في نفسه وفيما حوله وتعقله، بل خطا خطوة أبعد منهما،
فحثه على "التفقه" وهو أبعد مدى من التفكير؛ إذ من يصل إليه يكون
أكثر وعياً لما يحيط به، وأعمق إدراكاً لأبعاد وجوده وروابط الكائنات الحية حوله،
كما يجعله متفتح البصيرة دائماً، وعلى استعداد للحوار البناء، الذي يؤدي إلى نتائج
تعود بالنفع عليه في جميع مجالات حياته، ولذا وصف الله بها كل من يصل بعقله إلى
إدراك أغوار ما يعرض عليه بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﱠ [الأنعام: ٩٨] ، ويقول تعالى: ﭐﱡﭐ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﱠ [الأنعام: ٦٥] ،
بل ذم من لم يفعل ذلك وتوعده بسوء المصير، يقول تعالى: ﱡ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱠ [النساء: ٧٨] ، ويقول: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ [الأعراف: ١٧٩]
فهذه جوانب ثلاثة للقوى المدركة في الإنسان، ينبغي عليه
دينيًّا ألا تفارقه
ولا يفارقها، وإلا كان مقصراً في مهمته في هذه الحياة، و لاشك أن مثل هذا التقصير
يعوق تقدمه، فيؤدي به في أودية التخلف والانحطاط الذي لا يرضاه الله له، بل سوف
يحاسبه يوم القيامة على إهماله لوظيفة العقل مما أدى به إلى قاع التخلف، حيث يتحكم
أعداؤه الثلاثة: الجهل والفقر والمرض. وهكذا تبدو أهمية الإسلام وفاعليته
في المجتمعات التي تتمسك به، وتتخذ منهجه الإلهي لها طريقاً في جميع مجالات
حياتها.
أباح الله للإنسان أن يستعمل فكره في جميع المجالات التي
تحيط به، بل دعاه إلى هذا مراراً وتكراراً، فلو أردنا استعراض الآيات التي ورد
فيها ذكر الفكر وضرورة استعماله للوصول إلى كنه الظواهر المحيطة بالإنسان لطال بنا
العرض طولاً قد يؤدي إلى تشعب الموضوع تشعباً يستغرق كل الخطوط الرئيسية التي
رسمها الله للإنسان في محكم كتابه، وفي ذلك ما يدل على أن محور الدين وأساسه
استعمال الفكر؛ إذ به يفهم الإنسان الوحي، ويستنبط الأحكام، بل يقيس ما ورد للوصول
إلى حكم لما جد من أحداث. بل إنه استحث العقل ليباشر مهمته في الوصول بنفسه إلى
معرفة الواحد القهار، فعرض عليه قضايا فكرية ليكون التفكير فيه طريقاً موصلاً إلى
الإيمان بوحدانية الله، منها قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ [آل عمران: ١٩٠] ، وقوله: ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ [الطور: ٣٥ – ٣٦] ، وقوله: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ [الأنبياء: ٢٢] ، وقوله: ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳞ ﱠ [الأنبياء: ٢٤] ،
وقوله: ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ [المؤمنون: ٩١]
حرية الفكر:
تدور حياة الإنسان كلها على أساس الفكر؛ إذ لا يوجد إنسان
سوي بدون فكر، لأن الفكر ولهذا عصب حياة الإنسان ومدار نشاطه، ولهذا منح الإسلام
للإنسان حرية في الفكر لم يمنحها دين من الأديان، ولا استطاع مذهب من المذاهب
الإنسانية أن يصل إليها؛ إذ لم يجبره على اعتناق عقيدة التوحيد، كما لم يقبل منه
التقليد فيها، بل ذم التقليد الذي يبعد الإنسان عن ممارسة ما به تتحقق ذاته، ألا
وهو الاعتقاد بعد تفكير واقتناع بما يعرض عليه من قضيا، يقول تعالى في ذم الذين
يساقون وراء آيائهم وكبرائهم دون محاولة التفكير فيما يساقون إليه وفهم حقيقته : ﭐﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﱠ [الأنبياء: ٥١ – ٥٤] ، ويقول : ﱡﭐ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ في ذم التقليد إلى أن يصور القرآن
الكريم مشهد عتاب سوف يحدث يوم القيامة بين المُقَلِّدين والمُقَلَّدين، فيقول: ﱡﭐ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ [سبأ: ٣١ – ٣٢].
حركة عقلية إسلامية:
فإذا كان الإسلام قد ذم التقليد فيما يتعلق بالجانب الروحي
في الإنسان، ومجال التفكير فيه محدود؛ إذ لا ينبغي أن يخرج عن الإطار العام
للعقيدة، فمن باب أولى أن يذم التقليد، او التحجر على صيغ موروثة، فيما يتعلق
بشئون الحياة الدنيوية، السريعة التغير والتطور، فهو يدفع المسلم دفعاً إلى البحث
في الظواهر الكونية المحيطة به سعياً وراء تحسين مستوى الحياة في المجتمع
الإسلامي.
فهم المسلمون الأوائل هذه الروح الإسلامية، وتشبعت روحهم
بهذا، فقادوا حركة عقلية في صدر الإسلام، صالت وجالت في جميع ميادين الحياة، فنهلت
من كل ما حولها ما ينفعها في تكوين شخصيتها المتميزة، وأعطت لمن حولها ما أفاء
الله به عليها من معارف وعلوم، فلم تتقوقع داخل نفسها، بل انفتحت على ما وراء
حدودها الجغرافية والفكرية، ولم تتحجر أمام ما واجهها من أفكار ونظريات، بل تعاملت
معها بأسلوب علمي بَنَّاء، أخذت منها ما يصلح المجتمع الإنساني، وعدلت ما يمكن
تعديله، حتى يستقيم مع روحها وتكوينها، وزادت عليه من خبرتها وتجاربها ما يدفع
عجلة الحياة الإنسانية إلى
التقدم والرقي، فشيدت بذلك حضارة
إسلامية، وضحت معالمها في جميع أنشطة الحياة الإنسانية، وتركزت مظاهرها في كل
أنحاء المعمورة، وكثر عطاؤها لكل الشعوب، فنهل منها الراغبون، فكانت بذلك أساساً
لكل النهضات التي جاءت بعد الإسلام، وبذرة لكل ثمار الحضارات الإنسانية التي ظهرت
في القرون التالية، غير أن الإنسان تنكر لجانبها الروحي، فصار إنتاجه الحضاري
المعاصر ماديًّا لا حياة فيه، استغلاليًّا لا رحمة معه، أنانيًّا يجري وراء ما
يدمر الغير. ولن يقدر على إحياء هذه الروح في الحضارة المعاصرة إلا الإسلام،
حرية العقيدة ومجالي المطلق
والنسبي:
تدور معارك فكرية في
المجتمعات الإسلامية بين:
من ينادون بتطبيق العلمانية (التنويرية)؛ إذا أردنا التقدم
والازدهار كما حدث لأوروبا بوصولها إلى ما هي عليه الآن من رقي حضاري وازدهار
فكري، نتيجة لاعتناقها مبدأ العلمانية وتطبيق أفكارها في جميع مجالات حياتها.
وبين من يرفضها بحجة أنها تدعو إلى الانحلال والتخلص من
القيود الدينية والتشريعات الإلهية.
وقد غاب عن أذهان كلا الفريقين أسس التنوير وعلاقتها
بالتعاليم الإسلامية، فكما بينا سابقاً أن الركيزة الأساسية في العلمانية،
وبالتالي في مفهوم التنوير يقوم أولاً على استعمال العقل فيما يقابل الإنسان في
حياته، سواء اتصل به مباشرة كالأخلاق أو غير ذلك من السلوكيات الاجتماعية، وكذلك
في نظرة الإنسان إلى الوجود، وعلاقته بالظواهر الكونية، وموقفه الفكري فيما ومن
حوله؛ وقد وضح لنا من خلال سردنا لآيات القرآن الكريم التي تدعو الإنسان إلى النظر
في الكون والبحث في كل ما يتعلق بحياته أن الإسلام يتفق في هذا مع العلمانية، بل
هو يدعو في هذا الجانب إلى التنوير، قبل أن يتجه
الأوروبيون إلى هذا الجانب الفكري بأكثر من ألف عام، فهو تنويريٌّ قبل التنوير
الأوروبي.
ويعلل الداعون إلى التنوير الأوروبي رفض المسلمين تطبيق
العلمانية بأن الإسلام لا يتفق معها من جانب النظر إلى المطلق والنسبي؛ إذ يرون أن
المسائل الدينية في نظر المتدينين أمور مطلقة لا نسبية فيها، في حين أن العلمانية
لا تعترف بالمطلق، فكل الأفكار نسبية، تحتمل الخطأ والصواب. وقد غفل هؤلاء عن عمد أو
جهل بأن المطلق في الإسلام هو القرآن الكريم (النص وليس التفسير)، و ما عداه من
تفسير واستنباط للأحكام مسائل نسبية، بدليل اختلاف العلماء والمنظرين في مجال
الدين الإسلامي في تفسير آيات الإحكام، واستنتاج التشريعات الفقهية منها، وقد بينا
ذلك في الفرق بين الإسلام والفكر الإسلامي؛ فالفكر الإسلامي من ألفه إلى يائه آراء
نسبية، وليست من المطلق؛ نص على ذلك الفقهاء أنفسهم؛ فقد قال الشافعي: "رأيي
صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب." ، وقال الإمام أبو حنيفة :
"هذا أفضل ما توصلنا إليه، فمن جاءنا بأفضل منه تبعناه."، فماذا يكون
النسبي إذا لم يكن هذا التصريح من أكبر الفقهاء نسبيًّا. فكل ما توصل إليه
العلماء في كل المجالات الفكرية أمور نسبية، وليست من قبيل المطلق، وقد وصل إلى
هذا التصور علماء الفكر الإسلامي قبل أن يصل إليه علماء عصري النهضة والتنوير
بأكثر من ألف عام.
أضف إلى ذلك ما يراه –أي
العلمانيين-من أن حرية العقيدة غير مكفولة في المجتمع الإسلامي، ويستدلون على ذلك
بآراء الجهلة بالتعاليم الإسلامية والمتطرفين عن غير بصيرة بالآيات القرآنية من
وجوب إقامة حد الردة على من يرتد عن الإسلام، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن هذه آراء
مجموعة لا تفقه فلسفة الإسلام ويعتبرونهم ممثلين للفكر الإسلامي، فهم –أي
العلمانيين-معهم (أي مع هؤلاء الجهلة بالتشريع الإسلامي-في الجهل، أو على الأقل
ليس في استطاعتهم التفريق بين العلماء المبدعين، ومن يدعي العلم بالإسلام بناءً
على قراءة بعض سطور كتبها من يماثلهم في الجهل بالمبدأ الإسلامي الذي يدعو إلى
حرية العقيدة، فقد قال الله: ﱡﭐ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗﳘ ﳩ ﱠ [البقرة: ٢٥٦]،
هذا حكم من لم يدخل الإسلام، فلا ينبغي إكراهه على اعتناقه، أما من دخل في الإسلام
وارتد فقال الله في حقه: ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﱠ [النساء: ١٣٧]، فهذا دخل في الإسلام ثم خرج منه
أكثر من مرة، ولم يأمر الإسلام بإقامة حد الردة عليه، بل إن الله I عاب على النبي e حرصه الشديد
على حمل الناس على الدخول في الإسلام، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱠ [يونس: ٩٩]، أي لا تكرههم على اعتناق
الإسلام. وما ثبت في التاريخ الإسلامي –إن صحت الرواية-من إقامة الحد على مرتد،
فلم يكن ذلك لارتداده، وإنما لإعلانه الحرب على المجتمع الإسلامي، فحكمه حكم
الخائن، و لاشك أن الخائن في جميع الدساتير يحكم عليه بالإعدام.
أليست حرية العقيدة التي صانها الإسلام للإنسان تنويراً في
الفكر الإسلامي ظهر قبل تنوير الأوروبيين بأكثر من ألف عام!!!!!
الجانب المادي في الحضارة
الإسلامية:
كانت السيادة للحضارة الإسلامية على جميع
الحضارات التي تلتها في جميع المجالات؛ فقد احتل الجانب المادي مساحة واسعة بجانب
الروحي، فكانت تمشي على رجلين، بخلاف الحضارة الأوروبية العرجاء؛ إذ هي تمشي على
قدم واحدة، ألا وهي المادية؛ إذ كاد الجانب الروحي يختفي تماماً منها، فهم -أي
الأوروبيين-ماديون في جميع سلوكياتهم ومعاملاتهم، فالأنانية مسيطرة عليهم،
واستغلال الشعوب طابعهم حتى اليوم بعد انحسار الاستعمار العسكري؛ فهم يحاولون بشتى
الطرق نهب ثروات الشعوب الأخرى بطرق شتى وأساليب متنوعة؛ بل إن العنصرية ضد الجنس
الملون واضحة وضوح الشمس في تعاملاتهم الفردية والاجتماعية، وكذلك الدولية. أما
الحضارة الإسلامية فقد قامت على أساس الوحدة الإنسانية؛ فقد قال رسول الله e في خطبة الوداع: "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا
فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى". كما استندت هذه الحضارة على احترام الآخر
وعدم التعالي عليه، فقال تعالى: ﱡ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﱠ [الحجرات: ١٠ – ١١]، بل ربطت بين وجود الإيمان وحب الآخر، فقال e : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه".
فإذا طرح علينا العلمانيون مبادئ
العلمانية بَيَّنَّا لهم أن الجوانب الإيجابية فيه كانت موجودة في الحضارة
الإسلامية قبل ألف عام من وجودها في أوروبا، أما الجوانب السلبية كـــــــ: الحرية
الجنسية، والشذوذ الجنسي، والأنانية، واستغلال الآخرين، وغيرها من الجوانب التي
تضر الفرد، أو تصيب المجتمع بالضعف والانحلال، فهي مرفوضة؛ لأنها تعتبر من نفايات
الحضارة التي نحرص على حماية مجتمعنا منها؛ فنحن نؤيد قلباً وقالباً كل ما يحمي
الإنسان: حياته، ودينه، وعقله، وماله، ونسله، نحميه من كل ما يمسه بسوء في هذه
الأمور الخمسة، لأنها لو تحققت في أيّ مجتمع لانتعش وازدهر، وقوي تماسكه في مواجهة
العواصف والأزمات، وعاش أفراده في أمن وسلام، وتمتعوا في جميع المجالات بكل
الإيجابيات التي تسعد الإنسان وتحفظ كيان المجتمع.
الديمقراطية في الحضارة الإسلامية:
يدعي العلمانيون أنهم دعاة الديمقراطية في
العصر الحديث، وحماتها من سطوة الديكتاتوريين، وتجاوز من تسول له نفسه من الحكام
استغلال الشعوب وقهرهم وإجبارهم على الخضوع لأهوائهم وشهواتهم، وأنهم موكلون – ممن
لا أدري!!!!!-بنشر هذه الديمقراطية في العالم، وإجبار الحكام على التسليم بمبادئها
والخضوع لتنظيماتها وآلياتها، فهم لا يفتؤون –إن تلميحاً أو تصريحاً-يرددون بأن
الشعوب الإسلامية لم يعيشوا في ظلها، ونسوا –أي العلمانيين-أن الشورى من المبادئ
الأساسية في الإسلام، وهم –أي المسلمين-يقرؤون صباح مساء قوله تعالى: ﱡ ﲎ ﲏ ﲐ ﲔﱠ [الشورى: ٣٨]، ويدركون منذ أكثر من ألف عام أن
مبدأ الشورى إذا أطلق في مجالات الحياة المختلفة، سواء كانت أسرية، أو اجتماعية،
أو سياسية، أو غير ذلك من الأنشطة الإنسانية المختلفة والمتنوعة، استقامت حياة
الناس، واستوت على الطريق السليم، فلا ظلم ولا عدوان، ولا استغلال ولا استعباد؛ إذ
تُسَدُّ الطرق أمام الجبابرة والطغاة، فلا يستطيعون فرض رأي أو تطبيق ما لا تراه
الأغلبية صالحاً لحياتهم جميعاً، وتُوصد الأبواب أمام الطامعين والمغامرين، فلا
يملكون من الوسائل ما يمكنهم من استغلال العامة للاستيلاء على أموالهم، وليس لديهم
في ظلها ما يهيئ لهم الظروف لاستنزاف طاقات العمال لصالح خزائنهم، أو يمهد لهم
الطريق للسيطرة على وسائل الإنتاج، والتحكم في أسواق التصريف لينمو رصيدهم، وتزداد
ثرواتهم تضخماً على حساب عامة الناس من المستهلكين والمتعاملين في مجال الحركة
الاقتصادية؛ لأن الشورى هي مفتاح الأمان في المجتمع، تضبط مسار المال، وتُقَوِّم
المعوج في دهاليز الحركة المالية، وتحافظ على الطاقات الإنتاجية، بحيث لا يأخذ أحد
أكثر من حقه، ولا يجار على حق أحد، فيُسْتَغَل مجهوده لحساب آخر، فهي بمثابة عجلة
القيادة، تضبط العلاقات في المجتمع، حتى لا تنحرف مسيرة الحياة، فتطغى طبقة على
أخرى، أو تستأثر مجموعة بالموارد الاقتصادية، بينما يعيش باقي الشعب على الفتات،
الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، أو يزاحم أصحاب الهيمنة والسلطان ذوي الكفاءات
والطاقات المنتجة، فيختل التوازن، وتهتز القيم، فيهوي المجتمع في قاعٍ سحيق، يحول
بينه وبين الاستمرار في التقدم على طريق الحضارة.
كذلك يتمتع الإنسان
في ظل الشورى بالكرامة الإنسانية، فلا تهان آدميته، ولا يمتهن وجوده؛ إذ تعطيه
الحق في المشاركة بالرأي والفكر في بناء مجتمعه، وتهيئ له وسيلة الشعور بقيمة
الحياة داخل إطار مجتمع، يحس أفراده جميعاً بأنهم شركاء في تقرير مصيرهم،
ومتكافئون في تحديد مسار حياتهم، ومتعاونون-كلٌّ حسب طاقته وكفاءته-في بناء
مستقبلهم، فلا حرمان لأحد من المشاركة في هذا المجال، بحجة العزل السياسي، أو
المحافظة على أمن الدولة، أو بسبب الاضطهاد الديني، أو العداء الفكري، أو الانتساب
إلى طائفة معينة، أو مجموعة محددة، بل لكل من يعيش في المجتمع حق الإسهام بما يستطيع
في تكوين وتطور شكل الحياة الاجتماعية، بشرط ألا يخرج عن الإطار العام الذي رسمه
الإسلام للناس، وذلك هو المفهوم من قوله تعالى:
ﱡ ﲎ ﲏ ﲐ ﲔ ﱠ [الشورى: ٣٨].
ويلحظ المرء أن الأمر بالشورى ورد في القرآن الكريم كمبدأ
عام –شأنه في ذلك شأن كثير من المبادئ والتعاليم الإسلامية-فلم يحدد الإسلام
لتطبيق الشورى شكلاً معيناً، ولم يرسم لها نموذجاً خاصًّا، بل أطلقها، وذلك لأن
حياة المجتمعات ليست واحدة، فمشاكلهم وظروف حياتهم مختلفة ومتنوعة، فلو حدد لها
شكلاً خاصًّا لكان في ذلك إحراج لمن لا تصلح حياتهم لتطبيقه، فإما أن يطبقوه فتسوء
أحوالهم، وإما أن يتركوه ويطبقوا ما يناسبهم من الأنظمة، فيكونون بذلك قد خالفوا
تعاليم دينهم.
ولهذا اهتم الإسلام بتثبيت المبدأ العام،
وهو "الشورى"، وترك صور تطبيقها للناس، يكيفون صيغتها حسب ظروفهم
وأحوالهم. ولا شك أن هذا هو أحد الأدلة التي تثبت للناس جميعاً –سواء كانوا مسلمين
أو غير مسلمين-أن الإسلام عالميّ، زماناً ومكاناً، فهو صالح للتطبيق في كل
المجتمعات، رغم اختلاف أحوال الناس، وتباين بيئاتهم، كما يتناسب مع متطلبات كل
عصر، مهما بلغت فيه درجة التقدم والحضارة.
وعلى الرغم من وجود التطابق بين الشورى
والديمقراطية في مفهومهما، وتطبيقهما في المجتمع، فإن معارك طاحنة تدور في المجتمع
الإسلامي بين العلمانيين ورجال الدين حول الأخذ بمبدأ الديمقراطية؛ إذ يرى
العلمانيون أن هذا النظام هو النموذج المثالي لحكم الشعوب في العصر الحديث؛ ذلك
أنه يتيح لكل فرد فرصة اختيار نوابه عن طريق تعدد الاتجاهات، وتنوع البرامج
الحزبية، فهو مخير بين عدة خيارات، يختار منها ما يلائم حياته، وما يحقق مصلحته،
وما يتفق مع نظرته للحياة، وموقفه من الوجود كله. فإذا ما فاز اتجاه برأي
الأغلبية، فعلى الجميع أن يسلموا بأحقيته في تسيير دفة الحكم، مع إعطاء الاتجاه
المعارض حق مناقشة القوانين واللوائح التي يتقدم الحاكمون بها إلى المجلس المنتخب
لإقرارها كأساس لتطبيق النظام في المجتمع، ولهذا لا ينفرد شخص بتقرير مصير الأمة،
ولا يكون لمجموعة، أو هيئة أو حزب حق الاستيلاء على السلطة بدون تفويض من الشعب،
كما لا يجوز للسلطة التنفيذية اتخاذ أيّ
إجراء يتعلق بمصالح الناس، إلا إذا أجازه من اختارهم الشعب ليمثله في توجيه
أمور الدولة، فالتوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية يحفظ نظام الدولة
من التداعي والانهيار، والاعتراف بحق نواب الشعب في مساءلة رجال الإدارة والحكم
فيما يمارسونه بحكم وضعهم الوظيفي، يحمي المواطنين من قسوة الحكام وظلمهم، ويحافظ
على مصالحهم، ويؤمن حياتهم، ويرسي قواعد الاستقرار في الأمة.
بينما يرى بعض رجال الدين أن هذا من النظم
التي أقرتها العلمانية، ومادامت العلمانية لا تعترف بوجود الدين-كما هو الحال في
العلمانية المتطرفة-أو لا ترى بأساً من وجوده -كما هو الحال في العلمانية
المعتدلة-، غاية الأمر أنه ينحصر في ظلها في مجال العبادات، والأحوال الشخصية
-كالزواج والطلاق والميراث-، فليس له سلطان على التشريعات واللوائح التي تضبط
مسيرة الحياة، وإنما مركز التشريع ومصدره هو البرلمان المنتخب من الشعب، ولا مصدر
غيره. ولا يجوز لشعب مسلم أن يقر هذا النظام كنموذج له في الحكم، لأن المشرع هو
الله، وليس البرلمان. ثم يتطرق المتطرفون من رجال الدين إلى مظاهر هذا النظام
المتعددة، فيحرمونها كلها؛ إذ يرون أن نظام تعدد الأحزاب ليس إسلاميًّا، لأنه يفرق
الأمة شيعاً وأحزاباً، ولذلك فهو غير جائز، كما أن تسمية البرلمان بالهيئة
التشريعية حرام؛ لأن المشرع هو الله.
ربط العلمانيون -على غير أساس علمي تاريخي-هذا الموقف بما
كان عليه الحال في أوروبا إبان العصور الوسطى؛ إذ تصوروا وضع السلطة البابوية آنذاك،
يوم أن كان البابا والمطارنة والقسس يحللون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، ويدخلون
الجنة من يريدون، ويقذفون في النار من يكرهون، وتراءت في أذهانهم صور صكوك الغفران
والحرمان، حيث قاسى الحكام والأمراء منها الكثير من المتاعب والآلام، بل إن الشعوب
نفسها اكتوت بنارها، وذاقت جحيم أوارها وسعيرها، فتصوروا -أي العلمانيين-أن تطبيق
الشريعة الإسلامية في مجال الحكم والإدارة سيخلق مثل هذا الوضع في المجتمع
الإسلامي، حيث يتحكم رجال الدين في كل شيء، دون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض أو
المناقشة، لأنهم محصنون بسياج قدسي، لا يجرؤ أحد على تخطيه، اللهم إلا من خلع رداء
الإيمان.
فأيّ مسلم يستطيع أن يضع نفسه في هذا
الموقف؟
لا أحد!!!
وتكون النتيجة القضاء على كل صوت معارض،
فتترعرع الديكتاتورية الدينية، وتضيع حقوق الناس بين فكيها، وتهدر كرامة الإنسان
تحت أقدامها، كما حدث في القرون الوسطى، حيث كانت الكنيسة تبسط سلطانها على جميع
مجالات الحياة.
هذه الصورة لا وجود لها في الإسلام على
الإطلاق؛ إذ لا يُعْرَف في تعاليمه هذا المصطلح المسيحي: رجل دين، وغير رجل دين،
لأن الكل في نظر الإسلام مسلمون، لا فرق في الحقوق والواجبات بين رجل وآخر، وليس
في الإسلام عصمة لأحد من الخطأ كما هو الحال في المسيحية بالنسبة للبابا، فكل مسلم
خطاء، ومادام الأمر كذلك فلكل أحد الحق في المعارضة، لأنه لا يوجد رأي لا يجوز
معارضته، وبهذا تنتهي شبهة العلمانيين في إمكان قيام ديكتاتورية دينية؛ إذ مادام
الإسلام قد أعطى كل مسلم الحق في المعارضة فلن تقوم في ظله دكتاتورية.
أما بالنسبة لما يراه بعض "رجال الدين"
من تحريم النظام البرلماني، لأنه يدعي لنفسه حق التشريع، بينما المشرع هو الله،
فلا ينبغي أن يفهم وضع البرلمان على هذا النحو، ذلك أن تعاليم الإسلام ومبادئه
العامة لايجوز المساس بها، فهي بمثابة الدستور الذي لا يجوز للبرلمان أن يوافق على
تشريع قانون يتعارض مع مبادئه، فالتشريع يدور في أمور فرعية تندرج تحت ظل مبادئ
الدستور العامة، فإذا أردنا أن نبين طبيعة عمل البرلمان في ظل تطبيق الشريعة
الإسلامية، فإننا نرى أنها لا تخرج عن إقرار تفسير لنصوص القرآن الكريم دون آخر،
وما أكثر آراء العلماء في التفسير والتأويل. فنصوص القرآن لا يجوز الخروج عليها
صراحة، كما هو الوضع بالنسبة لعدم الخروج عن الدستور، وإنما يجوز لأعضاء البرلمان
إقرار قانون يتفق مع رأي عالم يرون فيه مصلحة المجتمع، دون رأي عالم آخر لا يحقق
هذه المصلحة، وبهذا يكون دور البرلمان هو الاختيار والانتقاء من آراء العلماء بما
يناسب طبيعة الحياة وظروف العصر.
أليس مبدأ الشورى في مفهومه وتطبيقاته
متطابقاً مع مبدأ الدمقراطية!!!!!!
طبقه المسلمون في
المجتمع قبل ظهور العلمانية الحيثة بأكثر من ألف عام، وهو أحد ركائز التنوير في
الفكر الإنساني، فهو تنوير قبل ظهور التنوير الحديث بأكثر من ألف عام.
الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أخق
بها:
قيمة فكرية قَلَّ –يل يكاد يكون من
المستحيل-أن يجدها المرء في أيّ حضارة إنسانية عبر الزمان والمكان إلا في الحضارة
الإسلامية، فهي تحمل في طياتها معاني إنسانية عالية؛ حيث تنبئ عن رفض التعصب وتدعو
إلى عدم الاعتداد بالذات، والبعد عن الترفع على الآخر، فهي تدعو إلى تقييم ما لدى
الآخر من أفكار، سواء كانت إيجابية أم سلبية، فتأخذ الإيجابي وترفض السبي منها.
أما الحضارة الحديثة فهي أنانية متعصبة، مترفعة عن قبول كثير من أفكار الآخرين،
لأن أربابه يعتقدون بسيادة ما عندهم على ما عداهم، فهل هذا تنوير!!!!
إنه
انغلاق ضد ما ليس عندهم، وعلوّ واستكبار على أفكار الشعوب الأخرى!!!!!
الحضارة الإسلامية قائمة على تعاليم القرآن الكريم،
فأبوابها مفتوحة لكل فكر بناء يفيد الإنسان، ويحمي المجتمع -حتى ولو من عند من كفر
بالإسلام-فهي تعترف بميزة الأفكار الإيجابية عند الآخرين، بل تأخذها وتطبق مفهومها
في المجتمع، أما الأفكار السيئة التي تضر الفرد أو تزلزل كيان المجتمع فترفضها ولا
تسمح بدخولها عالم الأفكار في المجتمع الإسلامي. فالأفكار الإيجابية مقبولة لدينا،
لأنها بضاعتنا ردت إلينا. أما ما ليس لها نظير عندنا، فنقبل منها ما هو مفيد
للفرد، ولا ينتج عن تطبيقه ضرر، سواء تعلق هذا الضرر بالفرد أو بالمجتمع، بشرط ألا
يتعارض المقبول منه مع نص قطعيّ الدلالة من القرآن الكريم.
ومن الأمور المُسَلَّم عقلاَ وواقعاَ أنه لا
يوجد أمر فيه مصلحة لحياة الناس يتصادم مع نصوص القرآن الكريم، وما نراه ونسمعه من
الجماعات المتطرفة من أفكار لا تتفق مع طبيعة الحياة الإنسانية، ولا تنسجم مع وقع
الحياة المعاصرة، فهو رأي بشر لا يُلْزِم؛ لأن هناك من الآراء الأخرى ما يعارضه،
ولا يقبله على طول الخط، فينبغي ألا يُؤْخَذ ما تذيعه تلك الجماعات من آراء بعيدة
كل البعد عن روح الإسلام، ومتصادمة مع فلسفة التشريع الإسلامي على أنه يمثل
الإسلام، بل هي آراء بعيدة كل البعد عن المفهوم التنويري للقضايا الإسلامية المعاصرة.
أ. د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق