المعلوم من الدين بالضرورة
أ. د/ محمد شامة
لا نستطيع أن نحدد مكانها بين هذه الأقسام إلا إذا بينا
معاني مفرداتها، ولهذا يجب علينا أن نبين معاني الكلمات
الثلاثة، التي اشتملت عليها هذه الجملة: (المعلوم، والدين، والضرورة) قبل
أن نغوص في مضمونها لبيان مدى تطابقها مع الواقع، وإلى حد يمكن أن تكون مبدأً يجب
على المؤمن الالتزام به، وعدم التفريط فيه وإلا كان عاصياً.
المعلوم: اسم مفعول من
علم الرجل: حصلت له حقيقة العلم، وعلم الشيءَ: عرفه وأتقنه، وعلم الشَّيْءَ وبه:
شعر به وأدركه. وعلم الأمرَ: أتقنه. ورجل علاَّمَة، عالم جدًّا، والهاء
للمبالغة. وعلَّمه الشَّيْءَ: تعليماً
فتعَلَّم، وتَعَلَّمَ بمعنى اعْلَمْ، قال عمرو بن معديكَرِبَ:
تَعَلَّمْ أَنَّ خَيْرَ
النَّاسِ طُرًّا * قَتِيلٌ بَيْنَ أَحْجَارِ الْكُلابِ
والمعلوم: المعروف، والأيام المعلومات:
عَشْرٌ من ذي الحِجَّة.
الدين: يختلف تعريف
الدين عند المؤمنين من رجال الدين عنه عند الفلاسفة، فبينما يعترف كثير من
الفلاسفة بصعوبة تعريف الدين، لا يجد علماء الدين صعوبة في تعريفه حسب عقيدة كل من
يحدد معنى الدين. وعلى الرغم من وجود الدين في كل زمان و مكان، فإن التنوع في
الشعائر والاختلاف في الرؤى واضح لكل من يتناول القضايا الدينية على المستوى
العالمي، إلا أن هناك عنصرين تتفق فيهما جميع الأديان على وجه الأرض، ألا وهما: العبادة
والإيمان، فهما ركيزتا أي دين مهما كانت درجته: إقليمية أو عالمية؛ إذ أن كل
متدين يمارس طقوساً حسب تصوره للمعبود، وعلاقته بالعابد، كما أنه – أي العابد –
يعتقد بوجود معبوده، أي الإيمان بوجود قوة، يخشاها؛ لأنها تسيطر عليه وتتحكم في
حياته، وتقرر مصيره بعد الممات، و إن اختلفت التصورات لهذا المعبود وتفاوتت، طبقاً
لدرجة التطور الفكري والتنوع الثقافي.
كذلك اختلفت نظرة الفلاسفة للدين،
وتعددت المصطلحات الفلسفية له؛ ففي اليونان اعتقد الفلاسفة أن آلهة الأولمب
هي المسيطرة على الطبيعة، والروح، والحياة البشرية؛ ففي الوجود – حسب رؤية
غالبيتهم – عالمان: عالم الإنسان، وعالم الآلهة. واستنكروا ما ذهب إليه البعض من
وصف الآلهة بصفات إنسانية. واستدلوا على وجود آلهة بما شاهدوه من حركة الأجرام
السماوية؛ إذ في دقتها دليل على وجود من يحركها. وذهب تفكيرهم إلى الاعتراف بوجود
مجموعتين في عالم الآلهة: مجموعة الخير، التي تهيمن على عالم المثل كما يرى
أفلاطون، والمجموعة المادية التي تتصل بالعالم المادي، حيث يطلب من الإنسان تقديم
الطاعة لها، وذلك بإقامة العدل في الأرض، فهو خير ما يقدم لها.
لم يكن مصطلح الدين " Religio"
موجوداً
في العالم اليوناني، لكنه ظهر في العالم اللاتيني، فاستخدم المفكرون كلمة دين
" Religio"
للدلالة
على معانٍ عدة: فالكلمة عند " شيشرون: مشتقة من relegere “
" وتعنى القراءة (بعناية وتركيز)، وعليه يسعى شيشرون إلى التمييز بين الخرافة
والدين الذى يرقى إلى مستوى "قراءة عاقلة". وهو إذن يدافع عن المقارنة
الفلسفية للدين. أما عند "لاكتانتيوس" الإفريقى فالمصطلح مشتق من كلمة: religare
“ " وتهنى إعادة الربط ، أو إعادة
الارتباط ، لأن "لاكتانتيوس" يقول بأن الإنسان فاقد الارتباط بخالقه ،
هذا الارتباط هو التقوى ، لأن الله يربط " religaverit " الإنسان إليه بالتقوى.[1]،
ثم جاء بعد ذلك القديس " أوغسطين " (354-430م) فاعتقد أن الله هو الخير
الخالص.
اتضحت العلاقة بين الدين والفلسفة في
العصور الوسطى، وخاصة عند الفلاسفة المسلمين؛ فقد ذهب ابن رشد
"1126-1198م" إلى أنه لا يوجد تعارض بين الدين والفلسفة، فلو وجد تعارض
فلا يخرج عن كونه تعارضاً ظاهريًّا فقط، الأمر الذي يستدعى تأويل النص القرآني،
وعليه فلا يوجد تناقض بين الدين الموجه للعامة، والفلسفة في محراب المفكرين الذين
عكفوا في أروقتهم على البحث عن الحقيقة.
وعلى الدرب نفسه سار موسى بن ميمون
"1135-1204م" في كتابه: "دلالة الحائرين". فإذا انتقلنا من
أروقة الفلاسفة المسلمين إلى ساحة العالم المسيحي، فنجد أن توما الأكويني
"1225-1274م" قد ذهب إلى تعريف الدين تعريفاً، يقرب القضية النابعة من الدين -حيث يخضع لها على عمل خالص أريد به وجه
الله -من تصورات الفلاسفة -الذين سبقوه -للدين، مثل: إعادة القراءة لـ
"شيشرون"، وإعادة لـ "لاكتانتيوس"، وإعادة الانتخاب لأوغسطين.
تعرض الدين في
الفكر الغربي الحديث، ابتداءً من القرن الخامس عشر للنقد في حلبة الصراع بين الدين
والعقل، وقد أخذ هذا النقد حيزاً كبيراً في أبحاث المفكرين بسبب ازدهار المعرفة
التجريبية لدرجة أنهم اعتبروا الدين يحتوى على أفكار هزيلة في مقابل ما وصل إليه
العلم من معلومات وتصورات، فجاء حديث الفلاسفة عن الدين متفاوتاً؛ فـ
"اسبينوزا" يقول بوجود نوعين من معرفة الله: معرفة عقلانية "يمنحها
العقل الطبيعي" ، وأخرى مستمدة من الوحي "وهى بالطبع تاريخية"، ثم
جاء بعد ذلك "إيمانويل كانت"، فميز بين الدين التاريخي، وهو الدين الذى
أتى به الأنبياء، والدين العالمي المستمد من القانون الأخلاقي. كان ارتباط الدين
بالأخلاق عند " كانت " محل نقد، وجهه إليه عالم اللاهوت البروتستانتي
الألماني "شلاير ماخر" (1769-1834) الذي رأى أن الدين لا يمكن أن يخضع
للأخلاق، بدعوى أن هذه المسألة ستضر بالإثنين (الدين والأخلاق). فالأخلاق في نظر
"شلايرماخر " لا تحتاج إلى الدين من أجل البقاء، ثم إن جعل الدين تابعاً
للأخلاق سيقضى إلى تجاهل خصوصيته.
حاول
"هيجل" (1770-1830م) و "ستلنج" (1775-1854م) بتفكيرهما في
مفهوم المطلق وإظهاره كمفهوم حقيقي، فرأيا: أن رفع الدين "الذى ظل – رغم ذلك
– في مرتبة أدنى من مرتبة الفلسفة" ليغدو المثل الأعلى للإنسانية جمعاء،
يتحقق فعليًّا في العالم الذى تعيش فيه الإنسانية.
·
ثم جاء " ماركس " ( 1755-1813م ) فانتقد الدين بوصفه بأنه أفيون
الشعوب، فسقط الدين من حساب الفلسفة الوضعية، فتوارى من مجال الفلسفة الوجودية عند
"سارتر" (
1905-1980م)، والتأويلية عند " غامر " ( 1900-3002م ) ، ولدى
تفكيكية " بريدا" ( 1930-2004م ) .
الضرورة: الضروري هو ما
أكره المرء عليه، أو ما سُلِب فيه الاختيار: الفعل أو الترك. فالمعلوم من الدين
بالضرورة، أي ما علمه الإنسان بالغريزة، ليس له فيه اختيار، بمعنى أنه علمه دون إرادة
أو سماع له من غيره، فلو كان الأمر كذلك لأصبح الناس كلهم مؤمنين، لأنه ليس لهم
اختيار.
ومن هذا يتبين أن علم هذه الجملة ليس
غريزة، وإلا أصبح كل الناس مؤمنون دون إرادة، كما أنها ليست من فصيلة المنطق
الرياضي؛ لأنها ليست نتيجة لمقدمات كما هو الحال في هذا الفن. ولهذا فهي غير
مطابقة للواقع مما يجعلها غير صادقة، فمثلها كمثل كثير من التعبيرات التي يرددها
الناس معتقدين صدقها، وهي ليست كذلك، فعلى سبيل المثال قولهم: "مَحَدِّش
بِيْنام من غير عَشَى"؛ وهي غير صادقة، لأن كثيراً من الناس على مستوى العالم
ينامون وبطونهم خاوية؛ لأنهم لم يجدوا ما يقتاتون به. وكذلك قولهم: "ما
حَدِّشْ بِيْموت من الجوع"، وهي أيضاً مثل سابقتها غير صادقة، لأن العالم
مليء بأخبار من يموتون جوعاً. ومثلها قولهم: "المعلوم من الدين
بالضرورة"؛ فهي غير صادقة؛ لأنه ليس لها واقع ملموس أو مدرك. والغريب أنهم
يستشهدون على صدقها المزعوم بقولهم: وجوب الصلاة "على سبيل المثال"
معلوم من الدين بالضرورة، وهو غير صحيح؛ فقد نص عليه القرآن الكريم، وعلم المسلمون
فرضيتها، وكيفيتها من التعليم، ومن مشاهدة من يعيشون معهم في المجتمع عن طريق
تأديتهم لها.
لم يظهر هذا التعبير في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين وتابعيهم، وإنما ظهر في القرن
الثامن الهجري عندما ساد التقليد، وتسيَّد النقل على العقل إ إذ وصلت الخلافات -في
القرون الأولى-بين الفرق والمدارس الفكرية -سواء كانت عقدية أو فقهية-إلى أدق
الجزئيات، فضلاً عن الخلاف الجذري في القضايا الكبرى، مما أدى إلى إغلاق باب ما
يسمى بالاجتهاد. وتحول الأئمة المختلفون فيما بينهم في كل شيء إلى أئمة مقدسين لدى
فقهاء عصور التخلف منذ منتصف العصر المملوكي وطيلة العصر العثماني، حيث لا يجوز
الاعتراض على الأئمة الأوائل أو مناقشتهم أو نقدهم. وبرزت أقوال مضللة تبرر هذا
الإفك وتشرعه وتحميه صيغت في عبارات: مثل: "المعلوم من الدين
بالضرورة"، وأجمعت الأمة على ذلك الواقع المضحك لحد الرثاء؛ فلم توجد -ولن
توجد -قائمة محددة من القضايا الفقهية متفق عليها بذلك المعلوم من الدين بالضرورة؛
فالمعروف للعامة -ربما قبل الخاصة -هو الاختلاف البَيِّن بين الفرق الإسلامية،
فضلاً عن الخلاف داخل المذهب الواحد [2]
قدس الناس آراء العلماء؛ فاعتبروها
أوامر إلهية لا يجوز مخالفتها، فضلاً عن الاعتراض عليها أو مناقشتها، وبرزت في
ثنايا هذا التقديس آراء مضللة تبرر الانحراف في التفكير وتحميه بحجة أنه معلوم من
الدين بالضرورة. ومن الغريب أن الأمة كررت هذه الجملة، فصارت أمراً لا يجوز
الاعتراض عليه؛ فعندما يواجه المرء بأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة يُغْلَق
باب التفكير فيه، ويتحتم التسليم به، بصرف النظر عن البحث عن موافقته لما استقر عليه
العلماء عبر التاريخ الذهبي للفكر الإسلامي في مجال التشريع من اختلاف الآراء في
المسألة الواحدة، وقبولهم لهذا الاختلاف، بل إقرارهم بإمكانية صحة رأى المخالف
لاتجاههم في استنباط الأحكام.
فهل يمكن مراجعة ذلك لتصحيح مسار الفكر
الإسلامي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق