الجذور التاريخية لصراع الوجود في فلسطين
أ. د/ محمد شامة
يدور
الصراع بين البشر منذ الأزل، منذ أن قتل ابن آدم أخاه؛ فهو يمتد عبر التاريخ كله؛
لأنه صراع بين الخير والشر. ولن يزول من المجتمعات الإنسانية مادام هناك نفوس تسعى
لِتَمَلُّك ما بيد الغير، وطموحات لا تقف أمامها حواجز الشرعية والقانون، وطبائع
استولى عليها حب الشهرة والجاه، وملكت زمامها نوازع الشر وهمزات الشياطين، وتطلعات
جامحة إلى الثروة والجاه والسلطان؛ فقد سالت الدماء أنهاراً، وسقط القتلى زرافات
ووحداناً في ساحة القتال، ودُمِّرت منشآتٌ حضاريةٌ بالسلاح الذى ابتكره الإنسان،
وتفنن في تطويره (حتى وصل إلى الأسلحة البيولوجية) للسيطرة على الغير، واستلاب ما
يملكه من ثروات ومقتنيات، وفَرْض سلطانه على أرضه، كي يستنزف قواه، ويتحكم في
مصادر ثروته حتى تخضعَ إرادتُه لهواه، فيملكَ مقاديرَ حياته ليستخدمها في بناء
ملكه وسلطانه.
هذا هو التصور العام لكل أنواع الصراعات التي وقعت –ومازالت تقع كل يوم في
جميع أرجاء المعمورة-في المجتمعات الإنسانية عبر الزمان والمكان، لكن الصراع
الاستيطاني هو من أبشع أنواع الصراعات –إن لم يكن أكثرها بشاعة على الإطلاق- على
مدى تاريخ البشرية؛ لأن هدف المعتدي هو سلب وطن بأكمله، واقتلاع إنسان من أرضه التي
هي جزء من كيانه وكينونته؛ فهو –أي الوطن- بمثابة جزء من جسم المعتدى عليه، فمن يطرده منه كأنما خلع جذوره
التي تمده بالحياة، وسمم هواءه الذي يستنشقه، فينهي حياته بدل أن يمده بالأكسجين
الذي هو عنصر أساسي لاستمرار الحياة.
فالاستعمار
الاستيطاني هو صورة مجسمة للشر، إن لم يكن هو الشر نفسه. وهل هناك ما هو أقسى من
هدم البيوت على رؤوس سكانها، وشق بطون الحوامل، وقتل الضعفاء من الشيوخ والأطفال،
وتدمير الأخضر واليابس، وضرب الحصار حول السكان ليموتوا من الجوع والعطش، إن لم
تفترسهم آلام الجراح التي تنزف دماً ولا تجد من يداويها؛ لأن قساوة قلب المعتدي
قُدَّت من حجر، بل هي أقسى من الحجر، كما أخبرنا المولى U في قوله
تعالى: ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﱠ [البقرة: ٧٤]
حقًّا!
لا يوجد أقسى مما يرتكبه الصهاينة في فلسطين، ولا أبشع من ممارستهم الوحشية مع
أطفال الحجارة، وكيف لا! وهم أحفاد يشوع بن نون الذي أمر جنوده بأن يحرقوا المدينة
(أريحا) بمن فيها من الرجال والنساء والأطفال، كما جاء في كتبهم المقدسة![1]
ولم يقتصر الأمر على حرق أريحا، بل كان شأنهم في كل مدينة استولوا عليها؛ إذ عندما
استولى جيش يشوع على مدينة (عاي) أطلق اليهودَ على أهلها فذبحوهم جميعاً، وكان
عددهم اثني عشر ألفاً، ونهبوا كل ممتلكاتهم وبهائمهم، ثم أحرقوا المدينة، فلم
يتركوها إلا رماداً، وأسروا ملكها وقدموه إلى يشوع فشنقه على شجرة وترك جثته معلقة
حتى المساء، ثم أنزلها وطرحها عند مدخل المدينة.... وهكذا فعلوا في كل مدينة
استولوا عليها، فمن لم يُقْتَل صار عبداً لهم وعاملوه معاملة أقل مما تُعامَل بها
الدواب والأنعام.
قد
يقال: إن هذه المعاملة كانت من سمة العصور القديمة؛ إذ كان المنتصر يتحكم في أقدار
المهزومين، لكن اليهود عاملوا المهزومين بأقسى مما كان معروفاً في ذلك العصر في
مثل هذه الحالات، يؤيد ذلك ما يفعلوه اليوم مع الفلسطينيين، فلم نسمع في التاريخ
الحديث أن مستعمراً قمع ثورة شعب يريد حريته واستقلاله بالدبابات والطائرات
والصواريخ[2]،
فمشروعية الثورة تُحَتِّم على المستعمر أن يكون أكثر حكمة في مواجهتها، حتى لا تشذ
ممارساته ضدها عما ارتأته الدول المتحضرة، وصاغته في قرارات وتوصيات أجمعت عليها
الدول في منظماتها الدولية، ولكن الصهاينة هم أحفاد يشوع بن نون!!!!
أين وطن اليهود؟
يدعي
اليهود أن أرض فلسطين هي موطن آبائهم وأجدادهم، وأن من حقهم أن يعودوا إليها
ويستردوها بعد ما ضاعت منهم هذه السنين الطوال، وهذه ادعاءات لا سند لها من
التاريخ؛ إذ تنبئنا المصادر التاريخية والدينية أن آباءهم الأوائل: (إبراهيم،
وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام) لم يستقروا في مكان، فلم يكن لهم موطن ثابت، بل
كانوا يرتحلون من مكان إلى آخر، شأنهم في ذلك شأن البدو الرحل، فقد ذكرت المصادر
أن أباهم الأول إبراهيم وُلِد قبل الميلاد بنحو ألفي عام في مدينة "أور"
إحدى المدن الكلدانية التي كانت تقع في منطقة ما بين النهرين، ثم رحل مع ذويه إلى
مدينة أخرى تسمى (حاران)، وكانت تقع على أحد فروع نهر الفرات، في بلاد الآراميين،
وبعد أن استقر بها فترة من الزمن رحل عنها مع أخيه لوط إلى أرض كنعان المعروفة
الآن بأرض فلسطين. ولما كان إبراهيم قد نزح من أرض الآراميين فقد جاء في التوراة
أنه كان آراميًّا، أما الكنعانيون فقد لقبوه –حين وفد إليهم-بالعبراني، كما عُرِفَ
نسله بالعبرانيين.
فعلام تدل هذه التسمية؟
ورد لفظ "عبري" في مواضع كثيرة من التوراة بمعنى الغريب أو
الأجنبي [التكوين 19 :8، 41 :12، الخروج 1 :19] وهناك
إشارات إلى أن لفظ "عبري" استخدم على لسان الشعوب التي عاش
العبرانيون بينهم بمعنى "غريب" فكانوا يطلقون عليهم: "العبريون
أو العبرانيون" ويقصدون بذلك: "الغرباء" بل إن التوراة
نفسها تتحدث عن العبرانيين بصفتهم غرباء بما قد يعني أن العبري هو الأجنبي الذي
يعيش بين أهل البلد، كما كان هو حال اليهود في الأماكن التي نزلوا فيها.
استقر
إبراهيم بعض الوقت في مدينة "شكيم" المسماة اليوم "نابلس"، ثم
لم يلبث أن رحل من هناك وضرب خيامه في الجبل القائم بين "عامي" و
"بيت إيل" في الشمال الشرقي من مدينة "شاليم" أي
"السلام"، وهي التي أصبحت بعد ذلك معروفة باسم "أورشليم" أي
"مدينة السلام". ثم غادر هذا المكان وراح يتوغل ناحية الجنوب في أرض
كنعان، متنقلاً من موضع إلى آخر، شأنه شأن البدو الذين يتنقلون باحثين عن المراعي
الخصبة لمواشيهم، فلا يستقرون في مكان، ولا يملكون أرضاً بعينها. وحين أجدبت هذه
المنطقة رحل إبراهيم مع ذويه إلى مصر، وكان ذلك في عهد الهكسوس.
أما
إسحق فحين أجدبت المنطقة التي كان يرعى ماشيته فيها رحل إلى "جرار"
بفلسطين واستقر هناك مدة حتى طرده "أبيمالك" ملك الفلسطينيين، فمضى من
هناك وأقام في بئر سبع. ولا يختلف الأمر بالنسبة ليعقوب؛ فقد أقام في حران، ثم رحل
إلى كنعان، وأخيراً رحل مع بنيه إلى مصر.
كان
هذا حال آبائهم الأوائل، لا وطن لهم يستقرون فيه، ولا أرض يملكونها، بل كانوا
يرحلون من مكان إلى آخر بحثاً عن المراعي لماشيتهم، الأمر الذي حتم عليهم أن
يعيشوا في أماكن متفرقة بين مصر والشام والعراق.
فأين عاشوا بعد انقضاء عصر الآباء؟
ظل اليهود خاضعين لحكم المصريين زهاء أربعمائة وثلاثين سنة، إلى أن خرج بهم
موسى u إلى سيناء وظلوا يرتحلون في صحرائها من مكان
إلى آخر –تائهين-مدة أربعين سنة. يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ [المائدة: ٢٦]، مات فيه موسى u، وكان قد عين قبل موته تلميذه، يشوع بن نون
خليفة له في الزعامة علي اليهود وقيادتهم. انحصرت مهمة قيادة يشوع لبني إسرائيل في
قيادته لهم في الإغارة على أرض فلسطين واغتصابها من أصحابها الأصليين، ثم تقسيمها
بعد ذلك على أسباطهم. واستخدم اليهود في سبيل ذلك كل وسائل العنف، من قتل، وتشريد،
وحرق للمدن التي كانوا يستولون عليها، واستغرق ذلك سبع سنوات استولى اليهود فيها
على فلسطين، ولم يبق منها خارج سيطرتهم سوى مناطق صغيرة، كان يسكنها أهل الأرض في
غزة، وأشدود، وعسقلون.[3]
لما
شعر يشوع بن نون باقتراب أجله دعا إليه رؤساء اليهود وشيوخهم وأوصاهم بأن يقضوا
على البقية الباقية في الأراضي المجاورة والشعوب التي اغتصبوا بلادها، وحظر عليهم
مهادنة هذه الشعوب أو الاختلاط بها ومصاهرتها أو عبادة آلهتهم، قائلاً لهم: "......أعطيكم
ارضاً لم تتعبوا عليها، ومدناً لم تبنوها وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها
تأكلون ......"[4]
وبعد
موت يشوع بن نون عاش اليهود عيش قبائل البدو، لا تربطهم
رابطة أو يجتمع لهم شمل إلا إذا تعرضوا للخطر، فعندئذ يقيمون لهم زعيماً يتولى قيادتهم
ودفع الخطر عنهم، ثم يتولى بعد ذلك رعاية شئونهم والقضاء بينهم، ولذلك كانوا يسمون
ذلك الزعيم قاضياً. وقد ذكرت التوراة أسماء بعض القضاة مع لمحات من أعمالهم، وهم:
"عثنيئيل" و "أهود" و"شمجر" و"دبورة"
و"أيلون" و"عبدون" و"باراق" و"جدعون"
و"أبيمالك" و"تولع" و"يائع" و"يفتاح"
و"أبصان" و"شمشون" و"عالي" وكان آخر القضاة:
"صموئيل". وقد تزعم القضاة اليهود في فترات متفاوتة على مدى زمن يبلغ –طبقاً لما ورد في التوراة-أربعمائة
وخمسين سنة. وكان يحدث أن يجتمع اثنان أو ثلاثة منهم في وقت واحد.
وبعد
عصر القضاة بدأ عصر الملوك، ولم تكن فلسطين خاضعة كلها لهم؛ إذ كانت بينهم وبين
الفلسطينيين مواجهات عدة، سالت فيها دماء من الجانبين أنهاراً، وتحدى الفلسطينيون
اليهود في مواقع عدة؛ إذ يذكر التاريخ أن الفلسطينيين جمعوا جيشهم لقتال اليهود في
بقعة غربي بيت لحم، بين "شوكوه" المسماة اليوم "الشويكة" و
"عزيقة" المسماة اليوم "تل زكريا"، فحشد "شاول"
جيشاً من اليهود في "وادي البطم" المسمى اليوم "وادي السنط"
جنوب غربي أورشليم، ووقف كل من الجيشين على جبل مرتفع يفصل بينهما الوادي، فخرج
رجل من صفوف الفلسطينيين اسمه "جالوت"، ضخم الجسم طويل القامة، يلبس
خوذة من نحاس، ودرعاً من نحاس على صدره وفوق كتفيه وحول قدمه، ويحمل في يده رمحاً كنول
النساج، له سنان ثقيل من حديد، وبين يديه رجل يحمل ترسه الضخم، وقد وقف بين صفوف
اليهود متحدياً إياهم أن يخرج واحد منهم لينازله، فإن قتله اليهودي صار
الفلسطينيون جميعاً لليهود عبيداً، وإن قتل هو اليهودي صار اليهود جميعاً
للفلسطينيين عبيداً. فلما سمع اليهود كلامه ارتاعوا وخافوا جدًّا، ولم يجرؤ أحد
منهم على أن يتقدم لينازل ذلك الجبار. وقد ظل أربعين يوماً يكرر تحديه كل صباح
ومساء، واليهود جبناء محجمون. ثم أن جاء داود من وراء الغنم التي يرعاها ليطمئن
على إخوته الذين كانوا ضمن جيش اليهود. فسمع ما يقوله "جالوت" فأبدى
استعداده لمنازلة ذلك الرجل، ثم أخذ مقلاعه ووضع فيه حجراً وقذفه على الفلسطيني،
فأصابه في جبهته، فانطرح على الأرض وعندئذ ركض داود واستل سيف الفلسطيني وقطع به رأسه،
وكانت هذه أول خطوة على طريق تولي داود الملك.
مملكة اليهود
وقعت
بين داود وشاول مناوشات ومصادمات، كما حدثت بينه وبين الفلسطينيين معارك في برية
فاران شرقي بئر سبع، وفي أفيق التي تقع مكانها اليوم "رأس العين" .....
وغيرهما في ربوع فلسطين وكانت الحرب بينهم سجالاً.... غضب صمويل من شاول لأنه لم
يقتل ولم يهلك جميع ماشية عماليق كما أمره، وعقاباً له على ذلك قال له: إنه قد
خلعه فلم يعد ملكاً على اليهود وأقام داود ملكاً بدلاً منه ...... بعد مقتل شاول
في المعارك التي دارت بينه وبين الفلسطينيين خلا الجو لداود، فجاء إليه في حبرون
نحو ثلاثمائة وستون ألف رجل يمثلون جميع أسباط اليهود ومسحوه ملكاً عليهم، وكان
ذلك في نحو عام 1048 قبل
الميلاد. وكان داود في نحو الثامنة والثلاثين من عمره، فاتخذ أورشليم عاصمة له،
فاستولى من اليبوسيين على حصن صهيون الذي كانوا يحتلونه خارج أسوار أورشليم وأقام في مكانه مدينة سماها مدينة داود.
استقر به الحال فاتجه إلى مظاهر الفخفخة الملكية، وكان
في أيام داود نبي اسمه: جاد، وقد جاء إلى داود وأشار عليه بأن يبني مذبحاً للرب في
حقل "أرنان" اليبوسي فوق جبل المريا شرقي أورشليم. فاشترى داود ذلك الحقل
بخمسين شاقلاً من الفضة، وبنى هناك مذبحاً، وفي موضع هذا المذبح بنى سليمان هيكل
أورشليم.
وحين حضرت الوفاة داود استدعى ابنه سليمان وزوده
بوصاياه، ومنها أن يتمسك بشريعة موسى، وأن يبني هيكل أورشليم .....إلخ ، ومات داود
في نحو 1015 قبل الميلاد، بعد أن ملك أربعين سنة، منه سبع سنين على سبط يهوذا في
حبرون، وثلاث وثلاثون سنة على كل أسباط اليهود في أورشليم. وكان عند موته في
السبعين من عمره، وقد دفنه ابنه سليمان عند أسوار أورشليم.
وملك سليمان من 1015 حتى 975 قبل الميلاد[5]
وبعده انقسمت مملكة اليهود إلى مملكتين، مملكة يهوذا في الشمال (من عام 930 إلى
722 ق. م. وكان لها 19 ملكاً). ودارت الحرب بينهما تارة، وبينهما وبين الفلسطينيين
تارة أخرى حتى عام 722 قبل الميلاد حيث قضى الملك "شلمناصر" ملك
الأشوريين على المملكة الشمالية وسبى اليهود إلى مدينة نينوى بشمال العراق. كما
احتل الملك البابلي "نبوخذنصر" القدس عام 593 قبل الميلاد، وقبض على
ملكها وكل رجاله، وسباهم إلى بابل، واستولى على كل خزائن الهيكل ومقتنياته، ثم
أحرقه، فأخذ رئيس الكهنة زكريا بن يهودية ثياب الكهنوت، وألقى بها في النار، وقال:
مادام قد احترق الهيكل فلم يعد هناك حاجة إلى كهنة، ثم ألقى بنفسه في النار، وحذا
حذوه جميع الكهنة الموجودين.
ومما سبق يتبين أن مُلْكَ اليهود لم يدم إلا
نحو 73 سنة، من عام 1048 حتى 975 قبل الميلاد، ولم تكن أرض فلسطين كلها تحت
سيطرتهم، بل إن اليهود أنفسهم كانوا منقسمين على داود في السنين السبع الأولى من
حكمه؛ إذ لم يجتمعوا على مبايعته إلا بعد سبع سنين من ملكه.
ويقرر جميع المؤرخين أنه بعد السبي البابلي انتهى الوجود اليهودي في فلسطين
نهائيًّا، ولم يتمكن اليهود من استعادة كيانهم السياسي، بل عاشوا مجرد طائفة دينية
يرأسها كاهن.[6]
ومما تجدر ملاحظته أن الباحث في تاريخ الشرق الأوسط يجد
أنه على طول ما عاش الإسرائيليون في فلسطين، وما خاضوا من حروب مع جيرانهم العرب
وغيرهم، لم نجد لهم ذكراً في كتب المؤرخين المعاصرين لهم-كبقية الشعوب الأخرى-مما
يدل على أن الشعب اليهودي لم يكن سوى شعب فبلي، حروبه عبارة عن غزوات فبلية ضئيلة،
يمكن أن تكون أشبه بتلك التي كانت تحدث في الجزيرة العربية في زمن الجاهلية. بل إن
التوراة نفسها لم تذكر أن اليهود قد سيطروا على فلسطين كلها في يوم من الأيام، على
الرغم من صغر مساحتها. بل إن سليمان في مجده الذي أضفته عليه الأساطير العبرية
الخيالية لم يكن في الواقع إلا ملكاً صغيراً يحكم مدينة صغيرة، وأن ما أضفته
الأساطير عليه من مجد وجاه ليس إلا تقديراً نسبيًّا يقاس بمن حوله من الملوك
والأمراء القبليين في فلسطين وما حولها، كما أن هيكله –إذا قيس بأبعاده التي جاءت
في سفر الملوك-لا يعدو أن يكون بحجم كنيسة صغيرة من كنائس الضواحي في المدن
الأوروبية "على حد تعبير المؤرخ الكبير "ويلز Wels" الذي يضيف بأنه لا يقارن
بضخامة المعابد البابلية أو المصرية القديمة. وقد أكد العالم الأثري المشهور "بريستد
Breasted
" أن سليمان الحكيم لم يكن سوى والياً من الولاة الخاضعين
للحكم المصري.[7]
القدس:
كانت في الأصل تسمى "يبوس"؛ لأنها
كانت عاصمة اليبوسيين، ويذهب بعضهم إلى أن الكنعانيين سموها "سالم" نسبة
إلى كنعاني مشهور، وقال الفيروز آبادي: "شليم" و "شاليم" اسم
البيت المقدس، ومنه اشتق الأوروبيين Jerusalem . وأول من أحاط المدينة بسور هم اليبوسيون العرب،
سكان القدس (نحو 2500 قبل الميلاد). وكان اليهود آنذاك بدواً رُحًّلاً،
يرتحلون من مكان إلى آخر يبحثون عن المراعي الخصبة لمواشيهم، ابتداءً من شمال
العراق حتى مصر. ومن المعروف أن اليهود لم يسكنوا القدس إلا بعد أن استولى عليها
الملك داود، وظل عددهم يتأرجح نتيجة الغزوات التي تعرضت لها المدينة بعد ذلك من
الأشوريين، والبابليين، والفرس، والرومان الذين حَرَّموا عليهم دخولها بتاتاً منذ
عهد "هدريان" سنة 135م، ثم سمح لهم صلاح الدين بالمعيشة فيها، مع العلم
بأن الصليبيين كانوا قد طردوا جميع اليهود منها، وجدير بالذكر أنه لم يكن بها في
القرن الثاني الميلادي سوى يهودي واحد على قول السائح اليهودي "بتاحيا"
الذي زار القدس في هذا القرن.
المسار
التاريخي للقدس
يذكر لنا علماء الآثار أن أول من سكن القدس قبائل بدوية
في العصر الحجري القديم، وقد وجدوا جمجمة (موجودة حاليًّا بمتحف القدس) يطلق
عليها: "الإنسان الفلسطيني القديم". ويذكر المؤرخون أن الكنعانيين بنوا
المعابد الضخمة، والقصور الفخمة في فلسطين. وقد كشفت الآثار عن مدن كنعانية تدل
على حضارة هذا الشعب العربي. لكن كان عيبهم الرئيسي هو تفككهم السياسي في شكل
حكومات فرعية يحكمها أمراء مستقلون، فلم يستطيعوا ضم هذه الحكومات المتعددة تحت
قيادة حاكم واحد، وإقامة دولة كنعانية قوية مما سهل على العبرانيين -فيما
بعد-الاستيلاء على أجزاء كبيرة من أرضهم، واحتلالها مدينة بعد أخرى أيام القائد
اليهودي يشوع بن نون كما تصفه التوراة، إلا أنه -مع ذلك-لم يتمكن الإسرائيليون من
بسط سلطانهم الكامل على كل الضفة الغربية للأردن، لأن جزءاً كبيراً ظل في أيدي
الكنعانيين، وظلوا في صراع دائم معهم نحو مائتي عام.
بناء القدس
هناك أسطورة نقلها بعض الكتاب الغربيين عن
"يوسيفوس"، و "بلوتارك Plutarck ومصدرها المؤرخ المصري "مانيتون Manethon"
تقول بأن القدس بنيت على يد الهكسوس ، بعد أن طردهم من
مصر تحتمس الثالث سنة 1479 ق. م. بعد أن هزمهم في معركة "مجدو"، وخضعت
له كل فلسطين. وأقام على المدينة المقدسة حاكماً مصريًّا، ولكن يرجح البعض أن اليبوسيين -وهم
فرع من سلالة الكنعانيين العرب-هم الذين بنوها تحت قيادة ملكهم المسمى
"ملكيصادق". وكان الفراعنة يحكمون فلسطين عن طريق ولاة من أهلها بشرط أن
يدفعوا الجزية، ولم يكونوا يتعرضون لمعتقداتهم الدينية، أو عاداتهم المحلية، ولم
يصيبوهم بسوء.
عندما أغار عليها القائد اليهودي "يشوع بن نون"
-بعد خروج اليهود من مصر-لم يتمكن من الاستيلاء على القدس، وظلت المدينة المقدسة
تحمل اسم "يبوس Jebus " وبقي حصنها قائماً في قلب الولايات الإسرائيلية. يقول الكاتب
الأمريكي "ستبسون جورج" أن بني يهوذا، وبني شمعون تمكنوا من حرق المدينة
وأسروا بعض اليبوسيين، لكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء على الحصن القائم على جبل
صهيون، وكان من نتيجة ذلك أن أعاد اليبوسيين بناء المدينة، وبقيت في أيديهم خلال
حكم القضاة وفي عهد شاول الملك.
لم يدخل أحد من الإسرائيليين مدينة القدس حتى سنة 997 ق.
م. حين دخلها داود u ، تشهد بذلك أسفارهم؛ إذ جاء في سفر القضاة (19: 11-12) أن رجلاً إسرائيليًّا وامرأته وغلامه كانوا
مسافرين ذات يوم فأدركهم الليل، فطلب الغلام من سيده أن ينزلوا في يبوس (القدس) ،
ولكن السيد رفض ذلك معللاً بأنه لا يميل إلى مدينة غريبة، حيث ليس أحد من بني
إسرائيل هناك .... وحتى بعد استيلاء داود عليها كان اليهود الذين سكنوها أقلية بين
اليبوسيين ، وظلوا كذلك حتى السبي البابلي سنة 586 ق. م.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن الملك داود لم
يستطع طرد السكان اليبوسيين المتمسكين بأرضهم، فبقي في القدس عدد كبير منهم، حتى
أنه في أيام سليمان استخدم الفلسطينيين في بناء هيكله وقصره، طبقاً لرواية العهد
الفديم.[8]
ويقرر جميع المؤرخين أنه بعد السبي البابلي –كما ذكرنا
سابقاً-انتهى الوجود اليهودي في فلسطين نهائيًّا ( 593
ق.م.). ولم يتمكن اليهود من استعادة كيانهم السياسي، بل عاشوا مجرد طائفة
دينية يرأسها كاهن كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
هيكل سليمان
كان الإسرائيليون منذ أيام موسى النبي حتى
عهد داود يقيمون شعائرهم الدينية في خيمة تُفَكُّ وتُرَكَّب في أي مكان (خيمة
الاجتماع)، أثناء ترحالهم من سيناء وتسللهم إلى أرض كنعان تدريجيًّا، فرأى سليمان
الاستعاضة عنها بمعبد يُبْنَى من الحجارة، فاختار مكانه على جبل موريا في جنوب شرق
القدس.
جاءت الإشارة إلى نقل ملكية
الأرض التي بني عليها الهيكل في سفر صموئيل (24 :18-25 ) وفي سفر أخبار الأيام
الأوَّل (21: 18-26) فتضاربت روايات اليهود عن كيفية انتقال ملكية المكان الذى
بُنِيَ عليه الهيكل وقيمة ثمنه؛ فزعموا أن هذه البقعة كانت بيدراً لرجل يبوسي يدعى
"أرونة"، وأن داود قد اشترى منه البيدر ليقيم عليه مذبحاً للرب (هيكل)،
فمن قائل إنه خمسون شاقلاً من الفضة، وآخر يقول: إنه ستمائة. وإزاء هذا التضارب
يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: أليس من الجائز أن يكون الكاتب اليهودي أو الكتاب
غير المعروفين الذين كتبوا نصوص شراء الملك داود لبقعة الأقصى بعد السبي في صموئيل
والأخبار كان هدفهم أن تكون تلك المقولة نقطة تجميع لليهود ليرددوا بأن أرض الأقصى
هي لهم بحكم ما تعارف عليه جميع الناس وهو البيع والشراء، لا بحكم ما لم يعترف
الناس لهم به من أنهم إلى الأبد هم شعب الله المختار؟ وذلك بعد زوال مملكتهم من
الوجود بإسقاط بابل لها وسوقهم أسرى إلى بابل [السبي البابلي 586-536] ثم احتلال الفرس
لهم، ثم اليونان. ومن أجل هذا جاء التناقض الصارخ بين النصين في ثمن الشراء، إلى
جانب تناقض نصي الشراء مع مسلك الإسرائيليين الفعلي في احتلالهم لما استطاعوا
احتلاله من أرض فلسطين بأمر الرب إله إسرائيل ..... وفعلاً فإنه مع كل هذه
التناقضات فإن اليهود على مر العصور –حتى وقتنا هذا-يتغامزون –بل يصرون-على مقولة
شراء الملك داود لأرض الأقصى، ... كيف أصبحت البقعة المقدسة التي كانت معبداً
لليبوسيين وملكهم العربي "ملكي صادق" "بيدراً" وملكاً لفرد
واحد هو "أرونة" اليبوسي الذي ذكرت نصوصهم –ادعاءً-أن الملك داود
اشتراها منه؟ ومتى كان ذلك؟ وهل تراجع اليبوسيون عن عبادتهم لله الواحد العلي،
خالق السماوات، والأرض، وتنازلوا عن معبدهم في البقعة المقدسة حتى يصبح المعبد
بيدراً؟ ألم يشر رواة التوراة أنفسهم أن إبراهيم u قد أتى إلى هذه البقعة المقدسة
لكي يقدم ابنه إسحاق عليها ليذبحه هناك، مع رفضنا لأقوالهم؛ لأن الذبيح عندنا في
الإسلام، وكما أكدته المصادر الإسلامية هو إسماعيل، وفي مكة، لا في القدس، وكذلك
ألم يشر رواة التوراة إلى أن "أرونة" اليبوسي كان يعرف ما معنى تقديم
الذبح للرب؟ ومن خلال هذه التساؤلات نخلص
إلى النتيجة التالية: إن الإسرائيليين أرادوا نفي قدسية الموقع بالنسبة لليبوسيين،
ولذلك جعلوه بيدراً بدلاً من أن يشيروا إليه كمعبد؛ لأن المعبد لا يمكن أن يملكه
فرد فيباع ويشترى. إن رواة التوراة أنفسهم يشيرون إلى أن "أرونة" كان
يهرف الذبح للرب، مما يدل على أنه كان يمارسه مع بقية شعبه العربي اليبوسي، وهذا
يؤكد بأن الموقع استمر معبداً لله العلي القدير طيلة عهد اليبوسيين، ولم يتحول إلى
ملكية خاصة لفرد لكي يتصرف فيه كما يحلو له، فيقيمه بيدراً أو ما شابه ذلك. إنه
معبد فقط ومسجد لله .... ولذلك فإن داود u قد شرع يعد لإقامة المسجد الأقصى على قواعده السابقة في الموقع نفسه
الذي كان معبداً لليبوسيين، ومن هنا فإن روايات الإسرائيليين في توراتهم حول شراء
داود u للموقع من "أرونة
اليبوسي" ، وأنه كان بيدراً، هي روايات مختلقة أساساً لا صحة لها على
الإطلاق.[9] والجدير
بالذكر أن العرب هم الذين ساهموا في بنائه لعدم خبرة اليهود بالفن المعماري في هذا
الوقت، فكان رسمه على طراز مصري أشوري، كما ساهم الفينيقيون العرب في بنائه بخشب
الأرز والسرو من لبنان. زعم رواة التوراة أن الهيكل أقيم على جبل موريا، ولكنهم لم
يشيروا إلى تحديد مكانه بالضبط؛ جاء في سفر أخبار الأيام الثاني (3 :1): "
ولما شرع سليمان في بناء بيت الرب في أورشليم في حبل الموريا حيث تراءى لداود أبيه
حيث هيأ لداود مكاناً في بيدر "أرنان اليبوسي." وأشار اليهود في التلمود
إلى أن الهيكل أقيم على بقعة من مسجد الصخرة المشرفة. وقد علق الدكتور محمد أحمد
محمود حسن على ذلك الادعاء بقوله: "ويقال بأن هيكل سليمان كان على بقعة من
مسجد الصخرة المشرفة، ولكن بين ما ذكره التلمود عن الصخرة التي كانت نواة قدس
الأقداس، وعليها أقيم هيكل سليمان وبين الصخرة المشرفة، صخرة المعراج، وعليها أقيم
مسجد الصخرة المشرفة تباعد كبير، فقد وصف التلمود صخرة الهيكل بأنها ترتفع عن
مستوى سطح الأرض بثلاثة أصابع، بينما صخرة المعراج والتي أقيم عليها مسجد الصخرة
ترتفع عن مستوى سطح الأرض بنحو متر كامل كما هو واقع اليوم[10]،
وعليه فإن مكان الهيكل لم يكن ضمن ساحات الحرم الشريف، ولا ضمن أسوار القدس
الشريف.[11] وقد
تهدم الهيكل عدة مرات كان آخرها وأشدها سنة 70م، وبقيت أساساته حتى سنة 135م حيث
أتى عليا الإمبراطور الروماني "هدريان" تماماً، وبنى محلها معبداً
لــــــ "جوبتر"، وبعد ذلك تهدم المعبد الوثني، وذكر أحد المؤرخين أنه
لم ير منه شيئاً سنة 333م. [12]
3)
يرى البعض أن الكنعانيين الذين
سكنوا فلسطين جاءوا أثناء الهجرات القديمة من الجزيرة العربية، فقد كشفت الآثار عن
مدن كنعانية تدل على توطن هذا الشعب العربي لفلسطين من قديم الزمان، تشهد بذلك
آثارهم التي اكتشفها الأثريون في ربوع هذا البلد؛ فقد كان لهذا الشعب العربي حضارة
قديمة، ولكن كان عيبهم الرئيسي هو تفككهم السياسي في شكل حكومات فرعية يحكمها
أمراء مستقلون؛ فلم يستطيعوا ضم هذه الحكومات المتعددة تحت قيادة حاكم واحد وإقامة
دولة كنعانية قوية مما سهل على العبرانيين الاستيلاء على جزء كبير من أرضهم،
واحتلالها مدينة بعد أخرى أيام القائد اليهودي يشوع بن نونكما تصف التوراة، إلا
أنه –مع ذلك- لم يتمكن الإسرائيليون من بسط سلطانهم الكامل بصفة دائمة على كافة
الضفة الغربية للأردن، لن جزءاً كبيراً ظل في أيدي الكنعانيين، وظلول في صراع دائم
معهم نحو مائة عام [ انظر إسكندر 18-19 ]
[6] ) وكذلك كان حالهم تحت حكم الفرس واليونان، وأيضاً
الرومان الذين ألحفوا الخراب والدمار بأورشليم، كما ألحقوا الخراب والدمار بأكثر
من ألف مدينة وقرينة أخرى من مدنهم وقراهم، وقد أبادوا معظمهم فلم يتبق منهم إلا
عدد قليل تفرقوا هائمين على وجوههم في كل أنحاء الأرض، وظلوا غرباء مشردين مطرودين
مكروهين محتقرين من الناس في كل أرض وفي كل حين، فتحققت بذلك نبوءات أنبياء اليهود
أنفسهم. ومن ذلك ما تنبأ به النبي أرميا حيث قال: "ها هي ذي أيام تأتي، يقول
الرب: تصير جثث هذا الشعب أكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض ..... وأجعل أورشليم
رجماً ومأوى بنات آوى، ومدن يهوذا أجعلها خراباً بلا سكن .... ها أنذا أطعم هذا
الشعب أفسنتينا ، وأسقيهم ماء العلقم، وأبددهم في أمم لم يعرفوها هم ولا آباؤهم،
وأطلق وراءهم السيف حتى أفنيهم .... وأوكل عليهم أربعة أنواع، يقول الرب: السيف
للقتل، والكلاب للسحب، وطيور السماء ووحوش الأرض للأكل والإهلاك، وأدفعهم للقلق في
ممالك الأرض" [أرميا 7 : 32، 9 : 11،
15 ، 16، و 12 : 1_4 ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق