إسلام واحد ورؤى متعددة
أ. د/ محمد شامة
ما هو الإسلام
؟ وما هو الفكر الإسلامى ؟ هل يتفقان فى المعنى والمضمون أم بينهما اختلاف ؟ وما
نوع هذا الاختلاف ؟ أهو اختلاف جوهرى أم شكلى ؟ وإذا كان بينهما اختلاف ، فما مدى
تأثير هذا الاختلاف على حياة المسلمين والتزامهم بتعاليم شريعتهم ؟
هذه أسئلة أرى –
حسب علمى - أنها تُطْرَح لأول مرة فى تاريخ المسلمين ، كما أعتقد أن كثيراً من
المسلمين – ومنهم عدد كبير من المتخصصين فى الدراسات الإسلامية – يستنكرها ، ويرى
أنها لا فائدة من طرحها ، والاشتغال بالبحث عن إجابة لها ، وهذا خطأ محض ، وقعنا
فيه منذ زمن بعيد ، على الرغم من أن الأحداث فى المجتمعات الإنسانية تحتم على
الباحثين دراستها ، كما أن المعطيات الحضارية تدعو المسلمين – وعلى الأخص المثقفين
منهم – إلى تناولها بالبحث والتحليل ، وبيانها للناس ، علَّهم يجدون فى الإسلام
مخرجاً من أزماتهم الفكرية ، ومناراً يهديهم إلى طريق يحفظ عليهم دينهم مع تهيئة
الظروف للاستمتاع بما تنتجه الحضارة الحديثة ، فضلاً عن الإسهام والابتكار فى المجالات
العلمية المختلفة كى يكون لهم قدم فى صفوف صناع الحضارة والتقدم فى كل المجالات .
الإسلام دين
ودنيا ، عبادة وعمل ، لكل البشر ، على اختلاف ألوانهم وأفكارهم ، وتعدد نظم حياتهم
وتباين أشكال وضعهم الاجتماعى ، فهو كما يعبر عنه المتخصصون
: دين صالح لكل زمان ومكان . فكيف
يتأتى ذلك والعصور مختلفة ، والأوطان متباعدة ، والتطور مستمر فى جميع ميادين
الحياة مما يجعل القواعد والنظم الملائمة لعصر لا تتفق مع متطلبات عصر آخر ، كما
أن أسلوب الحياة ووقعها يختلف من قطر لآخر ، وتركيب النظم الاجتماعية ومعطياتها
ليست واحدة عند كل الشعوب ؛ فنظام الحياة فى القارات تتفاوت ، بل إن بين الشعوب فى
القارة الواحدة تباين واضح فى العادات والتقاليد ، وتباعد واسع فى تعاملهم مع ما –
ومن – حولهم ، فهل يصلح الإسلام – والوضع هكذا – لهذه الشعوب قاطبة؟
يرى بعض
المعارضين لمبدأ سيادة الدين على توجيه وتنظيم الحياة فى المجتمع ، أن أساليب
الحياة قد تغيرت تغيراً جذرياً، بحيث أصبح من المتعذر تطبيق مبادئ وتعاليم العصور
القديمة فى المجتمع المعاصر ؛ ‘ إذ كيف يمكن أن يتعامل إنسان العصر الحديث بأسلوب
يتنافى مع طبيعة حياته المعاصرة ؟ وكيف يخضع إنسان القرن العشرين لأحكام صيغت لتنظيم
حياة إنسان القرون الأولى، حيث البداوة والبساطة وعدم التعقيد. وبالإضافة إلى ذلك
فإن ما كان مقبولاً لدى المجتمعات البدائية، فإنه أصبح غير مستساغ لدى الإنسان
المعاصر، بل إن من القضايا التى كانت من المسلمات الأولية التى لا تقبل الشك فى
الماضي، ترفضها العقول الآن رفضاً باتاً ، ولا تتجاوب معها المشاعر والأحاسيس ،
لأنها لا تتفق مع درجة الحضارة الحالية ، ولا تلبى مطالب الحياة المعاصرة ، ولا
تتناغم مع معطيات العصر ، بل تنفر منها ولا تستسيغها .
تنقسم تعاليم
الإسلام إلى قسمين:
الأول: يستطيع الإنسان أن يلتزم به مع اختلاف الأماكن والعصور،
وهو العبادات؛ إذ يمكن للإنسان أن يؤديها فى البيداء والصحراء، حيث الحياة
البسيطة التى لم تُحَمَّل بالمعطيات الحضارية، ولم تقيدها متطلبات التقدم والرقي،
كما أن من يعيش فى مجتمع حضاري، لا يحول بينه وبين أدائها أي عائق، ففى آراء
الفقهاء متسع لأدائها مع التزامه بالسلوك الحضاري، وتمسكه بما تمليه عليه الحياة،
مهما كانت درجة حضارتها وتقدمها.
الثاني: أما القسم الآخر، وهو ما يتعلق بشئون الحياة، فقد أباح
الإسلام للمسلمين أن يجتهدوا فيها، وإن اقتضى الأمر تطويرها فلهم ذلك، ماداموا
ملتزمين بالإطار العام، وهو منهج إسلامى يبيح الانفتاح على كل الأفكار والتجارب
السياسية والاقتصادية فى العالم، ويسمح بالأخذ منها بما يُمَكِّن المسلمين من
الانطلاق والتقدم، والأخذ بكل عناصر الرقى العلمى والسياسى والاقتصادي، مادام فى
ذلك مصلحة للمجتمع؛ إذ أن من بين القواعد العامة فى الفقه الإسلامي: " حيث
توجد المصلحة فثم شرع الله "
ولما كانت
أساليب الحياة متجددة، ونظمها متطورة، فقد وضع الله التشريعات المتعلقة بها فى
صورة قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور، وتتمشى مع ما ينبغى أن تكون عليه الحياة
من الاستقرار والاطمئنان، وتتفق مع الظواهر التى يشترك فيها جميع الأجناس البشرية.
أما التفاصيل والتفريعات فقد تركها الله لعقل الإنسان يستخلصها حسب عصره وبيئته،
ويستنتجها طبقاً لمتطلبات ظروفه المحيطة به، بحث يلبى احتياجات العصر، وفى الوقت
نفسه لا تخرج عن الخط الرئيسى الذى رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع، أو
كدستور يتخذه الناس قاعدة أصلية للتشريع، ينبثق عنها كل ما يقررونه، وما يرسمونه
من لوائح ونظم.
وتكفى نظرة
واحدة إلى ما يشغل المجتمعات من قضايا كبرى – وهى على سبيل المثال لا الحصر:
-
الشورى فى مجال الحكم،
-
وحرية النقد فى جميع مجالات الحياة،
- وقضية المساواة بين الناس على أساس القدرة
الذاتية، لا على أساس عرق، أو لون، أو أى مظهر من مظاهر الحياة المادية،
- والعدل في توزيع الثروة القومية،
وغير ذلك من
الأمور الأساسية التى تقوم عليها حياة المجتمعات، وتؤثر تأثيراً بالغاً فى رقى
الأمم والمجتمعات. وموقف الإسلام منها: يبين أنه جاء موافقاً فيها – وفى غيرها من
القضايا الأساسية – لقوانين الحياة، فرسم قواعد ثابتة، وترك التفصيلات والتفريعات
للفقهاء، لتكون مجالاً للاجتهاد والاستنباط، سعياً وراء الصيغ القانونية التي تلائم
بيئاتهم وعصورهم.
فمن يتخذ
المتغيرات فى الكون وفى الحياة دليلاً على عدم ملاءمة الإسلام للحياة المعاصرة ،
لأن معطيات العصر تختلف كلية عما كان موجوداً فى القرن السادس الميلادى ، فإنه لا
يعرف خصائص التشريع الإسلامى ، ولا يدرك ركائزه ، لأن المبادئ الأساسية فى حياة
المجتمعات البشرية لا تتغير ، وتلك هى ما نصت عليه الشريعة الإسلامية حرفياً ، أما
ما يلائم المتغيرات من الفروع والتفصيلات ، فقد تركها الإسلام لاجتهاد الفقهاء
والمشرعين ، يصوغونها حسب متطلبات العصر ، وظروف البيئة مما أعطاه صلاحية التطبيق
فى جميع العصور ومختلف البيئات .
ومن هنا فقد
اجتهد العلماء فى شرح وتحليل نصوص القرآن الكريم، واستنباط ما فيها من أحكام، كما
بذلوا جهوداً لم يسبق لها مثيل فى فحص ما قاله الرواة عن رسول الله r ، فنشأت بذلك فروع عديدة فى العلوم الإسلامية : علوم القرآن
وتفسيره ، علوم الحديث ( علم الرواية والدراية ، وعلم الجرح والتعديل ) ، علم
الكلام ، علم الفقه وأصوله ...... وغير ذلك من العلوم الإسلامية التى تمحورت حول
القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة .
ولما كانت العقول
متفاوتة فى فهم النص وتحليله، جاءت آراء العلماء مختلفة، وتعددت الأحكام المستنبطة
من النص الواحد، إذ يدلى الواحد منهم برأيه مستنداً إلى روايات صحت عنده، ولم تصح
عند الآخرين، ومعتمداً على جانب من جوانب قواعد اللغة العربية المتعددة فى المسألة
الواحدة، فتكونت من ذلك مدارس عدة فى جميع فروع العلوم الإسلامية:
ففى التفسير ظهرت
اتجاهات متعددة حول الاعتماد فى التفسير على اللغة، أو الأحاديث، وثالثة تميل إلى
تفسير القرآن بالقرآن ... وغير ذلك من المدارس التي ظهرت في المجتمع الإسلامي حول
تفسير القرآن الكريم، طبقاً لروح الفكر السائد ...حتى ظهر فى العصر الحديث ما
يُعْرَف بالتفسير العلمى للقرآن الكريم، والمقصود بالعلم هنا: " العلم
التجريبي "، واشتهر فرع من هذا الاتجاه تحت مسمى: " الإعجاز العلمى
للقرآن الكريم "،
وفى الفقه ظهرت
مدارس كثيرة، اشتهر منها عند أهل السنة أربعة: المالكية، والحنفية، والشافعية،
والحنابلة، كما اشتهرت مدارس أخرى فى مناطق متعددة من العالم الإسلامى
كـــــــــــ: الظاهرية، والجعفرية، والإباضية، والزيدية .... وغيرها من المدارس
التى اندثرت لعدم وجود تلاميذ يحافظون على نشر آراء أساتذتهم، رغم أن بعضهم كان
أفقه وأعلم فى استنباط الأحكام من كثير ممن اشتهرت آراؤهم وتكونت مدارس عرفت
بأسمائهم. ولم يلتزم أتباع هذه المدارس برأى واحد فى جميع المسائل الفقهية،
فكثيراً ما تباينت آراء الفقهاء فى المدرسة الواحدة فى بعض المسائل، فتعددت الآراء
داخل كل مدرسة،
وفى علم الكلام
الذى يبحث فى المسائل العقدية كان الخلاف شديداً فى كثير من مسائلها، ومن أشهرها:
خلق القرآن، وصفات الله،
وهكذا فى كل فرع
من فروع العلوم الإسلامية، لا نجد إجماعاً – فى معظم المسائل – فيما يستنبطه
العلماء من أحكام المصدرين الرئيسيين فى الإسلام، وهما: القرآن الكريم والسنة
النبوية الشريفة؛ إذ لم يتفقوا جميعاً إلا على:
أ.
نصوص
القرآن الكريم، وليس تفسيرها،
ب.
السنة
العملية، كـــــــــــ: هيئة الصلاة، والصيام، والحج،
ت.
الأحاديث
المتواترة.
ومن هنا جاء
تحديد الإسلام بأنه: نص القرآن والسنة العملية والأحاديث المتواترة، والفكر الإسلامي،
هو ما كتبه المسلمون حول هذه النصوص. وعليه فمن أنكر نصاً من نصوص القرآن الكريم –
ولو حرفاً واحداً -، أو رفض عنصراً من السنة العملية، أو جحد حديثاً متواتراً فليس
مسلماً، وماعدا ذلك فيجوز للمسلم:
·
أن
يرجح رأياً على آخر،
·
أو يرفض حديثاً غير متواتر لعدم ثبوت الأدلة على
صحته عنده،
·
أو
يستنبط حكماً مخالفاً لما عليه المسلمون من اجتهادات سابقة، مادام الرأى الجديد مستنداً
على أدلة صحيحة، ولا يناقض القرآن الكريم بشكل لا خلاف عليه.
ولكن، ألم يؤد
هذا إلى حدوث صراعات بين المدارس المختلفة – بل بين أفراد من أتباعها – بسبب
اختلاف آرائهم، ليس فقط بأسلوب التراشق بالألفاظ والحجج والأدلة، بل ربما وصل الأمر
إلى تبادل الألفاظ الجارحة، والالتجاء إلى السلطة للتنكيل بالمخالفين؟
نعم، فكثيراً ما
عقدت جلسات للمناظرة، حيث يدلى كلٌّ برأيه، مع الاستشهاد بالحجج والأسانيد التى
تقويه، وتفنيد الرأى المخالف وإبطال حججه وأدلته ..... حتى وصل الأمر فى بعض
الأحيان إلى سلوك طرق تؤدى إلى إلحاق الأذى البدنى بالمعارضين، كما حدث فى مسألة
خلق القرآن، فقد استعان المعتزلة – وهم الذين رأوا أن القرآن مخلوق وليس قديماً –
بالمأمون، وهو أمير المؤمنين فى ذلك الوقت، لإجبار من يرى من العلماء أن القرآن
قديم على الرجوع عن رأيه واعتناق مذهب المعتزلة، وهو القول بخلق القرآن، فاستجاب
المأمون لطلبهم .... لدرجة أنه عذب وسجن من رفض ذلك، وكان من أشهر من رفضوا: أحمد
بن حنبل، فقد أصر على رأيه رغم تعذيبه وسجنه.
كانت هذه حوادث
فردية وقعت على الرغم من تصريحات أئمة هذه المدارس بأن ما رأوه من تفسيرٍ لنصوص
القرآن الكريم ، وما استنبطوه منها من أحكام هو صحيح فى رأيهم ، ولكنه يمكن أن
يكون غير صحيح ، كما يجوز أن يكون رأى من يخالفهم صحيحاً ، وإن كانوا يرون أنه
خطأً حسب تفسيرهم ، فقد قال الشافعى t : " رأيى صواب يحتمل
الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب " ، كذلك لم يتعصبوا لآرائهم التى توصلوا
إليها ، بل كانوا يرجعون عنها إن بدا لهم أن رأى المخالفين هو الصواب ، فقد روى عن
أبى حنيفة أنه قال : " هذا أفضل ما توصلنا إليه ، فإن جاءنا أحد بأفضل منه
قبلناه " ، وقال الشافعى : "
إذا صح الحديث فاضربوا بمذهبى عرض الحائط " .
كان هذا هو الطابع
العام بين المدارس المختلفة، ولكن حدث التعصب واللجاج فى عصر متأخر، حيث انحدر
الفكر الإسلامي، فادعى العلم أنصاف العلماء، ومن ليس لديهم إلمام بكثير من قواعد
الاستنباط، فلم يطلع إلا على النذر اليسير من أدوات البحث التى تؤهله للإدلاء برأى
فى هذا المجال، بل وصل الأمر بالتدهور العلمى إلى حد الإفتاء بعدم جواز الصلاة مؤتماً
بمن يخالفه في المذهب، والتمسك بما استقر فى مذهبه رافضاَ رأى من يخالفه ..... حتى
أصبحت المدارس كأنها أديان مختلفة ، على الرغم من أن علماء المذاهب - الذين كانت
لهم قدم راسخة فى العلم فهموا روح الإسلام وفلسفته ، وأدركوا أسباب الخلاف ومغزاه
- كانوا يرون أن الاختلاف فى الرأى أملته طبيعة النصوص وتكوينها ، وأنه أمر لابد منه
، ولهذا نظروا إلى آراء من خالفهم نظرة تسامح وقبول لها ، بل تعاملوا معها وطبقوها
فى بعض الأحيان ، فقد روى أن القاضى أبو عصام الغامرى الحنفى ماراً فى باب مسجد
القفال ، الفقيه الشافعى ، والمؤذن يؤذن المغرب ، فنزل عن دابته ودخل المسجد فلما
رآه القفال أمر المؤذن أن يثنى فى الإقامة –
وفقاً لمذهب الحنفية-، وقدم القاضى أبا عصام ، فتقدم ، وصلى ، وجهر
بالبسملة ، وأم بشعائر الشافعية فى صلاته ، وكان ذلك منهما تهويناً لأمر الخلاف فى
الفروع .
وهنا أبضاً ترك
القفال الفقيه الشافعي مذهبه في إقامة الصلاة وتراً، وأمر مؤذنه أن يثنى في
الإقام – وفقاً لمذهب الحنفية – وقدم القاضى الحنفى
يصلى بالناس إماماً فى مسجد أكثر المصلين فيه مذهبهم شافعي، وإمامه فقيه كبير من
فقهاء الشافعية. ولم يكن القاضى أقل فقهاً منه، حيث ترك مذهبه أيضاً وطبق مذهب
الشافعية فى الجهر بالبسملة والجهر بآمين، وغير ذلك مما يختلف فيه الحنفية عن
الشافعية، فكان هذا تعليماً ودليلاً على التسامح بين المذاهب الفقهية "[1]،
وتوضيحاً لما قررناه سابقاً: أن ما كتبه المسلمون حول القرآن والسنة، وما استنتجوه
منهما من أحكام وآراء هو نتاج بشرى يجوز للمسلم أن يختار منه مايلائم عصره ويتفق
مع نظام حياته.
أليس اختلاف آراء
العلماء فى المسألة الواحدة، وتمسك أهل كل قطر بمذهب دون آخر، بحيث أصبح لكل بلد
من البلاد الإسلامية مذهبه الذي لا يرضى به بديلاً، يوحى للبعض من غير المسلمين
بأن الإسلام ليس واحداً فى كل البلاد الإسلامية، فهناك إسلام فى السعودية يختلف
عما هو فى مصر، وهذا بالتالى يختلف بدوره عن مفهومه فى أقطار أخرى؟
قد يكون ذلك هو
واقع مفهوم الإسلام عند من لم يدرك حقيقة الإسلام وأهدافه ؛ إذ لما كان الإسلام
لكل الناس على اختلاف بيئاتهم ونظم حياتهم ، حيث تختلف ظروف الحياة فى كل عصر وقطر
، وتتجدد الأحداث وتتشعب عبر الأيام والسنين ، فلابد أن يكون التشريع ملبياً لكل
ما يحتاج إليه الفرد ، وتستلزمه حياة
المجتمعات ، ولهذا جاء كل ما يتعلق بهذه المتغيرات فى صور مبادئ كلية ، وقواعد
تصلح لكل المجتمعات الإنسانية ، ويمكن تطبيقها أيضاً فى كل أقطار الأرض على اختلاف
أساليب حياة من يسكنوها ، وتباين معيشتهم ، ثم ترك الفروع – وهى مركز الاختلاف بين
سكان المناطق المختلفة – وعلاج ما يجد من أحداث – وهى لازمة من لوازم الحياة
الإنسانية – للفقهاء ، يستنبطون أحكامها من الأصول العامة ، قياساً ، أو حملاً للخاص على العام ، أو حملاً
للمطلق على المقيد ، أو غير ذلك من طرق استنباط الأحكام داخل الإطار العام للأحكام
الإسلامية .
وبذلك تصبح
الشريعة الإسلامية صالحة لكل المجتمعات الإنسانية فى جميع الأقطار، وفى كل العصور،
إذ يمكن أن تطبق على الناس جميعاً على اختلاف أساليب حياتهم، ونظمهم المعيشية،
فالاختلاف بين المجتمعات ليس إلا فى أمور فرعية، أما الشكل العام للحياة، فالناس
جميعاً سواء، ولهذا جاءت شريعة الله دقيقة ومحددة فيما يتعلق بهذا الجزء الذي لا
يختلف فيه الناس. أما الفروع التى يتناولها التغيير بسبب اختلاف المناطق، أو بسبب
تجدد الزمن وتعاقب العصور، فقد تُرِك أمر استنباطها للفقهاء بشرط ألا تخرج عن الإطار
اللم للتشريع الإسلامي.
فالاختلاف فى
هذا الجانب إيجابى وليس سلبيًّا، إذ هو يساعد على تحقيق مبدأ العالمية فى الإسلام،
فيتيح لكل إنسان على وجه الأرض أن يعتنقه دون حرج، ويلتزم بتأدية تشريعاته بسهولة
ويسر، ولا يقف عقبة في طريق التقدم والرقي. ومن يعارض صلاحيته للعصر الحاضر بأن
أساليب الحياة قد تغيرت تغيراً جذرياً، بحيث أصبح من المتعذر تطبيق مبادئ وتعاليم
العصور القديمة فى المجتمع المعاصر؛ إذ كيف يمكن أن يتعامل إنسان العصر الحديث
بأسلوب يتنافى مع طبيعة حياته المعاصرة؟ وكيف يخضع إنسان القرن العشرين لأحكام صيغت
لتنظيم حياة إنسان القرون الأولى، حيث البداوة والبساطة وعدم التعقيد؟ وبالإضافة
إلى ذلك فإن ما كان مقبولاً لدى المجتمعات البدائية، فإنه أصبح غير مستساغ لدى
الإنسان المعاصر، بل إن من القضايا التى كانت من المسلمات الأولية التى لا تقبل
الشك فى الماضى ترفضها العقول الآن رفضاً باتاً، ولا تتجاوب معها المشاعر
والأحاسيس، لأنها لا تتفق مع درجة الحضارة الحالية، ولا تلبى مطالب الحياة
المعاصرة، ولا تتناغم مع معطيات العصر، بل تنفر منها ولا تستسيغها.
هذا غير صحيح؛
لأن القضايا الكلية فى الإسلام هى قواعد التشريع الأساسية التى تصلح لكل الشعوب،
وتلبى احتياجات كل المجموعات البشرية، على اختلاف ألوانها وأجناسها، وتتناسب مع كل
عصر وبيئة؛ إذ يتخذها الجميع أساساً تُسْتَنْتَج منه أحكام لكل القضايا، وعلاج لكل
المشاكل التى تواجه الإنسان والمجتمعات، فكانت هذه المبادئ الرئيسية فى التشريع أساساً
للاجتهاد فى مجال الأحكام الشرعية الذى بمقتضاه تكونت المذاهب الفقهية، فزخرت
بالأحكام والتفريعات التى كانت منها فروض مقدرة الحدوث فى الأزمان المستقبلة.
كان هذا العمل
فى مجال التشريع دليلاً على مرونة الفقه الإسلامي، وصلاحيته لمواجهة الأحداث التى
تظهر، نتيجة لديناميكية الحركة فى مجالات الحياة المختلفة، وعنصراً جوهرياً في
مفهوم عالمية الإسلام.
فقد جاء فى القرآن الكريم آيات كثيرة رسمت قضايا كلية فى مجالات الحياة
المتعددة، نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﱡ ﲎ ﲏ ﲐ
ﲔ ﱠ [ الشورى: ٣٨ ]
فهذه قضية توضح
أن الإسلام يحث على ألا يكون الأمر فى المجتمع ديكتاتورياً، بل ينبغى أن يقوم على
أساس الشورى، ولم يحدد لهذه الشورى صيغة معينة، بل تركها لظروف كل عصر، وطبيعة كل
بيئة.
كذلك لم يحدد فى قوله تعالى: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ [ الأعراف:
٣٢ ] ، أنواع الزينة ، أو أشكالها وهيئاتها ، بل ترك ذلك
لمقتضيات الزمان والمكان ، بشرط ألا يكون فى ذلك اقتراف لمعصية ، أو تناول لخبيث ،
كما في قوله تعالى : ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﲐ ﱠ [ الأعراف: ١٥٧ ]
فهذه وأمثالها –
وهو كثير فى التشريع الإسلامى – أمور كلية وضعت الأساس الذى يحفظ كيان المجتمع،
وحددت الإطار الذى يتحرك بداخله الفقهاء والمشرعون لمواجهة متطلبات العصر والبيئة،
بحيث لا يقف الدين الإسلامى عقبة فى طريق التقدم والرقي.
ولم يقتصر
الأثر السلبى لاختلاف العلماء فى استنباط الأحكام على غير المسلمين، بل تعداه إلى
المسلمين، وخاصة الذين لا يملكون القدرة العلمية على فهم فلسفة هذه الظاهرة فهماً
صحيحاً، بل إن العامة من المسلمين لا يتقبلون هذا الاختلاف؛ إذ يحدث عندهم بلبلة
فى تقبله، فيقعون فى حيرة من أمرهم، عندما يطلبون الفتوى فى مسألة ما، فيفتيهم أحد
المتخصصين برأي، فإن سألوا آخر أعطاهم رأياً مخالفاً للأول، وقد يسمعون رأياً ثالثاً
من مصدر ثالث ..... وهكذا، الأمر الذي يصيبهم بالحيرة، فيتساءلون: أيّ الأجوبة
المتعددة هو الصحيح فيتبعونه، وأيها الخطأ فيرفضونه.
ظهر هذا في المجتمع الإسلامي نتيجة الأمية الدينية التي انتشرت في أرجاء
العالم الإسلامي، وتغلغلت في جنباته، بحيث أصبح الأمر في حاجة إلى جهود جبارة لشرح
هذا الجانب من الفكر الإسلامي، وإلى بيان عدم وجود آلية تبين أن أحد هذه الآراء
صحيح مطلقاً، وما عداه خطأ محض؛ لأن كل عالم استند في استنباط الحكم الذى ارتآه إلى
قواعد مسلم بها في البحث العلمي، ومثال ذلك قوله تعالى:
ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﲁ ﱠ [ المائدة: ٦ ] ، فقد اختلف العلماء فى كيفية مسح الرأس إلى ثلاثة آراء
:
الأول : من يرى أن مسح
كل الرأس واجب فى الوضوء ، مستدلاً على ذلك بأن الباء فى (ﱎ) زائدة للتأكيد – وهى قاعدة لغوية - ، والمعنى : وامسحوا
رؤوسكم ، أى كل الرأس .
الثاني: من يرى أن
الواجب هو مسح بعض الرأس فقط، لأن الباء فى (ﱎ) للتبعيض، وأقل البعض عنده هو الربع.
الثالث: اتفق مع الرأى
الثانى فى أن مسح بعض الرأس هو الواجب، ولكنه اختلف معه فى تحديد مساحة البعض،
فرأى أن البعض يطلق فى اللغة على أقل جزء من الكل، وعليه فيجزئ مسح شعرة واحدة فى المفروض
مسحه فى الوضوء، لأنها – أى الشعرة – تعتبر جزءاً من الرأس.
هل يستطيع أحد
أن يجزم بأن أحد هذه الآراء الثلاثة صحيح مائة فى المائة، والآخرين باطلان بطلاناً
محضاً؟
لا يجرؤ أحد
على التصريح بذلك، حتى صاحب الرأى نفسه لم يَدَّعِ أن رأيه هو الصحيح وماعداه
فهو باطل، فلم يخرج الأمر عن دائرة الاحتمال، قال الشافعي: رأيى صواب يحتمل الخطأ
ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب.
أضف إلى ذلك أن
فى تعدد الآراء رحمة للمسلمين، وهو لازم من لوازم حياتهم، فقد تعتري الإنسان حالة
لا يستطيع معها مسح كل الرأس فيلجأ للرأى الآخر، وقد يرى البعض أن مسح شعرة واحدة
سهل التطبيق، فيلتزم به، ولذلك روى فى الأثر أن اختلافهم (أي الفقهاء) رحمة، أى
تيسير للمسلمين، حتى لا يصيبهم حرج، لو اتفق الفقهاء على رأى واحد لا يناسب حالة
البعض، أو لا يتلاءم مع متطلبات العصر.
وخلاصة القول:
أن الإسلام هو نص القرآن الكريم، والسنة العملية، والحديث المتواتر. وهذا هو ما
أجمع عليه المسلمون؛ فهو القاعدة الأساسية لكل الآراء والاتجاهات الفكرية فى جميع
الأقطار الإسلامية؛ إذ هو بمثابة الدستور التى لا تخرج عن نصوصه – ولا تعارضها
-جميع القوانين، رغم اختلافها، وتعددها وتشعبها. فالفكر الإسلامي بمذاهبه الفقهية،
ومواقف علمائه من قبول الأحاديث النبوية غير المتواترة، وتعدد مدارسه فى تفسير
القرآن الكريم، وتنوع اتجاهاته الفلسفية، هو نتاج بشرى متنوع، يلبى احتياجات كل
المجتمعات الإنسانية، ويتناغم في آرائه مع ما تحتاج إليه مسيرة التقدم الحضاري،
وهو بذلك:
·
يدحض حجة من يرى أن الإسلام متعدد بتعدد البلاد والأمصار،
·
كما يقيم الدليل على أنه – أى الإسلام – صالح لكل الناس، مهما اختلفت نظم
حياتهم، وتنوعت درجة تقدمهم الحضاري، وتعاقبت عليهم الأزمان والعصور.
·
ويوضح أن آراء العلماء ليست مقدسة، لا يجوز معارضتها، ولهذا يجوز لكل مسلم
أن يلتزم برأى دون آخر، حتى ولو كان رأياً مخالفاً لكل المدارس الإسلامية، مادام
موافقاً لنص القرآن الكريم بأى وجه من وجوه البحث العلمي.
إذا كان النص
واحداً، والتفسير متعدداً – أى أنه ظنى الدلالة -، وبالتالي تتعدد الأحكام المستنبطة
منه:
-
فهل يجوز أن يجيب المُسْتَفْتَى بأى
رأى من الآراء المتعددة؟
-
وهل يجوز لأى شخص عرف حكماً من
هذه الأحكام المتعددة – وجهل الآراء الأخرى -أن يُنَصِّب نفسه مفتياً يدعى أن هذا
الرأى الذى عرفه هو الصحيح الذى لا يجوز للمسلم أن يخالفه، مهما كانت الظروف
والأحوال؟
- وهل يصح الإفتاء فى وسائل الإعلام، وخاصة الإذاعة المرئية، على الرغم من
اختلاف أحوال الناس؟
تختلف الإجابة
على هذه الأسئلة باختلاف أطرافها وملابساتها:
-
فإذا كان الأمر يتعلق بالتعليم والتعلم، فينبغى على المعلم أن يشرح لطلابه –
وخاصة فى المرحلة الجامعية – كل ما قيل فى تفسير النص، وما استُنْبِط منه من أحكام
بأدلته المختلفة التى استندت إليها كل مدرسة، وتوجيه ما ذهب إليه كل عالم للتدليل
على صحة رأيه. ولا يقتصر على ما يراه هو صحيحاً، كما لا يكتفى الطالب بدراسة مذهبه
فقط، لأنه يُعِدّ نفسه للإفتاء، وقد يكون حال المستفتى لا يساعده على تنفيذ رأى مذهبه،
إذ قد يناسبه حكم استنبطه عالم آخر من مدرسة غير مدرسة مذهبه، ولذا فالحكمة – وكذا
فلسفة الفكر الإسلامي – تقتضي ألا يقتصر أى من الطرفين – المعلم والمتعلم – على
آراء مدرسته، أو ما يراه صحيحاً.
-
يجب على المفتى أن يراعى حال المُسْتَفْتِي، فيعطيه الجواب الذي يتناسب مع
وضعه .... حتى وإن رجح عليه رأياً آخر؛ فقد غير الشافعى بعض الآراء التى أفتى بها
فى العراق، حين جاء إلى مصر، فلما سئل عن ذلك بيّن للسائلين أن سبب الاختلاف في
الفتوى، هو التفاوت بين حياة الشعبين، وعُرِفَ ما أفتى به فى العراق بالمذهب
القديم، وما خالفه في مصر بالمذهب الجديد، وعليه فليس كل من عرف الأحكام المتعددة
فى الفقه الإسلامي قادراً على الفتوى، بل يجب أن يكون لديه القدرة على معرفة
التفاوت بين الناس، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد، أو فى إطار عادات وتقاليد
الشعوب.
-
قد يترتب على الفتوى عبر وسائل الإعلام – وخاصة الإذاعة المرئية – نتائج
سلبية، تؤدى إلى نفور غير المسلمين من الإسلام، أو تتسبب فى تدمير علاقات أسرية،
وتقطيع أواصر المودة والمحبة بين ذوي الأرحام. ولبيان هذه الصورة نسوق المثال
التالي: اختلف العلماء في جواز عقد المرأة نكاحها بنفسها دون ولي، فقال الشافعية
والمالكية والحنابلة: لا يجوز للمرأة ذلك، إذ يجب أن ينوب عنها وليها فى عقد
الزواج، مستدلين على ذلك بقول رسول الله
r : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عقد " . وخالفهم فى
ذلك أبو حنيفة فأجاز للمرأة، إذا كانت بالغة عاقلة، أن تعقد زواجها بنفسها دون ولي،
ورد على الاستدلال بالحديث السابق بأن المقصود به غير البالغة. فإذا أفتى عالم
برأى الثلاثة فى وسيلة إعلامية، وسمعه – أو قرأ فتواه – واحد من الشعوب التى تتولى
فيها المرأة مناصب عليا، وتعقد عقوداً بملايين – بل بمليارات – الدولارات، لصدمته
هذه الفتوى، إذ كيف – هكذا يتساءل – يكون للمرأة القدرة على هذه الأعمال، ثم لا
تستطيع أن تعقد عقداً يتعلق بذاتها ويحدد مستقبلها، وقد يؤدى هذا التساؤل إلى صرف
نظره عن التفكير في الإسلام، لو كانت عنده نية البحث في هذا الدين، فَيُصَدّ بذلك
عن طريق، كان من المحتمل أن يؤدى به إلى اعتناق الإسلام. ولو أفتى هذا المفتى برأى
أبى حنيفة عبر وسائل الإعلام، وسمعته – أو قرأت فتواه – فتاة فى مجتمع محافظ،
فعقدت زواجها بنفسها دون ولي، لأثر ذلك على وضع الأسرة فى المجتمع، إذ يعتبرون ذلك
فى المجتمع المحافظ عاراً لأهلها، وسُبّة فى بيئتهم يعيرهم بها جيرانهم وأهل
مدينتهم، وخاصة سكان القرى. ومن هنا يجب أن تكون الفتوى شخصية، فيُفْتَى المحافظ
برأى الثلاثة، ويُفْتَى الآخرون بما يناسب درجة تحضرهم، وبما يتلاءم مع وضع المرأة
فى حياتهم. فعلى المسلمين أن يتوجهوا بأسئلتهم الدينية إلى أئمة المساجد المنتشرة
فى كل أحياء المدن وفى القرى والنجوع، فذلك أسلم الطرق لنشر دين الله ومعرفة أحكام
الشريعة الإسلامية.
-
وثالثة
الأثافى التى أنتجت هذه الظاهرة – وهى كثرة الجهلة وأنصاف العلماء فى مجال الوعظ
والإرشاد – أن الإنسان يميل بطبعه إلى أن يكون مركز اهتمام مَنْ حوله ، يرمقونه
بأنظارهم تعجباً وانبهاراً ، ويلتفون حوله إجلالاً وإكباراً ، ويأتمرون بأمره تقرباً
واستحساناً ، ينسبون إليه من البطولات ما يعزز مركزه بينهم ويعمق تأثيره فى أكبر
دائرة من مجتمعهم ، ولذلك نرى كثيراً من الناس يسلكون كل طريق يعتقدون أنه يوصلهم
إلى هذه المكانة بين الناس ، ويباشرون من الأنشطة الاجتماعية ما يكسبون عن طريقها عواطف
بنى وطنهم ، ويؤثرون على عقولهم وأفكارهم .
وتختلف المجالات
فى المجتمعات الإنسانية – من ناحية التأثير على الناس – باختلاف ارتباط الناس بها،
فكلما كثر ارتباطهم بمجال ما، كلما كان هذا المجال وسيلة من وسائل الوصول إلى
قلوبهم وأفئدتهم، فما عم تأثيره فاتصلت آثاره بجميع أفراد المجتمع، كان أنسب وأصلح
للوصول إلى المكانة المرموقة، مما كان خاصًّا بطائفة دون أخرى من طوائف المجتمع،
لأن من يتناول العام فهو يخاطب كل فرد من أفراد الأمة، أما من حصر نفسه فى مشكلة
تهم طائفة معينة، فإن تأثيره لا يتعدى من تهمهم هذه المشكلة.
فإذا نظرنا من
هذه الزاوية إلى اهتمامات الناس، لوجدنا أن أكثر المسائل ارتباطاً بهم: السياسة والدين،
إذ أن كل إنسان واقع تحت تأثير القرارت السياسية، تصيبه نتائجها، إن خيراً فخير،
وإن شراً فشر، وتتأثر حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية بها، سواء كان ذلك
بطريق مباشر أو غير مباشر، إذ ستتوقف نظام حياته على نوع وأسلوب النظام السياسى
الذي يعيش تحت ظله، ولذا فكل فرد فى المجتمع يهتم بهذا الجانب على تفاوت فيما
بينهم.
ولهذا نجد أن كل
من يتطلع إلى الوصول إلى مركز مرموق فى المجتمع، بحيث يلتف الناس حوله – وكذلك من يسعى إلى السلطة والسلطان –
يسبر فى هذا الاتجاه، فتراه يتحدث فى شتى الموضوعات التى لها صلة بالحكم: من
سياسة، واقتصاد، ومؤسسات دستورية، وتنظيمات حزبية .... و..... و..... وغير ذلك مما
يضفي عليه هالة تجذب الناس إليه، وتجمعهم حوله. ولما كان هذا المجال مغرياً لجميع الناس،
فقد استخدمه كل من اشرأبت عنقه إلى كراسى الحكم، وخاض فيه كل من رام مركزاً بين
أقرانه، ومن هنا رأينا كثرة المتحدثين فى السياسة، وسمعنا العديد من الآراء فى
أكثر المشكلات تغقيداً حتى على من درسوا وتخصصوا فى هذا المجال.
فالحديث عن
السياسة ، والفتوى فيها كلأ مباح لكل من يريد ، وساحة مفتوحة لكل مدعٍ ، لا فرق فى
ذلك بين أمى وجاهل ، ومتخصص بارع فى معرفة النظريات السياسية والمعطيات الدولية
التى لها تأثير على مجرى الأحداث واتخاذ القرارات ، وتؤيد هذه الظاهرة صدق من قال
: هناك مجالان يدعى كل واحد – سواء كان أمياً أو أستاذاً جامعياً – أنه خبير
فيهما، وهما : السياسة والدين .فكل إنسان - إذا ما سنحت له الفرصة – ينبرى فى
الحديث عن الدين والسياسة ، حتى ولو كان لا يعرف ألفها من يائها ، وما ذاك إلا
لأنهما مجالان يتعلقان بحياة كل إنسان ، فمن يريد كسب قاعدة جماهيرية عريضة فليشتغل
بالسياسة أو بالدين .
فالدين هو المجال
الثانى الذى يندفع كل الناس فى الحديث عنه، لا رغبة – فى الغالب الأعم -في الوصول
إلى مركز مرموق، ولكن إشباعاً للعاطفة الدينية، وإظهاراً – أو تظاهراً – لمعالم
التقوى، فمن يتصدى للحديث عن المسائل الدينية فإنه – غالباً – ما تكون رغبته أن يعرف
الناس عنه أنه حسن الصلة بالله، فهو يحافظ على تأدية واجباته الدينية، ويبتعد عن
المحرمات التى وردت فى القرآن الكريم. والحديث فى هذه الموضوعات تأكيد للناس بأنه
متدين ورع، ولذا يخوض فى المسائل الدينية، وكثيراً ما يفتى فى أدق المسائل، ويجزم
برأى فيما اختلف فيه الفقهاء، مما يكون له تأثير سيء على سلوك الناس واتصالهم
بالجانب الديني. ومن معالم هذه الظاهرة ما نراه ونسمعه من شباب لا صلة لهم بالدراسات
الدينية؛ إذ ينشرون من الآراء والتعاليم باسم الإسلام ما هو بعيد عن روح الإسلام
وتعاليمه، فهم يظنون أنهم يؤدون بذلك خدمة للدعوة الإسلامية، وفى حقيقة الأمر
يصورون الإسلام بصورة تنفر كثيراً من المجتمعات والأفراد من الدين، مما يجعل سلوكهم
وسيلة للتنفير من الإسلام، لا أسلوباً للدعوة إلى الله، وما ذاك إلا لأنهم عاجزون
عن فهم حقائق الدين وفقهه. ولذا ينبغى عدم السماح لهم بالخوض فى تفسير النصوص الدينية،
لأن ما يترتب على خوضهم فيما لا علم لهم به من فساد لا يتناسب مع ما يحدثونه من
تأثير روحى فى المجتمع، فهم يفسدون أكثر مما يصلحون.
فإذا
جاز لكل إنسان أن يتحدث فى السياسة – لأنه لا يوجد قانون يجرم ذلك – فإنه لا يجوز
ديناً أن يتحدث إنسان فى الدين بما لا علم له به ، لأن ذلك يوقعه فى دائرة عقاب
الله ، فقد ورد فى القرآن الكريم ما يحرم على المتدين أن يخوض فى المجالات التى
يجهلها ، فإن كان ولابد فيجب أن يلتزم بالصدق فيما يتحدث به ولا يدلى برأى إلا
فيما يعلم ، يقول تعالى : ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﱠ [ يونس: ٣٦ ] ، ويقول: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ [ البقرة:
٤٢
]
،
ويقول : ﭐﱡﭐ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﱠ [ الأنعام: ٩٣
]
،
ويقول : ﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﱠ [ الإسراء :
٣٦
] .
فمسئولية المسلم عن كل ما يتحدث به فى
المسائل الدينية كبيرة ، لأن الخطأ فيها ليس كالخطأ فى مجال السياسة ، فلو كان
هناك مجال فى السياسة لتلافى الأخطاء ، أو لفقدان ما يظهر خطأ الحديث فيها بشكل
واضح ، أو غياب الضمير الذى يؤنب صاحبه عندما يتبين أنه وقع فى الخطأ ، فإن
الأخطاء فى مجال الدين تختلف عن ذلك ؛ إذ يشعر المرء فى المسائل الدينية بحرج كبير
، وتأنيب الضمير ، لو ظهر له أنه أدلى برأى لا يتفق وتعاليم الإسلام ، لأن مكان
العقيدة فى نفسه تدفعه إلى الحرص على عدم مساسها بسوء من أى نوع ، وهى نفسها التى
دفعته إلى محاولة الحديث فيها ، ظناً منه أنه يتقرب إلى الله بذلك .
ومن هنا ينبغى على المسلم ألا ينساق
وراء عواطفه فيتحدث فى المسائل الدينية بما لا علم له فيه ، حتى لا يقع فريسة
تأنيب الضمير عندما يظهر له خطؤه ، وليكرس تلك القوة الناشئة من غيرته الدينية فى
تقديم خدمات للإسلام فى مجال عمله ، تاركاً الحديث عن العقيدة والشريعة بفروعها
وتفصيلاتها إلى المتخصصين الذين يحسنون القول فيها ، بما حصلوه من علم فى فقه
الكتاب والسنة .
فلو كان وضع الإنسان فى هذه الحياة يسمح
له بالصولان والجولان فى عالم السياسة، فينبغى أن يكبح جماح نفسه، فلا يطلق عنان
القول فى مجال الدين إلا إذا كان على علم وبينة بما يقول.
وعليه فليس هناك من يجوز له ممارسة
الوعظ والإرشاد إلا المؤهل علمياً لهذه المهمة ، ومن هنا يمكن أن يفهم المرء ما اشترطه
بعض الفقهاء فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، من أن يأذن له الإمام أو الحاكم
بذلك ، فقد استدلوا فى هذا إلى أن الإمام يستطيع اختيار من يحسن القيام بهذه
الوظيفة ، ويقصدون بذلك أنه سوف يعهد بهذا الأمر إلى المؤهل علمياً ، حتى لا يحدث
ما يؤدى إلى الفساد والفتن بدخول غير المؤهلين إلى هذا الميدان ، لأنهم سوف يشيعون
– بجهلهم الأحكام – البلبلة بين الناس ، ويبذرون بذور الحيرة فى قلوبهم بتضارب
أقوالهم تضارباً لا يستند إلى دليل ، ولا توجهه حكمة ، أو توضحه مصلحة حياتية أو
عقدية .
فإطلاق حرية الحديث فى المجال الدينى
لكل الناس له عواقب سيئة فى حقل الدعوة إلى الله ، فهو ، وإن كانت له آثار طيبة من
بعض النواحى فى المجتمع ، إلا ما ينتج عنه من غيوم تحجب سماحة الإسلام – من
جراء تشدد الجهلة وتطرفهم - ، وتخفى عن
أنظار غير المسلمين – وكثير من المسلمين أيضاً – فاعليته فى مجال العلوم الحديثة
وإمكانات إسهام من يتمسك به فى الحضارة المعاصرة بجميع فروعها من جراء عدم فهم
كثير من الدخلاء على الدعوة الإسلامية فلسفة الإسلام فى التشريع التى تجعله
ملائماً لكل العصور والأزمان ، الأمر الذى يجهل مهمة الدعاة المؤهلين ثقيلة
ومضاعفة ، بسبب تصحيح أخطاء المتطفلين على الدعوة ، ومواجهة التيارات الفكرية
المعادية للإسلام .
ألا يكون كثرة
الأحكام الفقهية، وتعدد آراء العلماء فى المسألة الواحدة سبباً فى انتشار ظاهرة
التشدد والتطرف فى جميع أنحاء العالم الإسلامي، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى
جنوبه؟
ليس هذا هو
السبب الرئيسى ، بل قد يكون عاملاً مساعداً فى تدعيمها وتقويتها ، ولكنه يرجع إلى
الجهل ، وعدم القدرة على استيعاب الآراء المتعددة ، وفهم فلسفة هذا الاختلاف ، ذلك
أن كثيراً من الذين يسعون إلى جمع المال - وقدرتهم لا تمكنهم من الحصول عليه
بالعمل والإنتاج - يلجئون إلى الدين ، فيقرءون بعض الكتب الدينية ، ويظنون أنهم
بذلك بلغوا مبلغاً يؤهلهم للحديث فى الشئون الدينية ، فيصدرون فتاوى لا تتناسب مع
متطلبات العصر ، ولا تتفق مع ظروف الحياة ، ذلك أنهم لا يعرفون غير ما قرءوه ،
وغالباً ما يكون المتاح لقراءة عامة الناس ، هو من تأليف أصحاب الآراء المتشددة ، والاتجاهات المتطرفة ، أضف إلى ذلك
أن الوضع الاقتصادى ، والحالة الاجتماعية ، والمناخ السياسى يدفع الشباب إلى
الالتجاء إلى الدين لحمايتهم من ضغط الحياة
، لأنهم يظنون أنه هو الذى سيخلصهم مما هم فيه من نكبات الدهر ، وظلم
الأقوياء ، ويحررهم من عنف السلطة ، وجبروت الحكام .
ومن سخريات القدر، وعجائب الظواهر التى انتشرت فى المجتمع الإسلامي فى
العقود الأخيرة مانشاهده من كثرة الحديث عن الخرافات والأساطير باسم الدين، فنرى
أدعياء العلم الدينى يثرثرون فى الفضائيات عن زواج الرجل بجنية، أو جنية برجل، ويفسرون
الأمراض النفسية -أو الصرع – بأنه أثر من آثار دخول الجن فى جسم الإنسان، ويدعون
أنهم قادرون على شفاء الأمراض العضوية بالقرآن الكريم، وغير ذلك من الأمور التى لا
صلة لها بالدين (كتفسير الأحلام، والرقية، وكتابة الأحجبة ..... وغيرها من الأمور
التي يمارسها الطامعون فى جمع المال من العامة مستغلين سذاجتهم وتدينهم الفطري)،
لأن وظيفة الإسلام الأساسية هى تقويم سلوك الإنسان، وهدايته إلى طريق الله الذى
يصلح حاله فى الدنيا بالعلم، والإنتاج، والشعور بالمسئولية، وتصفية قلبه ونقاء
سريرته من الحقد والغل والطمع والحسد ....و .....و ....إلخ، وهذا هو المقصود من
قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﱠ [ الإسراء: ٨٢ ].
أما الأمراض
العضوية فيبحث عن علاجها عند الطبيب المختص، وكذلك الأمراض النفسية، إلا أن قراءة
القرآن الكريم قد تساعد على سرعة استجابة الجسم للأدوية التى وصفها الطبيب للعلاج.
إذا أردت أن
تقود شعباً بسلاسة، فلن تجد طريقاً يُسَهِّل لك هذه القيادة سوى الدين، وإذا رغبت
فى شهرة مطلقة لا يستطيع أحد الاقتراب منك لطعنها أو الحط من شأنها، فليس أمامك
إلا الحديث باسم الدين، ولو رمت يوماً ثروة، فأقرب طريق إلى جمعها هو الدين؛ ذلك
أن الإنسان يضعف أمام من يحدثه باسم الدين، لأنه غريزة فطرية فيه، فالدين ملازم
لحياة الإنسان، فقد وجدت أمم بدون حضارة، ولكن لا يوجد فرد أو أمة بدون دين، أياًّ
كان شكل هذا الدين وطبيعته.
وهذا هو مفتاح
فهم الظاهرة التى انتشرت فى المجتمعات الإسلامية، حيث كثر المتحدثون باسم الإسلام
فى وسائل الإعلام المختلفة (مكتوبة، ومرئية، ومسموعة)، فتبارت القنوات الفضائية
وغيرها فى وضع برامج تحمل طابعاً دينياً مثيراً، لتجذب أصحاب الإعلانات التجارية،
ففى ذلك شهرة وثروة للمتحدث، وتدعيماً مادياً للقناة، وعائداً مجزياً لأصحاب
البضائع المعلن عنها. ولم يفكر أحد فى تأثير هذه البرامج على عقل الأمة وثقافتها،
وتغاضت كل الأطراف عن توجيه الأمة إلى ما يمكنها من النهوض من كبوتها واللحاق بركب
الحضارة الحديثة؛ فمعظم هذه البرامج – وليس الكل – قائم على الإثارة، ويهدف إلى
دغدغة العواطف، وتهييج الأحاسيس الدينية، بصرف النظر عما يؤدى هذا الأسلوب إلى تغييب
العقل، وطمس معالم القيم الدينية الخلاقة، التى تنفع الإنسان في دنياه وآخرته.
حدث هذا فى
أواخر العصر الأموى والعصر العباسى ، حيث انتشرت مجالس القاصين فى المساجد ، وهم
الذين كانوا يجذبون الناس إلى سماع ما يقصونه من خرافات وأساطير فى سياق دينى
يسيطر على مشاعر المستمعين ، لدرجة أن روادهم والمستمعين إليهم كانوا يعدون
بالمئات ، بينما كانت مجالس العلماء والأئمة الكبار لا يحضرها إلا أعداد قليلة من
الناس ، وهذا هو ما يحدث اليوم ، إذ نجد جماهير غفيرة تستمع إلى غير المتخصصين فى
الدراسات الدينية ممن يروون القصص والحكايات الدينية التى لا يتعدى تأثيرها لحظة
الاستماع إليها ، فضلاً عن أنها مليئة بالأخطاء وبِلَغْو القول الذى ليس له تأثير
بَنَّاء فى تكوين ثقافة الأمة الدينية ، بل هى أشبه بالفقاعات التى تحدث ضجيجاً ،
ثم ما يلبث أن يذهب جفاء . ومن الطرائف التى رويت عن هؤلاء القاصين فى العصر
العباسي: أن الإمام أحمد بن حنبل، والمحدث يحيى بن معين دخلا ذات يوم المسجد،
فرأيا واحداً من هؤلاء يخطب فى جمع كبير من الناس، فجلسا ليستمعا إلى ما يقوله،
فسمعاه يردد أنه سمع كذا من أحمد بن حنبل وأنه سمع كذا من يحيى بن معين، فلما انتهى
من درسه وانصرف الناس، سألاه عن صحة ما رواه عنهما فأكد لهما ذلك، فأخبراه بأنهما
أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين وهما لم يقولا ذلك، فقال لهما: ما رأيت أحمق منكما! هل
تظنان أنه لا يوجد غير أحمد بن حنبل واحد ويحيى بن معين واحد، لقد قابلت أربعين
أحمد بن حنبل وأربعين يحيى بن معين. فانظر كيف كان الرد من أمثال هؤلاء الذين
تحدثوا – ولا زالوا يتحدثون إلى اليوم – باسم الإسلام ويصدرون الفتاوى والأحكام جزافاً
دون روية، ولا تستند إلى قاعدة علمية صحيحة.
كانت هذه
الظاهرة من الأسباب الرئيسة فى تخلف الفكر الإسلامي؛ إذ ساعدت على انتشار الخرافات
والأساطير، وأحيت عادات وتقاليد فى المجتمع الإسلامي، نهى الإسلام عنها:
·
كالعناية بالمظهر دون المخبر،
·
والتدين الشكلي،
·
والإكثار من النوافل والأدعية بصيغ مختلفة،
·
مع التفريط فى القيم الأخلاقية التي دعا إليها
الإسلام،
·
والإعراض عما أمر الله به من التدبر والتفكر فى ملكوت الله بالوسائل
العلمية – لا بالأدعية فقط ورفع الأيدى
إلى السماء – والإمكانات التى سخرها الله للإنسان ليعمر الأرض بالعمل والمثابرة.
لأن هؤلاء المتطفلين
على محراب العلماء استولوا بأساليبهم المخدرة للعقول على مشاعر المسلمين، فغرسوا
فى وجدانهم أن السبيل الوحيد لنيل رضاء الله هو:
·
التعبد في المساجد،
·
والدعاء آناء الليل وأطراف النهار،
·
وقراءة القرآن آناء الليل والنهار،
·
فإن مرض أحدهم فعليه بالقرآن فإنه شفاء من كل الأمراض العضوية،
·
وإن اعتل جهازه النفسي، فعليه الالتجاء إلى
المعالجين بالسحر والشعوذة وإخراج الجن من الجسم الممسوس ..... وغير ذلك من
الممارسات التى لا تعترف بالعقل، ولا
تعير انتباهاً إلى ما جاء به الإسلام من الحث على العمل لتعمير الأرض، والتركيز فى
كثير من آيات القرآن الكريم على الأخذ بالأسباب، والاهتداء بالعقل إلى ما ينفع
الإنسان فى هذه الدنيا ....
ومن الأمثلة
التى تبين مدى انحدار الفكر فى المجتمع الإسلامية من جراء تأثير ما يلقيه هؤلاء
على جمهور المسلمين، وبعده عما فهمه المسلمين الأُوَل من تعاليم الإسلام، ما روى
من أن عمر بن الخطاب t احتاج في
قضية مرفوعة أمامه إلى شاهد ، فاُتِىَ له بشاهد ، يحتاج إلى من يزكيه حتى تُقْبَل
شهادته ، فجيء برجل ليزكى الشاهد ، فسأله عمر : هل تسكن بجوار من تزكيه ؟ فقال
الرجل: لا!، فقال عمر: هل رافقته في سفر؟ ، فقال: لا!، فقال : هل كانت بينك وبينه
معاملات مالية ؟ ، فقال : لا ! ، فقال عمر : لعلك رأيته يتمتم بالصلاة فى المسجد !
، فقال الرجل : نعم ، فالتفت عمر إلى الشاهد قائلاً : إذهب يا رجل ! فأتنى بمن
يعرفك، فإن هذا لا يعرفك.
فالإسلام يعنى
بالعمل والسلوك لا بالتدين الظاهرى فقط، كما أن العبادات ليست غاية فى حد ذاتها، بل
هى وسيلة لتقويم سلوك الإنسان، فإذا اقتصر المسلم على الأداء الصورى لها، فلا
فائدة فيها، يقول رسول الله e : "
من لم تنهه صلاته فلا صلاة له "
كذلك النصوص التى
ترشد المسلمين إلى الأخذ بالأسباب دون اللجوء إلى الخرافات التى يتحدث بها كثير من
المتحدثين باسم الإسلام فى هذا العصر قول رسول الله r : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه دواؤه ،
جهله من جهل ، وعلمه من علم ." [2]
وقوله: " من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق وديعة فلا ودع الله
له." [3]،
وعن عروة عن أبيه قال : قلت لعائشة : قد أخذت السنن عن رسول الله e والشعر والعربية عن العرب ، فعمَّن أخذت الطب ؟
، قالت : إن رسول الله e كان رجلاً
مسقاماً وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم " [4]
، أي لم يعالج الرسول e نفسه
بالأساليب التى يمارسها الدجالون باسم الإسلام ، بل دعا أطباء العرب ليعالجوه ،
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال : مرضت فى زمن عمر بن الخطاب مرضاً شديداً فدعا لى
عمى طبيباً ...." [5]
أى لم يرسله إلى من يعالج الناس بالقرآن، ولم يقرأ علي رأسه آية من القرآن أو يكتب
له حجاباً، لأن هذا النوع من التفكير لم يكن موجوداً فى زمن الرعيل الأول، بل
انتشر فى عصر متأخر، أى من يوم أن تولى الحديث عن الإسلام دخلاء لم يعرفوا من
تعاليمه سوى قشور ممزوجة بأساطير وخرافات غريبة عن الفكر الإسلامي الصحيح.
ولهذا يجب على من
لم يتخصص فى العلوم الدينية عدم الخوض فيما ليس له به علم بدافع الغيرة على الدين،
والحماس في مجال الدعوة، فقد يترتب على ذلك آثار تضر بالدعوة أكثر مما تخدمها،
وخاصة فيما يتعلق بنظم الحياة الحديثة، بما فيها من تعقيدات حضارية، وما يطفو على
سطحها من صور مستحدثة، وأشكال متعددة فى شتى المجالات.
ويمكن أن يخدم دينه، ويحمى عقيدته بالتفوق فى مجال
تخصصه، فإن كان مهندساً، فما يقدمه للإسلام هو إتقانه لعمله وتفوقه فى مجال
الهندسة، حتى لا يحتاج المجتمع الإسلامي إلى طلب مساعدة من غير المسلمين فى هذا
الميدان، ومثل ذلك الطبيب، والمحاسب، والاقتصادى، والمهندس الزراعى .... و...و,,,,الخ
، فإن قوة المسلمين فى هذه الميادين تحميهم من الوقوع فى مجال التأثير بالأجانب
الذين يستعينون بهم فى هذه المجالات التى أصبحت حيوية بالنسبة للحياة المعاصرة ، فإن
أراد بعد ذلك أن يكون له نشاط فى مجال الدعوة إلى الله ، فليكن بسلوكه بين
العاملين معه ، وأخلاقه مع المتعاملين فى حقله ، فإن لذلك صدى فى نفوسهم يفوق فى
كثير من الأحيان تأثير خطب الوعاظ ، ودروس علماء الدين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق