إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,251

الأربعاء، 8 أبريل 2020

حوار الحضارات


حوار الحضارات
                               أ. د/ محمد شامة
اهتم المفكرون منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م بقضية العلاقة بين الشرق والغرب ، وبتعبير أدق بين الإسلام والآخر مشددين على أن الأسلوب الأمثل للتفاهم بين الطرفين – المسلمين وغير المسلمين ، وخاصة الأوربيين ومن لحق بهم من سكان أمريكا الشمالية – في ظل تدهور الأحوال الإقليمية في بلاد المسلمين ، وذلك بغزو العراق وأفغانستان هو : الحوار ، وأكد هذا التوجه حدة التوتر في فلسطين ، وتلويح القوى العظمى لبعض البلدان الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط بالعقاب  الدولي ، الذى قد يصل إلى حد استعمال القوة العسكرية ضدها .
تبلور هذا الاتجاه وتدثر بمصطلح فكري هو: " حوار الحضارات "، وذلك ردًّا على نظرية صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات، التي روج لها في التسعينات من القرن العشرين بنشر كتاب بهذا العنوان، حيث بين فيه أنه بانتهاء الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي سوف يتشكل العالم نتيجة للتفاعل بين سبع أو ثماني حضارات كبيرة، منها الحضارة الإسلامية. وقد اعتبر هذه النظرية تهديداً للسلام، معتمداً – على أساس فهم خاطئ – على دراسته للعلاقات الثقافية والحضارية بين الأمم على مدى التاريخ، ومفصحاً عما يكمن فب اللاوعي عند الغربيين من ضرورة وجود القطبية الثنائية في العالم، يناطح كلٌّ منهما الآخر. فلما سقط العدو الشيوعي، سوف يحل مكانه – هكذا تصور هنتنجتون – عدو آخر للغرب، وهو: الإسلام.
كتب الباحثون – وما زالوا يكتبون – كثيراً من المقالات والكتب حول هذا الموضوع، وكثرت المؤتمرات، وتعددت اللقاءات في شكل ندوات، سواء على المستوى الوطني، أو الإقليمي، أو العالمي، وأحياناً وفود تجوب هنا وهناك، تدير حواراً بين الأطراف المختلفة في إطار ما يعرف بـ: حوار الحضارات، مركزين على أن السلام العالمي لا يمكن أن يبنى إلا في ظل التسامح، والتفاهم، كما أن مصير البشرية لا يتقرر إلا بالجميع، ومعهم، ولصالحهم جميعاً.
غير أن الاتجاهات الفكرية كانت – وما زالت – متعددة ، بل ومتضادة أحياناً ؛ فبينما يرى فريق أنه لا جدوى من الحوار في ظل الوضع الدولي الحالي، حيث تسود حالة صراع حضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ويشككون في قدرة المتحاورين على الإسهام في إدارة المعضلات السائدة بين الشرق والغرب ، مؤكدين على أنه لا يمكن أن يكون الحوار بين الحضارات مجدياً في ظل غياب التكافؤ بين الأطراف المتحاورة ، فانعدام التوازن بين القوى يؤدى إلى وضع يملى فيه أحد الأطراف ما يحقق أطماعه ، ويحمى مصالحه ، وعلى الطرف الآخر الإذعان . والدليل على صحة هذا أننا نرى أن الغرب هو الذي يضع أجندة الحوار، ويحدد قضاياه، وهي غالباً ما تدور حول الحريات، والحقوق الفردية، وضرورة احترام التعددية. ويركز بصفة خاصة على ما يراه – أي الغرب – تفسيرات جامدة للشريعة الإسلامية، وهي مسألة تهم الغرب، ويضعها في مركز الحوار، مستهدفاً صياغة الشرق بالصورة التي يريدها تحت حجة معالجة – وتجفيف – جذور الإرهاب الذي يهدد – حسب زعمهم – الحضارة الغربية. فحوار الحضارات بالشكل الموجود الآن على الساحة الدولية، ما هو إلا واجهة للغرب يخفى وراءها صراع الحضارات، وبالتالي فلن يثمر إلا بمقدار ما تريده الإدارات الرسمية في صراعها مع القوى المخالفة لها.
أما الفريق الذى يرى أن الحوار مع الآخر ضرورة، فيستند في رأيه إلى أن العولمة حقيقة قائمة، والواقع يحتم الاتصال بالآخر بكل الطرق الممكنة، وعلى رأسها الحوار الفكري تفادياً للصدام، الذى يسعى إلى تأجيجه أناس سيطرت العنصرية على عقولهم، فطفقوا يروجون لصدام الحضارات، وتناطح الثقافات بغية تحقيق مصالح لهم، وأملاً في الوصول إلى التحكم والسيطرة على مقدرات الشعوب. ومن هنا يجب على الجميع أن يقبلوا بالحوار، ويدعوا له، حتى لا يضيع الوقت والجهد في إحباطات وصراعات لن تجدي، ولن توصلنا إلا إلى مزيد من الإحباطات، وعديد من الهزائم على جميع المستويات: سياسية، وعسكرية، وثقافية، واقتصادية.
ولكى يسير الحوار في طريق سليم، يؤدى إلى التفاهم بدلا من التراشق، ويفضى إلى التسامح بدلا من التعصب، فعلى الغربيين أن يغيروا من توجهاتهم في السياسة الخارجية، وأن يتخلوا عن أسلوب الازدواجية في الحكم على الأشياء، وفى التعامل مع القضايا الدولية، وأن يسعوا إلى الإنصات لما يقوله المسلمون عن الإسلام، حتى يفهموا تعاليمه، بعيداً عن الصورة السلبية التي كونوها عنه من تصرفات بعض المغالين، وهم قلة لا تمثل الإسلام ..... ويوجد مثلها في كل الأديان، وبين كل أمم الأرض، فلا يجوز أن تُعَدّ هذه الصورة -التي رسمتها قلة أخفقت في التعبير عن مبادئ الإسلام -تعبيراً عن المبادئ التي وردت في القرآن الكريم، يلتزم بها المسلمون أفراداً وجماعات.
 أما المسلمون، فعليهم أن يتخلوا عن الدور السلبي الذى يمارسونه على صعيد المجتمع الدولي، وأن يرتبوا مجتمعاتهم من الداخل، كي تعبر عن الصورة الإسلامية الصحيحة، وأن يُعْنَوا بإعلامهم، كي يرقى إلى درجة تعبر عن قيم الإسلام وتعاليمه تعبيراً صحيحاً.
لم تكن ظاهرة الحوار غائبة في المجتمعات الإسلامية منذ أمر الله رسوله r  بالجهر بالدعوة؛ فقد حاور r  المشركين في قضايا كثيرة، سجلها القرآن الكريم، كما عقد لقاءات مع مختلف المجتمع العربي في الجزيرة العربية فيما يعرف بعام الوفود، وكان من الوفود التي وفدت عليه في هذا العام وفد نصارى نجران، فقد رُوِىَ أنهم دخلوا عليه في مسجده، وبدأوا الصلاة فيه، فأراد بعض الصحابة منعهم، ولكن النبي r  بسماحته قال للمانعين: دعوهم، فصلوا في مسجده مطمئنين. ولما فرغوا من صلاتهم عُقِدَت بينه وبينهم جلسة حوار، وجهوا فيها للنبي r  كثيراً من الأسئلة، فأجابهم النبي r  عليها. وقد سجل القرآن الكريم بعضاً من هذه الأسئلة مع إجابة الرسول r عنها ، فمن بين أسئلتهم قولهم له : ما تقول في عيسى، فإنا نصارى ، يسرنا إن كنت نبيًّا أن نعلم ما تقول فيه ، فتلا رسول  الله r قوله تعالى: " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " [آل عمران : 59-61] ، وبعد انتهاء الحوار أعطاهم عهداً كان من مبادئه : " ..ولنجران جوار الله تعالى وذمة محمد النبي r  وملتهم وأرضهم وأموالهم و غائبهم وشاهدهم ، وعشيرتهم وتبعهم ، وألا يغيروا مما كانوا عليه ، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم ، ولا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ، وكل ما تحت أيديهم من مال ، وليس عليهم ريبة ، ولا دم  جاهليته ، ولا يحشرون، ولا يعشرون ، ولا يطأ أرضهم جيش ، ومن سأل منهم حقاًّ ، فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة ، ولا يُؤْخَذ رجل منهم بظلم آخر ، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله ، حتى يأتي الله بأمره ، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بحرب ." ([1])
فهذه أول معاهدة في التاريخ المعروف، تعترف بدين الآخر وثقافته، وتحترم تقاليده وعاداته، فهي اعتراف صريح بتنوع الحضارات، وتعدد الثقافات، وهى نموذج للتعايش السلمى بين شعوب مختلفة في عقائدها، ومتنوعة ثقافاتها، ومتعددة أساليب حياتها. نموذج حضاري برز يى عصور الظلمات، ونبت من بين الحروب الدينية التي كانت سائدة آنذاك، وتبلور في خضم الصراعات العرقية والثقافية؛ فهي أكبر دليل على تقبل الإسلام للثقافات الأخرى، والتعايش معها، وخير مثال لدعوة الإسلام إلى إقرار السلم بين الأمم والشعوب، مهما اختلفت أديانها، وتعددت ثقافاتها، وتباينت أساليب حياتها، وتنوعت نظرتها وتصورها للكون والحياة.
يفتح الإسلام ذراعيه لكل الثقافات الأخرى، مما يدل على سعة أفقه، ونظرته العالمية الواسعة إلى الأديان والأجناس، فأقام حضارة كبرى ساهم فيها أهل هذه الأجناس والأديان في كل ناحية من نواحي الحياة: في الفكر، والفلسفة، والأدب، والفن، والطب، واللغة، والتصوف. وكانت تلك الحضارة تأليفاً وتوحيداً، لكل الحضارات قبلها: في الصين، والهند، وفارس، والروم، واليونان.
شيد المسلمون على كل هذه الأسس بناءً حضاريًّا ضخماً، اشترك فيه العلماء من جميع الأجناس والأديان، فكانت بحق حضارة لجميع أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، ثم انتقل هذا التراث الحضاري إلى الأجيال اللاحقة، فكان مصدراً للحضارة الحديثة. وقد عبر أحد العلماء عن دور المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية بقوله: " إن المسلمين لم يحرصوا فقط على أن يكونوا ورثة الأنبياء ، بل ورثة الفلاسفة كذلك ."
فالإسلام دين حضاري؛ لأنه لم يغرس في نفوس المسلمين حقداً ضد أي طائفة أخرى من البشر تعتنق ديناً آخر ، ولم يُحَرِّم عليهم التزود بأيّ نوع من أنواع الثقافات الإنسانية ، ولم يفرض عليهم شيئاً يعزلهم عن غيرهم من أجناس البشرية ، ولم يأمرهم بإجبار أحد على اعتناق الإسلام ، فكان بذلك ساحة ضمت جميع الناس ، وبوتقة صهرت جميع الثقافات ، ووادياً أمِنَ فيه الناس على أنفسهم ، وعقائدهم ، وأفكارهم ، واطمأنوا في ظله على سلامة أموالهم وممتلكاتهم ، فنظروا إليه غير خائفين ، وفكروا في مبادئه غير وجلين ، ودرسوا أحكامه في جوٍّ من الحرية والديمقراطية ، فجاء اعتناق من اتخذه ديناً عن رغبة واقتناع ، وعاش في ظل دولته من بقى على دينه آمناً مطمئناًّ ، يسعى إلى رزقه ، ويشارك في مجالات الدولة المختلفة تحت راية الإسلام التي ترفرف معلنة أنها مظلة الإنسان من حيث هو إنسان ، لا فرق وبينه وبين الآخر بسبب الدين ، أو اللون أو العرق ، فالكل أمام قوانين العدل ، ومبادئ الرحمة سواء .
إذا حدد العلماء معنى كلمة الحضارة بأنها: مجموع ما خلفته الأمة من آثار فكرية وفنية في جميع المجالات المادية والمعنوية، فإن الأمة الإسلامية قد تفوقت على كل الأمم السابقة واللاحقة في هذه المجالات؛ إذ أبدع المسلمون في جميع نواحي الحياة، فأسهموا بقسط وافر في بناء حضارة إنسانية داخل إطار أخلاقي غير مسبوق. ففي مجال التعليم الذى هو اللبنة الأولى والأساسية في بناء أي حضارة، أنشأ المسلمون المدارس، والأكاديميات العلمية في وقت نشر الجهل أجنحته في جميع أرجاء الأرض، فانتشرت المدارس الإسلامية منذ القرن العاشر الميلادي في جميع مناطق الأقطار الإسلامية، من الأندلس عبر إفريقيا حتى بلاد فارس، وكانت المدارس العليا في الأندلس منبعاً أمد الحياة الثقافية الأوربية بروافد حملت معها الخصوبة الفكرية التي هي أصل الحضارة الغربية.
وفى مجال الهندسة توصل العلماء المسلمون إلى رسم كتابة الأعداد، فكانت أساساً للرسم الأوربي الحالي للأرقام الحسابية، وظل الجدول الفلكي الذي وضعوه هو المرجع الوحيد لعلماء أوربا لعدة قرون.
وفى مجال الطب، وصل المسلمون بفن العلاج إلى مستوى الكمال، فأنشئوا أول مستشفى في بغداد في عهد الخليفة هارون الرشيد، ثم ما لبث أن افتتحت مستشفيات مماثلة لها في جميع أنحاء الدولة الإسلامية، وكان أشهرها "بيمارستان" دمشق، حيث توجه إليه الأطباء للحصول على الدرجات العلمية التخصصية، كما أمَّه الطلاب للتدريب على ما يحتاجون إليه في امتحاناتهم.
وكانت رعاية المرضى سبباً في اكتشافات جديدة في مجال الأدوية، ذلك المجال الذى أصبح في ذلك الوقت علم المسلمين الذى لا ينازعهم فيه أحد؛ إذ اكتشفوا العديد من المستحضرات الطبية، واستعملوا كثيراً من الأعشاب في علاج المرضى، فأثروا هذا المجال باختراعاتهم العديدة، كما ظهر العديد من المراجع الطبية في هذه الحقبة الزاهرة في تاريخ الطب الإسلامي، ثم انتقل هذا إلى أوربا فكان أسس علم الطب في مدارسها العليا لعدة قرون.
يعترف كثير من علماء أوربا بذلك؛ فقد قال "جوتشالك " في كتابه " الإسلام قوة عالمية متحركة ": " أسهم الشرق الإسلامي منذ القرن الثامن الميلادي في الحضارة العالمية بإنجازاته الضخمة في مجالات المعرفة، ولم يتوقف تأثيره عند قرن معين، بل ظل يتقلب في صور مختلفة عبر القرون حتى عصرنا الحالي، إذ امتد التأثير الفكري لهذه الحضارة – حتى بعد التدهور السياسي للدولة الإسلامية – في جميع أنحاء العالم، فأنتج في مجالات عديدة لم تبحث جوانبها حتى الآن ..."
ثم يقول: " لو لم يقم العرب بهذا المجهود الضخم في مجال المعرفة، لفقدنا كثيراً مما نتمتع به الآن في عالم الثقافة من العلوم والمعارف، أو لتأخر على الأقل انتفاعنا دهوراً طويلة، فقد وصلت الحضارة الإسلامية إلى أوربا عن طريق أسبانيا، فدفعتها إلى تطور ذاتي فيما بعد."
حتى في مجال الفن كان للمسلمين بصمة واضحة؛ فقد استلهم الفن الإسلامي أفكاره من الفنون السابقة له، ولكن ما أخذه من هذه الفنون المختلفة أعاده في شكل، اتخذ طابعاً مختلفاً كل الاختلاف عن أي فن سبقه، فقد عبر عن اتجاه إسلامي خالص، وحمل بصمات الروح الإسلامية التي تخضع لإرادة الله، الذى حدد في اللوح المحفوظ مصير العالم ككل، وقدر لكل كائن حي قدره على حدة، فما يباشره من أعمال هي في واقع الأمر منسوبة إلى الله.
وفى داخل هذا الإطار، أنتج المسلمون فناً رائعاً، يستطيع كل إنسان إدراكه في المساجد، حيث زينها الفنانون برسومات رائعة، وزخرفوها بأشكال في غاية الروعة والإتقان، بهرت – وما زالت تبهر – كل من شاهدها حتى عصرنا الحالي. وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على ذوق وإحساس بالجمال، يضاهى – إن لم يفق – ما ينسب إلى العالم المتحضر اليوم، باعتباره من السمات الأساسية للتقدم في المجتمع، وازدهار حياة الفرد فيه.
أما في مجال الصناعة، فقد برع المسلمون في العديد منها؛ إذ بلغت صناعة النسيج الفاخرة عصرها الذهبي في عهد الدولة الصفوية، عندما طليت قصور أوربا بذلك النوع المرصع بالذهب والفضة من أصبهان، وظلت تستورده منها ابتداءً من عام 1502م على امتداد مائتين وخمسين عاماً.
كما احتلت صناعة السجاد على امتداد التاريخ الإسلامي مرتبة عالية، وظل الشرق حتى اليوم أكبر مورد سجاد للعالم، وكان السجاد التركي أوسعها انتشاراً في العهد العثماني، ولا زال مطلوباً في كل أنحاء العالم حتى اليوم بجانب الفارسي والقوقازى.
كذلك أنجزت البلاد الإسلامية في مجال صناعة المعادن إنجازات رائعة، كما كانت بلاد فارس وطن صناعة الكرستال والزجاج، ثم انتشرت في جميع البلاد الإسلامية، كما ازدهر فن العاج في الأندلس وصقلية، ثم انتشر من هناك فعم جميع البلاد الإسلامية. ولا تنس صناعة الأخشاب، ويكفى دليلاً على هذا رؤية ما في المساجد من أشكال هندسية رائعة للمنابر، ومشاهدة ما في القصور والمتاحف من شرفات وأبواب وشبابيك، تكاد تنطق من فرط روعة أشكالها الهندسية، ولا تسل عن الفن المعماري الإسلامي، فالمساجد والقصور تنبئك عن الكثير منها.
كان المسلمون متفوقون أيضاً في مجال التجارة ، يشهد بذلك أحد الأوربيين في معرض حديثه عن ازدهار التجارة في العالم الإسلامي في عصر لم يكن لها أثر يذكر في أوربا ، فقد قال بالحرف الواحد : " بينما كانت الطبقات الحاكمة في أوربا تنظر إلى التجارة نظرة ازدراء واحتقار ، سيطر العالم الإسلامي على شئون التجارة ، فأصبح التبادل التجاري محتكراً في أيدى المملكة الإسلامية ؛ إذ لم يكن بين أقطارها الشاسعة حواجز جمركية ، ولا حدود مانعة أمام تبادل البضائع اللازمة لضرورة الحياة ، فازدهر الاقتصاد في ظل قواعد التجارة وشئون المواصلات التي بلغت حد المثالية، لدرجة أن النشاط التجاري سار في البر والبحر بأقصى سرعة دون هدوء أو توقف ، واستطاعت العقلية التجارية عند التجار المسلمين في ذلك الوقت الحصول على أرباح طائلة .([2])  
ومن هذا العرض يتبين أن المسلمين أنجزوا الكثير في مجالات الحضارة الإنسانية بكل أنواعها وأشكالها ، ولذا ينبغي أن يكون معلوماً لدى الطرفين المتحاورين نديتهما ومساواتهما، فإذا كان الطرف الغربي يعتقد أنه متفوق على الطرف الآخر بما وصل إليه من تقدم في العصر الحديث ، فإن للطرف الإسلامي تاريخاً مجيداً في هذا المجال ، ويتفوق على الغرب بأن حضارته لم تكن مادية بحتة – كما هو الحال في الحضارة الغربية  المعاصرة - ، بل كانت إنسانية ؛ تعنى بالإنسان ، وتحافظ على حقوقه ، وتغرس فيه الأخلاق التي تحميه من عبودية المادية ، وسيطرتها على سلوكياته ، وتحرره من طغيان الأنانية ، وشطحات التعصب للدين ، أو للعرق ، أو اللون ، فكل الناس سواسية ، فلا تعصب ، ولا تطاول من أحد على الآخر ، فالإنسانية مصانة ، ومقدسات كل الشعوب – على اختلاف أديانها -  تحتل المكانة الأولى في ظل الحضارة الإسلامية .
احترم الإسلام عقائد الآخرين ، على الرغم من الاختلاف الجذري بينها وبين الإسلام ، بل إنه سماها أدياناً ، مما يوحى بالاشتراك بينها وبين الإسلام في الخصائص المميزة لها عن التيارات الفلسفية ، فقال تعالى : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ  * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ " [ الكافرون :  1 -6 ] ، وهو ما يسمح لمعتنقيها بالجلوس على مائدة الحوار جنباً إلى جنب مع المسلمين  يحاورونهم حواراً  حضاريًّا ، بعيداً عن السفه والتطاول ، ومنزهاً عن الإسفاف في لغة الحوار ، متجنبين احتقار الآخر أو الإساءة إلى مقدساته، امتثالا لأمر الله في قوله تعالى : " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ"  [الانعام : 108 ] ، فالنهى عن سباب مقدسات الآخر هو دعوة إلى حوار حضاري بالكلمة الطيبة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وتبادل المعلومات في جو يسوده الاحترام من الطرفين ، ومراعاة شعور الآخر ، بحيث لا يتطاول على مقدساته ، ولا يستهين بمبادئه ، ولا يستهزئ برموزه ، ولا يسخر من تعاليمه .
فالإساءة إلى الرسول r  في بعض الجرائد الغربية أسلوب غير حضاري، بل هو رجوع بلغة الخطاب إلى ما كان سائداً في عصور الظلام، وممارسة لأخلاقيات تتنافى مع أبسط مبادئ الحضارة الإنسانية. ومن المبررات اللامعقولة ادعاؤهم بأن هذا يدخل في باب حرية التعبير، فقد ادعت الصحيفة الدنماركية التي نشرت صوراً مسيئة للرسول r  أن ما قامت به حق مشروع، يندرج تحت باب حرية التعبير السائدة في العالم الغربي؛ إذ أن قوانين هذا العالم تحمى هذه الحرية، وعليه فليس من حق المسلمين الاعتراض على ذلك، لأنه من المسلمات في المجتمع الغربي .. بل وصل الأمر إلى حد رفض رئيس الوزراء الدنماركي مناشدة المسلمين له تقديم اعتذار عن هذه الإساءة زاعماً أن حرية التعبير حق كفله الدستور ، وأنه لا ولاية للحكومة على الصحافة ، بل الأكثر من هذا إمعاناً واسترسالا في مسلسل إهانة المسلمين إعلان البرلمان الأوروبي  - الواضح والشديد اللهجة – عن تضامنه مع الدنمارك وغيرها من الدول التي طالتها ردود المسلمين الغاضبة ، وشدد مكرراً على أن الدول التي شهدت أعمال عنف وتظاهرات ضد نشر الرسوم ، هي أمكنة تشهد في شكل منتظم انتهاكا لحرية التعبير ، وهو قول ينطوي على عدة مغالطات ، منها : أنه لا توجد حرية مطلقة – وهو ما تعارف عليه المجتمع الدولي بكل أطيافه - ؛ إذ حريتك تنتهى حيث تبدأ حرية غيرك ؛ فلا يجوز نشر الخصوصيات باعتبار أن ذلك حرية ، ولا ينبغي الإساءة إلى المقدسات الدينية بحجة الحرية ، لأن المقدسات الدينية لا يجوز الاقتراب منها ، مهما كانت الدوافع والملابسات ، وهناك أسرار تحرم قوانين الدول نشرها ، حفاظاً على سلامة المجتمع ، وصوناً للأمن العام . كما أن ادعاء حكومة الدنمارك بأن ما نشرته الصحيفة هو من باب حرية التعبير، وأنه لا ولاية للحكومة عليها، وأنه لا يمكن بأي حال فرض وصاية على الإعلام، يدحض كل هذا محاكمة المؤرخ "ديفيد إرفنج"، فقد اقتيد إلى ساحة المحكمة بسب ما قاله في محاضرة ألقاها في عام 1989م: " إن هتلر قدم المساعدة ليهود أوربا، وأن كل ما يتردد حول المحارق وأفران الغاز ليس سوى خرافة."، وحكم عليه بثلاث سنوات بتهمة التعبير عن رأيه في أمر غير مقدس، وهو محرقة اليهود في أفران الغاز في ألمانيا الهتلرية.
أين اختفت حماية حرية التعبير في هذه المحاكمة؟، ومن قبل حوكم "جارودى" لأنه شكك في عدد ضحايا الهولوكست. أين كان الدفاع عن حرية التعبير في مسألة تاريخية، من طبيعتها الاختلاف فيها؟؛ فهي ليست نصوصاً مقدسة، وليس لها من الأدلة والبراهين ما يرفع درجة اليقين فيها إلى مرتبة المقدسات الدينية!
" لقد كان هذا المسلك الدنماركي خصوصاً والمسلك الأوربي الصحفي عموماً درساً من دروس الحماقة السياسية! وإذا كنا من قبل – من باب النقد الذاتي – نقدنا الحماقة السياسية العربية باعتبارها تعبر عن حماقة المتخلفين، إلا أننا لم ننس أن ننقد أيضاً حماقة المتقدمين التي ضربنا لها مثلاً، الحماقة السياسية الأمريكية في غزوها العسكري للعراق وفى استخدام الإرهاب للقضاء على الإرهاب.
وها نحن اليوم نواجه بحماقة سياسية صارخة أشعلتها الدنمارك وجرت وراءها الصحافة الفرنسية والألمانية والتي شاركت جميعاً في استفزاز مشاعر الشعوب الإسلامية، والتي أدت إلى مظاهرات حاشدة، وإلى مقاطعة للمنتجات الدنماركية. وهكذا تحولت هذه الحادثة المنفردة التي كان يمكن احتواؤها لو حكمت كل من الصحيفة الدنماركية والحكومة الدنماركية العقل وقدمت الاعتذار المناسب في الوقت المناسب. والواقع أننا الآن نشهد حالة نموذجية لما أطلق عليه صمويل هينتنجتون " صراع الحضارات " وإن كان من الأسلم أن نسميه " صراع الثقافات " 
 وإذا كانت الثقافة الأوربية قد قامت منذ قرون بثورة ثقافية ضد تعسف الكنيسة، وأعلنت الفصل بين الدين والدولة، إلا أننا في مجال الثقافة العربية الإسلامية لا نعتبر أن السخرية من الأديان – أيًّا كانت – أو ازدراؤها يعد من حرية التعبير! بل إن تشريعاتنا الجنائية تعتبر هذا الازدراء جريمة يعاقب عليها القانون. ونحن نعتقد في حكمة هذا الاتجاه، لأن المساس بالعقائد الدينية التي يؤمن بها ملايين البشر مسألة بالغة الخطورة على الاستقرار الاجتماعي، ومما يساعد على بلورة هذا الاتجاه لدينا، أن الإسلام يعترف بالأديان السماوية السابقة عليه، ونعنى اليهودية والمسيحية، ولذلك يمكن القول أن التطرف الفكري والحماقة السياسية قد اشتركا في إشعال هذا الصراع الثقافي الحاد بين أوروبا والعالم الإسلامي مما ينذر بعواقب كارثية اقتصادية وسياسية وثقافية على كل الأطراف." ([3])
إذا كانت هناك رغبة حقيقية وجادة عند من ينادون بالحوار الحضاري لتحقيق سلام عالمي بين كل الأمم والشعوب ، حتى تختفى الحروب الصغيرة والكبيرة ، فيجب على المتحاورين من الثقافات والحضارات المختلفة أن يراعوا حق الإنسان – أي إنسان على وجه الأرض – في الحفاظ على إنسانيته التي كرمه الله بها ؛ فإهانة الأرواح والأعراض مرفوضة في الإسلام بالنسبة للناس  جميعاً ، فما بالك بالمقدسات ورموز الأمم الدينية ، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تتضمن حرية التعبير سب الآخرين والاستهزاء بمبادئهم ورموزهم ، فإن ذلك يجرح شعورهم ، ويقيم سداًّ منيعاً بينهم وبين الحوار مع الآخر ، فالحوار البناء يقوم على وصل حبال الود ، والتداعي إلى كلمة سواء ، والتعاون على الخير ، والانطلاق من خندق واحد لمواجهة أخطار عديدة مشتركة ، تهدد الكيان الإنساني كله على اختلاف عقائد أهله ، وألوانهم ، ومصالحهم القريبة ، فلا يؤتى الحوار ثماره إلا إذا كان قائماً على اعتراف جاد وأمين بالآخر ، فلا جدوى منه ، ولا فائدة فيه ، إذا كان بعض أطرافه يتعالون على سائر الأطراف ، أو إذا سمح أي طرف بإهانة الآخرين وسب رموزهم .
يرى المسلمون أن الحوار الحضاري فريضة؛ لأن دعوة الإسلام عالمية، لا تخص جنساً، ولا لوناً، ولا عرقاً، ولا بلداً معيناً، فالخطاب القرآني يتوجه في الكثير من آياته إلى البشر جميعاً، مؤكداً على التعايش السلمي، والإخاء الإنساني مستهدفاً خير وتقدم ونماء الإنسانية كلها .... هذا فضلاً عن أن الدعوة إلى الحوار، والالتقاء بالآخر، ومجادلته بالتي هي أحسن دعوة قرآنية، وتكليف شرعي قائم، يقول الله تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ .. " [آل عمران: 64]، ومن هنا يجب أن نبادر – نحن المسلمين – بالدعوة إلى الحوار، والإسهام في مجالاته المختلفة، وتنوعاته الفكرية المتعددة، امتثالا لأمر الله تعالى في كتابه العزيز: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " [النحل: 125]، ولكى ينجح هذا الحوار ينبغي أن تسهم فيه جميع الدوائر والمؤسسات التي تعنى بالفكر الإنساني، وكذلك التي تستهدف حفظ الأمن والسلم على المستويين: الإقليمي والدولي.
ينبغي أن يكون خطابنا في مواجهة الآخرين خطاباً حضارياًّ متكاملا ، وفى مقدمة الخصائص التي تكسب الخطاب طابعاً حضارياًّ اتسامه بالواقعية ، أي ارتباط الخطاب بحركة الواقع الراهن إسلاميًّا ودوليًّا ، بإشكالياته وقضاياه وتحدياته ... وعلى ذلك يبدو ضروريًّا أن يمتلك الخطاب القدرة على فهم الواقع ، والتعرف على عناصره ، ومكوناته ، وقواه المختلفة ، وتطوراته ، ومتغيراته ، وتحولاته المتسرعة بأشكالها وصورها ، وميادينها المختلفة ، والتي تفرض أوضاعاً محلية ، وإقليمية ، ودولية جديدة تتطلب الحاجة إلى إدراكها والتعامل معها ، وأن يعمل على صياغة تصورات ، ومفاهيم ، وحلول ملائمة تستجيب لمتطلبات واحتياجات النهوض بهذا الواقع ، انطلاقاً من المبادئ والقيم الإسلامية.([4])
إن تبادل المصالح هو الذى يحدث التوازن بين طرفي معادلة الحوار والتعاون، ولا بد لحدوث هذا التوازن من وجود قوة وراءه، والقوة الوحيدة للمسلمين في الوقت الحاضر تتمثل في التضامن، وجمع الكلمة، وتوحيد الصف، وبذلك يكتسب الحوار حرارة وقوة، ويصبح الحديث عن التعاون الثقافي حديثاً مؤدياً إلى الغاية، محققاً للهدف. ولا يكون ذلك إلا إذا قامت بهذه الرسالة هيئة، أو مؤسسة، أو منظمة عربية – أو إسلامية – مشتركة، أعضاؤها من ذوى الخبرة، والتصور الصحيح، والرؤية المستقبلية السليمة، تدعمها الحكومات، دون أن تملى عليها هذه الحكومات علاقاتها المتقلبة فيما بينها، ولا علاقاتها الخارجية، وعلى أن تترك لها حرية التحرك في نطاق مصالح المسلمين ..... إذ من غير الطبيعي أن نستمر في علاقات يواجهنا فيها غيرنا بمواقف موحدة، أو متقاربة، وبتصورات، وخطط واضحة، ونظل نحن متفرقين، دون وضوح في التصورات والخطط، بل ربما كنا أحياناً نُقْبِل على الندوات والمؤتمرات دون إعداد كافٍ، ودون أن نعرف ما نريد، فتذهب مشاركتنا أدراج الرياح، وحين يعود ممثلونا، ووفودنا بشيء ذي قيمة – وما أقل ما يحدث ذلك – فإنه يضيع في غياهب الأدراج. أما قيام هذه الهيئة أو المؤسسة المستقلة، فإنها تضع الخطط والبرامج، ثم تتولى التنسيق والمتابعة. وكل عمل ليس له متابعة هو عمل منقطع، يضيع دون الوصول إلى غايته، وما أكثر الأعمال التي تبدأ، ثم لا تنتهي إلى شيء.   
يجب على المشاركين في حوار الحضارات من الجانب الإسلامي ألا يشعروا بالنقص في مواجهتهم لمن يملكون زمام الحضارة في العصر الحديث؛ فهم – المسلمون – أصحاب حضارة كبرى– كما بينا سابقاً - ، ملأت أسماع  الدنيا ، وسيطرت على مجريات الأحداث في العصور الماضية  ، بل إنهم لا يزالون يملكون من العناصر الحضارية ، ما يؤهلهم للوقوف جنباً إلى جنب مع صناع الحضارة الحديثة ، فما زالوا يملكون جانباً كبيراً ومهماً في البناء الحضاري، ألا وهو الجانب الإنساني: المبادئ الأخلاقية ، القيم الروحية ، أسس العدل ، المساواة بين البشر ؛ إذ لايفرقون بين الناس على أساس اللون ، أو الجنس ، أو العقيدة ، فالكل سواء فى خلفياتهم الثقافية ، وتعاليمهم الدينية ، أضف إلى ذلك أن أبوابهم مفتحة على الثقافات الأخرى ، يقبلون الصالح منها ، مهما كان مصدرها ، وعلى أي أسس ارتكز بنيانها ، ومن أي منبع انحدر تيارها . فقبول التنوع الثقافي والفكري مبدأ من مبادئ الفكر الإسلامي، والتعامل مع المخالفين – فكريًّا – سمة واضحة في الثقافة الإسلامية. فإذا كان الطرف الآخر يحس بالتفوق المادي والتكنولوجي، فإن الجانب الإسلامي يملك زمام الجانب الآخر من  الحضارة ، ألا وهو التفوق الروحي، وقبول الثقافات الأخرى دون تعصب أو تحيز ، فضلاً عن أن استعادة سيطرة العالم الإسلام على مجال التكنولوجيا الحديثة ليس مستحيلاً، فهذا أمر لا يحتاج إلى طبيعة عقلية خاصة ، بل يتطلب نوعاً من الخبرة وتوجيه الخبراء ، يقول المفكر الإنجليزي
" هيلير بيلوك 
Hilere Belloc  " : " لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين ، وتتماسك أطرافها تماسكاً قويًّا ، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام ، لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب ، بل ستكون أيضاً خطراً على أعدائه . من الممكن أن يعارض المرء هذا الرأي بأن الإسلام فقد سيطرته على بعض الأشياء المادية....... فهو لم يلحق بالتقدم التكنولوجي الحديث. لا أستطيع أن أدرك: لماذا لم يعوض الشرق الإسلامي ما فاته في هذا    الميدان ...؟ فلا تحتاج علوم الهندسة الحديثة إلى طبيعة عقلية خاصة، بل يتطلب الإلمام بها، والتفوق فيها إلى الخبرة وتوجيه الخبراء. ومن الأمور المؤكدة أنه -غالباً – ما يحدث أن تكون حضارة، ذات منزلة عالية في التقدم التكنولوجي، أقل درجة من حضارة أخري، لم يبلغ بعد تطورها في هذا المجال ما بلغته الأولى. إذن فهناك احتمال كبير أن يصبح شعب -ظهر حتى الآن، أن مواهبه في الناحية التكنولوجية ضعيفة – في المستقبل سيداً على شعب آخر استولت التكنولوجيا على حواسه ومشاعره – فلم ينقذه أحد -، وتحكمت في سلوكه النظريات، التي تسلب الإنسان الإحساس بالطبيعة. لماذا لا يتعلم العالم الإسلامي ما تعلمناه في مجال التكنولوجيا؟ ... (فإن حدث هذا) فسوف يكون من الصعب علينا استعادة التعاليم الروحية – وهى من العوامل الأساسية لوحدة الشعوب -.... بينما لم يزل الإسلام يحافظ عليها ....." ([5])
كما يجب على الآخر أن يقبل الحوار على أساس المساواة، فلا تعالي، ولا شعور بالأفضلية، ولا استهداف إخضاع المسلمين لإرادته وتوجهاته، ولا نية لفرض ثقافته ونظمه في الحياة على المجتمع الإسلامي، بل حوار متساوٍ بين الطرفين، يستعد كل طرف فيه أن يسمع من الآخر، ليعرف وجهة نظره، دون الدخول في المسائل العقدية، التي لا يمكن التسليم به من طرف للآخر، إلا إذا وصل إلى التنازل عن عقيدته واعتناق عقيدة الآخر، أظن أن هذا لن يحدث – بأي حال من الأحوال – من الجانب الإسلامي.
كما ينبغي أن يتضمن الحوار المسائل التي يساعد التحاور فيها على إقرار السلم في المجتمعات الإنسانية، وتحقيق العدل بين الأمم والشعوب، وحفظ الأمن والسلم بين دول العالم، والعمل على تحقيق المساواة بين الناس على جميع المستويات الإقليمية والدولية. ومن المسلم به ألا يكون الحوار منحصراً بين الجدران، بل ينبغي أن يبحث المتحاورون عن آليات نقله إلى العامة، وتفعيل أهدافه على جميع الأصعدة: سياسية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وإلا أصبح الحوار عديم الفائدة، إذ لن يخرج عن اجتماعات، على شكل ندوات، ولقاءات، ومؤتمرات، يصدر عنها قرارات، لا يتعدى أثرها حيز الصفحات التي كتبت عليها، ولا يكون لها صدى إلا بمقدار ما تضفى عليها وسائل الإعلام من هالات وصلصلات.
ومن نافلة القول إعلان العامة والخاصة أن المسلم – بتأثير مبادئ الإسلام فيه -يقبل الآخر، ويتعامل معه بأسلوب حضاري، ويحترم عقائده، ويضمن أمنه وحمايته في المجتمع الإسلامي، ويأخذ من ثقافته وإنجازاته ما لا يتعارض مع المبادئ الإسلامية، وتلك هي قمة ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية في الجانب الأخلاقي.

أ‌.       د/ محمد شامة




   



([1]) أبو زهرة : خاتم النبيين r  جـ 2 صـ 1368 -  1369
([2]) Vlg. Gottshalk : Weltbewegende Macht Islam  160 ff.
([3]) السيد يسين: تطرف فكرى وحماقة سياسية: الأهرام 9 فبراير 2006
([4]) الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري ص 16  إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
([5])  اول شمتز : الإسلام قوة الغد العالمية  ، ترجمة : محمد شامة  صـ 333

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...