رمضانيات
أ.د/ محمد شامة
فرض الله صيام شهر رمضان بقوله تعالى
: ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘﲙ ﲶ ﱠ [ البقرة: ١٨٥]
وهو شهر من شهور السنة القمرية، وسميت قمرية لأن حسابها خاضع
لمطالع القمر ومنازله. والمعروف أن هذا التوقيت الزمنى غير ثابت، أي أنه يتحرك على
مدار السنة الشمسية. ويتم دورة كاملة في حوالي ثلاث وثلاثين سنة تقريباً، بمعنى
أنه لو جاء رمضان في يناير، فسوف ينتقل بين الشهور الشمسية من سنة إلى سنة، حتى
يتم دورة كاملة، ويعود إلى يناير بعد هذا العدد من السنين الشمسية. وبناء عليه،
فرمضان غير ثابت في زمن معين من السنة الشمسية؛ فهو ينتقل بالتدريج، من الصيف إلى
الربيع، ثم إلى الشتاء فالخريف.
·
ولكن ما الحكمة في ذلك؟
-
يرى بعض الباحثين أن الله I ربط الصيام
بالشهور القمرية ، لأن معرفة مطالع القمر سهلة وميسرة لكل الناس ؛ إذ أنها ترى
بالعين المجردة ، فيستطيع كل واحد أن يرى القمر هلالاً ، ثم بدراً ، فمحاقاً ،
ويحسب الشهور بناءً على هذا التغيير، بخلاف الشمس، فلا يستطيع أحد إدراك مجراها
بين الشمال والجنوب ، أو بمعنى أدق ، تحديد مسار مدار الأرض حولها ، إلا بعد أن
يصل إلى درجة عالية في مجال معرفة العلوم الفلكية. وعليه، فقد كان من الصعب تكليف
الناس بصيام يربط زمنه بمظاهر فلكية لا يدركونها، وخاصة أن الشهور الشمسية لم تكن
معروفة عند سكان الجزيرة العربية التي نزل فيها الإسلام.
وهذا رأى غير سليم، ويبدو عليه بساطة التفكير واضمحلاله،
وعدم فهم روح الإسلام وحقيقته؛ ذلك أن الإسلام دين عالمي لكل الناس في أقطار الكرة
الأرضية، ومعلوم أن فصول السنة لا تتحد إلا في الأقطار الواقعة على خط عرض واحد؛
بمعنى أن ما يقع على خطوط العرص في نصف الكرة الشمالي، يختلف عما يقع على خطوط
العرض في نصفها الجنوبي. فإذا كان في الشمال صيفاً، كان في الجنوب شتاء، وإذا كان
في الجنوب شتاء كان في الشمال صيفاً. وهذا معروف لمن عنده إلمام بسيط بعلم
الجغرافيا، ومشاهد لمن عنده اهتمامات ثقافية في هذه الناحية؛ إذ يعرف أن ذروة فصل
الصيف في جنوب القارة الإفريقية، يحل في شهر يناير، بينما هو ذروة فصل الشتاء في
أوربا، والعكس بالعكس، ففي شهر يوليو يحل البرد والصقيع في جنوب إفريقيا، بينما
يتمتع الأوربيون بالطقس الصيفي.
فلو فرضنا أن الصوم فرض في شهر يوليو، لظل سكان نصف
الكرة الشمالي يصومون طول حياتهم صيفاً، وسكان النصف الجنوبي يصومون طول حياتهم
شتاءً.
وهذا أمر يتنافى مع عدل الله في التكليف ، فاقتضت حكمة
الله أن يتغير وقت شهر الصيام بين الفصول كلها ، ليؤدي الناس في جميع مناطق الكرة
الأرضية الصيام في جميع فصول السنة ، بل إن الفرد الواحد سوف يصوم في جميع هذه
الفصول ، لأننا إذا عرفنا أن متوسط عمر الإنسان يتراوح بين الخمسين والستين سنة تقريباً
، وتكليفه بالصوم يحين في سن الخامسة عشرة، فسوف يصوم رمضان في كل شهور السنة ،
لأن الدورة تتم في ثلاث وثلاثين سنة تقريباً ، فإذا أضيف هذا العدد إلى سن التكليف
، وهو حمس عشرة سنة ، لأصبح عمره ثمان وأربعين سنة ، وهو أدنى مجال متوسط عمر
الإنسان .
فالحكمة في اختيار شهر قمري للصوم، هو لتطبيق العدل بين
الناس في التكليف، أي كي لا يصوم سكان منطقة في الصيف طول حياتهم، وسكان منطقة
أخرى في الشتاء طول حياتهم.
إذا كان توقيت الصيام مربوطاً بالقمر، فمتى يبدأ الشهر؟ هل
يبدأ بظهور القمر هلالاً، أو عندما يكتمل بدراً، أو عندما يصير محاقاً؟
وقبل أن نجيب على هذا السؤال، نحب أن نلفت النظر إلى أن
الإسلام ربط توقيت أداء العبادات بظواهر فلكية واضحة، حتى لا يختلف الناس فيها؛
فإذا نظرنا إلى أوقات الصلاة، وجدناها تبدأ وتنتهى بظواهر واضحة للعين، عبر عنها
الحديث الذى رواه جابر ابن عبد الله: " أن النبي e جاءه جبريل u ،فقال له :
قم ، فصل ! فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر، فقال: قم، فصل! فصلى العصر
حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب، فقال: قم، فصل! فصلى المغرب حين غربت
الشمس، ثم جاءه العشاء، فقال: قم، فصل! فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر،
حين سطع الفجر، فقال: قم، فصل! "فصلى الفجر."
ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم، فصل! فصلى الظهر،
حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر، فقال: قم، فصل! فصلى العصر، حين صار ظل كل
شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء، حين ذهب نصف
الليل، فصلى العشاء، ثم جاءه، حين أسفر جدًّا، فقال: قم، فصل! فصلى الفجر، ثم قال
له: ما بين هذين الوقتين، هو وقت تأدية الصلاة."[1]
وبناءً عليه ، فينبغي أن يكون وقت بدء الصوم وانتهائه واضحاً
، ولا يتحقق هذا لو ربط باكتمال القمر بدراً ، أو بصيرورته محاقاً ؛ لأن تقدير
الاكتمال ، أو إدراك صيرورته محاقاً يختلف - أحياناً – من شخص لآخر ، لأن عنصر
الكم يدخل في هذا التقدير ، وهو محل خلاف ، أما رؤيته في السماء بعد غروب الشمس لا
حقاً لها ، فلا خلاف فيه؛ إذ مجرد الرؤية تؤذن بابتداء الشهر ، ولا يدخل فيها
تقدير المساحة المضيئة فيه لثبات الرؤية ،
ولذلك قال رسول الله: "
صوموا لرؤيته ، وافطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً
."
وتتم الرؤية بالعين المجردة، ويجوز الاستعانة بوسائل علمية
تساعد العين على الإبصار، كالمراصد، ويكون ذلك في مساء يوم التاسع والعشرين من
شعبان، فإن رؤى الهلال، وجب البدء في الصوم في اليوم التالي، وإلا فعلى المسلمين أن
يكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم يبدأ الصوم بعده.
وتثبت الرؤية، ولو من
واحد عدل، لما ثبت أن ابن عمر رضى الله عنهما قال: " تراءى الناس الهلال،
فأخبرت رسول الله e
أنى رأيته ، فصام ، وأمر الناس بصيامه . [2] فهذا الحديث يدل على ثبوت الصوم
بشهادة واحد فقط، بشرط أن يكون عدلاً.
قد يقول قائل: إن بعض الأقطار لا يظهر فيها القمر لشهور عديدة
من السنة، لأن السحب لا تنفك عنها ليلاً ونهاراً، فكيف يعرف سكان هذه الأقطار موعد
بدء الصوم؟
وأرى أنه لا محل لهذا الاعتراض، إذا عرفنا أن المسلمين في
جميع أقطار الأرض أمة تعيش تحت ظل الوحدة الدينية، فشعارهم وحدة الألوهية، ووحدة
تأدية العبادات، فإذا ظهر الهلال في أي قطر من أقطار الأرض، وجب على المسلمين في
جميع أنحاء الكرة الأرضية الصوم، متى وصلهم خبر ثبوته، بشرط أن يصلهم قبل طلوع الفجر.
ولا شك أن صفاء الجو من السحب متحقق دائماً في بعض مناطق الكرة الأرضية. وعليه،
فلا مشكلة عند من يسيطر السحاب على أجوائهم، لأنهم يصومون لثبوت الرؤية في المناطق
الخالية من السحب، وفضلاً عن هذا، فإن علم الفلك قد تقدم اليوم، وأصبح من السهل
على علمائه أن يحددوا اليوم الذي يظهر فيه القمر بعد غروب الشمس. ولا حرج من
الاعتماد عليهم في تحديد أوائل الشهور العربية؛ لأن معنى الرؤية في الحديث هي
التثبت من ظهوره، فإذا تثبتنا من هذا عن طريق الحساب الفلكي، فيجوز الأخذ به
وتحديد بدء الصوم تبعاً له، وبهذا يسقط أيضاً الاعتراض السابق بأن السحب تمنع الرؤية.
إذا
كان الصوم كتب علينا كما كتب على من قبلنا، فهل يتفق صيامنا مع صيام اليهود
والنصارى؟
يختلف الإسلام عن الأديان الأخرى في مناحٍ كثيرة،
بعضها يرجع إلى العقائد والعبادات، والبعض الآخر يتعلق بأسلوب حياة المؤمنين به،
ومدى تعاملهم مع ما حولهم من مظاهر الطبيعة، بما فيها من صور شتى، وأشكال متعددة،
وهيئات تجمع بين التنافر والانسجام، وبين التباين والاندماج. ولاشك أن كل دين تناول
موضوع الكون بصورة أو بأخرى، واشتملت تعاليمه على ذكر بعض جوانبه وما فيها من
إعجاز، أو تسلط على الإنسان يحمله على الخضوع للقوة التي يدعو إليها هذا الدين،
ولكننا لا نجد ديناً عنى بما في السموات والأرض، ودفع أتباعه إلى النظر فيما حولهم
من مظاهر كونية مثل الإسلام، إذ نقرأ في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث المسلمين على
النظر والتأمل فيما يحيط بهم، من سماء، وأرض، وكواكب سيارة، ونجوم لا حصر لها، مثل
قوله تعالى: ﱡﭐ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲱ ﱠ [ الأعراف: ١٨٥ ]
وقوله: ﭐﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ [
ق: ٦ – ٨]
وقوله: ﱡﭐ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﱠ [ لقمان: ١٠]
إلى غير ذلك من الآيات التي يضيق
المقام عن ذكرها، وكلها تحث بطريق مباشر أو غير مباشر على التفكير، والتأمل في
ملكوت الله الذي يحيط بالإنسان، ولا يقف النظر والتأمل عند حد " البحلقة
" في مظاهر الكون، بل هو محاولة الوصول إلى معرفة أسبابها، وإدراك معالمها
بالقدر المتاح للإنسان. ولم يقتصر أمر الإسلام المسلمين بالنظر فيما حولهم على
الناحية النظرية، بل ربطها بالجانب العملي ؛ ذلك أن الله فرض الصلاة والصيام في
أوقات محددة ، تتغير بمطالع الشمس والقمر ، ومعرفة هذه المطالع لا تكون سهلة ميسرة
في بعض مناطق الكرة الأرضية ، بمعنى أنها لا تعرف بمجرد النظر بالعين المجردة ، بل
لابد من استعمال قواعد أخرى لتحديد بدء الصوم ونهايته ، وبدء وقت الصلاة ونهايته ،
وهذا يدفع المسلمين إلى الاشتغال بعلم الحساب والفلك ، وتلمس ذلك أيضاً من قوله
تعالى : ﱡﭐ
ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇﲈ ﲍ ﱠ [
الإسراء: ١٢]
وقوله: ﭐﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲿ ﱠ [ يونس:
٥]
كذلك يتعذر في بعض مناطق الكرة
الأرضية تطبيق التحديد المشروع للصوم والصلاة لو أخذ بظاهره؛ إذ كيف يصوم المؤمن
من الفجر إلى الليل في بلد لا تغيب عنها الشمس شهراً أو شهرين، وكيف يؤدى الصلاة في
يوم طوله ستة أشهر، كما في بعض المناطق القطبية، إلا إذا أدركنا أن تحديد وقت
الصلاة بطلوع الشمس وغروبها، ووقت الصوم بظهور الهلال، مبنى على معظم مناطق الكرة
الأرضية. والمطلوب منا تقدير الزمن في تلك المناطق التي لا تغيب فيها الشمس، أو
تشرق شهوراً، وأياماً، بحسب أقرب المناطق التي يتعاقب عليها الليل والنهار بصورة
عادية، كما أشار إلى ذلك حديث الدجال ، حيث جاء فيه على لسان الصحابة رضى الله
عنهم : " قلنا : يا رسول الله ! ذلك اليوم الذي كسنة، أو تكفينا فيه صلاة يوم؟
قال: " لا!
أقدروا له "[3]، ففيه
إشارة إلى أنه لو حدث أن طال اليوم بصورة غير مألوفة، فيجب علينا أن نقدر منه
مقدار اليوم، ونحدد على أساسه مواقيت الصلاة والصوم، ولا يتأتى ذلك إلا طبقاً
للقواعد الفلكية، ولا يمكننا القيام بهذا العمل إلا إذا تقدم علماؤنا في مجال
الفلك، وأصبحوا قادرين على حساب الزمن الذي تستغرقه الأرض في دورانها حول نفسها
وحول الشمس، ومقدار قربها وبعدها من القمر.
إذن ، فربط العبادتين
بالظواهر الفلكية ، كان دافعاً للعلماء إلى البحث والتنقيب في هذا العلم ، ووضع
نظرياته على أسس علمية ، وهذا ما حدث في الدولة الإسلامية ؛ إذ بعد ما كان الفلك
قبل الإسلام قائماً على التنجيم بأسلوب غير
علمي ، اتجه في العصر العباسي - وما تلاه من العصور التي ظهرت فيها الاكتشافات
العلمية الحديثة - إلى وضع النظريات العلمية في هذا المجال ، فأنشئت المراصد
المجهزة بأحدث الأجهزة للكشف في العواصم الإسلامية وغيرها ، وتقدم علم الفلك
تقدماً ملحوظاً ، فوضع العلماء قوانين هندسية مبرهنة للكشف عن مقادير الحركات
الظاهرة للشمس والقمر وسائر الكواكب بالتحديد ، فكان هذا إنجازاً حضاريًّا على هذا
الطريق ، وخطوة أولى شجعت الباحثين من مختلف الجنسيات على السير في هذا الطريق ،
حتى وصل اليوم إلى درجة لم يكن من الممكن أن يتصورها الإنسان في الماضي. فإنجاز
علماء الإسلام في عالم الفلك يعتبر خطوة رائدة، كانت العبادات الإسلامية من أهم
الأسباب في اتخاذها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق