إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,254

الاثنين، 20 أبريل 2020

دين الله هو الإسلام من لدن آدم حتى محمد


دين الله هو الإسلام من لدن آدم حتى محمد
         
أ. د/ محمد شامة

خلق الله الإنسان ليكون خليفة له في الأرض، قال تعالى:
ﱡﭐ    [البقرة : 30] ، ولذا ميزه الله بالعقل على سائر الكائنات الحية ، ليستعين به في الانتفاع بما سخره الله له ، إذ أن الله سخر له ما في السماوات وما في الأرض ، وكثيراً مما يسبح بينهما، يقول الله تعالى : ﱡﭐ     ﲿ     [ إبراهيم : 32 - 33]
ويقول: ﱡﭐ   [ الحج : 65]
ويقول: ﱡﭐ        [ الجاثية : 12-13]
ولكى تكون له الحرية في التفكير والسلوك لم يجبره على سلوك طريق معينة، بل ترك له الخيار في أن يسلك ما يشاء في الانتفاع بما أعطاه الله، وكان من الطبيعي أن يعجز هذا العقل عن الوصول إلى كنه الوجود، وإلى معرفة ما يحدث له بعد الموت، بل قد ثبت عجزه عن الوصول إلى نظام ثابت للحياة يحفظه من الدمار، ويساعده على بناء مجتمع سليم متماسك.
ومن هنا أرسل الله له رسلاً ليبينوا له ما عجز عقله عن إدراكه، وليوضحوا له ما خفى عليه من أحداث ما بعد الموت، فكان لكل قوم رسولاً، يقول الله تعالى: ﱡﭐ      [ الاعراف : 59]
ويقول: ﱡﭐ    [ الأعراف : 80]
ويقول: ﭐﱡﭐ       ﱿ     [ الأعراف : 85]
ويقول: ﱡﭐ         [ الأعراف : 73]
ويقول: ﱡﭐ               [ الأعراف : 65]
ويقول: ﱡﭐ   ﱿ   [ الزخرف : 26 - 27]
ويلاحظ من هذه الآيات أن كل رسول كان يبعث إلى قومه، فهل كانت الرسالات واحدة باعتبار أنها من مصدر واحد، وهو الله، أم أنها كانت متعددة باعتبار تعدد الأقوام واختلاف درجة حضارتهم، وتنوع تقاليدهم وعاداتهم؟


أدلة التطوير

يرى بعض الباحثين أن الجنس البشرى مر بمراحل في تطوره، ثم يعقد مقارنة بينه وبين تطور الطفل، فيقول: إن الجنس البشرى بدأ كما يبدأ الطفل، أقرب إلى البدائية والبساطة، ثم نما الجنس البشرى، ونمت أفكاره، فوصل إلى ما يمكن أن يسمى مرحلة "صبا البشرية"، ويستنتجون من هذه النظرية أن الرسالات كانت مختلفة؛ إذ أن كل رسالة كانت تناسب كل طور من هذه الأطوار. سيطر هذا الرأي على جمهور العلماء قديماً وحديثاً حتى أصبح من المسلمات التي لا تُنْقَض، وكثيراً ما يستشهد المحدثون على هذا الرأي بنص للإمام محمد عبده في رسالة التوحيد، يقول فيه:
إن الأديان خاطبت الحس يوم كانت الإنسانية في دور الطفولة ، لا يعرف الإنسان فيها إلا ما يقع تحت حسه ، ولا يتناول بذهنه من المعاني مالا يقرب من لمسه ، فلما سار ركب الإنسانية ، وجربت ، وكسبت ، و تخالفت ، واتفقت، وتقلبت في السعادة والشقاء أياماً  وأياماً ، ونما بها الوجدان ، وبدت العواطف ، جاء دين بتحدث عن الزهادة، وعن   الصفاء ، وملكوت الله ، ولكن الإنسانية في صراعها لم تستطع أن تعيش على الإيثار ، ولم يطل مقامها في الصفاء ، فراحت تتعارك ، وحلت القطيعة محل التراحم ، والتخاصم مكان المسالمة ، فجاء دين ينظم الشئون كلها، ويرعى الحس والعاطفة ، ويدرس العقل والقلب ، وينظم شئون دنياهم  وآخرتهم ، وهذا هو الإسلام .
ويرى أصحاب نظرية التطور في الرسالات السماوية – وطبقاً لما عليه الجنس البشرى من درجة التطور – أن كل مرحلة لها سمات خاصة تتفق مع درجة حضارة من أرسلت إليهم الرسالة، وعليه فقد قسموا الرسالات السماوية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهو ما كان في مرحلة الطفولة البشرية، وتبدو ملامحه في:
1.        أن الدعوة كانت محدودة بقوم الرسول، إذ أن كل رسول كان يبعث إلى قومه فقط.
2.        أن ما تضمنته من مبادئ كان في حدود ضيقة، دون تنظيمات وتفريعات في جوانب الحياة المختلفة، اللهم إلا ما كان من مرض اجتماعي تفشى في المجتمع حتى أصبح ظاهرة عامة، فكانت الدعوة تنهى عنه.
3.        أنه لم يكن للدعوة في تلك المرحلة كتب واضحة، إنما هي بضع نصائح، وقد توجد بعض ألواح أم صحف عامة.
4.        أننا لم نعرف لأديان هذه المرحلة تواريخ؛ إذ لم يحدد – مثلاً – العصر الذى أرسل فيه نوح، أو هود، أو إبراهيم ...الخ
     القسم الثاني: وهو ما كان في مرحلة "صبا البشرية"، وكانت ملامحه أكثر تعقيداً وشمولاً، وتبدو مظاهره فيما يلى :
1.   دخلت الدعوة بعض التفاصيل والتشريعات، ففي سفر التثنية: " لا يُقتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأوْلادِ، ولا يُقْتَلُ الأوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ، كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيئَتِهِ يُقْتَلَ "[سفر التثنية 24: 16]، " إِذَا كَانَتْ خُصُومًةٌ بَيْنَ أُنَاسٍ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْقَضَاءِ، لَيَقضِىَ الْقُضَاةُ بَيْنَهُمْ، فَلْيُبَرِّرُوا البَارَّ وَيَحْكُمُوا عَلَى الْمُذْنِـبِ ". [سفر التثنية: 25: 1]، " إٍذَا سَكَنَ إِخْوَةٌ مَعًا، وَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ، فَلاَ تَصِيرُ امْرَأَةُ الْمَيْتِ إِلَى خَارِجٍ لِرَجُلٍ أَجْنَبِ، أَخُو زَوْجٍهَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا.....، وَالْبِكْرُ الَّذِى تَلِدُهُ يَقُومُ بِاسْمِ أَخِيهِ الْمَيْتِ ، لِئَلاَّ يُمْحَى اسْمُهُ مِنْ إِسْرَائِيل "َ [سفر التثنية 25 : 5-6].
2.    أصبح للدعوة كتاب: هو التوراة والإنجيل، ولكن معانيهما فقط هي الموحى بها، وصاغها البشر في عبارات، وقد مسها التحريف والضياع.
3.   وجدت في هذه المرحلة تواريخ، ولكنها غير دقيقة.
القسم الثالث : وهو ما كان في مرحلة "شباب الجنس البشرى" ، فله ملامح خاصة وضحها هؤلاء العلماء فيما يلى :
1.       اتضحت وحدانية الله، وحطمت الأصنام، وفتح بالإسلام عهد جديد لا يقبل الشرك في أي صورة من صوره، فالإسلام "فكرة تامة" لا تسمح لعارض من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلاً في الحس ولا في الضمير، بل له المثل الأعلى، وليس كمثله شيء.
2.       أصبحت الدعوة عامة لكل البشرية، وأصبح محمد رسولاً للعالمين، يقول تعالى: ﱡﭐ     [ سبأ : 25]
3.       ختمت الرسالات بدعوة محمد r ، والدليل على ذلك واضح للغاية أيضاً ، فقد مرت القرون تلو القرون بعد محمد r ، ولم يأت من يدعى الرسالة منذ طلع على العالم محمد بن عبد الله .
4.         ديانة الإسلام شاملة لأمور الدين والدنيا، صورت لنا الله تعالى في سماه، وصورت لنا جنته وناره، وأبرزت معالم الخير والشر، وراحت إلى أمور الدنيا تتحدى تفكير العالم بنظم رائعة في: الميراث، والسياسة، والاقتصاد، والبيع والشراء، والوصية، والهبة، والسلم، والحرب، وكل حاجات الإنسان. [1]

هذا هو مجمل رأى القائلين بنظرية التطور في الرسالات السماوية.

نقد ونقض

بينا فيما سبق أن بعض العلماء يرى أن الجنس البشرى مر في تطوره بثلاث مراحل: الطفولة، والصبا، والشباب، وأن الرسالات السماوية جاءت مختلفة في ملامحها وظواهرها لاختلاف من تخاطبهم في درجة التطور.
ونرى أن هذا الرأي غير سليم؛ إذ أنه ظهر في الأوساط الفكرية متأثراً بنظرية داروين، التي لم تسلم من النقد والتجريح – وإن كان له سند من آراء من سبقوا داروين، فلا يعتبر دليلاً على صحته -، ولذا لا يجوز أن يسلم بها علماء المسلمين، لأن رأيهم – بناءً عليها – في تطور الرسالات السماوية:
·       يتنافى مع الواقع.
·       ويحمل في طياته نسبة العجز إلى الله سبحانه وتعالى.
·       كما أنه يوحى بأن رسالة محمد r  ليست خاتم الرسالات.
أما أنه يتنافى مع الواقع، فإن من ينظر إلى عملية التطور يرى أنها ذو شقين:
الأول: تطور في أساليب الحياة المادية؛ إذ انتقلت حياة الإنسان من بدائية لم يستعمل فيها إلا أدوات بسيطة كانت من الحجر في بادئ الأمر، ثم تطورت إلى مادة ثانية وثالثة  .. الخ ، كما انتقل معظم الناس من سكن الكهوف والمغارات إلى البيوت البسيطة ، ثم إلى العمارات الشاهقة فناطحات السحاب بكل ما فيها من آلات تعمل بالطاقة على اختلاف مصادرها ، كذلك تطورت وسائل المواصلات حتى وصلت إلى السفن الفضائية .
فإذا كان هذا مقصدهم من التطور، فإن الإسلام لن يكون هو خاتم الرسالات؛ لأن البشرية قطعت في هذا السبيل منذ ظهور الإسلام حتى الآن أضعافاً مضاعفة، لا يمكن مقارنتها بما قطعته في الفترة الزمنية بين موسى وعيسى عليهما السلام، أو بينهما وبين محمد r ، الأمر الذى حتم – بناءً على رأيهم – أن تأتى رسالة محمد r ، لأن مرحلة موسى وعيسى عليهما السلام كانت قد انتهت .
الشق الثاني من التطور: هو تطور عقلية الإنسان، ومن المشاهد أن التطور في هذا الجانب ليس تطوراً بالمعنى الذى يقصدونه من التطور؛ ذلك أنه لا فرق بين عقلية إنسان يعيش في القرن العشرين، وآخر عاش فيما قبل الميلاد، إلا في زيادة كمية المعلومات التي حصل عليها ابن القرن العشرين نتيجة التجارب البشرية.
أما التطور في ذات القدرة العقلية فلا دليل عليه، بل هناك شواهد في حياتنا المعاصرة تنفى هذا ؛ إذ لو قارنا بين أخوين شقيقين ، أحدهما أخذ قسطاً كبيراً من الثقافة المحلية والعالمية ، حتى وصل إلى درجة مرموقة في مجال الفكر العالمي، والآخر ظل مقيماً في بيئته ، لم يذهب إلى مدرسة ، ولم يتعلم إلا حرفة الآباء والأجداد ، فالأول على رأى من يقول بنظرية التطور يمثل مرحلة "شباب الجنس البشرى" ، والثاني يمثل مرحلة " الصبا" ، وربما مرحلة " طفولة الجنس البشرى" ، وهذا لا يقبله عقل ؛ فالاثنان في درجة واحدة من القوة الكامنة في العقل – وقد يكون الذى حرم من التعليم أكثر ذكاء من الذى تعلم – غاية الأمر أن الذى تعلم أتيحت له فرصة إظهار ما كمن في عقله من قوة على الفهم والإدراك ، وكان ذلك نتيجة ما حصله من معلومات .
فلو اعتبر القائلون بنظرية التطور هذه الظاهرة تطوراً، للزم على هذا التسليم بأن درجة التطور في القرن الواحد والعشرين فاقت – بمراحل عديدة – درجة التطور في القرن السابع   الميلادي، حين نزلت رسالة الإسلام على          محمد r ، الأمر الذى يتطلب رسالة جديدة .
وعليه فليس هناك تطور في العقل البشري، بل زيادة في المعلومات، ورسالة الإسلام جاءت لتخاطب العقل، أيًّا كانت درجة معلوماته عن الحياة وما فيها، وعن الكون، وما يحتوي عليه من أسرار.

اختلاف درجات التطور في المجتمع

تسير عملية التطور في الحياة الإنسانية في خط متعرج، فبينما تكون بعض المجتمعات قد قطعت شوطاً كبيراً على طريق التقدم، يكون هناك بعض آخر لازال في أول الطريق، وثالث في منتصفه... وهكذا، لأن عوامل التقدم والرقى ليست متاحة للجميع بنسب متساوية، وهذا ما نشاهده اليوم في المجتمع الدولي، إذ اصطلح على تقسيمه إلى دول  متقدمة، وأخرى نامية، بل إن درجة التقدم متفاوتة ، داخل المعسكر المتقدم ، وخطوات النمو مختلفة في دائرة مجموعة الدول النامية .
ومالنا نذهب بعيداً، فنحن نرى داخل المجتمع الواحد – سواء كان في جانب المتقدمين، أو في جانب المتخلفين حضاريا – تفاوتاً كبيراً بين الأفراد والأسر، فبينما يكون التمدين والتحضر واضحاً لدى أسرة ما، أو فرد في أسرة، يلاحظ بجوارها أسرة أخرى، أو فرد داخل الأسرة المتحضرة، لازال في أول طريق التحضر حسب المفهوم المصطلح عليه في مجال تحديد معنى التحضر.
فإذا طبقنا نظرية التطور التي يقول بها بعض العلماء على واقع الجنس البشري، فإننا نجد جزءاً منها تطور حتى وصل إلى مرحلة "الشباب" وجزءًا آخر وصل إلى مرحلة " الصبا "، بينما نرى جزءاً ثالثاً لازال في مرحلة "الطفولة"، فهو يعيش عيشة بدائية، أو ما يقرب من البدائية.
وعليه فيختلف – بناء على رأيهم – وضع كل منهم بالنسبة للرسالة التي تخاطب الحس وهي في نظرهم رسالة موسى، ويكلف من هم في دور "الصبا" برسالة عيسى، ولا يكلف برسالة محمد r  إلا من بلغ مرحلة "الشباب"، فيكون هذا أشبه بالفصول الدراسية في المراحل التعليمية، حيث لا يقوى من التلاميذ على فهم مواد السنة الأعلى إلا إذا درس مواد السنوات التي قبلها، وتهيأ ذهنياً لدراسة وفهم مواد السنوات العليا.
وهذا تصور خاطئ ، إذ لو سلمنا معهم بهذا لقُسِّم المجتمع الواحد إلى فئات ، بل لقُسِّمت الأسرة الواحدة إلى مجموعات ، وهو أمر يثير سخرية أقل الناس ثقافة وإدراكاً لمفهوم رسالة الإسلام ، لأن الرسالة التي نزلت على محمد r خاطبت جميع الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية ، وتفاوت درجاتهم الحضارية ، إذ يفهم الرجل العادي القرآن الكريم ويدرك ما هو مطلوب منه في مجال العبادات والمعاملات ، كما يجد فيه أغزر الناس علماً ، وأوسعهم ثقافة في مجال العلوم الفلسفية ما يجده في دهاليز الفلسفة ، وأضابير الحكمة من معطيات علمية في مجال الحياة ، وآفاق الكون، فهو كتاب يجد فيه كل إنسان مبتغاه ، ويحصل منه على متعته الذهنية والروحية ، مهما كانت درجة هذا الإنسان في سلم الحضارة البشرية .
والقول بأن الرسالات السماوية خاطبت كل مرحلة على قدر طاقتها العقلية يحمل في طياته نسبة العجز إلى         الله I  ، ذلك أننا في عالمنا البشرى نصف الكاتب الذى يتمتع بأسلوب تفهمه قطاعات عريضة من الناس مختلفة في الثقافة ، ومتفاوتة في الرقى الحضاري، بأنه بارع في كتابته ، لأنه استطاع أن يضع أفكاره في أسلوب لا يعجز عن فهمه أنصاف المثقفين ، ولا يمل من قراءته العلماء المتخصصون .

فإذا كان هذا شأن الإنسان المخلوق ، أفلا يستطيع الخالق أن يصيغ أوامره ونواهيه في أسلوب يمكن أن يخاطب به كل الناس ، مهما اختلفت درجة حضارتهم ؟
بلى ...، لقد جاء القرآن الكريم بأسلوب يفهمه البدائي في كهفه ومغارته، كما يدرك أسراره العالم في حلقاته العلمية، ومدرجاته الدراسية، فهو لجميع الناس: أحمرهم، وأسودهم، وأبيضهم، سواء كانوا في مجاهل الكرة الأرضية، أو في بروجها وناطحات سحابها.

تذبذب خط التطور

يرى القائلون بنظرية التطور في الأديان السماوية، أنها تركزت في منطقة الشرق الأوسط نتيجة لتطور الإنسانية، ويستدلون على ذلك بأن هذه المنطقة شهدت أرقى حضارات العالم منذ أقدم العصور، وكانت حضارتها أدبية وعلمية، فهيأت شعوبها لتلقى الرسالات.
ويشير هذا التحليل إلى أن الشعوب تسير في خط مستقيم في بناء حضارتها، وتقدمها على طريق الرقى والارتقاء، ولكن الواقع يؤكد خلاف ذلك، فالمعروف أن هناك شعوباً تقدمت في حضارتها فترة، ثم انتكست فعادت إلى الوراء خطوات، قد تصل إلى حد أن ينكر بعض الباحثين على الأجيال التي عاشت عصور الانتكاسة ادعاءهم بأنهم أحفاد من بنوا هذه الحضارة المسجلة في آثارهم ومتاحفهم.
وهناك أكثر من دليل على ذلك؛ إذ تكفي نظرة واحدة إلى واقع أحفاد الفراعنة، والأشوريين، والفينيقيين، فحضارة هذه الشعوب لا ينكرها أحد، لأن آثارها لازالت تنطق بأنها كانت على درجة كبيرة من التقدم والرقي، لكن أحفادهم المعاصرين لا يملكون من وسائل الرقى والتقدم ما يجعلهم في مستوى أجدادهم في الحضارة، ولا حتى في مستوى يقرب منهم.

أفلا يدل ذلك على أن ربط تطور الأديان السماوية بمسألة التقدم والرقي في المجتمعات الإنسانية أمر لا يستقيم فهمه، لأنه يترتب عليه أن تتذبذب درجة الرسالات السماوية صعوداً وهبوطاً، مع صعود ونزول درجة الحضارة في الشعوب؟

واستدلال أصحاب نظرية التطور على صحة رأيهم بأن الدعوة في عصر "طفولة" الجنس البشرى كانت محدودة ، ليس فيها تفاصيل ، وأنه لم يكتب لها كتاب ، بل اقتصرت على بعض النصائح ، ولم يعرف لها تاريخ محدد ، وأنها كانت خاصة بقوم دون آخرين ، استدلال غير صحيح ، لأن ما نزل على محمد r هو الذى نزل على نوح u - وهو من رسل عصر "الطفولة البشرية " ، كما يقول هؤلاء العلماء - ، يقول تعالى : ﭐﱡﭐ      [ النساء : 163] ، ويقول: ﱡﭐ      ﱿ       [ الشورى : 13]
فالدعوة بأن الرسالة كانت محدودة دون تنظيمات وتفاصيل ، يدحضها ما جاء في القرآن الكريم بياناً لما بلغه الرسل لأقوامهم ، بأن يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويفعلوا الخيرات ، ويعملوا الصالحات ، فلا يظلمون في معاملاتهم مع الآخرين ، ولا يسرفوا فيما أباح الله الاستمتاع به ، كما ينبغي عليهم أن يوفوا الكيل والميزان ، وأن يحكموا بين الناس بالقسط ، وغير ذلك من الأوامر والنواهي والوصايا التي أنبأنا الله بها في القرآن الكريم ، ليذكر الناس بما كان عليه الأولون مع رسلهم ، لعل هذه التذكرة تحملهم على الإيمان برسالة محمد r .
ولم يكن القصد تسجيل كل ما حدث من الرسل السابقين مع قومهم، ولا الإخبار بكل ما بلغوه عن الله لهم، لأنه ليس سجلاً تاريخياً، يخبرنا بما حدث من قبل، بل هو هداية وعلاج للأمراض البشرية، فلا يذكر فيه من أخبار السابقين إلا ما يقتضي المقام ذكره. فالقول بأن الدعوات السابقة كانت محدودة لعبادة الله، دون تنظيمات وتفاصيل، لا دليل عليه، وبالتالي فلا يصلح دليلاً على صحة نظرية تطور الرسالات السماوية.
أما ما يدعيه هؤلاء العلماء من أنه لم يكن لدعوات عصر "طفولة" الجنس البشرى كتب واضحة، وإنما هي بضع نصائح، فلا يصلح دليلاً لنظرية تطور الرسالات السماوية، لاحتمال أن يكون عدم وجود كتب راجعاً إلى فقدانها، أو إلى عدم تطور الكتابة عند من حملوها. ولا يمكن أن يكون دليلاً على أن عقلية الإنسان في تلك العصور كانت بدائية، بدليل أننا نجد آثاراً يرجع عهدها إلى آلاف السنين قبل الميلاد، ومع ذلك تدل على ما كان يتمتع به الإنسان في ذلك العصر من ذكاء وفطنة، وقدرة فكرية على الإبداع في مجالات قد يعجز ابن القرن الواحد والعشرين عن فهمها والوقوف على أسرار تكوينها.
فرسالة الله لكل الناس، سواء ارتقوا في حضارتهم، أم تخلفوا عن اللحاق بركب التقدم، وسواء كانوا يعيشون عيشة بدائية، أم كانوا ينعمون بما أبدعته عقولهم في مجالات الحياة المختلفة.

إغفال التاريخ

ويحاول علماء الأديان الذين يرون أن الأديان السماوية تطورت بتطور العقل البشرى الاستدلال على صحة رأيهم، فيقولون: إن عدم ذكر تاريخ محدد لظهور الرسالات في فترة " طفولة " الجنس البشرى من العلامات البارزة التي تؤكد صحة هذه النظرية.
وهذا كلام فيه مغالطة، ذلك أن الإسلام الذى جاء – على حسب قولهم – بعد أن اكتمل عقل البشرية، ووصل إلى أعلى درجات التطور، ليس فيه تحديد زمن معين لأية حادثة وردت فيه، لأن الوحى السماوي لا يرتبط بزمن معين، ولا بعصر محدد، وإنما جاء لهداية الناس، وتقويم سلوكهم. ولا علاقة لهذه الهداية بالتاريخ ، فلا تحتاج إلى تسجيل الزمن، لأنه ليس جزءاً من العملية التربوية الإلهية ، فهو للإنسان في أي زمن وفى أي مكان ، وعلى أي درجة من درجات التقدم والحضارة ، فالقول بأن عدم تحديد زمن الرسالات السماوية دليل على البدائية غير صحيح ؛ لأنه لا حاجة للإنسان في مجال الدعوة إلى الله إلى معرفة زمن رسالة نوح ، أو عصر رسالة هود ، أو إبراهيم ، ولا تحتاج مسيرة الدعوة إلى الله إلى تحديد سلسلة الرسالات زمنياً ، بمعنى أننا لسنا بحاجة إلى أن يحدد لنا إن كان هود قبل إبراهيم أم بعده ، أو كانت رسالة نوح في عهد زيد من الملوك أم عمرو ، لأن هذه أمور لا تؤثر على عملية انتشار الدعوة إلى الله ، بل قد تكون من العوامل المعوقة لها ، لأن الآراء كثيرة ومتشعبة في تحديد الزمن التاريخي للحوادث البشرية ، فلو حدد القرآن الكريم زمن الرسالات السماوية ، لتعرضت معطياته التاريخية لنقاش لا طائل من ورائه ، وخلافات لا تؤدى في مجال الدعوة إلى فائدة ، وقد أهملها القرآن الكريم تجنباً للخلاف ، ولأنه لا فائدة من ذكرها في عملية الإقناع بدعوة الإسلام.

تحديد مكان الرسالة

وآخر دليل ذكره القائلون بنظرية تطور الرسالات السماوية في تحديد معالم رسالات عصر "طفولة" الجنس البشرى، هو أن الدعوة في تلك العصور – وكذلك في عصور "صبا" الجنس البشرى – كانت محدودة بقوم الرسول ، فلم تتعداهم إلى غيرهم ، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة ، ذلك أن هذا التحديد لم يكن مبعثه تطور الإنسان ، وإنما اقتضته ظروف حياة الجنس البشرى ، فالمواصلات كانت بدائية ، وبالتالي كانت الاتصالات بين أقطار الأرض صعبة ، ولهذا بعث كل نبي لقومه ، لأنه لا يستطيع أن يبلغ الرسالة لأقطار الأرض   المختلفة ، نظراً لصعوبة التنقل ، والدليل على ذلك أن الله أمر موسى u وأخاه هارون أن يذهبا إلى فرعون ، ويبلغاه وحى  الله ، يقول تعالى: ﱡﭐ   [ طه : 43 -44].  فكانت دعوة موسى لفرعون بعبادة الله دليل على أنه لم يبعث لقومه فقط، لأن فرعون لم يكن من قومه. كذلك آمن السحرة بما جاء به موسى، مع أنهم لم يكونوا من قومه، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱿ           [ الشعراء : 46 - 48]
كما كان يوسف u  يُعًلِّم من كان معه في السجن شرع الله، وهم لم يكونوا من قومه، يقول تعالى حكاية عما كان يقوم به يوسف داخل السجن من الدعوة إلى الله:  ﱡﭐ          ﱿ   [ يوسف : 39- 40]
فدعوة موسى لفرعون، ومحاولة يوسف هداية من معه في السجن دليل على أن دين الله للناس جميعاً، فما كان حصر دعوة الرسل السابقين على أقوامهم إلا لظروف الاتصال التي كانت تحول بين النبي وبين دعوة غير قومه. ولهذا عندما كانت ترفع هذه الحواجز كان الرسول يدعو غير قومه.
وعليه فالإسلام لكل الناس، لأن سهولة المواصلات جعلت في الإمكان دعوة القاصي والداني إلى الدخول في دين الله.

التفصيلات والتفريعات

ويدَّعى القائلون بنظرية التطور في الأديان السماوية، أن معالم المرحلة الثانية، وهى ما أطلقوا عليها: مرحلة "صبا البشرية" تبدو في ظهور التفصيلات والتفريعات في التشريع، واستدلوا على ذلك بما ورد في الكتاب المقدس من مسائل تحدد أحكام بعض ما يرتكبه الإنسان من أخطاء، وتبين طريقة التقاضي عند التخاصم، وغير ذلك من التفاصيل التي وردت في الكتاب المقدس في كثير من مجالات النشاط الإنساني. 
ويفهم من هذا أن مثل هذه التفصيلات والتفريعات لم تكن موجودة في الرسالات التي سبقت رسالة موسى u، وهو ادعاء لا يستند إلى دليل ، ذلك أن الباحث عندما يتوصل إلى حكم فيه تمييز بين طرفين ، فلابد أن تكون عناصر الطرفين موجودة أمامه ، بحيث تكون واضحة المعالم وضوحاً يبرز الجزئيات التي ترتكز عليها المقارنة في الوصول إلى النتيجة . فإذا تصورنا هذا المبدأ الأساسي في عملية البحث في موضوعات حديثنا، فإن المنطق يقتضي أن يكون تحت أيدينا نماذج صحيحة للتشريعات التي نزلت على الرسل قبل موسى u ، ويثبت لدينا أنها وحي الله، بمعنى أنه لم يدخله تحريف ولا تغيير ولا تبديل .

فهل تحت أيدينا نصوص التشريعات السماوية التي سبقت تشريع موسى u ؟ وهل يمكن لأى باحث أن يصل بأيّ طريقة – غير ما ورد في القرآن الكريم -إلى تصور معالم هذه التشريعات، ولو عن طريق الحفريات، أو بأي وسيلة أخرى من وسائل تسجيل معالم الحركات الفكرية لتلك العصور، بحيث يسلم العقل البشرى – طبقاً للقواعد المتعارف عليها في مجال البحث العلمي – أنها من المعالم الأصلية للتشريع في تلك الحقب، ويتأكد أنه لم يصل إليها أيدى المولعين بتغيير آثار السابقين وتبديدها؟
لا يوجد أحد على وجه الأرض يستطيع أن يجيب بـ "نعم"، لأنه ليس من الممكن عقلاً، ولا واقعاً أن يعثر الإنسان على نصوص الوحي الذي نزل على الأنبياء الذين أرسلوا في عصر ما يطلق عليه أصحاب نظرية التطور في الأديان السماوية: عصر " طفولة الجنس   البشرى ".

وعليه، فأحد عنصري المقارنة مفقود، فكيف يقال: إن المرحلة الثانية من مراحل الأديان السماوية – حسب رأيهم – تتميز بظهور بعض التفصيلات والتفريعات في التشريع؟ ومن أدراكم أن التشريع فيما تسمونه المرحلة الأولى كان مجملاً؟
وعلى أي شيء اعتمدتم في ذلك، ولم يوجد مرجع يمكن الرجوع إليه على الإطلاق؟ لا يوجد مرجع يمكن أن يستقى منه معلومات صحيحة عن الدين في تلك الفترة سوى القرآن الكريم، فماذا قال عنها؟
لم يتحدث القرآن الكريم عن أديان تلك الفترة بالتفصيل، لأنه ليس كتاباً تسجل فيه حوادث السابقين، وما جاء فيه عن أخبارهم، إنما سيق للعظة والعبرة حسب ما تقتضيه ظروف الحدث الذى أراد الله  I أن يُذَكِّر الناس به، حتى لا يضلوا كما ضل من سبقهم، وجاء ذكر الاستشهاد فيه بأخبار الرسل السابقين على موسى u فيما يتعلق بمسألة العقيدة دون غيرها ، لأن ذلك نزل في مكة ، حيث كان نشاط الدعوة مركزاً على إقناع الناس بوحدانية الله ، دون غيرها من التشريعات التي نزلت فيما بعد الهجرة إلى   المدينة . فعدم ذكر تشريعات هؤلاء الرسل، كان لسببين:
الأول: أن المقام كان يقتضي الاستشهاد بما يساعد على الإقناع بوحدانية الله، ولا ينفع في هذا المقام إلا ما يتعلق بالعقيدة دون التشريع.
الثاني: أن التشريع لا يحتاج إلى سرد ما يدعمه من تشريعات السابقين، لأنه يأتي في مرحلة تلى مرحلة الاقتناع، وما دام الإنسان قد اقتنع بالأساس الذى يقوم عليه الدين، فمن الضروري أن يتقبل كل ما يشرعه له من اقتنع بربوبيته، وهو الله I .
وهذه قاعدة توجد في جميع المجتمعات البشرية، على اختلاف العصور والأقطار، التزمها القرآن الكريم، لأنه للناس جميعا.

ظهور الكتب المقدسة

ويدعى أصحاب نظرية التطور في الأديان السماوية أن المرحلة الثانية، وهى ما أطلقوا عليها مرحلة "صبا البشرية" تتميز عن سابقتها بنزول كتب على رسلها، مثل: التوراة والإنجيل، زاعمين أن معانيهما فقط هي الموحى بها، تلك المعاني التي صاغها البشر في تراكيب وعبارات لغوية.
وهذا الزعم ينطوي على عدة أخطاء:
أولاها: الجزم بأن الكتب المقدسة لم تظهر إلا في هذه المرحلة، أما ما سبقها، فلم يخرج الوحي فيها عن كونه بضع نصائح متناثرة، لم يجمعها كتاب، أو دونت في بعض الأحوال في ألواح، أو صحف عامة.
وهذه دعوى تحتاج إلى دليل، ولا يوجد من بين المصادر التي يعتمد عليها الباحثون في هذا المجال ما ينفى وجود كتب سماوية في المرحلة السابقة، كما لم ينص القرآن الكريم على عدم وجود مثل هذه الكتب، أو على عدم إنزال كتب على الرسل الذين اصطفاهم الله في هذه المرحلة. فالاعتماد على أن القرآن الكريم لم يصرح بوجود كتب لهؤلاء الرسل كدليل للجزم بعدم وجودها غير مسلم علمياً، إذ يجوز أن يكون عدم الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم راجعاً:
-              إلى أن مقام سرد الأحداث لا يتطلب ذلك.
-         أو إلى أن اندثارها جعل الحديث عنها لا فائدة فيه في مجال محاورة الرسل لأقوامهم في مجال إقناعهم بواحدانية الله.
ثانيها  :  الادعاء بأن ما أنزل من التوراة والإنجيل هو معناهما فقط ، وتولى الأتباع  صياغة المعاني ادعاء خطير؛ ذلك أنه قد يترتب عليه عدم صحة تحريفهما ، لأن التحريف لا يتصور إلا لوحى مصاغ بأسلوب إلهي، أما تغيير ما يصيغه البشر فلا يسمى تحريفاً بالمعنى المفهوم ، الذى أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية ، منها قوله تعالى :ﱡﭐ    ﲿ         [ البقرة : 75] ، فالتعبير بـ "كلام الله" يدل على أن ما حرفوه كان كلاماً مصاغاً في أسلوب لغوى ، وليس معنى ، إذ لو كان التحريف واقعاً على المعنى لما عبر بـ " كلام الله " ، بل بأحكام الله ، لأن الذى يغير في هذه الحالة لا يغير كلاماً ، وإنما مفهوماً أراده الله  I .
ثالثها: من المعروف أن كلاًّ من التوراة والإنجيل قد كتب بعد نزول الوحي على كلٍّ من موسى وعيسى عليهما السلام بزمن بعيد، فهل تناقل الناس معاني الوحي من وقت نزوله حتى كتابته بمعناه، أي بدون أسلوب يدل على ما فيه من أحكام؟ وكيف بلغه الرسل؟ بألفاظ أم بغير ألفاظ؟ إن كان بألفاظ فقد أصبحت صياغة مقدسة لا يجوز تحريفها، وإن كان بغير ألفاظ فهو مستحيل، لأن المعاني والأفكار لا تخرج عن دائرة القوى الفكرية إلا في ثوب ألفاظ، بل إن تصورها في الذهن مرتبط بالألفاظ التي تدل عليها، فالقول بأن الوحى نزل بالمعنى، وصاغه البشر كلاماً لا يقبل، فلو قيل: إنه بالمعنى وعبر عنه النبي الموحى إليه بلفظه، لكان ذلك إلهاماً، ولم يقل أحد أن الشرائع نزلت كلها على الرسل بطريق الإلهام.

ولكن كيف نفسر ظاهرة عدم وجود كتب مقدسة قبل موسى u ؟  

إنها ظاهرة طبيعية ، ذلك أنه ليس لدينا أثر يبين لنا صورة واضحة لحياة الإنسان قبل ستة آلاف سنة ، وما وجد من آثار تكشف لنا عن بعض جوانب الحياة الإنسانية فيما قبل زمن تدوين نص التوراة الموجودة بين أيدينا ، فليس فيه كتاب بالمعنى المفهوم لنا من هذه الكلمة ، وإنما هي بعض نقوش تعبر عن صور غير متكاملة لبعض أنشطة الحياة المختلفة ، حتى الجانب الديني، فإننا نجد أن ما يعبر عنه ، هو أقوال متفرقة هنا وهناك ، وجدت منقوشة على جدران ما تركوه من آثار ، وما خلفوه من أوانٍ أعدت للاستعمال ، فعدم وجود كتب الرسل السابقين نتيجة لهذه الظاهرة العامة ، وترك القرآن الكريم الحديث عنها أمر طبيعي، لأنه لم يتحدث عن السابقين إلا بضرب الأمثال في معرض الحوار والمناقشة حول وحدانية الله ، ولا يتطلب هذا المقام حديثاً عن كتب لا وجود لها ، ولا يعرف المجادلون عنها شيئاً .
إن من الخطأ العلمي أن يعتمد القائلون بنظرية التطور في الأديان السماوية على التوراة الموجودة بين أيدينا في الاستدلال على صحة رأيهم ، ذلك أن هذا النص لا يمثل الوحى الذى نزل على موسى u حتى يمكن القول – كما يدعون – بأن من مظاهر هذه المرحلة – وهى ما يسمونها مرحلة : "صبا البشرية" – أنها ذكرت تواريخ ، ولكنها غير دقيقة ، لأن هذا القول ينسب إلى الوحي عدم الدقة ، فهم يتحدثون عن تطور الأديان السماوية ، التي نزل بها الوحى من السماء ، في حين أن ما بين أيدينا لا يعبر عن وحي، وإنما حصيلة الثقافة الدينية للشعب اليهودي، صاغها كُتَّابُ العهد القديم بأسلوبهم . ومما لاشك فيه أن فكرهم لا يعبر تعبيراً دقيقاً عن مضمون الوحى الذى نزل على موسى u، بل اختلط به كثير من الثقافات الأخرى ، التي احتك بها الشعب اليهودي في مسيرته التاريخية.
ويضاف إلى ذلك أنه لم يكن هناك نص واحد في بداية مرحلة تدوين الثقافة الدينية للشعب اليهودي، بل وجد العديد من النصوص، ففي القرن الثالث قبل الميلاد تقريباً كان هناك على الأقل ثلاث مدونات للنص العبري للتوراة، ثم ظهر اتجاه في القرن الأول قبل الميلاد إلى تدوين نص واحد، ولكن تدوين نص الكتاب المقدس لم يتم إلا في القرن الأول بعد الميلاد، وهو ليس بين أيدينا اليوم، إذ أن أقدم نص عبري للتوراة يرجع عهده إلى القرن التاسع بعد الميلاد.

فإذا كان هذا هو وضع الكتاب المقدس، فكيف يعتمد عليه في الاستدلال على نظرية التطور في الأديان السماوية؟

إن نظرية التطور تنسب إلى الوحي أشياء ليس من طبيعته التحدث عنها ، ألا وهى تحديد الزمن ، ذلك أن الرسالات السماوية جاءت لهداية الإنسان وعلاجه من الأمراض الاجتماعية ، حيث تقوم المجتمعات الإنسانية على أسس سليمة تحفظها من التفكك  والانهيار ، ولما كانت خصائص الإنسان عامة ، واحتياجاته الأصلية لا تختلف من زمن  لآخر ، ولا تتفاوت بتفاوت الأقطار والأمصار كان دين الله واحداً من يوم خلق الإنسان حتى عصرنا الحالي، وإلى أن تقوم الساعة ، ولذا فلا مجال لذكر التاريخ في مرحلة وعدم ذكره في أخرى ، كما يدعى القائلون بنظرية التطور في الأديان السماوية ، لأن الإنسان واحد في كل المراحل وما يعتريه من ضلال في العقيدة ، وأمراض السلوك على اختلاف الأجيال والعصور تكاد تكون متطابقة : كفر بالله ، وعبادة الأصنام ، واستغلال القوى للضعيف ، وإشاعة الفاحشة في المجتمع ، وتسلط المادية على حياة الناس...و...و....الخ .
ولهذا فحين قص القرآن الكريم على محمد r أخبار السابقين لم يحدد زمن وجودهم ، ولم يذكر تاريخ الأحداث التي يقصها ، لأنه ليس من العناصر الرئيسية المستهدفة من سرد الأحداث ، ولأن طبيعة الحدث عامة ، فمن الممكن أن يحدث في أي زمن ، وفي أي مكان ، فتحديدها بزمن معين يفقدها صفة العمومية ، ويحصرها في دائرة المحلية ، وهذا يتنافى مع عموم الرسالة .
فما جاء في الكتاب المقدس من تحديد زمن بعض الأحداث لا يعبر عن وحي، وإنما هو رأى الكاتب، وما دام الكاتب بشراً فهو لا محالة سوف يخطئ في تحديد التاريخ خاصة وأن وسائل البحث في مجال التاريخ لم تكن قد تقدمت في ذلك العصر.
وعليه فخطأ المعطيات التاريخية في الكتاب المقدس لا يدل إلا على ضعف الإنسان في مجال التصورات التاريخية في ذلك العصر، فلا يصلح على الإطلاق أن يتخذ دليلاً على التطور في الأديان السماوية، لأن تحديد التاريخ ليس جزءاً من عملية هداية الإنسان إلى طريق الحق، وعلاجه من الأمراض الاجتماعية.
ولهذا كان وحى الله عاماً لكل الناس، لم يحدد بزمن دون آخر، ولم يخصص لشعب معين، أو يقصر على إقليم دون غيره من أقاليم الأرض، بقول الله تعالى: ﭐ ﱡﭐ       [ سبأ : 28]

وضوح الوحدانية

ويرى أصحاب نظرية التطور فى الأديان السماوية أن المرحلة الثالثة – وهى ما أطلقوا عليها مرحلة: "شباب الجنس البشرى" – تتميز بوضوح وحدانية الله وتحطيم الأصنام.
وهذا قول ينطوي على اتهام للرسل السابقين بأنهم لم يوضحوا قضية الوحدانية ، ولم يحطموا الأصنـام ، وفى ذلك أيضاً إنكار – أو إغفال – لما جاء في القرآن الكريم ، فقد جاء فيه الحديث عن جهود الأنبياء السابقين في بيان وحدانية الله بصورة واضحة، ليس فيها غموض ولا تورية ، فلو استعرضنا ما قال الرسل السابقون لأقوامهم ، لظهر لنا وضوح دعوتهم إلى وحدانية الله ، وترك عبادة الأصنام ، فنوح قال لقومه : ﭐﱡﭐ [ الشعراء : 107 - 108] ، وقال هود: ﱡﭐ      [ الأعراف : 65] ، وكذلك قال صالح .
كما حطم إبراهيم الأصنام بيده، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ            ﲿ       [ الأنبياء : 51 - 58]

ألا يدل هذا على وضوح الدعوة إلى وحدانية الله، ونبذ عبادة الأصنام؟ ثم ألا يعد ما فعله إبراهيم u تحطيماً للأصنام دعوة واضحة إلى وحدانية الله ؟

فالقول بأن ما يميز المرحلة الثالثة – طبقاً لما يرونه من تقسيم تاريخ الأديان السماوية إلى مراحل – هو وضوح وحدانية الله ، وتحطيم الأصنام لا يستند إلى دليل ، بل إن آيات القرآن الكريم تثبت خلافه ، ألا وهو أن هذه كانت السمات العامة لكل الأديان من آدم إلى محمد r : وضوح الدعوة إلى وحدانية الله ، ومحاربة كل صور الشرك وعبادة الأوثان والأصنام ، يقول تعالى :  ﭐﱡﭐ       ﱿ   [ الشورى :13 ] ، ويقول: ﱡﭐ      [ فصلت: 43]
ويبدو أن السبب في وقوع العلماء في هذا الخطأ، هو أنهم قارنوا بين القرآن الكريم في وضوح الوحدانية، وحربه على عبادة الأوثان، وبين ما في نص الكتاب المقدس الموجود بين أيدينا من خلط في مفهوم تصور وحدانية الله، ومهادنة لبعض صور الشرك، أو قبول ما يوحى به. وهذه المقارنة قائمة على أساس غير سليم؛ إذ لا يجوز المقارنة بين وحي الله، وبين ما كتبه البشر، الذي خلط فيه بين ما هو صالح، وآخر سيء، ويتنافى مع ما نزل على الرسل السابقين.
ولهذا ينبغي علينا طرح فكرة تطور الأديان السماوية بعيداً، وعدم قبول أي صورة من صورها، فدين الله واحد، ورسالة الأنبياء واحدة، وخصائص دعواتهم متطابقة:
-   ففي دائرة الألوهية دعوا كلهم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان والأصنام.
-         وفى دائرة الرسل اعترفوا جميعاً بأنهم بشر، وأن وظيفتهم لم تتعد البلاغ للناس.
-         كما بينوا للناس أن الله هو المسيطر على كل ما في الوجود، فهو واهب الحياة، وهو الذي يكفل الرزق لعباده، وسوف يحاسب كل إنسان على ما فعله في هذه الحياة الدنيا.
-         كما وضح من سيرتهم أن موقف الأعداء منهم كان واحداً، فقد كانوا مصرين على عبادة آلهتهم من دون الله، وأنكروا البعث، واستخفوا بوعد الله.
هذه هي الملامح الرئيسية لكل الرسالات السابقة، كما ذكرها القرآن الكريم، فليس فيها ما يشير إلى تطور، أو اختلاف واحدة عن الأخرى، لأن الكل من عند الله وهو واحد، كما أنهم أرسلوا جميعاً للإنسان باعتباره بشراً، فجميع الأجناس تشترك في الخصائص البشرية، ولذا يجب عليهم الإيمان برسالة الإسلام، لأنها لهم جميعاً من حيث هم بشر، جاءتهم من الله، وهو خالق الناس جميعا، يقول تعالى: ﱡﭐ   ﲿ     [ النساء : 170]
الأديان السماوية

يجرى على ألسنة المسلمين أن الأديان الثلاثة: " اليهودية والنصرانية والإسلام " أديان سماوية، ويتدارس طلاب العلم في مدرجاتهم الدراسية القضايا الدينية على أساس صحة هذه القضية، بل ويتناول الباحثون والمتخصصون في المجال الديني المسائل المشتركة بين الأديان الثلاثة بحثاً ودراسةً واستنتاجاً من منطلق الاعتقاد بأن الله أنزل اليهودية على موسى، وأنزل النصرانية على عيسى عليهما السلام.
شاع هذا الرأي بين المسلمين، واعتنقه جمهرة العلماء، على الرغم من أن كثيراً من آيات القرآن الكريم تؤكد أن الإسلام فقط هو الدين السماوي، يقول الله تعالى: ﭐﱡﭐ      [ آل عمران : 19] ، أي أن الدين المنزل من السماء هو الإسلام لا غيره . ويقول: ﭐﱡﭐ   [ آل عمران : 67] ،  أي أنه لم يكن معتنقاً دين اليهودية ، ولا مؤمناً بدين النصرانية ، ولكنه كان على دين الإسلام .
ويحكى القرآن الكريم دعاء يوسف ربه فيقول: ﱡﭐ      ﲿ    [ يوسف : 101]
وقد وردت آيات كثيرة على لسان رسل وصالحين عاشوا قبل محمد r يدعون فيها ربهم أن ينعم عليم بالإسلام ، وأن يوفقهم إلى أن يموتوا مسلمين ، ولم ترد آية واحدة تذكر أن أحداً من السابقين على الإسلام سأل ربه أن ينعم عليه باعتناق اليهودية أو النصرانية ، ذلك أن الله لم ينزل ديناً بهذا الاسم ، فلم يذكر في كتابه الكريم أنه أنزل اليهودية على موسى أو أنزل النصرانية على عيسى عليهما السلام ، لأن اليهودية نسبة إلى يهوذا ، والنصرانية نسبة إلى الناصرة التي انتسب إليها أتباع عيسى u .
إذن، فلا علاقة للتسمية بما أنزل الله على هذين النبيين، فما أنزل على موسى هو الإسلام، وما أنزل على عيسى هو الإسلام، أما ما أطلق عليه اسم: " اليهودية " فهو عبارة عن تسمية لما عند اليهود من المبادئ والتشريعات الدينية التي جمعوها من تراثهم، أي أنه وحي اختلط بما أخذوه من روافد ثقافية أخرى، ولا شك أن هذا الجديد يحمل من المعالم ما جعله يختلف كلية عما نزل على موسى u ، وهو الذى سمى بـ " اليهودية ".
فاليهودية هي من صنع اليهود، وكذلك النصرانية، أما ما نزل على موسى فهو الإسلام، وهو نفسه الذى نزل على عيسى، لأن الله يقول: } إِنَّ الدِّيـنَ عِنْـَد اللَّهِ الإِسْلاَمُ  { [آل عمران : 19] ، أي إن الدين الذى نزل من عند الله هو الإسلام ، سواء نزل على موسى أو على عيسى عليهما السلام ، أو على غيرهما من الأنبياء السابقين ، ولكن عندما اختلط بالثقافات البشرية ، وضاعت معالم الإسلام ، أخذ اسماً آخر ، مقتبساً من الملابسات التي مرت بالأتباع، سواء تعلقت بشخص أم بمكان .
والدليل على أن دين الله الذى نزل على الأنبياء جميعاً واحد ، وهو الإسلام ، أن كلمة الدين لم تـأت في القرآن الكريم بصيغة الجمع " أديان " على الإطلاق ، لأن دين الله واحـد ، وإن تعـددت رسالاته ورسـله ، يقـول تعالى: ﱡﭐ   ﱿ          [ فصلت : 41 - 43]  ، ولم يأت تعدد الرسالات إلا لتصحيح ما حرف ، لأن المجتمعات البشرية دأبت على تغيير الرسالات بعد رسلها ، فكلما طال الزمن بعد الرسل تمادوا في غيهم وضلالهم ، فحرفوا وبدلوا ، فإذا ضاعت معالم الرسالة ، أرسل الله رسولاً آخر ليبلغهم الرسالة من جديد ، حتى جاء خاتم الأنبياء محمد  r ، فحفظت رسالته من التحريف والتبديل ، يقول تعالى : ﱡﭐ   [ الحجر : 9] ، لأن الله قد كتب في الأزل أنه سيكون خاتم  الرسل ، فحفظ القرآن الكريم مما أصاب ما نزل على الرسل السابقين ، ولذا لم يعد الأمر فى حاجة إلى إرسال رسول آخر .
وجملة القول: إن دين الله واحد، هو الإسلام، وهو ما أنزله على جميع الأنبياء. والدليل على ذلك قوله تعالى:  }  إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ  { ، أما ما يعرف باليهودية والنصرانية فهي تسمية لما في أيدى اليهـود – وكذلك الحال لما في أيدى النصارى – من مبادئ وتشريعات دينية لا صلة لها بالإسلام ، إلا باعتبارها منسوبة – في أصلها – إلى من أنزل عليه الإسلام من قبل ، وهما موسى وعيسى عليهما السلام ، أو باعتبار أن فيهما بعضاً مما أنزله الله عليهما، وإن كان هذا البعض قد اختلط بما أضافه أتباعهما إلى وحـى الله .
ولهذا أطلق القرآن عليهما " أهل الكتاب " نسبة إلى الكتاب الذى في أيديهم باعتبار أن فيه شيئاً منسوباً إلى نبيين من أنبياء الله، ولم يطلق عليهم اسماً يدل على أنهما أتباع دين نزل من الله على هذين النبيين، لأن ما يتسمون به، وهو: " اليهودية " أو " النصرانية " ليس ديناً من عند الله، وإنما هو عَلَم على مجموع الثقافات الدينية التي اتخذوها ديناً لهم.
                                                                                            أ. د/ محمد شامة

*     *     *



[1] ) راجع!  شلبي صـ 18 وما بعدها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...