O
شهادة المرأة
أ.د/ محمد شامة
يولد الإنسان بغرائز أساسية تشكل سلوكه للمحافظة
على كيانه، وحماية نفسه من الهلاك والدمار، ومن
هذه الغرائز: غريزة الجوع والعطش الذي تدفعه إلى السلوك المؤدى إلى إشباعها،
وغريزة الجنس التي توجهه إلى السعي لإشباعها لحفظ النوع. وتلعب البيئة المحيطة به
دوراً أساسيًّا في تهذيب سلوكه، وتنقية أخلاقه من الشطط في هذا الاتجاه، أو
الاعتداء على الغير في سبيل هذا الإشباع، كما أن الدين يلعب دوراً فاعلاً في تنظيم
الطرق المؤدية إلى بلوغ هذا الهدف. ومن المسلم به أن التعليم، سواء كان دينيًّا أو
مدنيًّا، يساند المجتمع بعاداته وتقاليده في رقي الإنسان، حتى لا يقع في بؤرة
الانحراف عن الطريق المستقيم، فيهوى في مسالك الشيطان الذي يسول له هذا الفعل،
ويغويه لينساق إلى هذه الطريق، حتى ولو كان فيها اعتداء على الغير، وإشاعة الفاحشة
في المجتمع.
والتملك
وحب الاستيلاء على ما في يد الغير من أهم الغرائز التي تحتاج إلى تقويم وتهذيب،
فهي من الظواهر التي تلازم الإنسان منذ طفولته؛ إذ يبدأ الطفل منذ سن مبكرة جدًّا
يميل إلى حب تملك الأشياء، فهو يشعر أن ما حوله منها يعود إليه، ويلازمه هذا
الشعور طول حياته، على اختلاف في الأسلوب الذي يستخدمه للحصول على ما يريده.[1]
ولما
كان الإسلام موافقاً للطبيعة الإنسانية، فقد اعترف بغريزة التملك عند الإنسان ولم
يلغها، وإنما شرع من القيم والوصايا ما يساعد على تهذيبها وتنظيمها لتصبح في خدمة
الإنسان والمجتمع؛ إذ تتحول هذه الغريزة بفضل تعاليم الإسلام من وسيلة لاستغلال
الآخرين إلى أداة لتحقيق منفعتهم، لكن كثيراً من الناس لا يلتزمون بما شرعته
القوانين لحفظ حقوق الآخرين وحمايتها من الاعتداء عليها، كما أنهم لا يراعون وصايا
الأديان في هذا الصدد.
لهذا
نصت الشرائع السماوية والقوانين المدنية على اعتبار الشهادة ركناً من أركان ثبوت
الملكية، وهي لغة: الإخبار بما حدث، أو بما هو كائن، أو بما عاينه الشاهد، يقال:
شهد الحرب، أي حضرها، والمشاهدة: المعاينة مع الحضور، فهي خبر قاطع بما رآه الشاهد،
أو عَلِمَه؛ إذ هي مأخوذة من العلم والرؤية. وللقاضي أن يأخذ بها إذا تبين له
صدقها.
ويشترط
في الشاهد الذي تكتسب شهادته قبولاً قانونيًّا:
أولاً:
أن يكون عاقلاً؛ لأن تحمل الشهادة يتطلب الفهم والإدراك، وهو يحصل بالعقل، فلا تصح
قبول الشهادة من المجنون والصبي الذي لا يعقل.
ثانياً:
أن يكون بصيراً وقت حدوث ما يشهد به، فلا تصح شهادة الأعمى؛ لأن شرط التحمل السماع
من الخصم، ولا يُعْرَف الخصم إلا بالرؤية؛ لأن نغمات الصوت يشبه بعضها بعضاً في
كثير من الأحوال؛ ولهذا لا يجوز أن يكون الأعمى شاهداً في الأفعال، كالقتل،
والغصب، والزنى، والسرقة وما شابهها مما لا يمكن الإحاطة به إلا بالعين.
ثالثاً:
معاينة المشهود به بنفسه لا بغيره، غير أن هناك أموراً تصح فيها شهادة الأعمى،
كالنكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، والوقف،
والرضاع؛ فهذه أمور تثبت بالسماع، فلو أُخْيِرَ الأعمى بها تصح شهادة بها. [2] ولا يفرق القانون بين الذكر والأنثى في
الشهادة؛ لأن مدار قبولها اقتناع القاضي بصدق الشاهد وقدرته على الإلمام بتفاصيل
وأبعاد ما يشهد به.
رابعاً:
أن يكون المشهود عليه مما يمكن رؤيته للشاهد؛ فما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب
النساء تحت الثياب، والرضاع، والاستهلال، والبكارة، والثيوبة، والحيض، وغيره،
فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة.
خامساً:
أن يكون الشاهد خبيراً بموضوع المشهود به، قال ابن حنبل: إن شهادة الرجل تعدل شهادة
امرأتين فيما هو أكثر خبرة فيه، وأن شهادة المرأة تعدل شهادة رجلين فيما هي أكثر
خبرة فيه من الرجل.
وقد
رسم الإسلام الأسلوب الأمثل لحفظ المال وحمايته ممن عندهم رزيلة الجشع والطمع في
ثروات الآخرين، وذلك في أطول آية نزلت من لدن الحكيم الخبير على محمد e ، وهى قوله تعالى :
ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﱠ [ البقرة: ٢٨٢ ]
يرى
المفسرون: أن الله لما أمر الله في الآيات السابقة بالإنفاق في سبيل الله، وتَرْك
الربا، وذلك ينقص المال، بالغ في هذه الآية بالوصية بحفظ المال
الحلال عن التلف والنقصان، قال القفال: " والذى يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن
جارية على الاختصار، وفى هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنه قال: ﭽﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱋ ﭼ
ثم
قال ثانياً : ﭽ
ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﭼ
ثم قال ثالثاً : ﭽ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﭼ فكان هذا كالتكرار لقوله: ﭽ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﭼ لأن العدل هو ما
علمه الله ، ثم قال رابعاً : ﭽ ﱚ ﭼ وهذه إعادة الأمر الأول ، ثم قال خامساً : ﭽ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﭼ ، وفى قوله :
ﭽ
ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﭼ
كفاية عن قوله : ﭽ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﭼ لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يُمْلَى عليه ،
ثم قال سادساً : ﭽ ﱟ ﱠ ﱡ ﭼ وهذا تأكيد ،
ثم قال سابعاً: ﭽ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱦ ﭼ فهذه كالمستفاد من قوله: ﭽ ﱟ ﱠ ﱡ ﭼ،
ثم قال ثامناً : ﭽ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﭼ وهو أيضاً
تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعاً : ﭽ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﭼ
فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة ، وكل ذلك يدل على أنه لما حث
على ما يجرى مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين - وهما : الإنفاق في سبيل الله ، وهو موجب
تنقيص المال ، وترك الربا ، وهو أيضاً سبب لتنقيص المال - ، بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك والبوار ،
ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله من الربا
وغيره ، والمواظبة على تقوى الله ." [3]
واختلف
العلماء في الأوامر التي وردت في هذه الآية؛ فمنهم من قال إنها للوجوب، ومنهم من
رأى أنها للندب باستثناء ما يتعلق منها بالتقوى أو التزام الأمانة فيما يكتب أو
يملى أو يشهد عليه. [4]
فقد
ورد في هذه الآية أحد عشرة أمراً، وهي: " ﱊﱋ " ، و " ﱌ " و" ﱛ " و" ﱟ " و" ﱢ ﱣ " و " ﱵ " و " ﱹ" و" ﲖ ﲗ " و " ﲶ " و " ﲺ ﲻ " و" ﳆ ﳇ" منه اثنان للوجوب ، أي أن المسلم يجب عليه أن يلتزم بهما ، وهما :
" ﱟ "
و "ﳆ ﳇ" أما
التسعة الأخرى فيجوز أن يكون الأمر فيها للوجوب أو للندب ، أو ربما يكون الأمر
فيها لا يخرج عن كونه وصية ؛ فقد اختلف العلماء في مفهوم صيغة الأمر
بين الوجوب والندب والإباحة ؛ فمنهم من قال : إنها للوجوب ، مستدلاً على ذلك بما
يلى:
1. أن المفهوم من الصيغة ليس
إلا طلب الفعل، ولهذا عرف النحاة، وعلماء أصول الفقه الأمر بأنه: طلب الفعل على
سبيل الاستعلاء أو العلو.
2. أن السيد إذا قال لعبده: افعل كذا ولم يكن هناك قرينة أصلاً،
فلم يفعل عُدَّ عاصياً، وذمه العقلاء لتركه الامتثال، فتكون للوجوب.
3. أن امتثال الأوامر الشرعية واجب، إلا مع دليل يُجَوٍّز ترك
الامتثال.
4. ما ذُكِرَ من أن الصحابة حملوا كل أمر ورد في القرآن أو السنة على
الوجوب.
وحجة من قال إن الأمر
للندب أمران:
أحدهما: قول النبي e : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " أي
ما شئتم.
ثانيهما: مساواة الأمر والسؤال، إلا في الرتبة، والسؤال يدل على
الندب، فكذا الأمر.
وعليه فما ورد في القرآن الكريم من أوامر دائر بين الإباحة والندب
والوجوب: [5]
فالإباحة مثل قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮﲯ ﳎ ﱠ [ المائدة: ٢]
والندب مثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱧ ﱠ
[ الجمعة: ١٠]
والوجوب مثل قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱠ [ آل عمران: ٣٢]
بَيَن
القرآن الكريم أن طبيعة المرأة مثل طبيعة الرجل ، فهما من جنس واحد ، كما جاء في
قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ [ النساء: ١] ،
ولم يفرق الإسلام بينهما إلا على أساس التقوى ، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱠ [ الحجرات: ١٣] ،
وليس على أساس الذكورة والأنوثة ؛ فرب امرأة خير من ألف رجل ، فهي مكلفة شرعاً
كالرجل تماماً ، ومفروض عليها العبادات مثل الرجل ، ومطلوب منها الالتزام بالأخلاق
والأحكام الشرعية كالرجل سواء بسواء ، إلا ما ورد فيه استثناء لاعتبارات فطرية .
وعليه فهي مسئولة مسئولية تامة عن جميع ما يصدر عنها وما تقوم به مثل الرجل إن
خيراً فخير ، وإن شرًّا فشر ، يقول تعالى : ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﱠ [ الأحزاب: ٣٥] ،
وقوله : ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ [ آل عمران: ١٩٥ ] وعليه فأهليتها تامة كأهلية الرجل في التملك ،
وإجراء العقود ، والتبرعات ، وسائر التصرفات ، ولا حجر عليها في مالها وتصرفها إلا
للأسباب التي يحجر بها على الرجل أيضاً .
فإذا
كان الإسلام قد ساوى بين الرجل والمرأة في الإنسانية، وفى الواجبات الدينية، وفى
المسئولية الأخلاقية، فلماذا فضل الرجل عليها فى الشهادة ؛ حيث جعل شهادتها
على النصف من شهادة الرجل ؟
صال
العلماء وجالوا في هذا الموضوع، فذكروا عللاً شتى، وأسباباً متنوعة، منها على سبيل
المثال:
1.
الاختلاف
البيولوجي بينهما ؛ حيث لكلٍّ منهما خصائص تميزه عن الآخر في التكوين البدني ،
والهرموني ، والعصبي ، مما يؤدى إلى الاختلاف في الوظائف المطلوبة من كلٍّ منهما ؛
فهي تشتغل بالحمل ، والوضع ، والرضاعة ، كما يعتريها الحيض الذى يؤثر على جهازها
العصبي والنفسي ، وبالتالي يجعل تحملها أقل من الرجل، واستدلوا على ذلك بقوله
تعالى : ﱡﭐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﱠ
[آل
عمران ٣٥
– ٣٦ ] ،
فاستنبطوا من هذه الآية أن المرأة لا تساوى الرجل في الجوانب الفسيولوجية
والبيولوجية ، التي تلعب دوراً مؤثراً في تأدية المرأة لوظائف تحتاج إلى قوة في
هذين العنصرين .
2.
اختلافهما في
تكوين المخ، اعتماداً على دراسة أظهرت -كما يدعى الباحثون – عمق الفروق بينهما لاختلاف
التركيب البيولوجي بينهما مما يترتب عليه اختلاف التفكير.
3.
لم يخلق الله
الناس على نمط واحد في التفكير والتدبير، وبالتالي يوجد تباين وفروق شاسعة بين
الرجل والمرأة، سواء كان ذلك متعلقاً بالجانب العقلي أو النفسي؛
فعاطفتها-غالباً-أقوى من عاطفة الرجل، وحياؤها-غالباً– أشد مما عند الرجل،
وانفعالاتها، بحكم طبيعتها الحساسة أسرع – في الغالب الأعم-من انفعالاته، وهي أمور
تؤثر في تأدية الشهادة.
ومما
سبق يتبين أن هذه الفروق الجوهرية (البيولوجية، والفسيولوجية، والعقلية، والنفسية)
بين الرجال والنساء تستتبع اختلافاً في نظم الحياة المتصلة بكلٍّ من الجنسين، وهذا
هو سر ما جاء في الإسلام من فوارق بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والأعباء،
ومنها الشهادة.
غير أن من وضع شروطاً لقبول الشهادة
لم يشترط ذكورة ولا أنوثة، فقد جاءت هذه الشروط على النحو التالي:
1.
العدالة
والقدرة على الاستيعاب، بمعنى أن يكون الشاهد عدلاً، قادراً فكريًّا على الإلمام
بعناصر ما يشهد عليه.
2. ألا يكون بينه وبين أحد طرفي النزاع خصومة تبعث على اتهامه بالتحيز
لطرف دون آخر.
3. ألا يكون بينه وبين أحد طرفي النزاع قرابة تدفعه إلى مساندته ضد خصمه.
4. أن تكون له القدرة التي تؤهله لفهم وإدراك جزئيات موضوع النزاع.
فقبول الشهادة لا يشترط
فيه ذكورة أو أنوثة، لأنه لو كان الأمر متعلقاً بذلك، لما كانت الأولوية لشهادة
المرأة في أمور الرضاعة والحضانة والنسب، وغيرها مما تقوم الصلة فيه مع النساء
أكثر من الرجال، ولَمَا كانت الأولوية لشهادة النساء في كل خصومة جرت بين النساء
بعضهن مع بعض، أيًّا كان سببها.
ولوكان الأمر كذلك لقبلت شهادة رجل في وصف جريمة وقعت، بعد أن ثبت أن
الشاهد رجل عاطفي النزعة، رقيق المشاعر، مرهف الحس والوجدان؛ إذ من المعلوم أنه
إذا ثبت لدى القاضي اتصاف هذا الرجل بهذه الصفات، فإن شهادته تصبح غير مقبولةـ إذ
لابد أن يقوم من ذلك دليل على أن صلته بمسائل الجنايات وقدرته على استيعابها ضعيفة
أو معدومة، وهو الأمر الذي يفقده أهلية الشهادة عليها.
فقبول الشهادة تقوم على أساس مدى صلة الشاهد بموضوع الشهادة ،
وعلاقته بطرفي النزاع ، فكلما كانت هذه الصلة قوية ، مع بعده عن شبهة التحيز لطرف
ضد الآخر ، رجحت كفة صدقه ، وبالعكس إذا ضعفت هذه الصلة، وشابهها التحيز ، رُدَّت
شهادته بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة ، أضف إلى ذلك أن هناك فرقاً بين الشهادة
والإشهاد؛ فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة ،
واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم ، لا تتخذ من الذكورة والأنوثة معياراً لصدقها أو
كذبها ، ومن ثم قبولها أو رفضها ، وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة
، بصرف النظر عن جنس الشاهد ، ذكراً كان أو أنثى ، وبصرف النظر عن عدد الشهود ،
فللقاضي إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين ، أو امرأتين ، أو
رجل وامرأة ، أو رجل وامرأتين ، أو امرأة ورجلين ، أو رجل واحد ، أو امرأة واحدة .
ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة، التي يحكم القضاء بناءً على ما يظهر له من
بينات.
أما آية سورة البقرة التي يقول U : ﭽ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﭼ فإنها تتحدث عن أمر
آخر غير " الشهادة " أمام القاضي ... إنها تتحدث عن " الإشهاد
" الذى يقوم به صاحب الدين للاستيثاق للحفاظ على دَيْنِه ، وليس عن "
الشهادة " التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين ، فهذه الآية موجهة لصاحب الحق -
الدَّيْن – وليس إلى القاضي الحاكم في النزاع .[6]
جعل الإسلام شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في
قوله I: ﭽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃﭼ مُعَلِّلاً بعده بقوله
I : ﭽ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﭼ
وضلالها : نسيانها وعدم ضبطها . وقد علل بعض العلماء نسيان المرأة في هذا بكونها
ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية، ولذا فإن ذاكرتها فيها تكون ضعيفة، ولا
تكون كذلك في الأمور المنزلية مثلاً، ومن ثم فإن نسيانها ليس طبعاً فى كل
النساء، ولا فى كل الشهادات.
ليست
شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل دائماً، فهناك قضايا تتساوى فيها شهادة
المرأة مع شهادة الرجل كما في اللعان، وقضايا أخرى لا يقبل فيها غير شهادتها،
كالولادة والبكارة، وعيوب النساء تحت الثياب.
ومما
يدل على أن الشهادة لا يشترط ذكورة أو أنوثة، وإنما قدرة الشاهد على استيعاب ما
يشهد عليه: أن المرأة كالرجل في رواية الحديث التي هي شهادة على رسول الله e وهذا ما أجمعت عليه الأمة وما ذكرته روايات الحديث النبوي، فكيف تقبل
الشهادة من المرأة على رسول الله e،
ولا تقبل على واحد من الناس. [7]
ويفهم
من الآية أن سبب تقديم الرجال في الشهادة على الدَّيْن يرجع إلى أن الرجال في ذلك
الوقت كانوا هم الذين يزاولون الأعمال التجارية، ووثائق الديون، وغيرها من
المعاملات المالية؛ لأنها كانت تتم في مجامع الرجال التي لا يغشاها النساء،
فنادراً ما كان يتاح للمرأة أن تحضر هذه المجالس أو تباشر العمل في المجالس
التجارية، ولهذا كان الرجل أكثر إلماماً بتفاصيلها وجزئياتها من المرأة، وبالإضافة
إلى هذا، فقد كانت المرأة تعيش في مجتمع لا تعرف معظم النساء فيه القراءة والكتابة.
وعليه فالآية السالفة الذكر نزلت في مجتمع له ظروفه ومتغيراته ، فلو تغير المجتمع
فللفقهاء مجال واسع في ميدان الاجتهاد في هذه المسألة ، وليس هنا مجال للاعتراض
على هذا بأن ذلك يفيد بأن القرآن أصبح غير صالح في المجتمعات المتقدمة ، لأنه ليس
كل النساء في هذه المجتمعات قد أصبحن بتعليمهن وخبرتهن قادرات على أداء الشهادة
مثل الرجل ؛ فضلاً عن أن كثيراً من المجتمعات لازال وضع المرأة الثقافي والإدراكي
فيها لا يختلف عن وضعها في المجتمع العربي وقت نزول القرآن الكريم ، فيقدر لكل مجتمع
قدره ، خاصة وأن الأوامر في الآية هي للنصح والإرشاد وليست للوجوب
كما بينا سابقاً ؛ فالنص جاء بشأن الدَّيْن لأَجَل ، وتوضح الآيات سبب اشترط
المرأتين : أن تذكر إحداهما الأخرى ، مما يدل على أن شهادتها التي ستقدمها عند
الاقتضاء تكون تصديقاً لما كُتِب - بوثيقة الدَّيْن – بما سمعته من إملاء صاحب
الحق على الكاتب ، وهذا يعنى أنها امرأة أُمِّيَّة ، وسيلتها في استعادة ما سبق
حدوثه هو الذاكرة فقط ، فإن تغير الوضع تغير الحكم .
وعليه
يكون قياس شهادة المرأة في جميع الشئون التي لم يرد فيها نص على ما جاء في سورة
البقرة هو اجتهاد فقهى محدود بفكر المجتهد وظروف عصره، وهذا أمر غير مطلق، لأن
المصلحة متغيرة بتغير الزمان والمكان والأحوال، وتجميد آراء الفقهاء وعدم مراعاة
الواقع المتغير أمر لا يستفيد منه المجتمع ولا الدِّين؛ لأن فيه ابتعاد عن جوهر
الدِّين.
وعلى
ضوء ما سبق نؤكد أن شهادة المرأة كشهادة الرجل وجب قبولها في كل الميادين دون
تنصيف أو تعطيل لها في بعض المواضع .... [8]
ومن
هذا العرض يتبين ما يلي:
1.
أن قبول
الشهادة لا يتوقف على كون الشاهد ذكراً أو أنثى، وإنما مرجعه إلى مدى خبرة الشاهد
بموضوع المشهود عليه.
2.
سماح العادات
والتقاليد الاجتماعية باطلاع الشاهد على ظروف وملابسات ما يشهد عليه.
3. قدرة
الشاهد على إدراك عناصر ومضمون موضوع الشهادة، ووعيه بملابسات ظروف المشهود عليه،
وإلمامه بتفاصيله.
وعليه فنص الآية على أن شهادة امرأتين تعدل شهادة
رجل تنحصر في حالة خاصة وهي توثيق الدَّيْن في مجتمع لا يعرف القراءة والكتابة،
ولا يبيح للمرأة -في غالب الأحوال – الاطلاع على مسالك ودروب التعامل في الأمور
المالية، فهي تخاطب صاحب الدين فتنصحه بأن يتخذ من الإجراءات ما يحمى دينه، فإن لم
يكتب وثيقة الدَّيْن، فلا شيء عليه؛ لأن الأمر ليس للوجوب، فهو لا يخرج عن كونه
نصيحة، وكذلك لو اكتفى بشهادة امرأة واحدة، لأن القرار له. أما إذا تعلق الموضوع
بقبول القاضي شهادة المرأة فهو راجع إلى اقتناعه بصدق الشاهدة وقدرتها على استيعاب
ما تشهد عليه، فإن شك في هذا طلب أن تعضد شهادتها امرأة ثانية.
فما
جاء عن شهادة المرأة في هذه الآية ( 282 في سورة
البقرة ) ليس حصراً لطريق الشهادة وطرق الحكم التي يحكم بها القاضي، وإنما ذِكْرٌ
لنوعين ( كتابة وشهادة ) من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه ؛ فالآية نصيحة،
وتوصية ، وتعليم ، وإرشاد لأصحاب المال بما يحفظون به حقوقهم ، وما
تُحْفَظ به الحقوق شيء ، وما يحكم به الحاكم شيء آخر ، فإن طرق الحكم أوسع من
الشاهدين والمرأتين ، فهي تخاطب صاحب الدَّيْن ، ولا تخاطب القاضي، فلم يأت النص
على وجوب شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل في الآيات الأخرى التي تحدثت عن الشهادة ،
مثل قوله تعالى :
ﭐﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ [ المائدة: ١٠٦ ]
فالمطلوب
في هذه الآية شهادة اثنين سمعوا وصية أحد الأشخاص قبل أن يموت، ولم ينص فيها على
أن الشهادة لابد أن تكون من رجلين أو من رجل وامرأتين.
وقوله: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱠ [ النساء: ١٥ ]
فحددت الآية الشهود بأربعة، دون أي ذكر للحديث عن
وجوب كونهم ذكوراً أو إناثاً، كما ذكر ذلك أيضاً في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﱠ [ النور: ٤ ]
فهذا
في جريمة القذف، فالأولى أن تكون أيضاً في جريمة السرقة، والقتل وغيرها من الجرائم؛
فلو شهدت نساء مثل هذه الجرائم ، لا يعترف بشهادتهن ؟؟؟
كما
ساوى بينهن وبين الرجال في شهادة اللعان، وذلك في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ [ النور: ٦ - ٩
]
فشهادتها
تساوى شهادته في إثبات دعواها بأنه من الكاذبين، دون حاجتها إلى شهادة امرأة ثانية
تعضد ما تشهد به.
وجملة
القول : أن الآية التي ذُكِرَ فيها : أن شهادة امرأتين تساوى شهادة رجل واحد ،
اشتملت على أحد عشر أمراً، منها اثنان للوجوب ، وهما: " ﱟ "
و " ﳆ ﳇ ﳈ " ، أما التسعة الأخرى فنرى أنها وصايا
لصاحب الدَّيْن لحفظ ماله ، وليست تشريعاً ، وعليه فللقاضي الحرية
في قبول شهادة المرأة الواحدة إذا تبين له صدقها ، وإذا شك في ضعف وعيها وعدم
إدراكها لموضوع الشهادة طلب تعضيدها بامرأة أخرى ؛ إذ ليس من المقبول منطقاً ، ولا
من المسلم به شرعاً ، أن نُلْزِم القاضي بطلب تعضيد شهادة امرأة على درجة عالية من
الثقافة والوعى والإدراك : أن تؤكد شهادتها بشهادة امرأة أخرى معها ، بينما يقبل
شهادة رجل أمي ، ضعيف الإدراك في نفس القضية ، دون أن يطلب ما يعضد شهادته بشاهد
ثانٍ معه .
أ.د/ محمد شامة
[1] ) لا يقتصر هذا على الأفراد، بل تمارسه الدول بشكل صريح وعدواني؛
إذ يلاحظ أن كثيراً من الحكومات والمؤسسات الرأسمالية يستخدمون كافة الوسائل
والسبل للاستحواذ
على ثروات الشعوب الضعيفة ونهب ثرواتها.
[2] )
راجع دكتور على أبو البصل: شهادة النساء، مجلة جامعة دمشق، المجلد السابع عشر
بالعدد الثاني 2001م صـ 144.
[4] ) قارن! الطبري: جامع
البيان في تفسير الأحكام جـ 3 صـ 77، و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم جـ 1 صـ 594.
[5] ) الخراساني
(عبد الله بن محمد البشري): الوافية في أصول الفقه – مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة
الأولى، 1412ه.
[8] ) راجع أحلام محمد
إغبارية: شهادة النساء صـ 235 نقلاً عن رضوان: المرأة بين الموروث والتحديث صـ
130، و134,و140.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق