تعدد الزوجات في الأديان السماوية
أ. د/ محمد شامة
كثر الحديث في
الأوساط الثقافية عن تعدد الزوجات باعتباره مشكلة في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك
بعد ظهور حركات تحرير المرأة في أوربا وتأثيرها على المجتمعات الإسلامية التي
اتصلت بها ثقافياً في ظل الاستعمار الغربي. ومنذ ذلك التاريخ أصبح تعدد الزوجات من
الموضوعات الرئيسة التي يدور النقاش حولها على جميع المستويات الثقافية بين
المنادين بتحرير المرأة وبين علماء الدين؛ إذ يرى علماء الدين أن تحديد الزواج
بواحدة يسبب ظهور الفحشاء في المجتمع، علاوة على أنه يعارض نصاً صريحاً من القرآن
الكريم.
أما أنصار تحرير المرأة فيذهبون إلى أن تعدد
الزوجات دليل على تخلف المرأة وانحطاطها في المجتمع ؛ إذ ينتشر التعدد في الأوساط
غير المتعلمة ، أو التي لم تنل المرأة فيها قسطاً وافراً من التعليم ، حيث يعدد
الرجل كلما كان قادراً على إعالة أكثر من امرأة مادياً ، ويأخذ في الانحسار كلما
زاد حظ المرأة من التعليم ، إذ يصعب على المرأة المتعلمة أن ترضى بمشاركة غيرها في
زوجها ، ففي الأوساط المتعلمة يصبح الاقتصار على زوجة واحدة سلوكاً أخلاقياً ، كما
أن الجانب الاقتصادي يلعب دوراً هاماً في مجال ظاهرة تعدد الزوجات .
يرفض المحافظون
هذا التحليل، مستندين إلى أن التعدد ظاهرة اجتماعية من ناحية، ومن جانب آخر فقد
مارسته – وما زالت تمارسه – المجتمعات منذ القدم، على مستوى كل الشعوب، وفى ظل
جميع الأديان؛ إذ يمارس التعدد بصور مختلفة في المجتمعات، فالإسلام أباحه بواسطة
عقد الزواج، بينما أباحته المجتمعات – التي سنت قانوناً يحرمه – بصور أخرى، فعلى
سبيل المثال: العلاقة الحرة خارج الإطار القانوني للزواج، أو الحرية الجنسية مع
عدد من النساء، أو في حالة – وإن كانت
نادرة – تبادل الزوجات .......وغيرها. كل هذه العلاقات بين الرجل والمرأة تقرها
المجتمعات، التي حددت الزواج بواحدة من الناحية القانونية، باعتباره حرية فردية
يقرها القانون، ولا " يستنكرها " المجتمع، فضلاً عن تحريمها.
يستنكر علماء
الإسلام والمؤيدون للتعدد هذا الرأي، ويرون أنه لا يعبر عن تحرير المرأة، معللين
ذلك بأن التعدد ضرورة اجتماعية لحماية المرأة، لأن كثيراً من النساء يعانين في
حياتهن. هذه حقيقة مؤكدة، ومنتشرة في جميع الشعوب، ولن يرفع عدم التعدد عنهن هذه
المعاناة، لأن حياة المرأة غير المتزوجة أكثر بؤساً من حياة المتزوجة، فالسماح
للرجل بالتعدد يحميها من حياة العزوبية البائسة، ويحافظ على كرامتها في ظل حياة
زوجية كريمة، تتمتع فيها بالحقوق الإنسانية.
ومن المسلم به
أن التعدد يختفى من الناحية العملية في المجتمعات التي يكون عدد الرجال فيها أكثر
من عدد النساء؛ إذ من النادر – بل يكاد يكون من المستحيل – أن ترضى امرأة أن تكون
زوجة ثانية -فضلاً عن ثالثة ورابعة -مادامت متأكدة من أن قطار الزواج لن يفوتها،
نظراً لوجود العدد الزائد من الرجال. وكذلك الحال لو كان عدد الرجال مساوياً لعدد
النساء. لكن التعدد يكون قابلاً للظهور في المجتمعات التي يزيد فيها عدد النساء
على عدد الرجال، فلو حُرِّمَ التعدد في هذه المجتمعات لظل عدد من النساء بدون زواج،
فماذا يفعل هؤلاء لإشباع الغريزة الجنسية؟ أيترهبن؟، بمعنى الاستغناء
عن مباشرة الحياة الجنسية، وهو أمر لا تستطيع كل واحدة الالتزام به، لأن الجنس غريزة
لا يقوى كل إنسان على كبتها، فإن استطاع عدد منهن -وهو بلا شك نسبة قليلة جداًّ –
الرهبنة، فسوف تعجز عنه الأكثرية.
فما هو الحل البديل؟
أيسمح لهن
المجتمع بأن يقتنصن الأزواج من زوجاتهم لقضاء ساعات معهم بعيداً عن أعين الناس، ثم
ينصرفن ذليلات كسيرات؟
أم يبيح لهن
الاقتران بأزواج اقتراناً قانونياًّ أمام الناس، ويكون لهن ما للزوجات الأول من
حقوق والتزامات؟
وما هو الأكرم
للزوجة الأولى؟ أأن تكون مخدوعة في ظل نظام الزوجة الواحدة، حيث بظهر لها زوجها
أنها الوحيدة في حياته، بينما يخونها مع عشيقته، فتكون حياتهما قائمة على أسس لا
أخلاقية، أم يكون من الأفضل لهما نفسياًّ أن تستمر حياتهما على أسس سليمة، وذلك
بأن تعرف الزوجة علاقة زوجها القانونية بالزوجة الأخرى، فلا تشعر يوماً بأن في
حياتهما جانباً لا يمكنها الاضطلاع عليه، فتهدأ نفسياًّ بهذا الوضوح في علاقتهما و
ارتباطهما الروحي، حتى وإن كان الزوج ليس لها وحدها، بل يشاركها فيه امرأة أخرى؟
وهل يكون من الأفضل للمرأة الأولى أن يطلقها الرجل
ليتزوج غبرها إن كانت عقيماً، أو عندما تصاب بمرض يتعذر عليها معه القيام بواجبها
كزوجة، أو يبقيها تحت رعايته ويتزوج غيرها لتقوم بما عجزت هي عن القيام به؟
ثم هل يكون من
الإنسانية أن يترك الرجل قريبة له في مهب رياح الحياة، أو بضمها إلى زوجاته
ليشملها برعايته وعنايته؟
ومن هذا كله
يبدو أن تعدد الزوجات هو لصالح المرأة قبل أن يكون وسيلة لإشباع رغبة الرجل، كما
أنه في صالح المجتمع ككل، لأن تحريم التعدد يضع العدد الزائد من النساء في موضع
يجعلهن مصدراً لإشاعة الفحشاء والمنكر، فالتعدد علاج ووقاية؛ علاج للأمراض التي قد
تصيب العانسات منهن، ووقاية للمجتمع من أن تنتشر فيه ظاهرة الخليلات والعشيقات، وهي
ظاهرة تهدد الأسر بالتفكك والانحلال.
ولهذا
أباحته الأديان السماوية
فقد جاء في
التوراة أن سليمان u كان له 700 (سبعمائة) زوجة،
و300 (ثلاثمائة) أمة: " وكانت له -أي سليمان – سبعمائة
من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري"[1]،
كذلك جمع يعقوب u
بين امرأتين، هما: راحيل
وليئة، ومعهما اثنتان من السراري، هما: سيلبا وبلهة. ولم يكن التعدد قاصراً على
الأنبياء، بل مارسه أناس عاديون، فقد جاء في التوراة: " واتخذ لامك لنفسه
امرأتين. اسم الواحدة عادة واسم الأخرى صلة ... وقال لامك لامرأتيه عادة وصِلَّة:
اسمعا قولي يا مَرْأتي لامك وأصغيا لكلامي".[2]،
فهذا يدل على أن التعدد كان مباحاً في شريعة موسى u .
ولم يرد نص في الإنجيل يدل صراحة على أن
التعدد حرام، وإنما يعتمد المسيحيون في تقييدهم الزواج بواحدة، على نصوص يؤولونها
تأويلاً بعيداً عن مفهومها، وعن السياق التي وردت فيه؛ فقد قالوا:
" إن تعدد الزوجات هو على نوعين:
تعدد الزوجات في وقت واحد، وتعدد الزوجات بالتتابع، فتعدد الزوجات في وقت واحد،
يقوم بأن يكون الرجل مقترناً بأكثر من امرأة، ويعيش معهن في آن واحد، بينما تعدد
الزوجات بالتتابع، يقتصر على أن يكون للرجل زوجة واحدة، ولا يقترن بأخرى، إلا إذا
توفيت الأولى، أو حل من ارتباطاته بها. فتعدد الزوجات بالتتابع معناه إذن: أن
الرجل ليس مقترناً إلا بامرأة واحدة. والديانة المسيحية ما عرفت قط – وما أمكنها
أن تعرف – تعدد الزوجات في وقت واحد، ولكنها عرفت تعدد الزوجات بالتتابع، وهذا لا
يسمى تعدد زوجات.
" جاء في الإنجيل المقدس أن
التلاميذ سألوا السيد المسيح:
" هَلْ
يَحِلَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لأَيَّةِ عِلَّةٍ كَانَتْ؟ "،
فَأَجَابَ: " أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الْخَالِقَ مُنْذُ الْبَدْءِ
جَعَلَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى، وَقَالَ: لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ
وَأُمَّهُ، وَيَلْزَمَ امْرَأَتَهُ، فَيَص ِيرُ الاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً، لاَ
يُفَرِّقَنَّ الإِنْسَانُ مَا جَمَعَهُ اللهُ ". [3]
لم يقل السيد المسيح u "
ويلزم نساءه "، بل " امرأته " أي " رجل واحد " "
امرأة واحدة "، والاثنان يصيران جسداً واحداً.
والرجل الذي اقترن بامرأة قراناً
صحيحاً، لا يحق له أن يطلقها، أو يحل الارتباطات التي بينه وبينها، ويتزوج امرأة
أخرى ثانية:
" مَنْ
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا زَنَى، وَمَنْ تَزَوَّجَ الَّتِي
طَلَّقَهَا زَوْجُهَا زَنَى ". [4]
" كلنا نعلم أن لا زنا من قبل
الرجل، الذي يعيش مع امرأة، ومع نساء عقد معها أو معهن زواجاً صحيحاً. فبما أن
الحياة مع امرأة ثانية، هو في الديانة المسيحية زناً. معناه أن تعدد الزوجات، في
آنٍ واحد ممنوع قطعاً. هذا ما جاء في الإنجيل، وهذا ما نجده بحرفيته في رسالة بولس
إلى أهل رومية، حيث قال:
"
فالمرأة المتزوجة تربطها الشريعة بالرجل مادام حياً، فإذا مات حلت من شريعة الزوج،
وإن سارت إلى رجل آخر، وزوجها حي عدت زانية، وإذا مات الزوج تحررت من الشريعة، فلا
تكون زانية، وإن صارت إلى رجل آخر".[5]
ويقول أيضاً:
وقد رُدَّ على ذلك بما يلي:
جاء في التوراة في مواضع متعددة ما يفيد
تعدد الزوجات، ولا ينكر رجال الدين المسيحي ذلك، وهم مُلزَمون به، قال السيد
المسيح:
" لاَ تَظُنُّوا أَنِّى جِئْتُ
لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ ، مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ ، بَلْ
لأُكَمِّلَ ، فَإِنّيِ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ : إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ
وَالأَرْضُ ، لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ
النَّامُوسِ ، حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ ، فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ
الْوَصَايَا الصُّغْرَى ، وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِى مَلَكُوتِ
السَّمَوَاتِ ...... فَإِنِّي أقُولُ لَكُمْ : إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ
بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ ". [7]
ما هو الناموس الذي لم يأت السيد المسيح
لنقضه، إذا لم يكن المقصود به التوراة؟، ألا يدل قوله: " لا يزول حرف واحد
.... الخ " على أن المراد به التوراة؟ إذن، فالمسيحيون ملزمون بأحكام
التوراة – حسب رأى أغلبية من علماء الدين – إلا إذا ورد في الإنجيل ما يناقضها.
وقد ذكر "
Stauffer " في
كتابه " Botschaft " أن
رسالة المسيح كانت أخلاقية، ولم تكن لسن قوانين، وإصدار تشريعات، ودلل على ذلك بما
جاء في إنجيل لوقا:
" وَقَالَ
لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ! قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي
الْمِيرَاثُ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِنْسَانُ! مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً،
أَوْ مُقَسِّماً " [8]
ثم عاد – أي Stauffer – فبين أن
عيسى u
شَرَّع أخلاقيات جديدة،
وصاحبها إبطال مقابلها في التوراة، ثم ذكر سبع نقاط أساسية، خالف فيها الإنجيل
التوراة، والمقام يقتضينا أن نذكر منها نقطتين تتعلقان بموضوعنا:
1. عقوبة الزاني في التوراة: القتل، كما جاء في سفر
اللاويين[9]، خالف الإنجيل التوراة في هذا، وترك الزانية بدون عقاب.
[10]
ولم يذكر " Stauffer " –
كما لم يذكر أحد من الباحثين في المسائل الدينية – أن الإنجيل خالف التوراة في
تعدد الزوجات. ولو كانت هناك فقرة واحدة تفيد هذا صراحة، لملئت بها صفحات وصفحات
لبيان مسايرة المسيحية في أصولها، للاتجاه الأوروبي في مقابل الإسلام.
أما ما تستشهد
به الكنيسة من فقرات الإنجيل كدليل على تحريم تعدد الزوجات، فلا يدل دلالة صريحة
على هذا التحريم، بل على تحريم الطلاق؛ فصيغة الإفراد التي وردت في إجابة عيسى u
، جاءت لتماثل صيغة الإفراد في سؤال التلاميذ ، فلو فرض أن التلاميذ،
وضعوا سؤالهم على هذا النحو : " أيحل لأحد أن يطلق نساءه لأية علة كانت ؟
"، فلربما أجابهم السيد المسيح: " .... ويلزم نساءه ...".
فالإفراد كان لمطابقة مثيله في السؤال،
وظروف النص، تبين بوضوح أنه لتحريم الطلاق، ولا يفهم منه تحريم تعدد الزوجات، إلا
بتأويل متعسف.
أما الفقرة الثانية: " من طلق امرأته
وتزوج غيرها زنى، ومن تزوج التي طلقها زوجها زنى ".
إذا فهم تحريم
التعدد من الجملة الأولى، فلن يفهم من الثانية، لأنه ربما يكون الرجل الذى تزوج
المطلقة ليس معدداً، لأنها بالنسبة له زوجة أولى، فلِمَ كان زانياً، فهو لم
يعدد ...
كان زانياً
لأنه دخل بامرأة، لازالت في عصمة آخر، لأن الطلاق لم يعترف به، لا لأنه عدَّد
الزوجات. إذن، فملابسات النص بأكمله تصرفه إلى تحريم الطلاق.
وقول بولس لا يدل
على تحريم تعدد الزوجات، إلا إذا صيغ على الوجه التالي: " فليكن لِكُلِّ رجلٍ
امرأةٌ، ولِكُلِّ امرأةٍ زوجٌ." ولا يخفى الفرق بين التعبيرين على علماء
اللغة.
إذاً كان
تحريم الكنيسة تعدد الزوجات لا يستند إلى نص صريح، فمن أين جاء؟
نجد إجابة هذا
السؤال فيما نقله الدكتور عبدالواحد وافى في كتابه: " قصة الزواج والعزوبة في
العالم " عن: " Westermarck " :
" ....
وقد أخذ بهذا النظام (الزوجة الواحدة) كثير من المجتمعات الإنسانية قديمها
وحديثها، متحضرها، وبدائيها، وساد على الأخص في العصور القديمة عند اليونان
والرومان، ويسير عليه في العصر الحديث جميع الأوربيين، وسلالاتهم بأمريكا
واستراليا وغيرهما. وقد جعلته المسيحية المثل الأعلى للزواج وإن لم يرد في الإنجيل
نص صريح يدل على تحريم تعدد الزوجات. وإذا كان قدامى المسيحيين قد ساروا على نظام
وحدة الزوجة، فما ذاك إلا لأن معظم الأمم الأوربية التي انتشرت فيها المسيحية في
أول الأمر كانت تقاليدهم تحرم تعدد الزوجات، وقد سارت بعد اعتناقها المسيحية على ما
وجدت عليه آباءها من قبل، فلم يكن وحدة الزوجة نظاماً طارئاً، جاء به الدين الجديد
الذي دخلت فيه، وإنما كان نظاماً قديماً جرى عليه العمل في وثنيتها الأولى ".
[13]
تلك هي سياسة
الكنيسة في نشر عقائدها، تحرم، وتحلل، لترغيب الناس في اعتناق المسيحية، ثم يصير
ما حللته، أو حرمته – بمرور الزمن – شريعة، تدافع عنها الأجيال اللاحقة، كأنه منزل
من السماء، ولم يكن سوى تحريفاً لشريعة الله.
ولم تكف
الكنيسة عن اتباع هذا الأسلوب إلى اليوم، فهي تغض الطرف عن تعدد الزوجات بين
المسيحيين في إفريقيا، حتى القسيس في الكنيسة الإفريقية تُجَوِّز له أن يتزوج أكثر
من امرأة، بينما يحرم هذا على زميله في أوروبا، فأيهما المسيحية، أتحريم التعدد
على المسيحيين في أوروبا، أم جوازه لشركائهم في العقيدة في إفريقيا؟
لا نجد عندهم
جواباً سوى أنهم أحلوا تعدد الزوجات في إفريقيا، ليكسبوا أتباعاً، وإلا خسروا المعركة
أمام الإسلام، لأن عادة الإفريقيين التعدد، والإسلام يبيحه، فإذا هم تمسكوا بتحريمه،
فلن يعتنق أحدٌ المسيحيةَ في إفريقيا إلا نادراً.
أما في الإسلام
فقد جاءت إباحة التعدد في آية واحدة، هي قوله تعالى: ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﱠ
[ النساء: ٣ ]
وللمفسرين فى هذه الآية آراء :
الأول : روى عن عروة أنه قال : قلت لعائشة
: ما معنى قوله : "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" ، فقالت
: يا ابن أختى ! هى اليتيمة ، تكون فى حجر وليها ، فيرغب فى مالها وجمالها ، إلا
أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه
بأنه ليس لها من يذب عنها ، ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : وإن خفتم أن
تظلموا اليتامى عند نكاحهن ، فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ....
الثانى : أنه لما نزلت
الآية المتقدمة فى اليتامى وهى قوله تعالى :
"وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيراً" [
النساء: ٢ ]
، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط فى حقوق
اليتامى ، فتحرجوا من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج
وأكثر ، فلا يقوم بحقوقهن ، ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل فى
حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء ، فَقَلِّلُوا
عدد المنكوحات . من تحرج من ذنب ، أوتاب
عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج .
الثالث : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم ، فقيل : إن خفتم
فى حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ، ولا تحوموا
حول المحرمات . [14]
الرابع :ماروى عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده النسوة ويكون
عنده الأيتام ، فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجاً ، أخذ
فى إنفاق أموال اليتامى عليهن ، فقال تعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" عند كثرة الزوجات ، فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من
أربع كى يزول هذا الخوف ، فإن خفتم فى الأربع أيضاً فواحدة ، فذكر الطرف الزائد
وهو الأربع ، والناقص وهو الواحدة ، ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه تعالى قال :
فإن خفتم من الأربع فثلاث ، فإن خفتم فاثنتان ، فإن خفتم فواحدة ، وهذا القول أقرب
، فكأنه تعالى خَوَّفَ من الإكثار من النكاح بما عساه يقع من الولى من التعدى فى
مال اليتيم للحاجة إلى الإنفاق الكثير بالعدد الكثير . [15]
فإباحة التعدد فى الإسلام مشروطة بالعدل
مع وجود الحاجة إليه يقول حجة الإسلام الإمام
الغزالى : " ومن الطباع ما تغلب عليه الشهوة ، بحيث لا تحصنه المرأة
الواحدة ، فيستحب لصاحبها الزيادة عن الواحدة إلى الأربع ، فإن يسر
الله له مودة ورحمة ، واطمأن قلبه بهن و إلا فيستحب له الاستبدال ......ومهما كان
الباعث معلوماً ، فينبغى أن يكون العلاج بقدر العلة ، فالمراد تسكين النفس ،
فلينظر إليه فى الكثرة والقلة " ، ويشير الغزالى بهذا إلى أن التعدد لتحصين
النفس أمر مرغوب فيه شرعاً ، أى مع أخذ النفس بالعدل الواجب بين الزوجات ،
ويشير أيضاً إلى أن الذين يعددون زوجاتهم لمجرد الانتقال من ذوق إلى ذوق ، دون
حاجة إليه لتحصين النفس ، وعفتها عن
المحرم يعملون عملا تأباه الشريعة ، ويمقته أدب الدين .[16]
ومن هذا يتبين أن الأديان السماوية
الثلاثة : اليهودية والمسيحية والإسلام ، أباحت التعدد ، لأنه ضرورة اجتماعية ،
وإجراء وقائى كى تهيئ للناس وسيلة من وسائل السعادة ، وفى الوقت نفسه تحافظ على
المجتمع حتى لا ينهار ويضيع فى سراديب الرذيلة وأخاديد الإباحية الجنسية المدمرة.
أ.د/ محمد شامة
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق