العلاقات الاجتماعية في الإسلام دعم للوحدة في المجتمع
تخضع
العلاقات بين الكائنات الحية لعوامل شتى، واتجاهات متعددة، وتنطلق من أسس متفاوتة
المصادر والمنابع، وظروف مختلفة الملامح والأشكال، فتتحكم فيها منازع الكائنات
الحية المتنافرة، وتصيغها رغبات الأنواع والأجناس، وتوجهها ميول الأفراد يميناً أو
شمالاً، وتطبعها الجماعات بطابعها التي ترى فيه أنه يعود عليها بفائدة، أو يمدها
بأسباب البقاء، فيحميها من عوامل الفناء والهلاك.
ومن
هنا يميل الباحثون فب علم " الأنثروبولوجيا " (أي علم الإنسان) إلى
الاعتقاد بأن الصراع بين الكائنات الحية هو قانون الحياة، فلا يكتب البقاء إلا لمن
يتغلب على من حوله. فالبقاء للأقوى، كما أن عملية الصراع بين هذه الكائنات الحية هي
" ديناميكية " التطور.
أثر
هذا المفهوم للعلاقات بين الكائنات الحية على فكر بعض المجموعات البشرية، فاعتنقت مبدأ
التفوق بين الأجناس البشرية، ففضلت جنساً على آخر في الحقوق والمعاملات، وكذلك في
التقييم الإنساني.
وكان
من جراء ذلك أن ظهر بين الناس صور من المعاملات، لا تتفق مع ما تتطلبه واقعية
الانتماء إلى جنس واحد، هو أصل للناس جميعاً؛ إذ شاع بينهم نعرة استعلاء شعب على
آخر، وسيطرت على أذهانهم عقيدة التفاضل بين المجموعات البشرية، على أساس اللون، أو
البيئة، أو العقيدة. واتخذ سلوكهم مسار استئثار الأفضل بكل أنواع الخيرات الموجودة
على ظهر الأرض، بحيث لا يترك لمن هو " أدنى " في البشرية إلا ما يسد به
رمقه، أو ما يحفظ عليه حياته في حدود ما يؤدى لمن هو فوقه من خدمات، أي أن ما يترك
له، ليس إلا من زاوية حفظ قدرته لتنتفع بها المجموعة الأفضل، فهو بمثابة الحيوان
الذي يقدم له الطعام، كي يقوى على تأدية ما يطلب منه من خدمات.
ونشأ
عن هذا الوضع في العلاقات الإنسانية صراع بين من يملك ومن لا يملك ، ونزاع بين
الذين استولوا على كل ما حولهم من الخيرات ، وبين المحرومين الذين لا يجدون ما
يقتاتون به ، مما جعل الهوة في العلاقات الاجتماعية سحيقة وعميقة ، لا تجد لها
شطآناً ترتكز عليها الصلات الأخوية بين الناس ، ولا قراراً تقف عليه دعائم المحبة
والمودة بينهم ؛ إذ لا توجههم إلا المنافع المادية ، فلا يميلون إلا حيث ينعمون
مادياً ، ولا يأنسون إلا لمن يجنون من ورائه مكسباً يزيد من ثرواتهم ، أو جاههم
وسلطانهم ، وبهذا ضاعت ملامح العلاقات الإنسانية ، وتلاشت عاطفة الأخوة بين الناس
، فأصبحت نفس الإنسان نهمة ، تلهث وراء المادة ، وتجرى وراء الشهوات الجسدية ،
والملذات الجنسية ، حتى أصبح المجتمع البشرى أشبه بغابة ، يتحكم فيها القوى ،
ويسود فيها كل من تجرد من المعاني السامية ، وتعرى من كل أردية الشرف والفضيلة.
ومن
هنا كانت تعاليم الإسلام في مجال العلاقات الاجتماعية ضوابط تمنع الإنسان من التردي
في المجال الذى يبعده عن الشعور بالأخوة الإنسانية، أو يثنيه عن تأدية ما يقوى
الروابط الإنسانية بينه وبين أهله، أو يدعم روح التعاون بينه وبين بنى وطنه، أو
بينه وبين البشر جميعاً.
فهي
توصيه بالوالدين وبالأقربين، كما تأمره بمساعدة الضعفاء والمساكين، وتقديم العون
لكل صاحب حاجة، سواء كان قريباً منه أو بعيداً عنه، فمادام يطلب العون، وهو قادر
على توصيل هذا العون له، فيجب عليه القيام بذلك، وقد وردت آيات وأحاديث تحث على
تأدية هذا الواجب:
ففي
باب الوصية بالوالدين يقول الله تعالى:
ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﱠ[
الإسراء: ٢٣ – ٢٤] .
ولا
ينبغي أن تتأثر معاملة الابن لوالديه باختلاف العقيدة، فلا تباين العقيدة، أو الرأي
سبباً في الإساءة إليهما، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱠ [ العنكبوت: ٨] .
ويقول : ﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ [
لقمان: ١٥] .أي
على الرغم من كفرهما ، ومحاولة ثنيك عن الإيمان بالله ، ينبغي أن تعاملهما برفق ،
وأن تقدم لهما العون ، فتذلل كل عقبة تعترض سبيلهما ، وتلبى رغباتهما ، إذ معنى
المصاحبة أن تساعدهما على تخطى ما يعترضهما من صعاب ، وأن تكون لطيفاً في معاملتك
لهما .
وكما
وصى القرآن الكريم الأبناء بالإحسان إلى الآباء، فرض الإسلام على الآباء حسن تربية
الأبناء، فأمر أن يختار الأب لابنه أفضل الأمهات، بمعنى أن يحسن اختيار زوجته التي
ستكون أمًّا لأولاده، حتى لا يجد الأبناء غضاضة في نسبتهم إليها، أو يشعروا بنقص،
لو كان في حياة الأم ما يشينها في المجتمع، وذلك امتثالاً لقول رسول الله e : " تخيروا لنطفكم فإن العرق
دسَّاس ". وقد جاء نص الحديث في ابن ماجة على هذا النحو: "
تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم".
كذلك
أوصاه بأن يختار لأولاده أحسن الأسماء، فلا يطلق عليهم أسماء تحمل في معانيها
جانباً من جوانب الانحطاط في المجتمع، أو تبعث على السخرية والاستهزاء بهم، وأن
يسعى سعياً حثيثا في عمله، حتى يهيئ لهم تربية حسنة، سواء كان ذلك في
المأكل أو الملبس أو السكن، وأن يعمل جاهداً على تعليمهم وتثقيفهم بقدر المستطاع،
حتى يكونوا أعضاء صالحين في المجتمع، يستطيعون كسب قوتهم -بعد بلوغهم سن العمل –
من عمل شريف، فيقدمون بذلك خدمة لمجتمعهم ولأمتهم.
ولا ينسى الأب في جميع مراحل تربيتهم أن يكون
رحيماً بهم، عطوفاً عليهم، مرشداً لهم إلى الطريق المستقيم. وصدق رسول الله e إذ يقول: "
ليس منا من لم يرحم صغيرنا "[1] ،
فالرحمة بالصغير تشمل فيما تشمل حسن تربيته وتعليمه ، والمحافظة عليه من قسوة
الدهر صغيراً ، ورعايته وتوجيهه شاباً ، والإبقاء على حسن العلاقة معه كهلاً .
أما
العلاقة بين الزوج وزوجته، فقد رسمها القرآن الكريم على أساس حسن المعاشرة، ورعاية
كلٍّ منهما لحقوق الآخر، وقيام كل طرف بما عليه من واجبات تجاه الآخر، فلو التزم
الجانبان بما رسمه القرآن الكريم لهما، لرفرفت أجنحة السعادة على حياتهما الزوجية،
ولعاشى في حب وسعادة، يحدوهما الأمل في المستقبل، ويحف بهما النجاح في كل ما
يباشرانه من عمل.
فقد
وصى الإسلام الرجل أن يظهر لخطيبته ما يؤكد لها أنه يحبها، وذلك يكون-بالإضافة إلى
الظواهر العاطفية التى تبدو على ملامح الخطيب عند اللقاء – بتقديم الهدايا لها،
ولو كانت غير ذات قيمة من الناحية المادية، لأن قيمتها بين المحبين تكون فيما تعبر
عنه من مشاعر تجاه الطرف الآخر، يقول رسول الله e:
التمس ولو خاتماً من حديد " [2] أى أعطها شيئاً ، حتى ولو كان ما تعطيه خاتماً
من حديد ، لأن ذلك يغرس في قلبها المودة والمحبة .
وما
يشاع في الغرب عن الإسلام من أنه فرض مهراً على الرجل، ليشتري به المرأة ليس
صحيحاً، لأن المهر ليس إلا رمزاً للحب والائتناس بالزوجة، حيث يشعرها بأنه راغب
فيها، ومستعد للتضحية في سبيل إرضائها، وما يقدمه لها هو ملكها لا يأخذه أحد منها،
فلا ينطبق عليه أركان الشراء الذي يزعمونه.
فإذا
انتقلت معه إلى بيت الزوجية، فإن السلوك القائم على احترام كلٌّ للآخر، وحفظ حقوق
كل طرف، هو الإطار الذى رسمه الإسلام للحياة الزوجية، فقد أعطى المرأة الحق في أن
تحتفظ بمالها لنفسها، وتستثمره كما تشاء، دون أن يتدخل الرجل في فرض رأى عليها، أو
إرغامها على اتجاه معين، فهي مستقلة في المعاملات المادية استقلالاً تاماً. أما
إذا تنازلت هي عن هذا الحق عن طيب خاطر لزوجها، فلا يحرم الإسلام عليه ذلك.
كذلك
يفرض الإسلام على الرجل القيام بكل ما تتطلبه المعيشة من نفقات، دون أن يفرض على
المرأة شيئاً من ذلك، غير أنه حثها على مساعدة الزوج في هذا الجانب، إذا كان دخله
لا يكفى لمتطلبات الحياة، وذلك لا يكون من باب الإلزام الذى يؤخذ بحق القانون
والمقاضاة، بل من باب حسن المعاشرة، فمادامت هي شريكة حياته، فينبغي عليها من باب
الإنسانية أن تقدم له يد المعونة إن كان هو في حاجة إلى ذلك، وإلا أصبحت الحياة
بينهما فاترة، إن لم تصل إلى حد التنافر والتشاحن، وذلك مخالف لأمر الله I حيث
يقول:
ﱡﭐ
ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﭼ [ الأنفال: ٧٥] .
وقال
رسول الله e : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم
لأهلي " ، لأن من لا يرحم قريبه ، فهيهات أن يكون في قلبه رحمة لمن لا
يمت إليه بصلة قرابة ، ومن لا يقدم العون لمن هو أقرب إليه من غيره ، فنادراً ما
تكون لديه العاطفة التي تدفعه إلى مد يد المساعدة لمن يحتاج إلى المساعدة ، ومن
انتزعت من قلبه الرحمة على أهله ، وذوى عشيرته ، فقد الشعور الذى يوجهه إلى العطف
على الآخرين من بنى جنسه ، ولهذا كان منهج الإسلام في تربية الفرد قائماً على أساس
تعويد الإنسان على العطف والحنان لمن يليه في القرابة أولاً ، لأن ذلك أقرب وأسرع
في غرس مبدأ الانتماء إلى المجموع ، ذلك الانتماء الذى يشعر الفرد بأن كيانه مرتبط
بوجود الهيئة الكلية لعشيرته ، فيدفعه ذلك إلى المحافظة على كل فرد فيها ، ويغرس
فيه حب التعاون حتى لا يتصدع الكيان الذى ينتمى إليه ، فيكون فى ذلك فناء وضياع
لذاته أيضاً .
ولم
يطلب الإسلام من المسلم أن يرعى أقرباءه من الجانب المعنى فقط، بل حثه على تقديم
العون المادي لهم، لا على اعتبار أن ما يقدمه لهم من باب الإحسان على الفقراء
والمساكين، بل من زاوية أنهم أقرباؤه، لهم حق في ماله، ما داموا عاجزين عن كسب ما
يقتاتون به، يقول الله تعالى:
ﭐﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﱠ [ الروم: ٣٨]
ويقول
:
ﭐﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ فإن الله به عليم ) [ البقرة ٢١٥]
ويقول: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱠ
[
البقرة: ١٧٧]
فيفهم
من تقديم حق ذوى القربى في هذه الآيات على
حق غيرهم من الفقراء ، أن لهم المنزلة الأولى في تقديم العون المادي لهم ، إن
كانوا في حاجة إليه ، وما ذاك إلا لأن الإسلام يريد أن تبنى هذه العلاقة على أساس
متين ، لأنها اللبنة الثانية - بعد لبنة الأسرة الصغيرة – في المجتمع ، فلا يستقيم
حال أي مجتمع ، ويشتد عوده إلا إذا كانت الوحدات التي يتكون منها صلبة قوية ،
قادرة على مواجهة تيارات الحياة ، وتقلبات الزمن التي تعصف بكل بناء مفككة أوصاله،
وممزقة خيوط الروابط الأسرية فيه ، ولهذا جعل الإسلام لكل من يقدم شيئاً لقريبه أجران
: أجر القرابة ، وأجر الصدقة، فقد روى النسائي و الترمذي أن رسول الله e قال : " الصدقة على المسكين صدقة ،
وعلى ذي رحم ثنتان: صدق وصلة ".
كما
حث الإسلام على رعاية حق الجار، سواء كان ذلك في المعاملة، أو في تخفيف ما يعانيه
الجار من نوائب الدهر، وكوارث الزمن؛ إذ من حق الجار على جاره ألا يصدر منه ما
يؤذيه، أو ينغص عليه صفو هدوئه، فلا يحدث أصواتاً تزعجه، ولا يأتي من الأعمال ما
يلحق الضرر به، وذلك تنفيذاً لأمر الله I في كتابه العزيز ، حيث يقول:
ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ [
النساء: ٣٦] .
فجاءت
الوصية بالجار مع الوصية بعدم الإشراك بالله في آية واحدة، وما ذاك إلا لأهمية
علاقة الإنسان بجاره في التعاليم الإسلامية، لأنها الحلقة التالية -بعد حلقة ذوى
القربى – في السلسلة الاجتماعية، التي ينبغي أن تكون متماسكة، لتقوم الحياة على
أساس متين، وركيزة قوية. وما يؤكد أمر الإسلام بالإحسان على الجار قول رسول الله e فيما ترويه عائشة رضى الله عنها : "
مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ". [3]
فالإسلام
يطلب من المسلم أن يتأدب مع جاره والمشارك له في السكن، سواء كان هذا الجار مسلماً
أو غير مسلم؛ إذ يروى أبو ذر عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهم: أنه ذُبِحَت شاة في
بيته -أي بيت عبد الله بن عمر -، فقال: أأهديتم لجارى اليهودي؟ فإني سمعت رسول
الله e يقول: "
مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ".
فلا
يجوز لمسلم أن يأتي من الأفعال ما يؤذى جاره ، فلا يستعمل جهاز الراديو ، أو غيره
من الأجهزة على نحو يزعج جاره ، أو يعكر عليه صفو هدوئه ، أو يقلقه في فترات
الراحة ، أو يشوش عليه أثناء عمله الذى يحتاج إلى جو هادئ ، كذلك لا يستخدم
النوافذ والشبابيك استخداماً يسيء إلى أحد من جيرانه ، ولا يستعمل سيارته بطريقة
تقلق النائمين، أو تضايق الناس في مساكنهم ، فتحول بينهم وبين الاستمتاع بالهدوء
والراحة ، لأن من يفعل ذلك ، فإنه يرتكب إثماً ، قد يخرجه عن حظيرة الإيمان الكامل
، وذلك لما يرويه أبو شريح عن رسول الله e
أنه قال : " والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ..قيل من
يا رسول الله ؟ قال : الذى لا يأمن جاره بوائقه " [4]
كما ذكروا لرسول الله e
امرأة تصلى الكثير وتصوم الكثير ، ولكنها تؤذى جيرانها ، فقال : " هي في
النار " .
كل
ذلك ينطوي عليه الأمر بالإحسان إلى الجار؛ ذلك أن الإحسان يشمل -فيما يشمل – عدم
إيذاء الجار، أيًّا كان نوع هذا الإيذاء ومصدره، كما يتضمن محاولة التخفيف عنه، إذا
ألم به كرب، ومساعدته في حالة احتياجه إلى المساعدة، فلو ألمت بأحد مصيبة في عزيز
لديه، أو فيما عنده من مال وجب على الجيران أن يهرعوا لمساعدته، كلٌّ على قدر
طاقته. وكذلك لو كان فقيراً، ليس عنده ما يقتات به، فجيرانه مطالبون بالوقوف معه
لاجتياز محنته، فإن كان في حاجة إلى عمل، وجب على من يقدر على تدبيره له، أن يقوم
بهذا الواجب، وإن كان عاجزاً لا يقدر على كسب قوته وجب عليهم العمل على تدبير ما
يقتات به، ولا يتركونه يموت جوعاً، يقول رسول الله e:
" والله لا يؤمن ، من بات شبعان وجاره إلى جانبه جائع ، وهو يعلم ". [5]
ومن
الأحاديث التي فَصَّلت حق الجار على جاره ما رواه معاذ بن جبل، قال: قالوا: يا رسول
الله! ما حق الجار على جاره؟ قال: " إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك
أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنأته،
وإن مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه في البناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا
تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، وإن لم تفعل فأدخلها
سراً، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ". [6]
هذه
هي العناية بالجار، وهى الدعامة الأساسية في تكوين المرحلة الأولى لوحدة المجتمع،
إذ لو قامت وحدة بين الجار وجاره على أساس من المعاونة والمشاركة النفسية،
والوجدانية، والمادية، لأصبحت الجماعة التي تشيع فيها هذه الروح بين أفرادها من
أشد الجماعات قوة واتحاداً، وأكثرها إيجابية في حياتها الخاصة والعامة، وأصلبها
عوداً في مواجهة الأزمات، وأوفرها إنتاجاً في المجالات المختلفة، فتكون أسرع في
يناء صرح الحضارة الإنسانية، التي تنشدها كل شعوب الأرض.
إن
الإسلام حين يوصى بالجار خيراً، لا ينشد إلا سعادة الناس التي تنبع أساساً من
الطمأنينة في الحياة. ولاشك أن إحساس الإنسان بأنه لن يضيع بين جيرانه لهو المصدر
الأساسي في وجود الطمأنينة، التي تساعد على العمل المثمر، فتسعد القلوب، وتطمئن
النفوس.
لم
تقتصر تعاليم الإسلام على الحث على رعاية ذوى القربى والجار فقط ، بل شملت أيضاً
الوصية بأن تكون المعاملة بين المسلمين - أيًّا كان موقعهم في المجتمع – قائمة على
الأخوة ، التي تقضى يأن يحافظ الإنسان على شعور أخيه ، وأن يكون عوناً له ، عندما
يحتاج إلى مساعدة ، وذلك بأن يقف بجانبه عند الشدائد ، ويشد أزره في الملمات ،
ويكون درعاً يقيه شر المصائب ، وذلك امتثالاً لقول رسول الله e : " مثل المؤمنين في توادهم
وتعاطفهم وتراحمهم ، كمثل الجسد الواحد ،
إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ". [7]
فلا
يكمل الإيمان إلا إذا أحس المؤمن أنه عضو في كيان كلي: هو المجتمع، وأن واجبه المحافظة
على أفراد هذا الكيان، كما يحافظ على ذاته، لأن وجود ذاته لا تتحقق إلا إذا كان
الكيان الكلى الذى ينتسب إليه -وهو المجتمع – سليماً كله، لا يعتوره ضعف في أي
جانب من جوانبه، ولا تتفكك أوصاله بسلوك كل فرد طريقاً خاصاً به، بعيداً عن
الجماعة، وقد حذر الرسول من هذا العمل بقوله: " ...فإنما يأكل الذئب من
الغنم القاصية." [8]
كذلك
لا يكون الإيمان صحيحاً إلا إذا قامت العلاقة بين المسلمين على أساس من الصدق في
الشعور، فلا تكون المعاملة قائمة على الخداع والمواربة، والتناقض بين الظاهر
والباطن، والتضاد بين ما يخفى وما يعلن، فالمؤمن بالنسبة لأخيه صفحة بيضاء، واضحة
نقية، لا تنطوي على جوانب سيئة.
فكما حارب الإسلام الخداع فى علاقة المسلمين بالله ، فطلب منهم
أن يكونوا مخلصين في عبادته ، وذلك في قوله تعالى : ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹﱺ ﲙ ﱠ [ الزمر: ٢ – ٣] ، نصحهم أيضاً بألا تنطوي قلوبهم على الغش
والخديعة لغيرهم ، فبشر من يصفى قلبه من الأمراض التي تهز وحدة المجتمع ، وتهدد
كيانه ، بأن الجنة مكفولة له يوم القيامة ، إذ يروى عن أنس t
قال : قال رسول الله e
: " إن قدرت أن تصبح وتمسى وليس فى قلبك غش لأحد فافعل " ، ثم قال لي : " وذلك
من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني دخل الجنة ".
وما
يشاع بين الناس من أن الخداع ضرب من الكياسة في المعاملة، هو في واقع الأمر مكر
سيء، يحاربه الإسلام، ويدعو إلى نبذه في العلاقات الاجتماعية، بل يحتقر كل من
يمارسه بهذه الصورة مع إخوانه في المجتمع، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ
ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﱠ [
القلم: ١٠ – ١١] .
فبهذه
الآية الكريمة ينصح المولى U
رسوله الكريم بتجنب كل من يسعى إلى الإفساد في مواربة وخداع ، لأنه إنسان حقير ،
لم يرع حقوق إخوانه في المجتمع ، ولم يحافظ على الروابط الاجتماعية المقدسة ، فسعى
إلى الإفساد فيما بينهم ، فارتكب بذلك جرماً في حق الجماعة ، يحتم على كل من يراه
أن يحاربه ، ومن أساليب المحاربة : تجنب
هذا الذى يسعى إلى تمزيق العلاقة الأخوية بين الناس .
ويندرج
تحت هذا النوع من الخداع ما يعتبره البعض نوعاً من اللياقة الدبلوماسية، لأنه عمل
ينطوي على الغش والخداع، الذي يحاربه الإسلام، فالذي يعلن صداقته للدين وهو
يحاربه: مخادع. والذي يعلن عشقه للحرية الفردية، أو الشعبية، وهو شاهر سيفه: مخادع.
والذي يعلن تودده للفقراء، وهو ممسك عنهم البذل والعطاء: مخادع. والذي يعلن حبه
للإنسانية، وهو جلاد، أو مستغل: مخادع. والذي يعلن حسن العلاقة بينه وبين القيم
الرفيعة والفضائل الإنسانية، وهو مادى منحرف في ماديته: مخادع.
فالخداع
من أفتك الأمراض التي تهدد وحدة المجتمع، إذ يقطع العلاقة بين أفراده، ويمزق الروابط
التي يقوم عليها بناء الحياة الاجتماعية، فتقطع أوصال الأمة، بحيث لا تقوى على
بناء، ولا تستطيع المحافظة على ما لديها من إنجازات حضارية، بل ينهار كل ما عندها
بمجرد وجود هذه الظواهر الاجتماعية التي تفتك وتفكك تماسك الأمة وترابطها.
ومن
هنا جاءت آيات عديدة في القرآن الكريم تحذر المسلمين من العادات السيئة التي تؤثر
على وحدة الأمة وتماسكها، فقال تعالى:
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈﱉ ﱊﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱠ [
الأنفال: ٤٦]
.
وقال
:
ﱡﭐ
ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﳊ ﱠ [
فاطر: ٤٣]
.
وقال
:
ﭐﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ [
النمل: ٥١ – ٥٢]
.
فالخداع
نوع من أنواع المكر، وهو من أكثر الأسباب فتكاً بوحدة الأمة، إذ هو يفرقها شيعاً
وأحزاباَ، ويمزقها زمراً وأنساباً، ومن هنا كان لابد من الالتزام بما أوصى به الله،
لأنه لو نفذ المسلمون ما أمر الله به في مجال العلاقات الاجتماعية، لصار المجتمع
وحدة صلبة، لا تؤثر فيه عواصف الزمن، ولا تنال منه كوارث الدهر. وقد جاء التعبير
عن هذا المعنى في قوله تعالى:
ﱡﭐ
ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﱠ [ آل عمران: ١٠٣]
وبجانب
الوصية بأن تكون المعاملة بين الناس قائمة على الصدق والصراحة، أمر الإسلام
المؤمنين بألا يقفوا موقفاً سلبياً إزاء ما يحدث بين إخوانهم من نزاعات وخصومات،
ففرض عليهم التدخل بين المتنازعين بغية الإصلاح فيما بينهم، فإن تجاوز أحد الخصمين
الحدود المشروعة، فأبى إلا أن يستمر في المنازعة مع خصمه، فعلى المسلمين أن يوقفوه
عند حده، ولو اقتضى الأمر قتاله، يقول تعالى:
ﭐﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﱠ [
الحجرات: ٩ – ١٠]
.
كذلك
أوصى الإسلام بتحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع ، فلا يجوز لذى قوة وبطش في
المجتمع أن يستغل هذا المركز في أكل حقوق المواطنين ، ولا يحل لصاحب مال أو جاه أن
يستخدمه في استغلال الناس واستعبادهم ، ولا ينبغي لمن بيده مصادر الطعام والشراب
أن يتصرف فيهما على نحو يسيء إلى المواطنين ، فكل قادر على تخفيف آلام الناس ،
وتسهيل الحياة عليهم ، وجب عليه أن يقدم ما عنده للمحتاج إليه ، فعلى من يملك
المال ، ويباشر استثماره، أن يراعى أن للآخرين من أفراد المجتمع المحرومين
العاجزين عن العمل حقاً يتعين عليه أداؤه ، دون انتظار مقابل منهم ، يقول الله
تعالى :
ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ
ﲑ ﱠ [ الحديد: ٧] .
ويقول
:
ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﱠ [
المعارج: ١٩ – ٢٥]
.
وقد
ذكر القرآن الكريم الأصناف الذين يحتاجون إلى العون المادي، فقال تعالى:
ﱡﭐ
ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ [ التوبة: ٦٠] .
هذا
بالإضافة إلى أنه مطالب بإعطاء من يعمل معه حقه بالكامل، فلا يبخسه أجره على عمل
يؤدبه، ولا يكلفه أكثر من طاقته في العمل، وإن احتاج إلى عون في أدائه شاركه فيه،
يقول رسول الله e : " إخوانكم خولكم ( أي خدمكم )
... أطعموهم مما تطعمون أنفسكم ، واكسوهم مما تلبسون ، وإن كلفتموهم بأمر لا
يطيقونه فأعينوهم على أدائه ".
ويأمر
الإسلام صاحب المال الذى يتعامل مع الناس بألا ينقصهم الكيل والميزان في البيع
والشراء، ولا يخدعهم، أو يغشهم في العقود التي يبرمها معهم، ولا يكرههم بطريق
مباشر، أو غير مباشر، على قبول ما يلحق الضرر بهم، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱠ [ هود: ٨٤] .
ويقول
:
ﱡﭐ
ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﱠ [
المطففين: ١ – ٣]
.
فإذا قامت العلاقة بين المواطنين على أساس
الشعور بالأخوة، فحافظ كل فرد على حقوق الآخرين، الذين يعيشون معه في المجتمع،
وبذل من يقدر على العطاء للمحتاجين كل ما من شأنه أن يخفف عنهم عبء الحياة، والتزم
جميع الأفراد بالتواصي بالخير، والنهى عن المنكر، لأصبح المجتمع متماسكاً قويًّا، قادراً
على الإنجازات الحضارية في جميع الميادين، وذلك ما ينشده الإسلام للمجتمعات الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق