إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,243

الأربعاء، 8 أبريل 2020

الحوار مع الآخر

                 الحوار مع الآخر
                                                                                    أ. د/ محمد شامة

الحوار مع الآخر ظاهرة إنسانية، فهو ملازم للفكر والثقافة، أياًّ كان نوع هذه الثقافة ودرجة رقيها، فهو وسيلة اتصال الإنسان مع أخيه الإنسان منذ الحياة البدائية حتى عصر ما بعد الحداثة، فحيثما اجتمع اثنان في مكان ما، إلا وكان الحديث بينهما أول خيط يربطهما، حاملاً تبادل المعلومات والأخبار، أو موجهاً الاتهامات والتهديدات إن كان اللقاء لتصفية الحسابات أو لغرض سيطرة أحدهما على الآخر وسلب ما معه من أملاك ومتاع. كذلك الحال حينما ارتقى الإنسان، وظهرت التيارات الفكرية المختلفة، والمذاهب العقدية المتباينة، كان الحوار أحد أهم أسباب النزاع الفكري، ورغبة كلٍّ في غلبة فكره وعقيدته على الآخر، إذ يحرص كل صاحب فكر أن ينشره بين الناس، فيلتقى بهم ويشرح لهم أفكاره، ويحاول إقناعهم بما لديه من مسلمات، وهم بالتالي – إذا كان لديهم فكر مختلف – يحاورونه، الحجة بالحجة، والرأي بالرأي.
ولم تخرج رسالات الأنبياء عن هذه الظاهرة، فلقد حاور الأنبياء والرسل أقوامهم، حين عرضوا عليهم رسالاتهم، وشرحوا لهم مبادئها، طالبين منهم الإيمان بها محذرين من عاقبة عنادهم وكفرهم، وقد سجل القرآن الكريم أساليب عدة من هذه الحوارات التي دارت بين الرسل وأقوامهم، فعلى سبيل المثال نقرأ قوله تعالى عن حوار إبراهيم  u مع قومه:

" وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ " [الأنبياء: 51 - 56]
وحوار نوح مع قومه:
" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ *أن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ " [هود 25-27]
وغير ذلك من الآيات المتعددة التي تبين المواقف المختلفة التي حاور فيها الرسل والأنبياء أقوامهم حول القضايا العقدية، والمبادئ التربوية، والمشكلات الاجتماعية التي جاء فيها وحي الله بتعاليم ومبادئ إلهية داعياً البشر إلى اعتناقها واتباعها في جميع مجالات حياتهم، لتستقيم حياتهم، ولينالوا رضا الله وعفوه، فيثيبهم على إيمانهم وعملهم.


أهمية الحوار مع الآخر
 فى الإسلام

لم يرد وجوب الحوار مع الآخر في أي دين من الأديان كما ورد في الإسلام، وكذلك لم يهتم أي مذهب من المذاهب الفكرية بالحوار مع الآخر اهتمام الإسلام به؛ فقد أمر الله رسوله r  بالحوار مع أهل الكتاب، مما جعل الحوار الديني مبدأًً أساسيًّا في منهج الدعوة إلى الإسلام، يقول الله تعالى: ﱡﭐ       [آل عمران : 64] وبهذا كان الحوار مع الآخر فريضة من فرائض الإسلام، التزم به النبي r ، فأجرى حوارات مع الوفود التي وفدت عليه في المدينة ، والتي بلغت أكثر من ثلاثين وفداً في عام واحد ، سمى عام الوفود ، وكان من أشهر تلك الوفود ، وفد نصارى نجران ، الذى قدم المدينة بقيادة أسقفهم أبى الحارث ، فتحاور معهم النبي r . ومما يدل على سماحة الإسلام وتعامله مع الآخر بأسلوب حضاري في ذلك العصر – الذى لم يعرف المتخاصمون فيه إلا السيف لغةً للحوار – أنه r  سمح لأعضاء الوفد أن يقيموا صلاتهم في أحد أركان مسجده r ، وتلك لفتة لم يُعْرَف مثلها في تلك العصور ، ونادراً – بل يكاد يكون من المستحيل – أن يحدث مثلها في هذا العصر – في القرن الواحد والعشرين - الذى يفتخر أبناؤه بأنهم قطعوا شأواً كبيراً في  الحضارة ، مما جعلهم يتعاملون مع الآخر بأسلوب مهذب وراقٍ .

ومن المبادئ الإسلامية التي تدعو المسلم إلى التعايش مع الآخر والحوار معه واحترام رأيه:
- الحرية، فقد قدسها الإسلام، ودعا إلى كفالتها، ولو أدى ذلك إلى عدم الاعتراف به ديناً يقول الله تعالى: ﱡﭐ       [البقرة : 256] ويقول : ﱡﭐ     [الكهف : 29] ، ﱡﭐ   [يونس : 99]
فالله يبين لرسوله r  في هذه الآيات أن الإيمان متروك لحرية الإنسان، فلا ينبغي أن يمارس أحد الإكراه لحمل الناس عليه، لأنه لو شاء الله لأكرههم على الإيمان، ولكنه تركهم بحريتهم ليكون الإيمان نابعاً من ذات الشخص نفسه حتى يثمر إيمانه، لأن العمل لا يكون نافعاً إلا إذا فعله الإنسان، وهو في كامل حريته.
ولهذا نظر الإسلام إلى المجتمع نظرة شمولية ، فهو لا يفرق بين الناس على أساس معتقداتهم ، بحيث يسلبهم حريتهم بسبب هذه المعتقدات ، بل يكفل لهم أسس العيش فى سلام واطمئنان داخل المجتمع الإنساني، وأعطاهم حرية كاملة في ممارسة بناء المجتمع ، فلا زال قول عمر بن الخطاب t : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " ناقوساً يرن في آذان كل المجتمعات البشرية ، معلناً أن المسلمين طبقوا قواعد الحرية كما أمرهم   الإسلام ، واستنكروا كل ما من شأنه أن يسلبها من المجتمع ، لأنها أساس كيان الإنسانية ، ودعامة استقرار المجتمع على قواعد ثابتة ، لا تتزعزع أمام عواصف الدهر وتقلبات الأيام .
ومما يدل على سماحة الإسلام مع الآخر، أن الرسول r  عقد مع نصارى نجران عهداً مع بقائهم في أماكنهم، وإقامتهم في ديارهم، دون أن يكون معهم أحد من المسلمين، وقد تضمن هذا العهد حمايتهم، والحفاظ على حرياتهم الشخصية والدينية، وإقامة العدل بينهم، والانتصاف من الظالم. وقام الخلفاء من بعده على تنفيذه حتى عهد هارون الرشيد، فأراد أن ينقضه، فمنعه محمد بن الحسن، صاحب الإمام أبي حنيفة. وفى هذا دلالة واضحة على روح التسامح في معاملة غير المسلمين، إذ حافظ على حرياتهم في العبادة، وفى إقامة شعائرهم الدينية من غير تضييق عليهم، ولا تعكير صفو الجو الروحي لطقوسهم الدينية، لأنه احترمها، واتخذ من الإجراءات ما يحمى قدسيتها.

- تقبله للثقافات والحضارات الأخرى، مما يدل على أن فكرة الصراع الحضاري لا وجود لها في مبادئه وتعاليمه، ويوضح نظرته العالمية الواسعة إلى الأديان والأجناس الأخرى، ولهذا أقام حضارة كبرى أسهم فيها أهل هذه الأجناس والأديان في كل ناحية من نواحي الحياة، والفكر، والفلسفة، والأدب، والفن، والطب، واللغة، والتصوف، وكانت تلك الحضارة تأليفاً وتوحيداً لكل الحضارات قبلها في: الصين، والهند، وفارس، والروم، واليونان.
شيد المسلمون على كل هذه الأسس بناءً حضارياً ضخماً، اشترك فيه العلماء من جميع الأجناس والأديان، فكانت بحق حضارة لجميع أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، ثم انتقل هذا التراث الحضاري إلى الأجيال اللاحقة، فكان مصدراً للحضارة الحديثة، وقد عبر أحد العلماء عن دور المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية بقوله:   " إن المسلمين لم يحرصوا فقط على أن يكونوا ورثة الأنبياء ، بل ورثة الفلاسفة كذلك ."
فالإسلام دين يحث أتباعه على الاتصال بثقافة الآخر والأخذ منها اتباعاً  لقول رسول  الله  r : " الكلمة (الحكمة) ضالة المؤمن ، فحيث وجدها فهو أحق به(1) ، فهو لم يغرس في نفوس المسلمين حقداً ضد أي طائفة أخرى من البشر تعتنق ديناً آخر ، ولم يحرم عليهم التزود بأي نوع من الثقافات الإنسانية ، ولم يفرض عليهم شيئاً يعزلهم عن غيرهم من أجناس البشرية ، ولم يأمرهم بإجبار أحد على اعتناق الإسلام ، فكان بذلك ساحة ضمت جميع  الناس ، وبوتقة صهرت جميع الثقافات ، ووادياً أمن فيه الناس على أنفسهم ، وعقائدهم ، وأفكارهم ، واطمأنوا على سلامة أموالهم وممتلكاتهم ، فنظروا إليه غير خائفين ، وفكروا في مبادئه غير وجلين ، ودرسوا أحكامه في جو من الحرية والديمقراطية ، فجاء اعتناق من اتخذه ديناً عن رغبة واقتناع ، وعاش في ظل دولته من بقى على دينه آمناً مطمئناً ، يسعى إلى رزقه ، ويشارك في مجالات الدولة المختلفة تحت راية الإسلام التي ترفرف معلنة أنها مظلة الإنسان ، من حيث هو إنسان ، لأنه عبد الله الذى أنزل هذا الدين على محمد r .
اتبع المسلون هدى رسول الله r في هذا المجال فحاوروا أهل الأديان بالتي هي أحسن ، وتعايشوا معهم على أساس الأخوة الإنسانية ، فلم يجبروهم على اعتناق الإسلام ، ولم يضطهدوهم لمجرد أنهم يخالفونهم في العقيدة ، بل رفعوا عنهم ظلم إخوانهم في العقيدة واضطهادهم لهم ، فقد حدث أن عمرو بن العاص حين فتح مصر ، كان البطريرك المسيحي بنيامين مختفياً ، لأن وطأة استبداد البيزنطيين المسيحيين في البلاد كانت عنيفة ، وطبقاً لنص تاريخ البطاركة: لما عرف عمرو بذلك كتب إلى أعمال مصر كتاباً يقول فيه : الموضع الذى فيه بنيامين بطرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله . فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته. فلما سمع بنيامين هذا عاد إلى الاسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاثة عشرة سنة. منها عشر سنين لهرقل الرومي، وثلاث سنين قبل أن يفتح المسلمون الإسكندرية.([1]) ، ثم التقى عمرو بنيامين " فلما رآه ( عمرو ) أكرمه . وقال لأصحابه: إن في جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجلا يشبه هذا. وكان الأب بنيامين حسن المنظر جداً، جيد الكلام بسكون ووقار. ثم التفت عمرو إليه وقال له: جميع بيعك ورجالك اضبطهم ودبر أحوالهم."([2])
لقد أرسى الإسلام قاعدة صلبة في مجال التعامل مع الآخر، باختياره أسلوب الحوار، كي يوضح الفكر البشرى ويبين مدى صلته بالتراث الإلهي، ولا يكون ذلك إلا باحترام الحرية في التعبير، وسماع ما عند الآخر، وعرض مبادئ وتعاليم الإسلام عليه دون إكراه، بل بالتفاهم والأدلة العقلية– وبالتعبير الإسلامي: " بالحكمة .... وبالمجادلة بالتي هي أحسن -؛ إذ لا يمكن للشعوب أن تتقدم إلا بتبادل المعلومات، ومناقشة القضايا: قضايا السلم والعدل، وغيرهما من المشكلات التي يواجهها الإنسان في مسيرة بنائه   الحضاري، والتعاون فيما بين الشعوب على أساس احترام الآخر، ومعرفة ما عنده من مبادئ وقيم.

ضرورة الحوار مع الآخر

أصبح الحوار مع الآخر ضرورة في عالم اليوم ؛ لأن المجتمعات المعاصرة ضمت العديد من الأفكار والعقائد والمذاهب الفكرية ، بل إن المجتمع الواحد المحدود ، قد يضم أكثر من  عقيدة ، ويعتنق أفراده أكثر من مذهب في جميع المجالات : سياسية ، واقتصادية ، واجتماعية ...و...و...الخ ، ولذا كان الحوار في حد ذاته مطلباً حيويًّا وضرورة قصوى ، وعلى الأخص :حوار الأديان ، لأن الدين لازال يلعب دوراً كبيراً في حياة الشعوب ، إذ يرسم للفرد أسلوب حياته ، ويحدد له طبيعة العلاقة مع الآخر ، وبالتالي فهو عنصر أساسي في استقرار المجتمعات ، ورسم حدود العلاقات بين الشعوب ، حتى في المجتمعات التي أعلنت أن العلمانية هي أسلوبها في الحياة السياسية والاقتصادية  والاجتماعية ؛ فقد رأينا أن نزعة التعصب الديني ، والتبشير بقيام صراع بين الحضارات على أساس ثقافي وديني صدرت من مجتمع يعتبر نفسه زعيم العلمانية فى العصر الحاضر ، إذ أعلن صمويل هنتنجتون – وهو أمريكي نشأ على الثقافة  العلمانية – في كتابه " صدام الحضارات " أن الصراع في العالم الجديد لن يكون أيديولوجياً ، أو اقتصادياً ، بل سيكون الانقسام الكبير بين البشر ، والمصدر الغالب للصراع ثقافياً ، ودينياً :
-         مركزاً في كثير من صفحات كتابه على أن الصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية واقع لامحالة، فهو    – أي الإسلام - الخطر الماثل أمام أعين الغرب " المتحضر " ، يبدو ذلك واضحاً من قول أحد المراقبين حسب زعمه : " الكابوس الخاص للأوربيين هو الذكرى التاريخية
(إغارة المسلمين في أوربا الغربية ، والأتراك على أبواب فيينا )"
[3]
-         ومبيناً لهم ما يحدث في تركيا، حيث يقول: " بالنسبة لتركيا – كما هو لدول أخرى كثرة – أثار انتهاء الحرب الباردة بالإضافة إلى الخلل الناتج عن النمو الاقتصادي والاجتماعي قضايا أساسية عن " الهوية القومية والانتماء العرقي "، وكان الدين هناك ليقدم الإجابة، وأصبح الميراث العلماني الأتاتوركي والنخبة التركية لثلثي قرن، تحت النيران وبشكل متزايد. تجربة الأتراك في الخارج أدت إلى إثارة عواطف الإسلاميين في الداخل. الأتراك العائدون من ألمانيا الغربية " كان رد فعلهم على العداء هنا هو العودة إلى ما هو مألوف، وأن ذلك هو الإسلام " ([4])
بل إنه يؤكد في مواضع عدة من الكتاب على أن الصراع بين الحضارتين : الإسلامية والغربية ، مستمر : هناك خصومة بين القيم العلمانية والقيم الإسلامية ، وهناك خصومة تاريخية بين الإسلام والمسيحية ، وهناك شعور بالغيرة من القوة الغربية ، وهناك استياء من السيطرة الغربية الناجمة عن بنية الشرق الأوسط السياسية بعد زوال الاستعمار، وعندهم – أي المسلمين – شعور بالمرارة والامتهان نتيجة المقارنة البغيضة بين إنجاز الحضارتين : الإسلامية والغربية في القرنين الأخيرين " طالما أن الإسلام يظل ( وسيظل ) كما هو ، والغرب يظل ( وهذ غير   مؤكد ) كما هو الغرب ، فإن الصراع الأساسي بين الحضارتين الكبيرتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتهما في المستقبل ، كما حددها على مدى الأربعة عشر قرناً السابقة....... إن حرباً مجتمعية باردة مع الإسلام سوف تساعد على تقوية الهوية الأوربية بشكل عام، في وقت حاسم بالنسبة للوحدة الأوربية. ومن هنا قد يكون هناك مجتمع في الغرب مستعد، ليس لدعم حرب مجتمعية باردة فقط مع الإسلام، بل ولتبني سياسات تشجع عليها. في سنة 1990م قام " برنارد لويس " ، وهو مفكر غربي بارز مهتم بالإسلام ، بتحليل " جذور الغضب الإسلامي " واستنتج قوله : " يجب أن يكون واضحاً الآن أننا نواجه حالة وحركة تتخطى بكثير مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي تتابعها ، وهذا ليس أقل من صدام حضارات ، والذى ربما كان غير منطقي ، ولكنه بالتأكيد رد فعل تاريخي لتنافس قديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي وحاضرنا العلماني ، وانتشار كل منهما على مستوى العالم، ومن المهم جداً أننا من جانبنا لا يجب أن نستثار إلى رد فعل تاريخي ولا منطقي معادل ضد ذلك المنافس ."([5])
كان من الطبيعي بعد ظهور هذه الفكرة ، صراع الحضارات على الساحة الثقافية العالمية أن يتصدى المفكرون من المسلمين لهذا الطرح غير السليم - منطقياً ، وفكريا ،ً وتاريخياً - ، موضحين أن تعاليم الإسلام تدعو إلى الحوار لا إلى الصدام ، ويبدو ذلك واضحاً من آيات القرآن الكريم ومن أحداث التاريخ الإسلامي ، كما ذكرنا ذلك سابقاً، فالإسلام يحث المسلم على الاعتراف بالآخر والحوار معه ، لكى يعيش الإنسان آمناً على دينه ، مطمئناً على حياته ، واثقاً من صدق المشاعر بينه وبين أخيه الإنسان ، وإن اختلف معه في الدين والعقيدة ، وبهذا احتل الحديث عن هذا الحوار وضرورة التعاون على المستوى الإقليمي والدولي مساحة كبيرة في دوائر الفكر الإسلامي، بكل أنواعه : من الكلمة المكتوبة إلى الصوت المسموع ، إلى الصورة المرئية ، مندداً باتهام المسلمين بأنهم أعداء الحضارة الحديثة ، معلناً استعداد المسلمين للحوار على جميع المستويات ، وفى كل المجالات التى تتعلق بحياة الإنسان وسلامته ، وباستقرار المجتمعات وأمنها .
بدأ الحوار مع الآخر، فعقدت العشرات من الندوات والمؤتمرات في أماكن شتى في أرجاء المعمورة، دون أن يعرف أحد من المسلمين المتحاورين ماهية الموضوعات التي يقوم عليها الحوار، ولا طبيعة الأهداف التي يريدون الوصول إليها. لقد عقدت حتى الآن أكثر من أربعين جولة من الحوار الإسلامي – المسيحي في عواصم متعددة اتخذت شكل مؤتمرات ، وندوات ، وحلقات دراسية ، ولقاءات مشتركة ، وألقيت فيها بحوث حول السلام والتعايش السلمي، والأخوة الإنسانية ، كما تبودلت كلمات تنضح بالعطف والمودة والرحمة الإنسانية ، وتحددت في بعضها    – وهو قليل جداً – بعض الموضوعات التي تتصل بالتعايش السلمى – وغالباً ما كان الجانب المسيحي هو الذى يختارها – ولكن لم يصل المشاركون فيها إلى نتائج ملموسة ، يمكن تنفيذها أو رؤيتها على أرض الواقع ، فهي – غالبا ً- لا تعدو أن تكون اجتماعات للكلام وتبادل التحيات الرسمية.
ولهذا ينبغي أن يحدد أسلوب الحوار، ومنهجه، وقضاياه، والأهداف التي يريد المتحاورون الوصول إليها. أما أسلوب الحوار فينبغ أن يكون على النحو التالي:
1-   لا يكون الحوار متكافئاً إلا إذا كان بين قوتين متعادلتين يعترف كلٌّ منهما بالآخر ، إذ يحدث التصارع عندما تجعل إحدى الثقافات من نفسها الثقافة العظمى ، بينما كل الثقافات الأخرى ثقافات صغرى ، ويظن أصحابها أن ثقافتهم أعلى وأعظم من الثقافات الأخرى ، الثقافات الصغرى.  نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، حيث تواجه البشرية نظاماً عالمياً جديداً، فهل يوجد في هذا النظام أرضية مشتركة، يقوم عليها الحوار بين الحضارات والثقافات المختلفة؟ وكيف تبدو هذه الأرضية المشتركة في عالم يريد أن يعيد نظام الهيمنة القديم في ثوب جديد، تحت شعارات مختلفة؟ إن الحوار لن يكون مثمراً في هذا الجو إلا إذا تحقق شرط   أساسي، ألا وهو الاعتراف المتبادل بالتقاليد المميزة للحضارة الإنسانية، قد يكون هذا أمراً صعباً على أولئك الذين يمارسون الهيمنة على العالم، وليس عندهم الاستعداد للتنازل بأنهم الأقوى، والأكثر تفوقاً في مجال التكنولوجيا، ولكنه شرط بالغ الأهمية، إذا كان الطرفان صادقي النية في الوصول إلى صيغة مشتركة للتعايش السلمي. إن تحقيق السلام في العالم يتوقف على تحقيق السلام بين الأديان، ولن يتحقق السلام بين الأديان إلا بإجراء حوار بين أصحاب هذه الأديان، ومن شروط نجاح أي حوار على أي مستوى أن يكون كل من طرف الحوار نداً للآخر، وهذا يعنى ضرورة تحقيق المساواة التامة بينهما في كل ما يتعلق بالحوار المراد إجراؤه بين الطرفين.
2-   عدم المساس بالعقائد في جلسات الحوار ، وهذا لا ينفى ترك أو إهمال الدراسات العقدية في المدرجات الجامعية، وفى حلقات النقاش الأكاديمية، فذلك مرفوض رفضاً باتاً ، لأن الأديان بالنسبة لأصحابها حقائق مطلقة، لا يجوز تعديلها، أو التنازل عنها ، فالانتقاص من الإيمان ، ولو قيد شعرة أو أكثر ، يخل به ، ويفقده حقيقته ، وبالتالي لا يكون إيماناً. فهل عند الغربيين استعداد للتنازل عن بعض عقائدهم المسيحية؟ لا أظن ذلك ، بل العكس هو   الصحيح ؛ إذ هم ينتظرون من المسلمين أن يتنازلوا عن بعض مسلماتهم ، كما حدث في إحدى ندوات الحوار التي عقدت بالقاهرة ؛ إذ اعترض المسيحيون المشاركون في الندوة على تركيز المسلمين على موضوع القدس ، وهو من المقدسات الإسلامية ، كما أنكر بعضهم وصف الإسلام بالربانية ، وأصروا على موقفهم إزاء الإسلام ، من ناحية أن محمداً ليس نبياً ، ولا كتابه كتاباً إلهياً.([6]) ولهذا يجب على المتحاورين أن ينحوا مسائل العقيدة جانباً ، ويركزوا فقط على المسائل الأخلاقية المشتركة لينطلقوا منها إلى منهاج للتعايش السلمي. وليس الهدف من الحوار الوصول إلى موقف وسط بين العقائد، أي الوصول إلى توفيق تلفيقي، يقوم على اتخاذ موقف نسبي عام، بل أساس اللقاء التفاهم، ومعرفة كلٌّ ما عند الآخر، وتصحيح للمعلومات غير الصحيحة عند كل طرف عن الطرف الآخر. ثم إن الحوار يكشف لصاحب الدين أو العقيدة – من خلال دين الآخر، أو عقيدته، أو ممارسته لها -مفاهيم جديدة، وأساليب للممارسة تضيق المسافة بين المبدأ والتطبيق، تساعده على الاقتراب من مثله الأعلى ... ففي الحوار نكتشف التكامل: العطاء والأخذ، الإثراء المتبادل. حينئذ يصير من الممكن الاعتراف بأن الآخر مصدر للإلهام وللقوة، وينتفى التعالي الذي يستند إلى شعور بالكمال والاكتفاء الذاتي. بل يكتشف كل واحد أنه يحتاج إلى الآخر .... مع الاحتفاظ بهويته. فينظر الواحد إلى الآخر على أن كل واحد لديه شيء يتعلمه من الآخر ويستفيد به، وأن لدى كل واحد أيضاً شيء يقدمه، فتنحل عقدة التفوق التي تعطل تبادل الفكر والتفاهم.([7])     
3 - الاعتراف المتبادل ، فكما أن المسلم يعترف بوجود عقائد أخرى ويسميها ديناً ،  وإن لم يؤمن بها لاعتقاده أنها باطلة ، فكذلك يجب على من يتحاور مع المسلمين الاعتراف بالإسلام ديناً ، فإذا تعذر  ذلك ، فلا أقل من احترام تعاليم الإسلام وقيمه ، كما تحتم قواعد الحضارة الحديثة على الإنسان المتحضر أن يحترم تقاليد وعادات الآخر ، وإن كانت في رأيه لا تتفق مع المنطق والعقل . فإذا تعذر ذلك على بعض المتشددين، فلا مانع من إجراء حوار لمنع المواجهة المسلحة بينهم وبين المسلمين، ولإرساء قواعد ومبادئ للتعايش السلمي بين الناس جميعاً، بشرط أن تكون لغة الحوار مؤدبة، وأن يلتزم المتحاورون بالموضوعية، بعيدا عن المهاترات والألفاظ التي تجرح شعور الأطراف المتحاورة.
4-     احترام كل طرف من أطراف الحوار ثقافة الآخر وعقيدته ، يقول الله  تعالى : ﭐﱡﭐ      [الحجرات : 13]  فالاتصال الثقافي يجب أن يقوم على أساس تبادل المعلومات والخبرات ، لا بقصد هيمنة ثقافة على أخرى ، أو فرض تقاليد شعب على آخر ؛ فلا يجوز لطرف أن يملى على الطرف الآخر ما يجب عليه عمله في مجال الثقافة ، أو في مناهج التعليم في مراحله  المختلفة ، أو في توجيه الرأي العام ، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة : المقروءة ، والمسموعة ، والمرئية ، فإن ذلك كله من خصوصيات كل أمة ، فلا يخضع لتوجيهات خارجية، أو إملاءات أجنبية . فإن احتاجت إلى تطويرٍ لمواكبة العصر، أو تعديلٍ لتلافى عجز فيها، فينبغي أن يكون ذلك نابعاً من شعور داخلي، ليأخذ طريقه في إطار الهوية، بحيث لا يخرج عن التعاليم الدينية، ولا يبعد عن القيم والمبادئ الأخلاقية، ولا ينحرف عن العادات والتقاليد المرتبطة بالتاريخ والروح الإسلامية. ومن هنا يجب أن يرفض رفضاً باتاً كل إشارة أو تلميح إلى وجوب حذف آيات قرآنية بعينها من المناهج التعليمية، أو إهمال أحداث تاريخية تدين مجموعة بشرية معينة، لأن ذلك – لو حدث – يتنافى مع أهم شرط من شروط الحوار الإيجابي، ألا وهو عدم تدخل أي طرف في الشئون الخاصة التي تتعلق بهوية الطرف الآخر وثقافته وعقيدته.
5 -الاعتراف بالأصل الواحد للخليقة كلها، كما قال تعالى: ﱡﭐ    [النساء: 1 ] ، فلا يتعالى جنس على آخر، ولا يُفَضَّل شعب بسبب اللون ، أو الجنس ، أو العقيدة ، أو بسبب قدراته العسكرية ، أو الاقتصادية ، أو العلمية والثقافية .

أما منهج الحوار فيجب أن يكون على النحو التالى:

1.    نسيان الماضي بما فيه من صراعات وأحداث مؤلمة، قد تفجر – لو لم تنس – النفور بين المتحاورين، وتلقى بظلال قاتمة على جوّ الحوار، فتحفز كل طرف ضد الآخر، ملقياً بالشكوك في كل ما يطرح من قضايا ومشكلات على مائدة الحوار.
2.    حرية العقيدة، يقول تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .." [البقرة: 156]، فلا يجوز لأحد أن يفرض عقيدته على الآخرين بالقوة، بل يُتْرَك الأمر للناس، يعتنقون ما يرونه صحيحاً، دون ضغط أو إكراه.
3.    إتباع المنهج العقلي في طرح القضايا والمشكلات، وسبل حلها؛ لأن العقل هو القاسم المشترك بين الناس جميعاً، على اختلاف مللهم ونحلهم، فهو أقرب المناهج لالتقاء الناس، مختلفي العقائد والملل، وهو أقصر الطرق للوصول إلى رسم منهج مشترك للتعايش السلمي.
4.    عقد ندوتين سنوياُ، يفصل بينهما أربعة أشهر، تُخَصَّص للإعداد الجيد، وذلك باختيار موضوع واحد، يُسْتَكْتَب فيه علماء ومفكرون على مستوى عالٍ جداً، ثم تناقش أوراقهم في الندوة، بحيث تخرج المناقشة في صورة ورقة واحدة، تجمع ما في الأوراق كلها من أفكار ومبادئ. ثم يُعْقَد مؤتمر تناقش فيه الورقتين اللتين أعدتهما الندوتان، ولا يعقد هذا المؤتمر إلا بعد مرور أربعة أشهر على عقد الندوة الثانية، يكون العمل فيها مُرَكَّزا على استخلاص ما في الورقتين في ورقة واحدة، تُعْرَض على المؤتمر، ثم يخرج منه بيان بالمبادئ التي اتفق عليها المؤتمرون. وإن لم يحدث ذلك كانت لقاءات الحوار الديني بلا هوية تعرف بها ولا طابع يميزها، ولا نتيجة من ورائها تجنى الشعوب ثمرتها.
5.    يُكَوَّن جهاز إداري تكون مهمته العمل بكل الوسائل على تفعيل ما صدر عن المؤتمر من مبادئ وتوجيهات على كل المستويات الإقليمية والدولية، ولو اقتضى الأمر رفعها إلى المنظمات الدولية لإصدار قرارات مُلْزِمَة بتفيذ هذه المبادئ، فيجب القيام بذلك، وإلا أصبحت جلسات الحوار الديني عبارة عن اجتماعات شكلية، وتوصيات ونتائج لا تتعدى كونها كلمات سُطِّرَت على ورق، و بالتالي تصبح لقاءات فاشلة، لا فائدة فيها، اللهم إلا تعطيل مصالح المسلمين، وتضييع الوقت في مباريات كلامية، وخطب جوفاء لا مدلول لها.

موضوعات الحوار
لا شك أن موضوعات الحوار الديني، التي يجب وضعها على مائدة البحث كثيرة كثرة تجعل من المستحيل حصرها، لأنها تتعلق بحياة الأفراد، وحياة الشعوب. وعلى الرغم من كثرة عناصرها الماثلة أمامنا، فهي أيضاً متجددة، ومتطورة، وخاصة في العصر الحديث، عصر التكنولوجيا، وعصر ما بعد الحداثة، الذى يُخْرِج لنا كل يوم من الأطروحات وما يتبعها من مشاكل ما يدفع أجهزة الرصد إلى العمل بأقصى سرعة لملاحقتها وتقييمها. ولكن هذا لا يمنع من تناول أهم ما فيها، وأكثر إلحاحاً لضبطه وتصويبه، لتستقيم العلاقة بين الشعوب على أساس سليم، يسعد الأفراد، ويساعد على ازدهار الأمم وتقدم المجتمعات.
ومن اللافت للنظر أن بعض القضايا قديم قدم قيام المجتمعات الإنسانية، على الرغم من تطوير مفهومها، وتنوع مضامينها بتطور الحياة الإنسانية، وأخري أفرزها التقدم الحضاري والاكتشافات العلمية. ويجب على المتحاورين أن يقدموا – في قائمة موضوعاتهم – الأهم على المهم، حتى يسهموا في الإسراع بمحاولة حل المشاكل التي تتعلق بحياة الناس، أفراداً وجماعات.
ومن أهم الموضوعات التي يجب بحثها:

قضايا الإنسان :

 فقد كرمه الله – كما أخبرت بذلك كل الكتب المقدسة -، وركزت على تكريمه معظم – إن لم يكن كل – الاتجاهات الفكرية في كل العصور والأزمان، لذا يجب أن توجه الدعوة إلى بحث ما يجب عمله لحفظ حياته، أياًّ كان لونه، أو عقيدته، أو جنسه، فلا ينبغي أن يستعلى إنسان على أخيه، أو يظلمه باغتصاب حق من حقوقه المشروعة: حفظ النفس، والدين، والعقل، والنسل، والمال. كذلك لا ينبغي أن يهان، أو يذل من ثقافة أخرى على أي مستوى: ثقافي أو اقتصادي، أو سياسي، أو اجتماعي، وعليه فيجب أن يكون موضوع حقوق الإنسان أول ما يوضع على مائدة الحوار الديني، من حيث حرية العقيدة، يقول الله تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. " [البقرة: 156]، فلا يجوز لأحد أن يفرض عقيدته على الآخر بالقوة، بل يُتْرَك الأمر للناس، يعتنقون ما يرونه صحيحاً، دون ضغط من أي نوع.  والعدل، يقول تعالى: ".... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.." [المائدة: 8]، ومن مقتضيات العدل حق كل شعب في أن يعيش في وطنه دون اعتداء عليه من أي نوع، أو محاولة للسيطرة علي مقاليد أموره . وحرية التعبير لأن التقييد في هذا المجال يزيد الأمور غموضاً، فلا يعرف ما يكنه البعض للآخر، وبذلك تنمو الدسائس والفتن. والمساواة، فلا فضل لأحد على آخر، وذلك يقتضي الاعتراف بحق كل شعب في الموارد الطبيعية، بحيث تُقَسَّم بالتساوي على كل شعوب الكرة الأرضية، فلا استغلال، ولا احتكار، وإنما تعاون بين الناس على تنمية الموارد، وتوزيعها على الشعوب، بحيث ينال كلٌّ ما يضمن له حياة كريمة، تليق بالإنسان الذي كرمه الله.

هذه هي القواعد الأساسية في مجال حقوق الإنسان، ويجب على أطراف الحوار الاعتراف بها، وإعلان هذا الاعتراف على الملأ، ثم يبدأ الحوار بين الأطراف للوصول إلى صياغتها في مبادئ عامة، يلتزم الجميع بتطبيقها بكل الوسائل، حتى وإن اقتضى الأمر إنشاء تحالف دولي لفرضها بالقوة على من يرفضها.

حقوق المرأة:

 من الطبيعي أن تتمتع المرأة بكل ما يتمتع به الرجل، من الناحية الإنسانية، فكل ما يتوصل إليه الحوار الديني في بحث موضوع " حقوق الإنسان " يسرى على المرأة، ثم تنفرد ببحث آخر، ليرفع عنها ما يلحقها من ظلم باعتبارها أنثى، وذلك من حيث حقوقها كزوجة، ابتداءً من حقها في اختيار شريك حياتها، إلى ممارستها في إدارة شئون الأسرة، وتربية أولادها، وحقها كمواطنة، لها ما للرجل من: تعليم، وعمل، ومشاركة في شئون الأمة: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية .... وغير ذلك من الأمور التى يمارسها الرجل، ما دام ذلك في استطاعتها.

البيئة :

قد يبدو للبعض أن هذا الموضوع بعيد كل البعد عن موضوعات الحوار الديني، لأن مفرداته من نظافة وتشجير وأمثالهما لا تدخل في نطاق الموضوعات المثيرة للجدل ، والتي تحتاج إلى اتفاق بين ممثلي السلطة الروحية ، ولكن هذا الفهم غير صحيح ، فلم تعد المشاكل البيئية قاصرة على هذا التصور، بل امتد نطاقها ، فأصبحت مسألة دولية تحتاج إلى تضافر كل   القوى ، بما فيها المؤسسات  الدينية ، ذلك أن البيئة مهددة بالمنتوجات البيولوجية، من أسلحة ومتفجرات ، وعلى رأسها الأسلحة النووية ، التي أصبحت أكبر هاجس للإنسان ، تقض مضاجعه ، وتهدد وجوده ، فهو في قلق دائم ، وخوف مستمر من آثار هذه المخترعات ، لا من حيث توقعه لاندلاع حرب نووية فقط ، بل من تسرب هذه الإشعاعات النووية ، كما حدث في تشرنوبيل قبل عدة سنوات، ومن انتشار إشعاعاتها بأيّ طريق آخر، حيث تدمر الكائنات الحية المحيطة به ، بما فيها من الطعام والشراب الذى ينقل إليه الأمراض والعلل التي لا تبقى ولا تذر . ولهذا ينبغي بحث هذا النموذج في لقاءات الحوار الديني، واتخاذ قرارات وفتاوى دينية لتحريم هذه الصناعة، ومناشدة كل الدول، بلا استثناء، حتى الدول العظمى بالتخلص من هذه الصناعة كلية، وتدمير كل ما لديها من قنابل ومتفجرات نووية، ومناقشة السبل التي يمكن أن تتخذها كل المؤسسات الدينية لتخليص العالم من هذا الكابوس الذى يجثم على صدور الناس، حتى يشعر الإنسان بالأمن والسلام، فتهدأ نفسه ليتفرغ للإبداع في المجالات التي تساعده على التطور الحضاري، وتعيش كافة الشعوب في أمن واطمئنان.

توزيع الثروات :

لاشك أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض، وأودع فيها ثروات متعددة، ليستخدمها الإنسان في حياته، وعليه فلا يجوز لشعب أن يحتكر هذه الثروات ويحرم منها الآخرين، كما هو واقع اليوم في عالمنا المعاصر، إذ يستأثر 20% من سكان الأرض بـ 80% من هذه الثروات. وهذا ظلم يجب رفعه عن المحرومين من التمتع بثروات الكرة الأرضية. وعليه فيجب على المؤسسات الدينية بحث هذا الموضوع في لقاءات الحوار الديني، للوصول إلى قواعد تعطى كل ذي حق حقه، فلا ظلم، ولا احتكار، ولا استغلال، بل تعاون، وتضافر للجهود، حتى يكون هناك توازن بين الشعوب في الانتفاع بهذه الثروات، كُلٌّ حسب طاقته، ولا يُحْرَم منها من لم تؤهله طاقته وعمله بل يأخذ ما يكفيه في حياته، حتى ولو اقتضى الأمر إنشاء صندوق لمساعدة الشعوب الضعيفة – وكذلك الأفراد – ليعيشوا عيشة إنسانية كريمة. 
هذه نماذج فقط من القضايا التي يجب أن تطرح على مائدة الحوار الديني؛ إذ مما لاشك فيه أن هناك العديد من القضايا والمشكلات التي يجب بحثها، فعلى المكلفين بالتحضير لهذه الندوات والمؤتمرات حصر قضايا العصر التي تحتاج إلى بحث، ووضعها في قائمة حسب أهميتها بالنسبة لحياة الأفراد، وضرورتها لاستقرار المجتمعات الإنسانية وأمنها.  

أهداف الحوار الدينى:

للحوار الديني أهداف متعددة ومتنوعة على جميع الأصعدة: فردية وجماعية، إقليمية ودولية، ثقافية وفكرية، ومن أهم هذه الأهداف: معرفة الآخر، إذ يعرض كلٌّ ما عنده أمام الآخر، سواء كان ذلك يتعلق بحياة الإنسان فرداً أو جماعة، أو باستقرار حياة الشعوب وأمنها. يعرف المرء رأى الآخر في العدل والمساواة والتكافل، ومدى استعداده للمشاركة في وقف العدوان على الشعوب، والإسهام في العمل العام لحماية الإنسان من الضياع والهلاك تحت عجلة القوى الاقتصادية عابرة القارات، وفى مواجهة الأسلحة الفتاكة التي تُسْقِط كل يوم – بل كل ساعة – العشرات – بل المئات – من القتلى والجرحى ممن لا ذنب لهم ولا جريمة ارتكبوها، اللهم إلا الرغبة في فرض الهيمنة والسيطرة من المتشددين والمتطرفين من الجماعات غير الشرعية، أو من جانب عصابات إقليمية، أو من جانب قوى دولية عظمى.

إن مجرد الجلوس على مائدة الحوار الديني بنية صادقة من الطرفين في التعايش السلمي، ينزع فتيل الاختلاف من المتخاصمين، ويمهد الطريق لبدء حقبة جديدة يتعاهد فيها الطرفان على العمل سوياً لرفع الظلم عن المظلومين، ومساعدة الضعفاء على حماية أنفسهم وأموالهم وأوطانهم، والوقوف جبهة واحدة أمام كل من يعتدى – أو يفكر في الاعتداء – على غيره، أو يستبيح حرمات الآخر، سواء على مستوى الأفراد أو الشعوب.

إن صدام الحضارات فكرة شيطانية، يراد بها نشر العداوة والبغضاء بين الشعوب، مما يعطى قوى العدوان ذريعة للسيطرة على ثروات الشعوب ومقدراتها، ولذا يجب أن يركز الحوار الديني على التعايش السلمي بين الأمم، وإن اختلفت عقائدها، وتنوعت ثقافاتها، وتعددت اتجاهاتها الفكرية؛ إذ لم يكن – ولن يكون – صدام بين الحضارات، بل تنافس شريف، يتمثل في تبادل الأفكار والرؤى على جميع المستويات، فما كان صالحاً للأفراد والمجتمعات، بقى واستمر، وثبتت أقدامه، وما كان طالحاً ذهب واندثر، يقول الله تعالى: " .... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ..." [الرعد: 17]



(1)  الترمذى  5/51  رقم 2687  ،  تهذيب التهذيب  1/121
([1])  وليم سليم : الحوار بين الأديان صـ 108 ، نقلا عن ساويرس ابن المقفع : تاريخ بطاركة الاسكندرية . طبعة افتس – الجزء الثانى .
[2]))  المصدر السابق صـ 109 . ويقول المؤرخ القبطى الأسقف يوحنا النقيوسى : " احترم عمرو أملاك الكنيسة ، ولم يقترف عملا يعاب عليه . فحيا أهل البلاد عهد السلام الدينى ، وإعادة نشاط الكنيسة الوطنية ، وأديرة وادى النطرون ودير أنبا  مقار ، وجاء الرهبان أفواجاً يؤكدون إخلاصهم للقائد العربى " حسين فوزى : سندباد مصرى صـ 164 .
([3]) صدام الحضارات صـ 238
([4]) المصدر السابق صـ 240
([5])  المصدر السابق  صـ 343 -  344
([6]) علماء الإسلام يردون على هجوم الجانب المسيحي بندوة الحوار صـ 1 على شبكة ليلة القدر.
([7]) وليم سليم: حوار الأديان صـ 173 - 174

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...