إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 5 أبريل 2020

الطلاقالشفوي صار لغواً في المجتمع المعاصر


الطلاق الشفوي صار لغواً 
في المجتمع المعاصر 
   
                                                                   أ. د/ محمد شامة 

يحرص الإسلام حرصاً شديداً على استقرار الحياة الزوجية؛ إذ نجد في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يدعو الزوجين إلى العمل على استمرار حياتهما على نحو يكون فيه استطاعتهما، لأن عقد الزواج في نظر الإسلام عقد دوام وتأبيد إلى أن تنتهي حياة الزوجين، الأمر الذي يجعل الزوجين يبذلان ما في وسعهما ليجعلا من البيت مهداً يأويان إليه، فيجدان فيه الراحة، وينعمان في ظلاله بالهدوء والسكينة ليتمكنا من تنشئة أولادهما تنشئة صالحة. فإذا حدث ما يعكر صفو هذه الحياة فالمخرج منها هو الطلاق.
فإباحة الإسلام الطلاق هو علاج لما يحدث في المجتمع من خلل في الحياة الزوجية، نتيجة تحريم بعض الأديان تحريماً باتًّا. ذلك أن هذا الوضع يخلق ظروفاً غير صحية بين الزوجين، إذا وجد في حياتهما ما يستدعي إنهاء عقد الزواج بينهما.
ومن أجل هذا كانت الصلة بين الزوجين من أقدس الصلات وأوثقها، والدليل على ذلك أن الله سمى العقد الذي بين الزوج وزوجته بالميثاق الغليظ، فقال تعالى:
   ﱡﭐ       [النساء: ٢١]
فإذا كانت العلاقة بينهما على هذا النحو من التوثيق المؤكد، الذي ينبغي أن يقوم على أساس التعاطف، والود، والرحمة، واستقرار الحياة بين الزوجين، فإنه لا ينبغي الإخلال بهذا كله، أو التهوين من شأن ما يعمل على تقوية الروابط الزوجية.
لأن أيّ شيء يفسد هذه الصلة، أو يضعفها، أو يبدد السكينة، والمودة، والرحمة التي ينبغي أن تكون بين الزوجين، فهو بغيض إلى الإسلام؛ لأنه يهدد كيان الأسرة، ويقضي على مصالح أفرادها، فيقذف بهم في مهب ريح الحياة، أو يرمي بهم إلى قاعٍ سحيق، لا يعرفون له قراراً، ولا يدركون فيه للحياة معنى: ولهذا جاءت الأحاديث النبوية مبينة أن الطلاق من أبغض الحلال إلى الله، فعن ابن عمر أن رسول الله e  قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق."
وعليه فإن أيّ إنسان يجاول أن يفسد ما بين الزوجين من علاقة المحبة، والمودة، والرحمة، فهو في نظر الإسلام خارج عنه، وليس له شرف الانتساب إليه؛ يقول رسول الله  e  : "ليس منا من خبب (أي أفسد) امرأة على زوجها.) 
كذلك نهى الإسلام المرأة عن محاولة إفساد ما بين الزوجين، بغية التأثير على الرجل، ليتزوجها بعد أن يطلق امرأته؛ فعن أبي هريرةt   أن رسول الله e  قال: "لا تسال المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها (أي لتخلي عصمة أختها من الزوج ونحظى بزوجها) ولتنكح (أي لها أن تتزوج زوجاً آخر)، فإن لها ما قدر لها.)
ولكن إذا استحالت الحياة بين الطرفين، فإن الطلاق هو المخرج من هذه الأزمة؛ إذ هو علاج لظروف طرأت على الحياة الزوجية، تجعل استمرارها في ظل هذه الظروف المستجدة في حكم المستحيل، أو تضفي عليها نوعاً من اليأس والقنوط في حياتهما المشتركة. ولهذا أباحه الإسلام وإن كان بغيضاً، لأنه يفرق بين اثنين جمع بينهما ميثاق غليظ، ويهدم أسرة يسبب هدمها إصابة المجتمع بالخلل الذي يكون بمثابة فيروس ينخر في عظام التماسك الاجتماعي، ويصيب النشء بأمراض نفسية واجتماعية تؤثر سلباً على تعامله مع المجتمع، وتحد من نشاطه العلمي والاجتماعي، بل قد تصيبه بالعجز عن بناء مستقبله، ولهذا بيَّن الله على لسان نبيه بأنه أبغض الحلال، مقيداً استخدامه بأنه لا يقع إلا في حالات معينة: إذ لا يقع في حال حيض الزوجة، ولا يقع في حال الغضب، أو في ما يصيب المرء بالعجز عن إدراك ما يقوله، كالسكر، وتغييب العقل بأيّ شيء، حتى ولو كان محرماً في رأي بعض الفقهاء.
     لم يبين القرآن الكريم صيغة الطلاق، بل أطلقها في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ         [البقرة: ٢٣١]
وقال: ﱡﭐ   ﱿ     [البقرة: ٢٣٢]
وقال: ﱡﭐ   [الطلاق: ١]
     إذ تحدد هذه الآيات الثلاث زمن وقوع الطلاق دون توضيح لصيغته، فصال العلماء في بيان صيغته وجالوا؛ إذ قسموها إلى صريح وكناية، ووضعوا تحت كلٍّ منهما ألفاظاً وتعبيرات لم يرد لها ذكر في القرآن الكريم، بل توصلوا إليها طبقاً لظروف عصرهم، ومقتضيات حياتهم، وكل ذلك أملته ظروف المجتمع وطبيعة الحياة التي عاشوها؛ فكل ما قالوه في هذا الصدد مرتبط بخلفيتهم الثقافية، ومتعلق بعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، فهو نتيجة لفهمهم لمنطوق القرآن الكريم: (وإذا طلقتم). فلم ينص القرآن الكريم على ما ذهبوا إليه من صريح وكناية، ولم يبين حالات من يتلفظ به، ولذا فما قاله العلماء كلام بشر، وفهم لأفراد متأثرين بثقافة، وخاضعين لعادات وتقاليد قابلة للتغيير والتطوير، وهو ما حدث الآن؛ فثقافتنا تختلف جزئيًّا أو كليًّا عن ثقافتهم، وتقاليدنا دخلها التغيير والتطوير مما يحتم علينا أن ننظر فيما قالوه؛ لأنه ليس نصًّا مقدساً، بل هو رأي بشر.
     الإسلام صالح لكل زمان ومكان على الرغم من تغيّر المكان وتطور أساليب الحياة، وتنوع العادات والتقاليد؛ لأن نصوص القرآن الكريم صاغها العليم الخبير على نحوٍ تُمَكِّن كل أهل عصر من تفسيرها بما يتفق مع ظروفهم، ويتناسب مع عاداتهم وتقاليدهم، ولا يتصادم مع ثقافتهم وأساليب تفكيرهم، ولا يتنافى مع ما توصلوا إليه من نظريات، سواء كانت متعلقة بمظاهر الطبيعة وتراكيب الكون، أو كانت نتيجة لتراكم الثقافات، وتطور الأفكار؛ لأن ما يتعلق بالتطوير والتجديد تحدث القرآن الكريم عنه بما يتفق مع المبادئ العامة. وتعبر عنه العناصر الأساسية، وترك التفصيلات والتفريعات إلى فكر الإنسان يعبر عنها بما يوافق عصره، ويتناسب مع ظروف حياته، ويتلاءم مع قدرته وإمكاناته، فالنص القرآني حمال أوجه، فالقرآن الكريم قطعيّ النص ظنيّ الدلالة، وهذا هو سِرُّ إعجازه الذي تحدى به البشرية كلها بأن تأتي بمثله، فعجزت: لأنه ليس بمقدور أيّ بشر أن يصيغ مبدأً يصلح تطبيقه لكل الناس، ويمكن أن يطبق في كل العصور على اختلاف درجة حضارتها وتنوع ثقافتها، واختلاف عاداتها وتقاليدها، وللتدليل على هذا نسوق هذين المثالين:
1.    الشورى، فقد قال الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) [الشورى 38] ، ولكنه لم يبين طريقة وأسلوب تطبيق الشورى؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد حدث أن تغيرت ثلاث مرات في فترة زمنية قصيرة، فاختيار عمر t   اختلف عن اختيار أبي بكر t   ، فما بالك وقد مضت قرون، وتعاقبت السنون؟ فتطبيق الشورى في عصرنا الحالي يختلف كلية عما طُبِّقَ في عصر الخلفاء الراشدين؛ فقد سمحت الصيغة القرآنية بذلك؛ لأنها عبرت عن المبدأ العام وتركت التفاصيل لكل عصر يصيغها المفكرون طبقاً لأحوال معيشتهم ومراعاة لظروف حياتهم.
2.    ستر العورة: لم يبين القرآن الكريم لنا كيفية ذلك، بل أطلقها كمبدأ عام، ولذلك اختلفت ملابس الناس التي تستر عورتهم باختلاف عصورهم، وتباين ثقافتهم؛ لأنها من الأمور التي تتغير وتتطور. ولهذا جاء التعبير عنها في القرآن الكريم عامًّا، فقال تعالى: ﱡﭐ   ﱿ        [النور: ٣٠ – ٣١] ، فما هي صورة الملابس التي تستر العورة؟ لم يحددها القرآن الكريم؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتتشكل طبقاً لدرجة الحضارة ونوع الثقافة..
      يجب على من يمارس الفتوى في المسائل الفقهية أن يدرك أن كثيراً من الأحكام الشرعية جاءت في القرآن الكريم على نحوٍ يبيح للعلماء في كل عصر أن يشرحوا آيات الأحكام بما يتناسب مع طبيعة العصر، ويتوافق مع أسلوب الحياة في البيئة التي يتواجدون فيها، إلا إذا كانت الآيات القرآنية قطعية الدلالة، وهي قليلة جدًّا. أما معظم الآيات القرآنية التي عبرت عن أحكام فقد جاءت من القسم الثاني، ألا وهو ظنيّ الدلالة ليتاح للعلماء في كل عصر أن يفسروها طبقاً لظروفهم وأحوالهم. ويندرج تحت هذا القسم مسألة الزواج والطلاق. فقد عبر القرآن الكريم عن الزواج في قوله تعالى:  ﭐﱡﭐ ﱿ    [الروم: ٢١]، فلم يبين صيغة عقد الزواج مما أتاح للعلماء أن يفصلوا فيه ويفرعوا في صيغه وألفاظه، وكان هذا مجالاً لاختلافهم في طريقة العقد وألفاظه التي يعقد بها، وأساليب التوثيق مما جوز لهم في العصر الحديث أن يذهب بعضهم إلى أنه لا يعتبر زواجاً صحيحاً إلا إذا عقده الموظف المختص وسجله في سجلات الدولة. الأمر الذي لم يكن متبعاً في عصر صدر الإسلام حتى بداية القرن العشرين، وجاز لهم ذلك لأن القرآن الكريم لم يبين صيغة العقد، ولم يذكر شيئاً عن وجوب تسجيله في سجلات الدولة.
      كذلك إبطال هذا العقد لا يعتبر سارياً إلا إذا سُجِّل في السجلات المعدة لذلك، أي أنه يرفع ما كُتِب في هذه السجلات في زمن سابق من تراضي الطرفين على أن يقوم بينهما علاقة زوجية، وليس هذا مخالفاً لنص شرعي؛ لأنه لا يوجد نص في القرآن الكريم يحدد صيغة معينة للطلاق، كذلك لم يرد في السنة النبوية ما يفيد ذلك، أما الاحتجاج بأن ذلك هو ما تعارف عليه المسلمون منذ فجر الإسلام، وطبقوه، وما رسوه في كل أنحاء العالم الإسلامي حتى الآن، فذلك تفسير لما نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إذا طلقتم"، والتفسير رأي بشري، ارتضاه الناس طبقاً لعاداتهم وتقاليدهم، ولم يخرج عن إطار ثقافتهم وسقف تفكيرهم.
     فإذا اتسعت آفاق الثقافة، وتراكمت لديهم المعرفة عبر القرون، واختلفت أساليب حياتهم، وتطورت عاداتهم وتقاليدهم، يجوز لهم تغيير صيغة وأسلوب وقوع الطلاق بتسجيله، أي بذهاب من يريد طلاق زوجته إلى المأذون، أو الموظف المختص ومعه شاهدان ويسجل رغبته في طلاق زوجته في السجل الخاص بذلك، لأن الطلاق الشفوي صار في هذا العصر من لغو القول فلا يعتد به، وبذلك نحد من ارتفاع نسبة وقوع الطلاق؛ لأن تقييده بذلك يعطي للرجل فرصة للتفكير. ولا نغفل عن تأثير الشاهدين عليه بنصحه بالرجوع عن اتخاذ هذا الإجراء، وهذا ليس مخالفاً لنص في القرآن الكريم؛ إذ ليس فيه نص يحدد صيغة الطلاق، فقد أباحه دون تحديد نص لذلك، أضف إلى ذلك أن لوليّ الأمر تحديد المباح إذا كان في إطلاقه ضرر. وما تعارف عليه الناس من تحديد نص لوقوع الطلاق، فهو أسلوب وصل إليه المسلمون في فهمهم لقوله تعالى: "إذا طلقتم"، فيجوز تغييره لأنه رأي بشر، وليس نصًّا مقدساً. وكما بينت هو إجراء يمكن أن يحد من ارتفاع نسبة الطلاق، وبهذا نحمي الأسرة من التفكك ونحافظ على النشء من الآثار النفسية والمادية التي قد تصيبهم من جراء انفصال والديهم.
     هذا رأيي، وهو رأي بشر يحتمل الخطأ والصواب، وأظن أنه رأي صائب وسديد؛ لأنه يواكب العصر، ويسهم في حل المشكلات المنتشرة الأن في مجتمعنا المعاصر، وإن كان الآخر فلن أُحْرَم من أجر هذا الاجتهاد، كما قال رسول الله e:  "من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن أصاب فله أجران."
                                                         والله أعلم
                                                                           أ.د/ محمد شامة
  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...