الخلافة وظيفة مدنية
أ. د/ محمد شامة
الخلافة لغة:
مصدر تَخَلَّف فلان فلاناً، إذا تأخر عنه، وإذا جاء خلف آخر. ويقال: خَلَفَ فلان
فلاناً إذا قام بالأمر عنه، إما معه وإما بعده. قال تعالى:ﱡﭐ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱠ
[الزخرف: ٦٠]
والخلافة:
النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه. واستخلفه: جعله
خليفة له. والخلافة: جمع خليفة، وخلفاء: جمع خليف. والخليفة: السلطان الأعظم.
ظهر هذا
التعبير بعد انتقال الرسول e إلى الرفيق الأعلى، حيث اجتمع
الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتشاور فيمن يخلف رسول الله e في تدبير شئون الدولة، ولما علم أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما بذلك أسرعا إلى هناك، وتشاورا جميعاً في هذا الأمر. ومن الأمور
التي اقترحت في هذا النقاش: مِنَّا أمير ومنكم أمير، وكذلك: نحن الأمراء وأنتم
الوزراء. وبعد نقاش طويل اتفق الجميع على مبايعة أبي بكر خليفة لرسول الله e فكان هذا أول استعمال لهذه الكلمة كوصف لمن
يدير شئون الأمة بعد رسول الله e ، ولكنه لم يطلق على من تولى الأمر بعده، وهو عمر بن الخطاب، بل
أُطْلِق عليه: أمير المؤمنين؛ لأنهم استثقلوا تعبير خليفة خليف رسول الله e .
ومن الجدير
بالذكر أنه لم يستشهد أحد من الحاضرين في اجتماع سقيفة بني ساعدة بنص ديني يلزم
الحاضرين بتعيين خليفة، مما يدل على أن الأمر المعروض على المجتمعين ليس دينيًّا
بل يتعلق بأمور دنيوية. كذلك لم يُسَمِّ رسول الله e من يخلفه حتى لا يكون ذلك فرضاَ دينيًّا يتحتم
على المسلمين الالتزام به، فيكون ذلك تقييداً لهم يمنعهم من مواكبة العصر وملاءمة
البيئة في اختيار من يناسب ظروفهم ويتوافق مع عصرهم في اختيار الطريقة الملائمة
لوضعهم التاريخي وموقعهم الجغرافي.
وهنا يتبادر
إلى الذهن عدة أسئلة:
الأول: لماذا لم يُعَيِّن رسول الله e خليفة للمسلمين يتولى أمور المسلمين من بعده؟
وجواب هذا السؤال
من شقين:
1. لو فعل ذلك لوجب على كل حاكم تعيين من يحكم بعده،
وهذاباب يلج فيه الصالح والطالح.
2. وهذا أمر يقف حجر عثرة أمام تطور أساليب الحكم عبر
الزمان، واختلافها تبعاً لتنوع أساليب حياة الشعوب على الكرة الأرضية، فعدم تسمية
الحاكم لمن يحكم بعده يعطي الفرصة لكل شعب أن يختار حاكمه بالصورة التى تلائم عصره
وتناسب وضع بلده الجغرافي.
السؤال الثاني: لماذا لم بختر المسلمون فى سقيفة بني
ساعدة عليًّا؛ باعتباره أقرب إلى رسول الله e ؛ فهو ابن
عمه، تربى في بيته، ووضع نفسه فداءً له ليلة الهجرة وذلك بالنوم في فراشه وهو يعلم
أنه ربما باغتته قريش وقتلته على اعتبار أنه محمد؛ وبالإضافة إلى ذلك فهو زوج أعز
الناس إلى رسول الله e وهي فاطمة.
لو فعلوا ذلك
لكانت قاعدة يلتزم بها المسلمون، وهي وراثة الحكم في آل رسول الله e ، وهذا يتنافى مع مبدأ الشورى التى نص عليها
القرآن الكريم في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ ﲔ ﱠ [الشورى:
٣٨]
السؤال
الثالث: لماذا لم يستهشد المجتمعون في سقيفة بني ساعدة بنص ديني من القرآن الكريم
أو السنة النبوية ؟
لأنه
لايوجد نص يتعلق بهذه المسألة في القرآن الكريم، وما يستشهد به القائلون بأن
الخلافة منصب دينى من أحاديث فليست من الأمور المجمع عليها، أو على أقل تقدير لا
تسلم بعض الاتجاهات الفكرية في المجتمع الإسلامي بصحتها.
ومن
الجدير بالذكر أن الإسلام لم يطلب من الإنسان أن يكبت غرائزه بل شرع من الأحكام ما
يُقَوِّمها ويشبعها بطرق لاتضر الإنسان ولا ينتج عن إشباعها ضرر بالمجتمع
الإنساني.
ماعلاقة
منصب الخلافة – أو الملك والسلطان – بالغريزة الإنسانية"؟
الغريزة: هي السلوك
الذي يحدث بشكلٍ عفوي وتلقائي من قبل الكائن الحي، لأنها من الأشياء التي تولد
معه، وأحياناً يُطلق عليها اسم السلوك الفطري؛ فلا يمكن تدريسها أو تعليمها
للإنسان أو الحيوان، حيث لا يمكن أن نمسك أي كائنٍ حي ونعلمه كيفية القيام
بالأشياء الغريزية، لأنه يأتي متعلماً لها من ذات الطبيعة ومنذ ولادته. وهي تساعد
الكائنات الحية على البقاء في الحياة. إذ هي من الأشياء المتأصلة في سلوك الكائن
الحي، ولا يمكن تغييرها، لأنها تخرج منه بصورةٍ ذاتية، وتتم بطريقةٍ نمطيةٍ جداً.
فليس من الضروري أن يتم ممارستها حتى يتعلمها الكائن من ذات نفسه. فهي في الكائنات
الحية حب التفوق على الأخرين والسيادة عليهم, فالإنسان منذ وعيه يميل إلى
التحكم فيمن حوله والرياسة على بني جنسه؛ ففي الحياة البدائية دفعته غريزته إلى
تولي رئاسة قبيلته، وفي العصور التاريخية مارس انتزاع السلطة على من يعيشون معه
بالقوة, ولما تطورت حياة المجتمعات، اخترع من الأساليب ما يوصله إليها وآخر تلك
الأساليب: الديمقراطية.
ومن أشهر معانيها في
اللغة العربية: الطبيعة، والسَّجِيَّة، والقريحة، والطبيعة، والأصل، ومن أمثلتها:
غريزة البقاء، والغريزة الجنسية، وغريزة الهروب، وغريزة الجوع، وغريزة إشباع حاجات
الجسم الداخلية، وغريزة حب الرياسة والسيطرة على من يعيشون معه في المجتمع كما ذكرنا
آنفاً، وغيرها الكثير.
وهي تختلف عن الفطرة التي
هي السلوك الذي يتعلمه الكائن الحي من خلال عدة وسائل مثل الملاحظة، والخبرة،
والتعليم، والتكرار؛ ولذا يجب أن يتم تدريسها كي يستطيع الكائن الحي القيام بها؛ لأنها
من الأشياء غير المتأصلة في السلوك، ويمكن تغييرها وتوجيهها. فلا بدّ من ممارسة
الأشياء الفطرية حتى تتأصل في سلوك الكائن الحي، كأن يتم توجيه الطفل مثلاً للتدين
بدين معين مثل الإسلام، أو المسيحية، أو اليهودية، أو غيرها. ويمكن التحكم بفطرة
الكائن الحي وتوجيهه نحو سلوكٍ معين. وعليه فمعنى الفطرة أشمل من معنى الغريزة
وأعم، لأن الغريزة تمثل جزءًا من الفطرة.
ومن هنا فقد عني الإسلام بغرس الفطرة عند الفرد
وتوجيهها الوجهة السليمة حتى يتعود الإنسان على ما تقره تعاليمه وتنسجم فطرته مع
ما تأمر به الشريعة وتجتنب عن كل تنهى عنه، أما الغريزة فهي موجودة في الإنسان
وتدفعه إلي إشباعها، التي بتدخل الإسلام في طريقة الإشباع؛ فهو – على سبيل المثال-
لا يغرس حب السيطرة وتولي الملك والسلطان فى نفوس الفرد كما هو الحال مع الفطرة،
فهي من طبيعة خلقته، ولا يطلب منه كبتها ومحوها من طبيعته بل يبين له الطريق
الأمثل في إشباعها، ولهذا لم يتدخل في فرض نظام معين في تولي الحكم والسلطان،
فللمجتمع أن يختار ما يناسبه: خلافة، أو ملكاً، أو إمارة
اشتد الجدل منذ
سقوط الخلافة العثمانية "الإسلامية" بين تيارين فكريين في المجتمعات
الإسلامية، وخاصة في الأقطار العربية: أحدهما يناضل من أجل عودة الخلافة مستنداً
إلى أنها فريضة إسلامية، والآخر يبذل كل جهد فكري لبيان أنها –أي الخلافة- مسألة
دنيوية، لا شأن للدين بها. وتزعم كلا الفريقين من يتطلع إلى السلطة، ويبذل كل ما
في وسعه لتهيئة الرأي العام للوقوف بجانبه، كي يرقى إلى الحكم، ويتبوأ مركز القرار
في الدولة؛ فحاول الملك فؤاد في مصر تشجيع وتأييد تيار المؤيدين لعودة الخلافة؛
ليمهدوا له الطريق لإعلانه خليفة للمسلمين، فطفق مؤيدوه يستنطقون الكتاب والسنة
لتأييد رأيهم في أن إقامة الخلافة واجب شرعي، حيث يرون أن حديث الغدير يؤيد رأيهم
في كونها مسألة شرعية. ونص الحديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من
والاه وعادي من عاداه" [1]
اتفقت جميع الفرق
الإسلامية، قديمها وحديثها، على وجوب الإمامة، فعلى الأمة تعيين إمام عادل، يقيم
أحكام الله، ويسوسها بتعاليم الشريعة التي نزل بها وحي الله على رسوله e ؛ فقد ورد في جميع الكتب التي تناولت هذا الموضوع أن ولاية أمر
المسلمين من أعظم واجبات الدين، وأن الدين لا يقوم إلا بها، تطبيقاً لأمر رسول
الله e
في حديث ورد في سنن أبي داوود، ونصه: "إذا خرج ثلاثة في سفر
فليؤمروا أحدهم ..."[2]
، وقوله e
: " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية." [3]
كذلك قال المفسرون في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ [البقرة: ٣٠] أن هذه الآية أصل
في تنصيب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتُنَفَّذ به الأحكام.
ومما يدل على
أهمية ووجوب تعيين خليفة للمسلمين أن الصحابة اهتموا بذلك بعد وفاة النبي e تاركين أهم الأشياء، وهو دفن الرسول e ، وردوا على من يرى أن
إقامة الشرع وتنفيذ أحكام الله يمكن أن يقوم بها المجتمع دون تعيين خليفة لذلك،
بأن الشارع أمر بإقامة الحدود، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش للجهاد، وكثير من الأمور
المتعلقة بحفظ النظام، وحماية بيضة الإسلام مما لا يتم إلا بإمام؛ وما لا يتم
الواجب المطلق إلا به، وكان مقدوراً عليه، فهو واجب. ويردد هؤلاء: إذا أريد
للإسلام أن يعمل فلابد له أن يحكم، فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد،
أو يستكين في القلوب والضمائر، إنما جاء ليحكم الحياة ويصرفها، ويصوغ المجتمع وفق
فكرته الكاملة عن الحياة، لا بالوعظ والإرشاد بل كذلك بالتشريع والتنظيم.
غالى المسلمون
في إضفاء مسوح الدين على من يتولى الخلافة – أو الملك أو السلطان حسب التعبيرات التي
كانت مستعملة في تلك العصور- فرأوا أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى،
وقوته من قوته، وهو رأي يعتنقه عامة المسلمين، وعامة العلماء أيضاً؛ فهم يرون أن
الخليفة ظل الله في أرضه، فلقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على ألسنة الناس دافعاً
للشعراء أن يصلوا في مبالغتهم في مدح الخلفاء إلى وضعهم في مواضع العزة والقدسية،
أو قريباً منها، بل ذهب بعضهم إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخلية، ويسوق
إليه الخلافة؛ فقد قال جرير في مدح عمر بن عبدالعزيز:
جاء الخلافة أو كانت له
قدراً * كما أتى ربه موسى على قدر
وقال
جرير:
ولقد أراد الله إذ
ولاكها * من أمة إصلاحها ورشادها
وقال ابن هانئ
الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله:
ما شئت لا ما
شاءت الأقدار *
فاحكم فأنت الواحد القهار
و
كأنما أنت النبي
محمد * و كأنما
أنصارك الأنصار
وقال طريح يمدح
الوليد بن يزيد:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم * تطرق عليك
الحنا والولج
طوبى لفرعيك من هنا
وهنا * طوبى لأعراقك التي نشج
لو قلت للسيل دع طريقك والمو
* ج عليه
كالهضيب يعتلج
لساخ وارتدا أو لكان له
* في سائر الأرض عنك منعرج[4]
قال
الحطيئة:
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه *
ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها
* لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
وقال الفرزدق في مدح هشام بن عبد الملك:
هشام
خيار الله للناس والذي * به ينجلي عن كل
أرض ظلامها
وأنت
لهذا الناس بعد نبيهم *
سماء يرجى للمحول غيامها
فهل تقر الشرائع
والتعاليم الإسلامية جواز إلحاق مثل هذه الأوصاف لبشر؟ لا...وألف لا....
لهذا لا ينبغي – بل ولا يصح – وصف منصب الخلافة بأنه
منصب ديني، وإلا تطرق الأمر إلى قبول هذه الأوصاف – التي تشير إلى تقديس من يتولى
هذا المنصب – دينيًّا، وذلك منافٍ لتعاليم الإسلام وقيمه.
أضف إلى ذلك أن من ضرورة نفي الصبغة الدينية عن هذا
المنصب، ما سجله التاريخ الإسلامي من التشاحن والتطاحن بين المسلمين للوصول إلى
كرسي الخلافة، مما أدى إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى، ومئات الآلاف من الجرحى
في المعركة الواحدة من المعارك التي جرت حول هذا المنصب؛ إذ من الإنصاف للإسلام
النظر إلى هذه الخلافات والمعارك التي دارت عبر التاريخ الإسلامي حول الحكم
والسلطان بأنها أمور سياسية وليست دينية، فالمجال السياسي مليء بالمؤامرات
والدسائس، وكثير من أعمال الساسة بعيدة كل البعد عن مجال الأخلاق الحسنة، فضلاً عن
مخالفتها لتعالم الإسلام وشريعته.
فهل يفهم من ذلك أن الإسلام بعيد عن السياسة فلم يضع
نظاماً للحكم يلتزم به المسلمون؟
لا!!! بل رسم الخطوط العريضة التي تصلح
للتطبيق في كل زمان ومكان ، فقرر أن لكل مواطن الحق في أن يتولى المناصب في الدولة
- من أدناها إلى أعلاها – دون النظر إلى بيئته الاجتماعية ، ومركزه المالي، فليست
رئاسة الدولة ، وقياداتها حكراً على طائفة معينة من الشعب ، بل هي حق للجميع
مادامت الصفات التي تؤهل لهذا العمل قد توافرت في الشخص ، ورضى الناس بولايته ،
وبتعبير عصري: مادام قادراً على الاضطلاع بمسئوليات الدولة ، وانتخبه الشعب
انتخاباً حراً ؛ إذ لو حدد الإسلام نظاماً للحكم تحديداً مفصلاً لصلحت هذه الصورة
لشعب دون آخر ، ولأصبح تطبيقها ممكناً في زمن دون آخر . فاكتفاء الإسلام برسم
الخطوط العريضة فى مجال الحكم يفيد أنه راعى الاختلاف في الزمان والمكان، وأتاح
الفرصة للتصورات العقلية المختلفة لممارسة الأسلوب الديموقراطي بأوسع معانيه؛ إذ
مادامت الحرية مكفولة للجميع في تكييف المجال السياسي بالشكل الذى تراه كل مجموعة
-بشرط أن يكون داخل الحدود العامة التي رسمها الإسلام – أنه الأصلح لحكم الشعب،
فلا حرج على أحد في أن يطرح تصوره للجماهير، ويدافع عنه، وذلك هو الأسلوب الأمثل في
ممارسة الديمقراطية.
ولم يحدد الإسلام في
المجال الاقتصادي نظرية ثابتة، بحيث يلتزم كل مجتمع بتطبيقها، مهما كانت ظروفه
الاجتماعية والثقافية، بل وضع الإطار الأساسي، الذي يحفظ لكل ذي حق حقه، وترك رسم
الهيكل الاقتصادي التفصيلي لكل أمة، حسب المعطيات المتاحة لها، وطبقاً لعلاقاتها
مع الدول التي تتعامل معها في هذا المجال، بحيث لا يخرجها أسلوب التعامل مع أي من
الأنظمة المالية في العالم عن هويتها، كدولة إسلامية، تحافظ على تطبيق ما جاء في القرآن
الكريم من أوامر ونواهٍ في أيٍّ من المجالات الدولية.
ومن بين الأطر العامة
التي رسمها الإسلام في عالم المال: عدم الاستغلال، فلا يجوز لأحد، أو لمجموعة
اقتصادية، أو شركة من الشركات التي تزاول نشاطاً اقتصادياً، أن تستغل الإنسان
فتسلبه ماله، أو جهده، سواء كان هذا الجهد بدنياً، أو ذهنياً. كذلك لا يجوز احتكار
سلعة ما، لاستغلال الجماهير التي تستخدم هذه السلعة، أو تستهلكها، فلا يحق لأحد أن
يتلاعب في مسألة العرض والطلب للحصول على كسب مغالى فيه، ولا يزاول نشاطاً تجارياً
فيما يعود على الفرد أو المجتمع بالضرر، أيًّا كان نوع هذا الضرر، فلا يجوز على
سبيل المثال، لا الحصر، الاتجار في المخدرات ومشتقاتها، ولا في نوع من الأسلحة، إن
اتفق المجتمع الدولي على تحريم مداولته أو صنعه، لما يترتب عليه من هلاك للنوع
البشري، أو ضرر بالغ يلحق مجموعة من الناس.
كما يجب أن يلتزم كلٌّ في معاملاته
المادية الحدود التي شرعها الله، فلا يحدد صيغاً من العقود، تساعده على أكل أموال
الناس بالباطل، لأن الله حرم ذلك في كثير من آياته، يقول تعالى: ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﱠ [ البقرة: ١٨٨ ] .
ويقول: ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ[ النساء: ٢٩] .
بل إنه ذم أولئك الذين يستغلون الناس باسم الدين، فيسلبونهم أموالهم، فقال:
ﱡﭐ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱠ [ التوبة: ٣٤] .
ولم تهمل التعاليم الإسلامية مبدأ الرعاية
الاجتماعية، فقد فرض الإسلام على صاحب المال أن يخرج جزءاً من ماله للفقراء
والمساكين، وللدلالة على أهمية هذا الفرض قارن بينه وبين أهم ركن من أركان الإسلام،
وهو الصلاة، فقال تعالى: ﱡﭐﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﱠ [ البقرة:
٤٣] .
فدلت هذه المقارنة
على أمرين:
الأول:
أن أمور الدين والدنيا في الإسلام وحدة
لا تنفصم.
الثاني: أن
الرعاية الاجتماعية لازمة في الإسلام لزوم العبادات. ولأهمية هذا الجانب الاجتماعي:
فصل الإسلام الأنواع التي يجب أن تصرف الزكاة لهم، وعبر عن ذلك تعبيراً يفيد أنه
حق لهم، وليس تفضلاً عليهم، فقال تعالى: ﱡﭐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ [ التوبة:
٦٠] .
كما بَيَّن أن هذا الالتزام بهذا الجانب مع تأدية الصلاة يضفى على الإنسان
الراحة والطمأنينة في المجتمع، وتلك هي القاعدة التي ينشدها الأفراد في حياتهم،
كما تسعى الدول إلى الوسائل التي تحققها لشعوبها. ويصور القرآن الكريم هذا المعنى
-وهو اطمئنان النفس وراحة الأعصاب -، فيقول: ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﱠ [ المعارج: ١٩ – ٢٥] .
فالاهتمام بالجانب
الاقتصادي على هذا النحو يبين مدى امتزاج الأمور الدينية بالمسائل الدنيوية في
التعاليم الإسلامية، مما يجعل المناداة بفصل الدين عن الدولة في المجتمع الإسلامي
غير مقبول، لفقدانه الأسباب التي تدعو إلى هذا الاتجاه.
ومن القوانين
واللوائح في المجال الاجتماعي ما يلائم طبيعة الإنسان ، ويتفق مع متطلباته في
الحياة ، بحيث يعيش حياة هادئة ، يسودها الاطمئنان ، وترفرف عليها أجنحة السعادة
والهناء ، فلم يفرض شيئاً لا يمكن تطبيقه ، ولم يأمر بتطبيق نظرية تتعارض مع بناء
مجتمع سليم ، متماسك البنيان ، فإذا استعرضنا - على سبيل المثال – عقد الزواج ،
وهو اللبنة الأولى في تكوين الأسرة ، التي هي أساس البناء الاجتماعي ، لوجدنا أنه
رسمه على نحو يضمن لكل طرف فيه إنسانيته ، ويحافظ على شعوره ، ويحمى استقلاله ،
بحيث لا تفنى شخصيته في ظل كيان الطرف الآخر ، وفى الوقت نفسه وضع ضمانات تمنع
تفكك الأسرة وتمزقها، فهي هيكل متماسك ، شديد البنيان ، مع الاحتفاظ بشخصية كل فرد
فيه داخل الإطار العام الذى يصون هذه الخلية الأساسية فى تكوين المجتمع من عوامل
التفرق والانهيار .
فعقد الزواج قائم على
الاختيار، وتبادل العواطف، فلو فرض فقدان هذا العنصر بعد فترة من الزمن، فمن
المسموح لهما أن يفترقا بمجرد اتفاقهما على أن الحياة المشتركة أصبحت بالنسبة لهما
غير ممكنة. ولا يحق لأحد، مهما كان مركزه في سلم الوظائف الدينية، أن يمنعهما من
تنفيذ ما اتفقا عليه، لأن الإسلام يرى أن الحياة الزوجية أساسها الألفة والمودة
والمحبة، فإذا لم توجد هذه المعاني، فلا فائدة من البقاء تحت سقف واحد . فأبدية
الزواج في نظر الإسلام لا تكون إلا على أساس سليم، ألا وهو رغبة الطرفين في الحفاظ
على الحياة الزوجية، فإذا لم يجدا في استمرار حياتهما معاً ما يضفي السعادة عليهما،
فلا بأس من إنهاء عقد الزواج.
فهذا الأسلوب في
استمرارية الحياة الزوجية، وعدم استمراريتها، يتفق وطبيعة النفس البشرية، فهو لا
يفرض عليها شيئاً تحس معه بعدم الرضا، أو يدفعها إلى التحايل للتوفيق بين متطلبات
العقيدة الدينية، ومطالب الحياة. ومن صور التحايل في هذه الظروف الالتجاء إلى عقد
الزواج فيما يسمونه المكاتب المدنية، ويطلقون على هذا: "الزواج المدني"
في مقابل " الزواج الديني "، وهو أسلوب من أساليب فصل الأمور الدينية عن
مجالات الحياة المدنية، إذ عندما يصطدم الناس بنص ديني لا يتفق مع طبيعتهم البشرية،
فإنهم يلجؤون إلى أسلوب مدني يرفع هذا التعارض، ويسمون ذلك فصلاً للدين عن الأمور
المدنية.
ولما كانت القواعد
الإسلامية التي شرعها الله في مجال الحياة الزوجية لا تصطدم مع طبيعة الحياة
الإنسانية فليس هناك ما يبرر الالتجاء إلى عقد الزواج بعيداً عن إطار التشريع
الديني، ولذا لا نجد الازدواجية في عقد الزواج -وهي المعروفة في المجتمعات
الأوربية التي فصلت الدين عن الدولة – في المجتمعات الإسلامية، فليس فيها عقد زواج
في المكتب المدني، ثم مراسيم الزواج الدينية، وإنما يُعْقَد الزواج وتُقام
المراسيم في مكان واحد. ولا يشترط أن يكون في مسجد، بل يصح أن يُعْقَد في أي مكان.
وذلك مظهر من مظاهر عدم الفصل بين أمور مدنية، وأخرى دينية، إذ لا يوجد إلا نظام
واحد يطبق في جميع مجالات الحياة، لأن الإسلام لم يأمر بتنفيذ شيء ضد ما تمليه
طبيعة الحياة الإنسانية.
ولم تقتصر تعاليم
الإسلام في أوامرها ونواهيها على تنظيم جانب العبادة، وترتيب الطقوس الدينية داخل
الأماكن المقدسة فقط، بل تجاوزت ذلك، فشملت كل مجالات الحياة بصورها وأشكالها
المتعددة، فهي لم تبتعد عن مجال الحياة الحضارية المعاصرة؛ إذ لم يجد المرء من
الأوامر والنواهي التي فرضها الإسلام على المسلمين بسلوك الناس في أرقى المجالات
الحضارية، وداخل المؤسسات التي يظن من ليس له دراية بتعاليم الإسلام أنها بعيدة كل
البعد عن التخصص الديني في المجتمعات الإسلامية.
ويكفى في هذا المجال أن نلقى نظرة على المبادئ العامة التي لها صلة بالتقدم
والمدنية ، سواء في مجال الإنتاج، أو داخل إطار السلوك الإنساني، أو في ظل المبادئ
الأخلاقية ؛ إذ نرى الإسلام يحث المسلم على العمل المنتج ، ويحذره من الكسل
والبطالة ، أي أنه لا يرضى منه أن يعيش عالة على غيره ، لأن في ذلك عجز للأمة ،
وبُطْء في التقدم ، وإعاقة للسير على طريق البناء والعمران ، إذ كلما اجتهد
الإنسان في العمل تقدمت الأمة ، وارتقت الحياة الإنسانية بما تشيده من حضارة فى
جميع مجالات الحياة ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﱠ [ التوبة: ١٠٥] .
فالعمل في الآية ليس
خاصاً بالعبادة، ولكنه عام يشمل جميع أنواع العمل التي تؤثر في رقى الحياة وتقدمها،
فالمؤمن الصادق في إيمانه هو الذى لا يعيش عالة على مجهود غيره، وقد جاء هذا
المعنى في حديث رسول الله e حيث يقول: " لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحُزْمة الحطب
على ظهره ، فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه، أو
منعوه ". [
البخاري جـ 2 صـ 535 رقم 1402 ] .
إذ يدل هذا الحديث
على أن رسول الله e حث المسلمين على أن يعملوا ما يقدرون عليه ، بصرف النظر عن كون
هذا العمل صغيراً أو كبيراً ، فالمقصود من
الحديث دعوة كل إنسان إلى العمل ، مادام قادراً عليه ليأكل مما يكسب ، حتى لا يقتطع
جزءاً من مجهود غيره فيكون في ذلك عجز للأمة ، وتبديد لقدرات أبنائها التي هي في
أشد الحاجة إليها في مجالات التشييد والبناء .
كما حث الإسلام
العاملين على إتقان ما يصنعونه، فلا يهملون في عملهم حتى لا تخرج المصنوعات من تحت
أيديهم رديئة، أو بصورة لا تؤدى الغرض الذى من أجله صُنِعَت أداءً كاملاً، وفى هذا
يقول رسول الله e : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ". [ المعجم الأوسط جـ
1 صـ 275 رقم 897 ]
ومما لاشك فيه أن الحرص
على العمل، وإتقان ما يُصْنَع من الدعامات الأساسية في نهضة أي أمة وتقدمها، وهو
أيضاً من الأمور التي تهتم بها الدولة في المجتمعات التي فصلت الأمور الدنيوية عن
مجال الدين، فمعالجة التعاليم الإسلامية لها دليل على أنه لا يوجد في الإسلام فصل
بين ما هو ديني، وما هو دنيوي.
بل إن هناك من الأمور
ما يعتقد كثير من الناس أنه بعيد كل البعد عن مجال الدين، فيظنون أنه أشد التصاقاً
بالمؤسسات التي تهتم بالمظهر الحضاري للمجتمع منه بأوامر الدين ونواهيه، وذلك فيما
يتعلق بتجميل المدن ونظافتها والمحافظة على النظام فيها، إذ يظن العامة أن هذه
أمور لا صلة للدين بها، بينما يجد الباحث أن الإسلام اهتم بها اهتماماً بالغاً،
فقد ورد أن رسول الله e قوله: " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ( أي غصن
شجرة ) فليغرسها ". [مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ 3 صـ 191 ]
، فهذا دليل على حرص الإسلام على غرس
الأشجار حرصاً بلغ درجة عدم التفريط فيها حتى في لحظة قيام الساعة التي لن تبقى
على شيء في هذه الحياة .
أما النظافة فحدث
عنها ولا حرج، فقد أولاها الإسلام اهتماماً لا يدانيه اهتمام في أي نظام على مدى
تاريخ الإنسانية؛ إذ فرض الوضوء خمس مرات في اليوم، والغسل عند كل مناسبة أو
اجتماع، وجعل النظافة شعبة من شعب الإيمان حيث يقول رسول الله e : " النظافة من الإيمان ". [راجع : سنن الترمذي
، وسنن البيهقي الكبرى ] .
أليس هذا دليلاً
ناصعاً على أن الإسلام لا يعرف الفصل بين دين ودولة !!!
ويتضح من هذا البيان
أن الإسلام بعيد كل البعد عن السياسة ومعاركها، وإن كانت تعاليمه تطلب ممن يتولى
الحكم تنفيذ قيمه وتعاليمه في المجالات التي بيناها؛ فهو حارس للمبادئ التي يجب أن
تسود في المجتمع، ومشرفاً على تنفيذها، سواء كانت في مجال الحكم أو في أمور
الحياة: اقتصادية واجتماعية، أو غيرهما من المجالات التي تتعلق بالإنسان، حتى
تستقيم حياته، وتزدهر الحضارة الإنسانية في جميع جوانبها.
[4] ) المسلنطح من البطاح: ما اتسع واستوى سطحه. تطرق عليك: تضيق مكانك. الحنى
كالعصى جمح حنا كعصا: ما انخفض من الأرض. الولج: كل متسع من الوادي. والوشيج: أصول
النبت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق