إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,254

الخميس، 9 أبريل 2020

المواطنة إسلامية قبل أن نصير عالمية


بسم الله الرحمن الرحيم
المواطنة إسلامية قبل أن تكون عالمية
                                                                            أ. د/ محمد شامة
المواطنة: صفة دالة على المطاوعة والمشاركة، وهي مشتقة من اسم الفاعل: واطِن، وهو من الفعل الرباعي: واطَن، والثلاثي منه: وطن، أي قطن وأمن في مكان ما على بقعة من الأرض: البيت أو القرية أو المدينة أو الدولة، فكل منها وطن. ومفهوم المواطنة المعاصر هي:
الانتماء إلى مجتمع واحد يضمه بشكل عام رابط اجتماعي موحد في دولة معينة. وتبعاً لنظرية "جان جاك روسو":       " العقد الاجتماعي"، فالمواطن له حقوق إنسانية، يجب أن تقدم إليه، وعليه في نفس الوقت مجموعة من المسئوليات الاجتماعية التي يلزم عليه تأديتها.
وعليه فالمقصود من هذا المصطلح: العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعنى أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية، بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية، مثل: الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري، ويرتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات، ومن أهمها: المساواة، والحرية، والمشاركة، والمسئولية الاجتماعية.

هل يعترف الإسلام بهذا المصلح بهذا المعنى؟

ينكر كثير من المفكرين المعاصرين اعتراف الإسلام بالمواطنة ، ظناً منهم – عن جهل بتاريخ الإسلام ، أو تعصباً لأيديولوجيات تنفر من الحكم الإسلامي– أن الدولة الإسلامية لا تعترف بحقوق الأقليات التي تدين بدين آخر غير الإسلام، فهي لا تقر لهم بحقوق ، ولا تسمح لهم بحريات في المجال الديني والاجتماعي، إلا ما تسمح الأكثرية لهم به في حدود ضيقة جداً ، فهم يعيشون على هامش الحياة في المجتمع ، وعليه فالدولة الحديثة التي نشأت في أوروبا هي التي سمحت لكل الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وعقائدهم أن يعيشوا في ظل الدولة متساويين.
وهذا فهم ليس صحيحاً، بل إنه يتجاهل التاريخ الإسلامي الذى سبق الدول الحديثة في الاعتراف بحقوق الآخر، وبالتساوي بين كل الناس مهما اختلفت عقيدتهم في وقت - وهو القرن السابع الميلادي - كان التعايش بين أصحاب الأديان والعقائد المختلفة في مجتمع واحد يكاد يكون مستحيلاً ؛ فلم تقبل الأغلبية الدينية الاعتراف بالآخر، فضلاً عن السماح له بممارسة طقوسه وتطبيق شعائره في حياته الاجتماعية ، فعاشت الأقلية الدينية  – في كثير من المجتمعات الإنسانية– مضطهدة ، لم تهنأ بحياة كريمة ، ولم تأخذ حقها في الوجود ، اللهم إلا ما يجود به الآخر عليها ، حتى جاء الإسلام فأعلنها صريحة مدوية على لسان نبيه r في حجة الوداع : " أيها الناس ..... كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى .... " ، كذلك عندما هاجر رسول الله r إلى المدينة واستقر بها ، رأى أن سكانها يتألفون من ثلاث قطاعات اجتماعية : المسلمين ، واليهود ، والمشركين ، وكانت التقاليد العربية قائمة على رابطة الدم والقرابة، لكن الوضع الجديد غَيَّر هذه العلاقة ، فأصبحت : مسلمين ( مهاجرون وأنصار ) ،  ويهود ، ومشركون عرب ، فرأى الرسول r بثاقب فكره وإلهام من الله أن يرسى قواعد جديدة تنظم العلاقة بين المسلمين - وهم من قبائل متعددة- ، ومشركون عرب - وهم أيضاً من قبائل مختلفة - ويهود - ولا تضمهم قبيلة واحدة - بل كانوا بطون وعشائر متعددة .
صاغ الرسول e قواعد التعامل بين هذه المجموعات البشرية – المختلفة في دينها ، والمتعددة في أسس الترابط بينها – في وثيقة ، عُرِفَت باسم : " وثيقة المدينة"، وأطلق عليها العلماء والمفكرون في العصور اللاحقة : " وثيقة السلام " ، لأنها أرست مبادئ السلام بين القبائل العربية المتحاربة ، وبينهم وبين اليهود الذين كان بينهم وبين العرب المجاورين لهم ضغائن وإحن ، فوحدت هؤلاء جميعاً في جبهة واحدة ، يتناصحون فيما بينهم، ويتآزرون على من يعتدى عليهم ، فهم يد واحدة على من يهدد بناءهم الاجتماعي، ووحدتهم السياسية .
جاء في هذه الوثيقة أنها كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب (أي سكان المدينة من عرب ويهود) ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
-              أنهم أمة واحدة،
-             وأنهم يد واحدة على من ابتغى أو ظلم، أو ارتكب إثماً أو فساداً، فهم عليه جميعاً، حتى ولو كان وَلَدَ أحدهم.
-             وأنه لا يحل لأحد أقر بما في هذه الوثيقة أن ينصر مجرماً،
-             وأنهم جميعاً يحاربون من حارب أهل هذه الصحيفة،
-             وأنهم يد واحدة على من يهاجم يثرب،
-             وأن هذه الوثيقة لا تحول دون التصدي للظالم مهما كانت هويته،
-             وأن من خرج من المدينة فهو آمن، ومن بقي فيها فهو آمن إلا من ظلم أو ارتكب إثماً.
إن هذه الوثيقة مثال واضح للتعايش السلمي بين الأعراق والأجناس المختلفة، ونموذج فريد للقوانين الدولية التي تدعو للمواطنة في الدول المختلفة، وصيغة مثلى للتفاهم بين الشعوب على مستوى الإنسانية، ومما يزيدها إجلالاً وإكباراً أنها صدرت ونُفِّذِت في بداية القرن السابع الميلادي، فكانت فريدة في مبادئها، عظيمة في قواعدها التي وُضِعَت للتعامل بين الناس على أساس المساواة بينهم جميعاً رغم اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وتعدد عقائدهم وأديانهم.
أرست هذه الوثيقة مبادئ تأخر ظهورها في الغرب قروناً ، فلا يحق لأحد أن يدعى أن الإسلام لا يعترف بالمواطنة ، أو أن الدولة الحديثة بمساواتها بين المواطنين ، مسلمين وغير مسلمين تتناقض مع الحكم الإسلامي، أو أن أسس تعامل الحكومة الإسلامية مع رعاياها يختلف عن قواعد الحكم في العالم المعاصر ، فَتَحْتَ ظلها يتمتع كل مواطن بالحرية في عقيدته ، وكل مناحي حياته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي يتفق عليها المواطنون ، وتلبى قواعد وتعاليم كل دين، فالاختلاف فقط في التعبير اللغوي ، فوثيقة المدينة يمكن أن يطلق عليها : " العقد الاجتماعي " كما عرَّفها " جان جاك روسو " ، ويمكن أن تعرف بأنها مبادئ دستور لدولة مدنية ، فالمضمون واحد، وإنما الاختلاف في التعبير حسب تطور اللغة وظروف العصر.


                                                                                     أ. د/ محمد شامة








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...