إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,250

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

ازدهار البحث والابتكار في ظل الحضارة الإسلامية

 ازدهار البحث والابتكار في ظل الحضارة الإسلامية  
                                                                    أ. د/ محمد شامة     
  
      غرس الإسلام حب العلم في نفوس المسلمين، حتى غدا المجتمع الإسلامي يعج بآلاف المؤسسات في جميع مدن الإسلام شرقاً وغرباً، فتسابق الناس في تحصيله وتعليمه والحرص على مواصلة الاشتراك في الحلقات الدراسية. وكانت معظم أحاديث الناس في مجالسهم الخاصة، ومنتدياتهم العامة تدور حول مسائل العلم وقضاياه ، حتى صار أمل كل شاب أن يصل إلى مركز علمي ، يصبح فيه قبلة الدارسين ، وموئل طلاب العلم ومقصد الباحثين عن الحقيقة ، ولذلك ماجت الأقطار الإسلامية بأفواج الدارسين وطلاب العلم ، فأصبحت بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وغيرها من المدن الإسلامية مراكز لامعة لدراسة العلم وتلقينه ، فكانت أبوابها مفتوحة على مصراعيها لكل من يريد العلم ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم ، إذ لم يسمح لهم الإسلام بأن يكتموا العلم عن أحد ، حتى ولو كان مناوئاً له ، ومنكراً لتعاليمه ، فقصدها الأوروبيون في الأندلس غرباً ، وفيما بعد في القسطنطينية وبغداد والقاهرة والقيروان شرقا . فتعلموا فيها كل أنواع العلوم والمعارف وأخذوا من مدارسها علوم اليونان، وما أضيف إليه من نتاج العقل الإسلامي في مجالات الطب، والفلك والفيزياء، والجبر والهندسة وغيرها مما كان له أثر واضح في النهضة الأوروبية، إذ لو لم تتصل أوروبا بالشرق الإسلامي في ذلك الوقت، لما وجدت النهضة الأوروبية المعاصرة، أو على الأقل لتأخرت قروناً عدة. كذلك لو لم يدعو الإسلام المسلمين إلى العلم ويحثهم على طلبه وتحصيله -بصرف النظر عن هويته وجنسيته وتعلميه للناس فلا يكتمونه ، لضاع الفكر اليوناني ، لأن أوروبا لم تعرف شيئا عن هذا الفكر إلا من مدارس المسلمين وجامعاتهم ، فالحضارة الأوروبية مدينة بوجودها للمسلمين، فأساسها علم المسلمين الذي تعلمه الأوروبيون في الجامعات الإسلامية ، وجذورها ممتدة إلى النظريات الأولى التي توصل إليها المسلمون في مجالات البحث المختلفة .
          يقول جوستاف لوبون: " الحق أن القرون الوسطى لم تعرف كتب العلم اليوناني القديم إلا من ترجمتها إلى لغة أتباع محمد e ، وبفضل هذه الترجمة اطلعنا على محتويات كتب اليونان التي ضاع أصلها ككتاب أبو لونيوس في المخروطات، وشروح جالينوس في الأمراض السارية ، ورسالة أرسطو في الحجارة... الخ وأنه إذا كانت هناك أمة نقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم فالعرب هم تلك الأمة ، لا رهبان القرون الوسطى الذين كانوا يجهلون حتى اسم اليونان . فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافاً أبدياًّ.
          قال مسيو لييري: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا في الآداب عدة قرون". فعرب الأندلس وحدهم إذاً هم الذين صانوا العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الزمن بلاداً يمكن الدرس فيها غير الأندلس العربية، وذلك خلال الشرق الإسلامي طبعا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليلون لطلب العلوم في الحقيقة .... ولم يظهر في أوروبا قبل القرن الخامس عشر من الميلاد عالم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب. وعلى كتب العرب وحدها عول روجر بيكون، وليانورد البيزي ، وآرنود الفيلنوفي ، وريمون لول ، وسان توما ، وألبرت الكبير ، والاذفونس العاشر القشتالي.. الخ".
          وجاء في كتاب الحضارة الأوروبية سياسية واجتماعية وثقافية لمؤلفيه أساتذة الفلسفة جيمس وستفال توسون، وفرانكلين شالزيمام ، وفان نوستراند:
          ".. في خلال قرنين نقل إلى العربية كل ما خلفه الإغريق من التراث العلمي على التقريب، وأصبحت بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة مراكز لامعة لدراسة العلم وتلقينه ... وأخذت المعرفة بهذه الثقافة الإغريقية العربية تتسرب إلى أوروبا الغربية في أواخر القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر. وتسابق الرجال من ذوي العقول اليقظى إلى باليرمو و طليطلة لتعلم اللغة العربية ودراسة العلوم العربية مثل: "اديلارد أوف بات"، "ودانيال أوف مورلي"، و "روجر أوف هيرفورد"، و "اسكندر نكرام"، وكانت رسالة "اديلارد أوف بات" في المسائل الطبيعية أول مؤلف علمي أنتجته أوروبا الغربية في القرون الوسطى، وقضي بعض الطلاب سنين عدة في أسبانيا، ثم قضوا أعمارهم كلها في هذا العمل المقصور على ترجمة الكتب العلمية العربية إلى اللاتينية .. وعلى هذا النحو كانت أوروبا قد استولت في مستهل القرن الثالث عشر على محصول العلم الإغريقي والعربي بحذافيره.
          لعل في هذا البيان ما يقنع المنكرين لدور الإسلام البناء في مجال الحضارة الإنسانية بالرجوع عن رأيهم، وما يزيل تردد المتشككين في قدرة المبادئ الإسلامية على تربية الإنسان تربية تؤهله للتفاعل مع الحضارة دون خوف أو تردد يؤثر على مسيرته في ركب الحضارة الإنسانية.
          يدعي بعض الباحثين أن المسلمين لم يضيفوا شيئاً إلى ما تعلموه من علوم اليونان، بل كانوا مجرد مترجمين فقط، أو آلات نقل حفظوا بعملهم هذا تراث الفكر اليوناني من الضياع، فهم لم يبتكروا جديداً، بل انحصر عملهم في حمايته من الضياع، وبذلوا بعض الجهد في شرحه وتفسيره  فلم يخرج علمهم عن الدوران في فلك هذا الفكر شرحاً وتبسيطاً ، وما ذاك إلا أنهم   حسب ما ذهب هؤلاء المنكرين لفعالية العقل الإسلامي كانوا عاجزين عن الارتقاء فوق مستوى هذا الفكر ، فاكتفوا باتخاذه قبلة لهم ، يدورون في فلكه ، ويلتزمون بمبادئه وقواعده .
          ولو كان عند هؤلاء ذرة من إنصاف، بل لو اطلع هؤلاء على جزء من تاريخ الفكر الإنساني لعرفوا أن دور العقل الإسلامي لم يكن دور الناقل فقط ، بل كان مبدعاً ، جاء بقيم جديدة ، وأرسى نظريات حديثة ، لم يعرفها اليونان ، بل بَيَّنَ ما كان عليه اليونان من أخطاء في مجالات العلم المختلفة ، وابتكر ، واكتشف الكثير من المعطيات والنظم الحضارية التي كانت بمثابة الأسس التي قامت عليها حضارات أخرى في مشارق الأرض ومغاربه ، ففي مجال الجبر   الذي يعرف في اللغات الأوروبية باسمه العربي توصل بعض علماء المسلمين فيه إلى أشياء تنم عن عبقرية المسلمين في هذه الأبحاث ، إذ توصل محمد بن موسى الخوارزمي (780 850م) من الأعداد الهندية إلى رسم لكتابتها ، كان أساساً للرسم الأوروبي الحالي للأرقام الحسابية . وظل الجدول الفلكي الذي وضعه وكذلك جدوله في حساب المثلثات والمربعات المرجع الوحيد لعدة قرون، كما عرفت أوروبا حياته عن طريق ما ترجمه  «Gerhard Voncrimona» في القرن الثاني عشر الميلادي،  فدخلت مصطلحات علم الجبر إلى أوروبا عن طريق هذه الترجمة ، وهو ما ينم عن عبقرية في مجال علم الحساب الفلكي .
          بل إن الفلكيين المسلمين أثبتوا خطأ نظرية بطليموس في هيئة الأفلاك فتوصلوا إلى ما يؤكد أن مواقع الشمس وقطرها يتغيران، وأن كسوف الشمس وخسوف القمر يقعان في أزمان محددة.
          لقد ارتاد علماء المسلمين في مجال العلوم آفاقاً جديدة، فاكتشفوا الكثير في كل مجالاته وصححوا العديد من نظريات السابقين مما يدل على أنهم لم يكونوا أوعية مصمته لنقل الفكر اليوناني ، ولم يكونوا أبواقاً تردد ما نقلوه  من علوم اليونان دون تمحيص وتدقيق وتصحيح ، ولم يكونوا عجزة لا يقدرون على أن يضيفوا جديداً إلى ما أخذوه من علم القدماء ، بل درسوا وغيروا ، وصححوا وأضافوا الجديد حتى صار نتاجهم العقلي والحضاري نسيجاً خاصاً بهم يحمل طابعهم الإسلامي ، ويعكس روحهم الشرقية ، وينبئ عن الجديد والمستحدثات الذي أضافوه .
          وليس هذا حديثاً يردده المسلمون دفاعاً عن روادهم، ولا ادعاءً يدفع إليه. التعصب الديني أو العرقي، بل ذلك هو الحقيقة الواقعية، وقد شهد بها كثير من المنصفين الأوروبيين.
          يقول لويس يونج: "إن تطوير المسلمين للتراث اليوناني هو واحد من أهم حلقات التاريخ الثقافي في العالم وليس معنى ذلك أن الحضارة الإسلامية كانت مجرد تقليد أو انعكاس للحضارة اليونانية القديمة. يجب أن لا تغيب عن ذهننا إذ نناقش ونقيم الحضارة الإسلامية تلك الأفكار المبدعة التي جاءت من الجزيرة العربية مع الإسلام وقبله، واستطاع المسلمون أن يمزجوا بها التراث اليوناني فيصنفوا من ذلك لوناً جديداً سباقاً فريداً ".
          ويقول سارتون: "حقق المسلمون، عباقرة الشرق، أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأيٍّ كان، إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية. ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها ".
          ويقول سيذيو: "تكونت فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة ، واختراعات ثمينة تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر ، وجميع ذلك تأثرت به أوروبا بحيث يؤكد القول: إن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة. لقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب ولكن الحقيقة ناصعة، يشع نورها من جميع الأرجاء، وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلا أو آجلا".
          ويقول دريير: ".. ينبغي علىّ أن أنعى على الطريقة الرتيبة التي تحايل بها الأدب الأوروبي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية علينا؛ أما هذه المآثر فإنها على اليقين سوف لا تظل كثيرا بعد الآن مخفية عن الأنظار، إن الجوار المبني على الحقد الديني والغرور الوطني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد".
          ويقول نيكسون: ".. إن أعمال العرب العلمية اتصفت بالدقة وسعة الأفق، وقد استمد منها العلم الحديث بكل ما تحمل هذه العبارة من معان مقوماته بصورة أكثر فاعلية مما نفترض".
          أسهم المسلمون إسهاماً كبيراً في بناء صرح الحضارة العالمية في جميع مجالاتها فقاموا بإنجازات ضخمة في مجال العلوم، على اختلاف أنواعها وتخصصاتها، قدموا للإنسانية نتاجاً عقلياًّ ظل يضيء لها الطريق منذ ذلك  الزمن، إذ لم تكن معالم الحركة الفكرية في المجتمع الإسلامي ومضات وقتية ، بدافع حماس فجائي ، سرعان ما يخبو ويختفي ، بل كانت معالم حقبة عظيمة ، امتد تأثيرها الفكري قرونا عدة ، واستمر نموها وتطورها دون انقطاع حتى بعد التدهور السياسي للدولة الإسلامية ، وعمت آثارها جميع أنحاء العالم .
          وكانت نتائج أبحاث المسلمين أساس بني عليه العلماء، ومنطلقاً للنهضة العلمية المعاصرة، فقد اعتمدت كل نظريات علم النجوم في القرون الوسطى على أبحاث الكندي في مجال الفضاء، إذ بعد ما ضعف مستوى الأبحاث في هذا المجال بعد تحول الدولة الرومانية إلى المسيحية، انتقلت هذه المعارف إلى العرب عن طريق بيزنطة، وفي نفس الوقت تخلت أثينا عن موقعها كمركز للأفلاطونية الحديثة، فانتقلت المراكز العلمية للرياضيات والطب والكيمياء والفلسفة إلى فارس، ثم انتشرت في جميع أرجاء العالم الإسلامي.
          وعبر سوريا انتقلت إنجازات عصر قياصرة الرومان الإغريقي في مجال علم النجوم إلى العرب فأصبحت بعد ترجمتها علوماً عربية، تناولها العلماء بالبحث والتمحيص، فزادوا عليها وصححوا ما أثبتت الأبحاث أنه خطأ، فقد كتب الكندي عن إشعاعات النجوم التي لها تأثير قوي على الكائنات الحية. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن بغداد كانت مركزاً للأبحاث الفضائية، في ذلك العصر، وأن جهود العرب في هذا المجال دفعت علماء أوروبا إلى الاهتمام بهذا النوع من الأبحاث.
          كما اهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بعلم الفلك، لأن الدين كان أحد الدوافع الأساسية للبحث فيه، كي يتمكنوا من معرفة مواعيد الصلاة بسهولة، وتحديد القبلة في أي مكان يوجد فيه المسلم، وقد برز فيه عدد كبير من العلماء منهم: الفزاري (توفي 777م) فهو الذي أنشأ الاصطرلاب، والبتاني (توفي 929م) الذي قام ببعض الأرصاد الفلكية وبعض المقاييس.
          وتبعه عمر الخيام (توفي 1123م) فصمم تقويماً جديداً، ولم يخطئ فيه إلا بمقدار يوم واحد في كل خمسة آلاف سنة، كما بحث أبو معشر (توفي 886م) بشكل دقيق في العلاقة بين المد والجزر وحركة القمر.
          إلا أن أهم إنجازات المسلمين في علم الفلك تتمثل في تصميمهم المرصد، إذ لم يظهر بشكله الدقيق والمنظم إلا في العصر العباسي، واهتم العلماء الأوروبيون الذين تلقوا تعليمهم في معاهد عربية بهذه الإنجازات ونقلوها إلى لغاتهم، فقد ترجمت "مبادئ الهندسة " لـ "إقليدس" و "المجسطي" لـ "بطليموس"، ومن بين ما ترجم مؤلفات البطاني، وأرشميدس والفارابي والخازن، ويرجع الفضل في دقة حساب دورات كواكب الفضاء: (الشمس والقمر والكواكب السيارة الأخرى) لأبحاث البطاني.
          وأمدت المدارس العليا التي أنشئت في قرطبة و "سيفيلا" و "توليدو" بأسبانيا الحياة الثقافية الأوروبية بروافد حملت  معها عناصر الخصوبة ، إذ نقل منها الأوروبيون كثيراً من المعرفة، فكانوا همزة الوصل بين الثقافة الإسلامية ونقطة انطلاق النهضة الأوروبية الحديثة ، نذكر منهم : "جريرت فون أو ريلاك" (تقلد منصب البابوية فيما بعد تحت اسم "سلفستر" الثاني ، ومات عام 1003م) ، فقد اهتم بما كان يدور في "توليدو" من أبحاث ومناقشات ، وعلى الأخص : الرياضيات وعلم النجوم ، فبرع فيها ، لدرجة أن الشعب اعتقد أن بينه وبين الجن صلة . و "دانيال مولي" الذي درس في "توليدو" علم النجوم العربي ودَوَّن معارفه التي اكتسبها من هذه الدراسة في كتاب.
          كذلك أولت الدولة الإسلامية اهتماماً كبيراً بعلوم الحساب لحاجاتها إلى هذا النوع من العلوم في تطبيق بعض الفروض الإسلامية كالزكاة ، والجزية والخراج وتقسيم الميراث طبقا لما نص عليه في القرآن الكريم ، فبرع في هذا المجال علماء لازالت أسماؤهم تذكر لطلاب هذا العلم كـ : محمد بن موسى الخوارزمي، والبتاني، والبيروني وغيرهم مما يدل على أن المجتمع الإسلامي كان الدوحة التي ترعرع فيها بجميع فروعه ، فعبق بريحانه أجواء جميع  الأمم التي اتصلت به في ذلك الزمان ، واقتطفت من بساتينه ما شاءت فكان ذلك بذرة النهضة العلمية الحديثة .
          ويستطيع مؤرخو الفكر الإنساني أن يملؤوا مجلدات عدة، إذا أرادوا تسجيل ما أنتجه المسلمون في مختلف العلوم والمعارف، بل إن المرء لن يجد نهاية في الحديث عن هذا الجانب لدى المسلمين، لأنهم أثروا المكتبات بما لا حصر له من البحوث والنظريات والاكتشافات في جميع مجالات المعرفة. ومن هنا فلا نستطيع أن نلم بجميع جوانب النتاج الفكري للمسلمين ، شأننا في ذلك شأن كل من تناول هذا الموضوع بالبحث والتسجيل ، فلم  يخرج كل واحد من هؤلاء عن تناول جزئية من آلاف بل ملايين الأجزاء المنتشرة على أصعدة الفكر الإنساني ، ولذلك سوف نكتفي بما تناولنا من بيانات توضح فاعلية العقيدة في دفع المسلمين إلى الإسهام في مجال الحضارة الإنسانية ، لكننا لن ندع الموضوع جانباً قبل أن نختمه بالحديث عن جهود المسلمين في مجال الطب، ذلك أنه من المجالات التي يقوم على أساسها حماية الإنسان حتى يتمكن من مواصلة  العطاء لمجتمعه .
          اقتبس الأطباء المسلمون عدداً من النظريات الطبية من الإغريق، وكان ما أخذوه منهم يشكل قاعدة أساسية انطلق منها المسلمون في مجالات الطب الواسعة والمتشعبة فصححوا ما اكتشفوا خطأه عند الإغريق ، وأضافوا إليه الكثير من اكتشافاتهم المبتكرة ، غير أنهم ركزوا على الأمور العملية بدلاً من النظرية في العلاج الطبي ، فأحرزوا تقدماً  كبيراً في فن الاستطباب، وفي مجال صنع الأدوية ، فأنشئت أول مستشفى في بغداد في عهد الخليفة هارون الرشيد ، ثم ما لبث أن افتتحت مستشفيات مماثلة لها في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وكان أشهرها : "بيمارستان" دمشق ، فقد توجه إليه الأطباء للحصول على الدرجات العلمية التخصصية ، وأمَّه الطلبة للتدريب على ما يحتاجون إليه في امتحاناتهم كما كان فيه قسم خاص للإسعافات العاجلة .
          وامتدت العناية الطبية إلى جميع أنحاء الدولة، إذ كان الأطباء يزورون السجون من آن لآخر لعلاج المسجونين، كما قاموا بزيارات مماثلة للقرى النائية، واهتم الأطباء أيضاً بعلاج الأمراض النفسية، فلم يتجنب المسلمون المرضى، وينظرون إليهم نظرة احتقار كما كان يفعل الأوروبيون معهم آنذاك، واستمرت هذه المعاملة قروناً، فقد ظل المريض نفسياًّ محتقراً في أوروبا على امتداد هذه القرون، وكان الأوروبيون يفرون منه كما يفرون من مرضى الجزام، ويتجنبونهم كما يتجنبون المجرمين.
          وكانت رعاية المرضى سبباً في اكتشافات جديدة في مجال الأدوية، ذلك المجال الذي أصبح علم المسلمين الذي لا ينازعهم أحد فيه، إذ اكتشفوا العديد من المستحضرات الطبية، واستعملوا كثيراً من الأعشاب في علاج المرضى، وأثروا هذا المجال باختراعاتهم الجديدة. وظهر العديد من المراجع الطبية في هذه الحقبة الزاهرة في تاريخ الطب الإسلامي، ثم انتقلت إلى أوروبا عبر أسبانيا فكانت أسس علم الطب في مدارسها العليا لعدة قرون. ومن بين من كتبوا هذه المراجع: 
          الرازي، فقد اشتهر في أوروبا بأبحاثه الطبية، وخاصة فيها مرض الجدري والحصبة، إذ أنه أول من فرق بينهما وذلك في كتابه: "في الحصبة والجدري" وترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية وطبعت طبعات عدة على امتداد عدة قرون، وكان آخرها طبعة نشرت في إنجلترا في القرن التاسع عشر الميلادي، وحرصت جميع المكتبات الأوروبية على اقتناء نسخ من مؤلفات الرازي.
          كذلك أطلق الأوروبيون على ابن سينا لقب "أمير الأطباء" فقد أثرى المكتبة الطيبة بأبحاث طبقت شهرتها الآفاق. فلا يجهل من له صلة بعلوم الطب كتابه: "القانون" الذي بلغ شهرة لا مثيل لها بعد ترجمته إلى اللاتينية، بما يضمه من أبحاث عن: 
          علم الصحة، والفسيولوجيا، وطرق العلاج، والأدوية، وأمراض العيون وغير ذلك من المجالات التي لم يسبقه أحد في بحثها.
          وكان ابن الهيثم من أشهر أخصائي أمراض العيون، فقد كتب عن البصريات وانكسار الضوء، والرؤية بالعدسات، وأهمية الحجرة المظلمة في عيادة طبيب العيون للتشخيص والعلاج، وقد انتفع "روجربيكون" و "كليبر" بهذه الأبحاث.
          وكان أبو القاسم أشهر جراح في ذلك العصر، فقد باشر في عالم الجراحة أعمالاً لم يجرؤ أحد من قبله على القيام بها، كما استعمل أيضاً في الخياطة الداخلية لأول مرة نوعاً لا يحتاج إلى نزعه، بل يتآكل كيميائياًّ داخل الجسم.
          وإلى أطباء المسلمين يعود اختراع الأدوات الجراحية، ونظام فحص المريض بشكل كامل، ووصف العديد من الحالات الطبية والأمراض، كما كانوا يملكون موهبة نظرية وعملية في تصنيف علوم الطب وتقديم نتائجهم في كتاب عملي واضح للطلاب وللأطباء معاً، غير ن أكبر إنجاز طبي للمسلمين يتجلى في إنشاء المستشفيات وإدارتهم إياها على أكمل وجه، وفق نظام دقيق لا يزال يعمل به حتى الآن.
          وهذا يبين بوضوح أثر الإسلام في دفع المسلمين إلى التعامل مع المعطيات الحضارية والإسهام فيها بما يدحض ما يشيعه أعداء الإسلام من أنه كان السبب في تخلف المسلمين عن ركب الحضارة الحديثة، إذ بجانب ما أضافوه في الجانب العلمي كما بينا جانباً منه أسهموا إسهاماً كبيراً في حقول العلوم الإنسانية:
          كالتاريخ والاقتصاد والقانون والسياسة والتربية، وعلم النفس ومناهج البحث، والاجتماع، والنظم الإدارية، والآداب، والفنون وغيرها بما يؤكد بوضوح تأثيراتهم في مجرى الحضارة البشرية، وخاصة في الحضارة الغربية.
                                                                   أ. د/ محمد شامة                                                                                                                                



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...