إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,251

الأربعاء، 8 أبريل 2020

أسس تجديد الخطاب الديني


أسس تجديد الطاب الديني

                                                                               أ. د/ محمد شامة

فجرت دعوة تجديد الخطاب الديني بالونات صوتية في جميع جنبات المجتمع؛ إذ تعالت الأصوات في جميع وسائل الإعلام: مسموعة، ومقروءة، ومرئية. فقد امتلأت شاشات التليفزيون بهذه الأصوات، وامتدت ساحتها في صفحات الجرائد والمجلات، فتنوعت صورها وأشكالها في ساحات ما يعرف بــــــ "صفحات السوشيال ميديا"، أو "شبكة التواصل الاجتماعي" فيصدر كل يوم –بل كل ساعة-من هذه المصادر أصوات زاعقة، تدعو إلى هذا التجديد، ومعظمها –إن لم يكن كلها-ليست متخصصة في الفكر الإسلامي؛ فما زلنا نسمع-ونقرأ الكثير-ممن يسمون أنفسهم: خبراء استراجيون، ومتخصصون في الفكر الإسلامي، وهم أبعد ما يكونون عن شواطئ محيط التخصص في الإسلام، بل لا يعرفون ألف باء المعرفة الإسلامية، ولا يدركون القواعد المهمة في تربية النشء، فضلاً عن جهلهم بفلسفة الإسلام في تعامله مع التيارات الفكرية في المجتمعات المعاصرة مما جعل الضباب يخيم على هذا الموضوع، فتاه المستمع –وكذلك القارئ-بين الدعاوى وضدها، فقد يسمع كلمة لا تمت بصلة إلى الخطاب الديني، بل ليس من مفرداتها ما يدل على علاقة معاني ما يقال بتجديد الخطاب الديني، وإنما هي شقشقات لغوية، وأصوات مبهمة لا يستفيد منها السامع شيئاً؛ فتقوده إلى أسلوب سوي في الحياة، ولا يقبلها منطق يقود المتابعين إلى الاهتمام بما يقال لعله ينفعه في مقاومة التجاوزات الفكرية في المجال الإسلامي، أو ينير له الطريق في الظلمات التي خيمت على المجتمع من جراء المتشددين والمتطرفين الذين سلكوا مسالك العنف، فدعوا إلي المقاومة المسلحة ضد المجتمعات كلها، سواء منها المسلم وغير المسلم، فأساءوا إلى الدين الإسلامي أيما إساءة؛ فقد فاقت إساءتهم ما جَيَّشَ له أعداء الإسلام –منذ فجر التاريخ الإسلامي حتى اليوم-من أسلحة وعتاد فكري وغير فكري ضد الإسلام والمسلمين.
فشرائح المجتمع الإسلامي المعاصر متنافرة ومتناحرة؛ ففريق يحمل السلاح ضد من يخالفه في الفكر؛ سلاح التكفير والخروج عن الملة، وسلاح القتل والدمار الذي لحق الأخضر واليابس في المجتمعات الإسلامية، بل إن هذه الجماعات التي أعلنت الحرب على المجتمع ليست على وفاق مع بعضها البعض؛ إذ يحدث بين الحين والآخر تلاسنات بينها قد يؤدي إلى صراع مسلح. فالصراع دائر بين الجماعات المتطرفة، وبينها وبين مؤسسات الدولة مما يتسبب في ضعفها وعجزها عن مقاومة العدو الخارجي، الذي يسهم في تأجيج الصراع بين أطياف المتشددين، وبينها وبين المسلمين من عامة الشعوب، وبينها وبين دروع المجتمع الإسلامي الذي يحمي المسلمين من الاعتداءات الخارجية.
فإذا تجاوزنا هذه المنطقة لنلقي نظرة على شرائح المجتمع، فسوف نجد شراذم وجماعات متنافرة؛ بعضها رفع لواء العلمانية فَيُجَيِّش أتباعه ضد الفكر الإسلامي، والبعض الآخر يحاول التصدي لهم، غير أن نشاطهم في هذا المجال لا يسمن ولا يغني من جوع، بل إنه يعود بالسلب على الفكر الإسلامي؛ لأن دفاعهم عنه ليس قائماً على معرفة كافية بالإسلام وأهدافه في المجتمع، فهم يطلقون أصواتاً جوفاء لا مضمون لها، فهي تضر بالإسلام في هذه المعركة؛ لأن جهلهم بفلسفة الإسلام في التشريع والتوجيه يؤدي إلى تشويه تعاليم الإسلام، مما يقوي جبهة المعارضين للتشريع الإسلامي. فإذا وجهت النصيحة لهؤلاء بعدم خوضهم في هذه المعركة بغير سلاح المعرفة والتمكن من أهداف القيم الإسلامية، وملاءمة تعاليم الإسلام للحياة المعاصرة، نابذوك بأن الدعوة إلى الإسلام واجبة على كل مسلم، وهذه فرية تبين لكل ذي بصيرة أنهم ليسوا مؤهلين لهذه الدعوة؛ وإلا لعرفوا أن مدارك الدعوة متدرجة؛ تبدأ بالمبادئ العامة، وهذه يستطيع كل مسلم ممارستها، فعلى سبيل المثال: يمكن لكل مسلم أن يدعو غيره إلى الصلاة، وإلى التحلي بالأخلاق الحسنة؛ لأن هذا العمل لا يحتاج إلى تخصص، أما مشاكل العصر، واختلاف أساليب الحياة باختلاف البيئات والمجتمعات، وتطوير الفكر الإسلامي ليناسب الزمان والمكان، فلا يستطيع الإفتاء فيه، وبيان رأي الإسلام في نظم الحياة المختلفة وتطورها عبر السنين إلا من تخصص في دراسة الفكر الإسلامي، وكانت عنده ملكة الابتكار والتجديد بما لا يعارض نصًّا قطعي الدلالة.
فليس كل من تخرج في مؤسسات التأهيل الشرعي قادراً على القيام بالتحدث باسم الإسلام في الحياة المعاصرة، فغاية عمل من لم يقدر على ذلك شرح الفرائض، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وتعليمها للناس، أما الخوض في مدى ملاءمة الإسلام لأسلوب الحياة المعاصرة فيحتاج إلى فكر من يستطيع فهم فلسفة الإسلام في التشريع، وأهدافه العامة التي تلائم كل عصر، وتتفق مع كل بيئة.
كل هذا يحتاج إلى بيان واضح، وأسلوب يفهمه كل فرد في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، فمن المؤهل لهذا العمل؟ لاشك أن المرء يجب عليه الاتجاه إلى المؤسسات الدينية للإجابة على هذا السؤال، ولهذا يلقي الجميع اللوم في تقاعس عملية التجديد إلى هذه المؤسسات، ويتهمها بالجمود والانكفاء على الماضي، وبالتردد في الأخذ بزمام التجديد؛ خوفاً على مراكزهم الدينية، وعجزاً عن فهم متطلبات العصر، وعدم إدراك مقتضيات الحياة في المجتمع المعاصر.
ومن المؤسسات الدينية من يدلي بدلوه في رسم خطوات التجديد ومناهجه، فيصدر أقوالاً لا تمت بصلة إلى الساحة الإسلامية: فكراً، وتنظيراً، واستنتاجاً للأحكام أو فهماً لما هو قطعيّ الدلالة من آيات القرآن الكريم وما هو ظنيّ الدلالة منها، وعجزاً عن فهم درجة الأحاديث النبوية: آحاداً، أو مشهوراً، أو متواتراً وغير ذلك من درجة الأحاديث، وموضع ذلك كله من القرآن الكريم، ومما وصل إليه العلم الحديث من نظريات مقطوع بصحتها، فضلاً عن عدم فهمه لاختلاف العادات والتقاليد بين الأمم والشعوب، وموقف التعاليم الإسلامية من هذا الاختلاف، ومدى صلاحية مقولة: "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" في ضوء هذا الاختلاف البين بين حياة الأمم والشعوب والأجناس.
وهذا وضع يحتم على صاحب القرار، ومن بيده أدوات التجديد اتخاذ ما يلزم لتوجيه مسيرة التجديد في خطوات متناغمة، منتهجة منهجاً سليماً، حتى تظهر نتيجة إيجابية لهذا العمل في الواقع، فتتأصل اتجاهاتها في وعي الأفراد، وتظهر ملامحها، وتبدو خطواتها واضحة أمام الأمم والشعوب.
فعلى من بيده القرار أن يصدر من القوانين ما يردع غير المتخصصين عن الخوض في المسائل الدينية التي لا يعرفوا ألفها من يائها، ويحرم على كل من هو خارج هذا التخصص الفتوى في المسائل الدينية، فلا يمارسها إلا كل من أوتوا القدرة على فهم أهداف الأحكام الإسلامية، في هذا الجو المتلاطمة أفكاره، والمتدافعة اتجاهاته الفكرية والمذهبية، في جميع مجالات الحياة، وذلك أسوة بتحريم امتهان غير المتخصصين في المجالات التي لم يدرسوها وبالتالي لا يعرفون دقائقها، مثل: الطب والهندسة وما يماثلها من التخصصات المختلفة التي لا يمارسها إلا من درسها وحصل من الوثائق ما يُجَوِّز له ممارسة مهنتها. فمن يمارس عمل الطبيب، وهو غير متخصص في الطب يعاقب، ومن يحترف مهنة الهندسة وهو غير مؤهل لها يوقع نفسه تحت طائلة القانون، حيث يعاقب على امتهان مهنة تحتاج إلى مواصفات خاصة، وكذلك كل مهنة لها من الدقائق لا يعرفها إلا من درسها وتخصص فيه، بل إن الآثار السيئة لمن يدلي بدلوه في المجالات الدينية،  وهو غير متخصص، تفوق مثيلاتها في المهن الأخرى؛ لأن ما يخلفه غير المتخصصين في الدين من أقوالٍ مغلوطة يصيب أعداداً لا حصر لها من البشر، بينما آثار غير المتخصصين السيئة في المهن الأخرى تصيب أفراداً معدودين، وهم المباشرون لأخطاء الجاهل بدقائق المهنة.
قد يقال: هناك فرق بين الأمر الديني والمهن الأخرى؛ لأن الدعوة في مجال الدين موجهة إلى كل المسلمين؛ فواجب على كل مسلم أن يقوم بالدعوة إلى الله. وغاب عنهم شرط مهم للقيام بهذا الواجب، ألا وهو القدرة على القيام بهذا الواجب، وهو غير متحقق لدى من لم يعلم بما سيقوم به، فالموعظة الواجبة على كل مسلم هي الموعظة الحسنة، وهذا هو ما يعجز عنه غير التخصص؛ فكثيراً ما يفتي في أدق المسائل، ويجزم برأي فيما اختلف فيه الفقهاء، مما يكون له تأثير سيئ على سلوك الناس، واتصالهم بالجانب الديني. ومن معالم هذه الظاهرة ما نراه ونسمعه من شباب لا صلة لهم بالدراسات الدينية، ينشرون من الآراء والتعاليم باسم الإسلام ما هو بعيد عن روح الإسلام وتعاليمه، فهم يظنون أنهم يؤدون بذلك خدمة للدعوة الإسلامية، وفي حقيقة الأمر يصورون الإسلام بصورة تنفر كثيراً من المجتمعات والأفراد من الدين، مما يجعل سلوكهم هذا وسيلة للتنفير من الإسلام، لا أسلوباً للدعوة إلى الله، وما ذاك إلا لأنهم عاجزون عن فهم حقائق الدين وفقهه. ولذا ينبغي عدم السماح لهم بالخوض في تفسير النصوص الدينية، لأن ما يترتب على خوضهم فيما لا علم لهم به من فساد لا يتناسب مع ما يحدثونه من تأثير روحي في المجتمع، فهم يفسدون أكثر مما يصلحون.
وعليه فليس هناك من يجوز له ممارسة الوعظ والإرشاد إلا المؤهل علميًّا لهذه المهنة، ومن هنا يمكن للمرء أن يفهم  ما اشترطه بعض الفقهاء، فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من أن يأذن له الإمام، أو الحاكم بذلك، فقد استندوا في هذا إلى أن الإمام يستطيع اختيار من يحسن القيام بهذه الوظيفة، ويقصدون بذلك أنه سوف يعهد بهذا الأمر إلى المؤهل علميًّا، حتى لا يحدث ما يؤدي إلى الفساد والفتن بدخول غير المؤهلين إلى هذا الميدان، لأنهم سوف يشيعون  -بجهلهم الأحكام-البلبلة بين الناس، ويبذرون بذور الحيرة في قلوبهم، بتضارب أقوالهم تضارباً لا يستند إلى دليل، ولا توجهه حكمة، أو توضحه مصلحة حياتية أو عقدية.
فإطلاق حرية الحديث لكل الناس في المجال الديني له عواقب سيئة في حقل الدعوة إلى الله؛ فهو، وإن كانت له آثار طيبة من بعض النواحي في المجتمع، إلا أن ما ينتج عنه من غيوم تحجب سماحة الإسلام، وتخفي عن أنظار غير المسلمين، وكثير من المسلمين أيضاً، فاعليته في محال العلوم الحديثة، وإمكانات لإسهام من يتمسك به في بناء الحضارة المعاصرة بجميع فروعها، مما يثقل كاهل الدعاة في مواجهة التيارات الفكرية المعادية للإسلام.
هذا هو الأساس الأول في مسيرة تجديد الخطاب الديني، أما الخطوة الثانية التي يجب على المؤسسات الدينية اتخاذها، فهي: عدم السماح بالفتوى في وسائل الإعلام بجميع فروعها، سواء كانت مقروءة، أو مسموعة، أو مرئية؛ لأنه يشترط لصحة الفتوى مراعاة حال المستفتِي؛ فما تعدد آراء الفقهاء في المسألة الواحدة إلا لمراعاة الأحوال المختلفة للناس، فما يناسب حالة قد لا يناسب أخرى، بل ربما يعود بالضرر، ليس فقط على المستفتِي، بل يعطي صورة سيئة للتشريع الإسلامي في نظر غير المسلمين، وللتدليل على ذلك أسوق المثال التالي: اختلف العلماء في وجوب شرط قيام ولي الأمر بعقد الزواج، فأفتى علماء ثلاثة من المدارس الفقهية-وهم المالكية والشافعية والحنابلة- بعدم جواز عقد الزواج إلا بواسطة ولي أمر المرأة، استناداً إلى ما رُوِيَ عن رسول الله e : :لا نكاح إلا بولي وشاهدي عقد"، أما الأحناف فقالوا: يجوز للمرأة البالغة العاقلة أن تتولى عقد زواجها بنفسها دون ولي، ولا يجوز اعتراض الولي إلا عند عدم وجود الكفاءة، بل إنهم أضافوا: يسقط اعتراض الولي إذا حدث حمل، وردوا على الحديث السابق بأنه خاص بالمرأة غير البالغة، لأنه كان من عادة العرب عقد زواج الصغيرة، أي قبل بلوغها.
فلو صدرت فتوى في وسائل الإعلام برأي المدارس الثلاثة السابقة الذكر، وسمعها ألماني (أو أي رجل في مجتمع متقدم، كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة) لأصابه شك في صلاحية الشريعة الإسلامية لهذه المجتمعات في العصر الحاضر؛ إذ يبرر ذلك بقوله: ترأس المرأة عندنا شركات، ويعمل تحت إمرتها مئات-بل آلاف-من العمال والمهندسين، وتتخذ بشأنهم أصعب القرارات، كما تعقد صفقات تجارية، تبلغ قيمتها ملايين-بل أحياناً بلايين الدولارات-ولا يجوز لها عقد صفقة تتعلق بحياتها؟؟؟؟؟ ذلك لا يقبله عفل!!!!
فلو أذيعت الفتوى برأي الأحناف، وهي تبيح للمرأة البالغة عقد زواجها بدون ولي، وسعتها فتاة من بيئة محافظة، وتصرفت بناءً على هذه الفتوى، فتزوجت زميلاً لها، وشاع الخبر في بيئتها المحافظة لطال أهلها تعليقات قاتلة من أفراد المجتمع، الأمر الذي يعده الناس في هذا المجتمع عاراً يلحق بأهلها، فينال أهلها من التعليقات والتلميحات ما لا يستطيعون تحمله.
ومن هذا المثال يتبين أن أثر الفتوى في وسائل الإعلام يجلب من الضرر ما لا تتحمله بعض العائلات أو يصم الإسلام لدي غير المسلمين بأوصاف بعيدة كل البعد عن سماحة الإسلام، الأمر الذي يصبح عقبة كأداء في طريق من يفكر يوماً في الإسلام، عندما يبحث عن جوانب إيجابية تحمله على اعتناقه. فالضرر مؤكد من كلا الرأيين لو أذيعت الفتوى في وسائل الإعلام. فالأولى عدم ممارسة الفتوى، ومنع سيلانها في هذه الوسائل لأنها تضر أكثر مما تنفع. ويستعاض عنها بانتشار المساجد-وفي كل مسجد إمام-في المدن والقرى والنجوع، فليتوجه السائل بسؤاله إلى إمام المسجد، فلم عجز عن الإجابة فلديه المركز الرئيس التابع له فيفتيه بالجواب الصحيح الملائم لحال السائل.
والجدير بالذكر أنه ليس كل من تخرج من الكليات من الكليات الشرعية قادراً على إجابة كل ما يوجه إليه من أسئلة-كما بينت ذلك سابقاً-وخاصة ما يتعلق بالأحداث المعاصرة التي لا يوجد لها مثيل عبر التاريخ الإسلامي؛ فهذه مسائل تحتاج إلى إلمام بالنصوص الشرعية وقدرة فائقة على استنباط أحكام المشكلات المعاصرة بما لا يخالف نصًّا شرعيًّا قطعيّ الدلالة، ويتفق مع روح التشريع الإسلامي، وهؤلاء قلة قليلة بالقياس إلى الأعداد الغفيرة التي تتخرج من هذه الكليات سنويًّا. ولهذا يجب على خريجي الكليات الشرعية الذين لا تسعفهم قدراتهم الذهنية، ولا تمدهم ثقافتهم الشرعية التي لم تتعد الكتب التي كانت مقررة عليهم، أن يركزوا في عملهم على الجانب التعليمي، أي يبينون ويشرحون للمسلمين الفرائض الواجبة عليهم من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، ولا مانع من الحديث معهم عن الأخلاق والوصايا الإسلامية، فلا يخوضون في المسائل الشائكة التي طفحت على سطح المجتمعات المعاصرة، إلا إذا تلقوا الإجابة عليها من مراكزهم المتخصصة بذلك، أو سمعوها ممن –أعني المتخصصين في الحديث عن هذه المسائل-أعطاهم الله قوة في الفكر، ورحابة في التصور، وقدماً راسخة في مجالات الإبداع والابتكار، وغزارة في الاطلاع مكنتهم من معرفة خريطة الفكر الإسلامي، وإلمام بآراء السابقين في المسائل الدينية، وإحاطة بآراء الفقهاء في المسائل الشرعية، ودليل كل رأي، مع قدرته على اختيار ما يناسب العصر وما يتفق مع نظم الحياة في مختلف الأقطار والأوطان، فهؤلاء هم الأقدر على الفتوى في كل المسائل التي أفرزتها الحضارة المعاصرة، فآراؤهم تعتبر منارة للمسلمين في هذه الحياة المفعمة بالتيارات الفكرية المختلفة، ومصابيح تهدي غير المسلمين إلى الإسلام، وذلك بفضل ما يسمعونه من آراء مستنيرة تبين لهم صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وبذلك يحصن الإسلام ضد تيارات الهجوم التي تُشَنُّ علينا من غير المسلمين، وتوضح للمسلمين الذين يتسرب إليهم الشك في صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة من جراء ما يسمعونه من فتاوى غير المتخصصين، ومن آراء خريجي الكليات الشرعية الذين لم يطلعوا بالقدر الكافي على الفكر الإسلامي. وليس عندهم من الثقافة ما يؤهلهم للحديث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
والعنصر الثالث في مجال أسس تجديد الخطاب الديني: حرية فكر المتخصصين، أي لا يحجر على أي فكرة صدرت من متخصص، حتى ولو كانت مخالفة لرأي المؤسسات الدينية، أو غير متفقة مع الرأي العام في ساحة الفكر الإسلامي؛ إذ لم تقم الحضارات إلا على قاعدة التنوع الفكري، فلم يحدث عبر تاريخ البشرية بناء حضارة على الرأي الواحد، بل على العكس، فغلق المجتمع على رأي واحد، وعدم السماح للآراء المختلفة بالظهور يدمر أي حضارة، ويمنع ازدهار الفكر الذي يعتبر لبنة أساسية في قيام صرحها. وما أسباب قيام الحضارة الإسلامية ببعيدة عنا؛ حيث أسهمت الآراء المتعددة في جميع المجالات في ازدهار الفكر الإسلامي الذي نتغنى به؛ إذ كانت هناك آراء متعدة في الفلسفة، وعلم الكلام، وفي الفقه، والتفسير وغيرها من العلوم الإنسانية. ولم ينطفئ نور الحضارة الإسلامية إلا عند حَمْل الناس على رأي واحد، ومصادرة الآراء الأخرى، حتى ولو كانت قائمة على أدلة نصية، وتسندها قواعد المنطق، ويدعمها العقل السليم.
لا تقتلوا آراء المتخصصين المستندة إلى أدلة شرعية وعقلية، حتى ولو كانت مخالفة لرأي المؤسسات الدينية!!!!! بل دعوها تنتشر، وناقشوها بالأدلة والبراهين، وإلا فقدت دعوة تجديد الخطاب الديني صلاحيتها، وصارت بيانات جوفاء، وأصوات رنانة فقدت تأثيرها على النفوس، وتلاشت صلاحيتها في عالم الفكر، وخفت نورها في سماء المجتمعات الإسلامية.
لا تحاصروا الفكر المستنير!!! فقد قامت الحضارة الإسلامية في الماضي على أعمدة مثل هذا الفكر!!!! وقَبِلَها القاصي والداني لأنها كانت ملبية لكل ما يصبو إليه الإنسان في المجتمع ليعيش عيشة طبيعية، يستمتع بالخيرات المتاحة له، وترضى نفسه لاطمئنانه بموافقة ما يمارسه لشرع الله.
لا تصادروا الأفكار!!! حتى ولو كانت شاذة عن المألوف، بل بينوا عوارها بأدلة شرعية وأسانيد عقلية، فذلك هو الأسلوب، الذي يمارسه العقلاء ليسهموا في بناء الأمة، ويدعموها بدعامات علمية، تمكنها من مواجهة الأنواء والأخطار، سواء كانت خارجية أم داخلية.
لا تخافوا من انتشار أي فكر من متخصص إلا إذا كنتم عاجزين عن بيان المنحرف منها، وغير قادرين على بيان الخطأ فيها، وتمييز الخبيث من الطيب فيما ينشر!!!!!
 ذلك هو رأيي في تحديد الأسس الأولى الخطاب الديني:
1.    تحريم فتوى غير المتخصصين.
2.    منع الفتوى في وسائل الإعلام، وخاصة في القنوات التلفزيونية.
3.    إفساح المجال لنشر أفكار المتخصصين، حتى ولو كانت مخالفة لرأي المؤسسات الدينية أو متعارضة مع ما اصطلح عليه عامة الناس. مع بيان عوارها. وتصحيح مسارها بأدلة شرعية وعقلية.
أطرح هذا كله للمناقشة لنصل إلى الأسلوب الجيد والمفيد الذي يجب علينا التزامه في مجال تجديد الخطاب الديني، فَلْيُدْلِ كل متخصص برأيه في هذا الموضوع. وبذلك نحصن الإسلام من تيارات الهجوم التي تتدفق علينا من غير المسلمين، ونوضح للمسلمين الذين يتسرب إليهم الشك في صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة من جراء ما يسمعونه من فتاوى غير المتخصصين، ومن آراء خريجي الكليات الشرعية الذين لم يطلعوا بالقدر الكافي على الفكر الإسلامي، وليس عندهم من الثقافة-دينية ومدنية-ما يؤهلهم للحديث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.

                                                                                      أ. د/ محمد شامة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...