إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,234

الأربعاء، 1 أبريل 2020

مقدمة المدونة


                  مقدمة المدونة
تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ممن لا علم لهم من قريب أو بعيد ، وأفتى فيه كل من أتيحت له منصة إعلامية، سواء كانت ورقية، أو صوتية، أو مرئية، فتشابكت الدعوات حتى عجزت جموع المتلقين عن معالم رؤية الفكر المعروض عليهم، لأن اختلاط الأفكار بلغت درجة القتامة، فلم تعد الصورة واضحة أمامهم من كثرة الأصوات المختلفة في مضمونها، والمتشابكة في اتجاهاتها، فهي تتراوح بين من يطالب بالتخلص من التراث الإسلامي؛ لأنه –حسب رأيه- سبب التخلف الضارب بأطنانه في أوصال المجتمعات الإسلامية، والمتغلغل في ثنايا الفكر الإسلامي.
لم يدرك هؤلاء أنهم قد انحرفوا عن جادة الصواب، فخاضوا في مسائل ما كان ينبغي لهم أن يخوضوا فيها، وطالبوا بأشياء لا تتفق مع الوضع الثقافي للأمم؛ إذ ليس من المقبول في أي حضارة أن تمحو الأجيال كل ما بناه السابقون في الصرح الثقافي، أو تتجاهل كل ما وضعه الأجداد من لبنات في البناء الحضاري. تجاهل المتحدثون غير المتخصصين في قضايا التجديد هذا كله؛ فأرادوا محو التراث من ألفه إلى يائه، بحجة أنه يعوق مسيرة التجديد، وبالتالي يصبح عقبة في مسيرة التقدم المنشود وهذا هراء لا يدري مدعوه أنهم بهذه الدعوة يسهمون في هدم مرتكزات الأمة؛ فالتراث الإسلامي مصطلح شامل يتسع بكل ماله علاقة بالإسلام، سواء كان نصوصاً مقدسة: القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة. أو آراء العلماء السابقين في مجال فهمهم لهذه النصوص وتطبيقها على واقعهم الذي عاشوه لحل مشاكلهم التي كانت معاصرة لهم. فهو يشتمل على جانب مقدس لا يجوز إهماله، أو تجاهله، وإلا خرجنا عن ملة الإسلام، وهي تنحصر في نص القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة. فتلك نصوص يجب الالتزام بحرفيتها؛ فمن ينكر حرفاً من حروف القرآن الكريم لا يكون مسلماً، ومن ينازع في كيفية تأدية الفرائض، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، أو يرفض حديثاً متواتراً يكون منكراً لأمر مقطوع بصحته وواجب الإيمان به. أما ما كتبه المسلمون حول هذه النصوص فهو فكر بشري يؤخذ منه ويرد عليه، لأنه فهم بشر للنصوص المقطوع بصحتها، تأثروا في هذا الفهم بثقافة العصر وعادات الشعوب وتقاليدها، لكن لا يجوز إنكاره كلية؛ لأنه هو الهوية الثقافية للأمة؛ إذ بدونه تضمحل المجتمعات وتتفكك داخليًّا، وقد تندمج ثقافيًّا في أحد التيارات الأجنبية. فللحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمعات الإسلامية التي تكونت، ابتداءً من حركة التدوين في نهاية القرن الأول الهجري عبر القرون اللاحقة، مكوِّنة أعرافاً اجتماعية وتقاليد خلقية، توارثتها الأجيال على مر التاريخ الإسلامي، راسمة وموضحة المستوى الحضاري للأمة، فهي جذور حضارية، وثمار ثقافية، لا يجوز تشويهها، ولا ينبغي الاعتداء عليها بالحذف.
      والبعض الآخر من غير المتخصصين في الفكر الإسلامي طالب بتنقية التراث، وفهم أن هذه الفكرة تصب في مجال تجديد الخطاب الديني، ولم يفهم أن تنقية التراث تؤدي إلى ضياع هوية الأمة ومسخ لثقافتها؛ إذ التنقية تؤدي إلى تشويه الثوب الحضاري، فضلاً عن عدم معرفة ما يمكن حذفه من العناصر، وما يجوز إبقاؤه؛ إذ يجر علينا محاولة الاتفاق على تنقية التراث خلافاً ونزاعاً حول ما يجب الاتفاق على ما يجب حذفه، بل إن هذا العمل سيشوه تاريخ الأمة الثقافي، ويمحو ماضيها الفكري، فتصير بلا ماضٍ ترتكز عليه، ومن لا ماضي له فليس له حاضر، ولن يكون له مستقبل يفتخر به أو يعتز بجذوره التي يرتكز عليها.
وبناءً على ذلك فيعتبر رأي الفريقين –المطالبين بحذف التراث أو الداعين إلى تنقيته-لغواً لا يُنْظَر إليه، فليس له وزن في هذا المجال. ولذا ندعو المتخصصين إلى إبداء رأيهم في تجديد الخطاب الديني وموقفهم من التراث، فإذا رأوا الحفاظ على التراث؛ لأنه يمثل الهوية الثقافية للأمة، لكن يجب التفريق بين ما عفا عليه الزمن منه وتجاوزته الأحداث وبين ما يصلح استعماله في حل القضايا الآنية فهو الجدير بالتحدث عن عملية التجديد، لأن المقبول في ساحة التجديد هو ما يتناغم مع الأحداث المتجددة، وقابل للتطبيق في حياتنا المعاصرة، فأصحاب هذا الرأي هم الجديرون بإبداء الرأي في مسألة التجديد.
ولما كان هذا الطرح يحتاج إلى بيان واضح وأسلوب يفهمه كل فرد في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، فمن المُؤَهَّل لهذا العمل في مجتمعنا المعاصر؟
لاشك أن يتجه المرء في الإجابة على هذا السؤال إلى المؤسسات الدينية، ولهذا يلقي الجميع اللوم في تقاعس عملية التجديد على المؤسسات الدينية ويتهمها بالجمود والانكفاء على الفكر الماضي، وبالتردد في الأخذ بزمام التجديد؛ خوفاً على مراكزهم الدينية، وعجزاً عن فهم متطلبات العصر، وعدم إدراك مقتضيات الحياة في المجتمع المعاصر.
ومنهم من يدلي بدلوه في رسم خطوات التجديد ومناهجه، فيصدر أقوالاً لا تمت بصلة إلى الساحة الإسلامية: وعجزاً عن فهم درجات الأحاديث النبوية: آحاداً، أو مشهوراً، أو متواتراً وغير ذلك من درجات الأحاديث، وموضع ذلك كله من القرآن الكريم، ومما وصل إليه العلم الحديث من نظريات مقطوع بصحتها، فضلاً عن عدم فهمه لاختلاف العادات والتقاليد بين الأمم والشعوب، وموقف التعاليم الإسلامية من هذا الاختلاف، ومدى صلاحية مقولة: "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" في ضوء هذا الاختلاف البيِّن بين حياة الأمم والشعوب والأجناس.
ولهذا فليس كل من تخرج في المؤسسات الدينية قادراً على التحدث باسم الإسلام في هذا العصر المتجدد في أحداثه، والمتعدد في قضاياه مما يجعل كثيراً من المتخرجين في الكليات الشرعية عاجزاً عن فهم هذه القضايا، ومتقاعساً في تناول الأحداث التي تتعلق بالفكر المعاصر، فإن اضطرته الظروف إلى الحديث عن أحوال الناس المعاصرة، فسوف يتخبط فيها، ويجزم بآراء بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش مما يكون له تأثير سيئ على سلوك الناس واتصالهم بالجانب الديني؛ فإطلاق الحديث لغير القادرين على فهم فلسفة الحياة المعاصرة له عواقب سيئة في حقل الدعوة الإسلامية، فهو وإن كانت له آثار طيبة من بعض النواحي في المجتمع، إلا أن ما ينتج عنه من غيوم تحجب سماحة الإسلام، وتخفي عن أنظار غير المسلمين-وكثير من المسلمين أيضاً-فاعليته في مجال العلوم الحديثة، وإمكانات إسهام من يتمسك به في يناء الحضارة المعاصرة بجميع فروعها، مما يثقل كاهل الدعاة في مواجهة التيارات الفكرية المعادية للإسلام.
فالحديث في المجال الديني وسط التيارات الفكرية المعاصرة التي لم يوجد لها مثيل عبر التاريخ الإسلامي يحتاج إلى إلمام تام بالنصوص الشرعية، وقدرة فائقة على استنباط أحكام المشكلات المعاصرة بما لا يخالف نصًّا شرعيًّا قطعيّ الدلالة، ويتفق مع روح التشريع الإسلامي، وهؤلاء قلة قليلة بالقياس إلى الأعداد الغفيرة التي تتخرج من هذه الكليات سنويًّا. ولهذا يجب على خريجي الكليات الشرعية الذين لا تسعفهم قدراتهم الذهنية، ولا تمدهم ثقافتهم الشرعية التي لم تتعد الكتب التي كانت مقررة عليهم، أن يركزوا في عملهم على الجانب التعليمي، أي يبينون ويشرحون للمسلمين الفرائض الواجبة عليهم من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، ولا مانع من الحديث معهم عن الأخلاق والوصايا الإسلامية، فلا يخوضون في المسائل الشائكة التي طفحت على سطح المجتمعات المعاصرة، إلا إذا تلقوا الإجابة عليها من مراكزهم المتخصصة بذلك، أو سمعوها ممن –أعني المتخصصين في الحديث عن هذه المسائل-أعطاهم الله قوة في الفكر، ورحابة في التصور، وقدماً راسخة في مجالات الإبداع والابتكار، وغزارة في الاطلاع مكنتهم من معرفة خريطة الفكر الإسلامي، وإلمام بآراء السابقين في المسائل الدينية، وإحاطة بآراء الفقهاء في المسائل الشرعية، ودليل كل رأي، مع قدرته على اختيار ما يناسب العصر وما يتفق مع نظم الحياة في مختلف الأقطار والأوطان، فهؤلاء هم الأقدر على الفتوى في كل المسائل التي أفرزتها الحضارة المعاصرة، فآراؤهم تعتبر منارة للمسلمين في هذه الحياة المفعمة بالتيارات الفكرية المختلفة، ومصابيح تهدي غير المسلمين إلى الإسلام، وذلك بفضل ما يسمعونه من آراء مستنيرة تبين لهم صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وبذلك يحصن الإسلام ضد تيارات الهجوم التي تُشَنُّ علينا من غير المسلمين، وتوضح للمسلمين الذين يتسرب إليهم الشك في صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة من جراء ما يسمعونه من فتاوى غير المتخصصين، ومن آراء خريجي الكليات الشرعية الذين لم يطلعوا بالقدر الكافي على الفكر الإسلامي. وليس عندهم من الثقافة ما يؤهلهم للحديث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
ومما تجدر الإشارة إليه وجوب إفساح المجال لنشر أفكار المتخصصين المشار إليهم سابقاً؛ فلا ينبغي الحجر على أي فكرة صدرت عن هؤلاء، حتى ولو كانت مخالفة لرأي المؤسسات الدينية، أو غير متفقة مع الرأي العام في ساحة الفكر الإسلامي؛ إذ لم تقم الحضارات إلا على قاعدة التنوع الفكري، فلم يحدث في تاريخ البشرية بناء حضارة على الرأي الواحد، بل على العكس، فغلق المجتمع على رأي واحد، وعدم السماح للآراء المختلفة بالظهور يدمر أي حضارة، ويمنع ازدهار الفكر الذي يعتبر لبنة أساسية في قيام صرحها. وما أسباب قيام الحضارة الإسلامية ببعيدة عنا؛ حيث أسهمت الآراء المتعددة في جميع المجالات في ازدهار الفكر الإسلامي الذي نتغنى به؛ إذ كانت هناك آراء متعددة في الفلسفة، وعلم الكلام، وفي الفقه، والتفسير وغيرها من العلوم الإنسانية. ولم ينطفئ نور الحضارة الإسلامية إلا عند حَمْل الناس على رأي واحد، ومصادرة الآراء الأخرى، حتى ولو كانت قائمة على أدلة نصية، وتسندها قواعد المنطق، ويدعمها العقل السليم.
لا تقتلوا آراء المتخصصين المستندة إلى أدلة شرعية وعقلية، حتى ولو كانت مخالفة لرأي المؤسسات الدينية!!!!! بل دعوها تنتشر، وناقشوها بالأدلة والبراهين، وإلا فقدت دعوة تجديد الخطاب الديني صلاحيتها، وصارت بيانات جوفاء، وأصوات رنانة فقدت تأثيرها على النفوس، وتلاشت صلاحيتها في عالم الفكر، وخفت نورها في سماء المجتمعات الإسلامية.
لا تحاصروا الفكر المستنير!!! فقد قامت الحضارة الإسلامية في الماضي على أعمدة مثل هذا الفكر!!!! وقَبِلَها القاصي والداني لأنها كانت ملبية لكل ما يصبو إليه الإنسان في المجتمع ليعيش عيشة طبيعية، يستمتع بالخيرات المتاحة له، وترضى نفسه لاطمئنانه بموافقة ما يمارسه لشرع الله.
لا تصادروا الأفكار!!! حتى ولو كانت شاذة عن المألوف، بل بينوا عوارها بأدلة شرعية وأسانيد عقلية، فذلك هو الأسلوب، الذي يمارسه العقلاء ليسهموا في بناء الأمة، ويدعموها بدعامات علمية، تمكنها من مواجهة الأنواء والأخطار، سواء كانت خارجية أم داخلية.
لا تخافوا من انتشار أي فكر من متخصص إلا إذا كنتم عاجزين عن بيان المنحرف منها، وغير قادرين على بيان الخطأ فيها، وتمييز الخبيث من الطيب فيما ينشر!!!!!
وإسهاماً مني في تجديد الخطاب الديني أنشأت هذه المدونة لنشر المقالات التي رفضت المؤسسات الدينية نشرها لأن فيها من الأفكار ما يخالف رأي المسؤولين فيها. فمن المعروف لدى هؤلاء أن ما كتبته منذ نشأتي في رحاب الأزهر يعالج القضايا المعاصرة في ضوء النصوص الإسلامية المتناغمة مع المستجدات العصرية معلنة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
                                                            محمد شامة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...