إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,251

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

البناء الأخلاقي أساس الحضارة


البناء الأخلاقي أساس الحضارة
                      أ. د/ محمد شامة
ليس من عادتي مدح شخص حي، مهما كانت صلتي به وحبى له، حتى وإن كان ما أصفه به أقل من الحقيقة، لأنه – كما أرى – مظنة شبهة، ومصدراً للقيل والقال: شبهة التزلف والتقرب، بغية الحصول على منحة، أو الوصول إلى منصب، أو حبًّا في السير في ركاب أصحاب السلطة، أو تفاخراً بالانتماء إلى مواكب الطبقة العليا .... هذه هي فلسفتي في الحياة، منذ أن كنت طالباً، فلم أتزلف إلى أستاذ، وإن كنت قد احترمتهم جميعاً، خاصة من تركوا بصمة إيجابية في حياتي، ولم أتنازل عن رأيي ومبدئي تطلعاً إلى نجاح، أو سعياً وراء إجازة في امتحان أو اختبار.
وقد جلب علىّ هذا الموقف متاعب جمة، ومشاكل متعددة ، كانت ذروتها سوء العلاقة بيني وبين الأستاذ الألماني الذى كان يشرف علىّ في مرحلة الدكتوراه؛ فقد اختلفت معه في مسائل تمس عقيدتي فحاولت إقناعه بأن البحث العلمي ينبغي أن يكون محايداً ، فتُعْرَض  المسائل كما يراها أصحاب العقيدة ، لا كما يراها من لم يؤمنوا بهذه العقيدة ، فأبى وأصر على  الرأي الذى ذهب إليه المستشرقون ، فتمسكت برأيي، وأتممت الرسالة وسلمتها لإدارة الجامعة دون أن آخذ الإذن منه كما هو متبع عرفيًّا – وليس قانونيًّا - ، فاستشاط غضباً ، وأسرها في نفسه ، وصمم على أن يقف دون إجازة هذه الرسالة . ولكن فضل الله كان كبيراً علىّ ، فنظام الامتحان في الجامعة لا يعطى للأستاذ المشرف الحق المطلق في إجازة الرسالة أو عدم إجازتها ، بل ترسلها إدارة الجامعة إلى أربعة أساتذة منفردين غيره – كلٌّ على حدة – ليعطى كل واحد منهم درجة للرسالة ، فأجازها الأربعة ، وبعضهم أعطاها درجة الامتياز ، أما هو فسجل لها درجة الرسوب ، ولما جمعت الدرجات الخمس ، وقُسِمَت على خمسة – كما تقضى بذلك لائحة الجامعة – كانت النتيجة إجازة الرسالة بدرجة "جيد" ، فلو داهنته كما فعل غيرى ، ولو تزلفت إليه كما كان يفعل الآخرون ، لأُجِيزَت الرسالة بدرجة "امتياز" .
لم أندم على هذا الموقف، بل كنت – وما زلت – فخوراً به؛ لأنى انتصرت لعقيدتي، ودافعت عن رأيي الذى أعتنقه، فاطمأن قلبي، وارتاح ضميري، فاعتبرت الدرجات التي افتقدتها بسبب عناد الأستاذ المشرف معي وساماً على صدري، لا يراه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يدركه إلا ضميري الذى اطمأن إلى سلامة موقفي، ودفعني ارتياحه إلى الاستمرار في تبنى هذا الموقف في مسيرة حياتي، وما أكثر هذه المواقف، وخاصة في مجتمع لا يأخذ المرء فيه حقه –غالباً-إلا بالتزلف والتقرب لمن بيده المنح والمنع.
جاهرت برأيي وتمسكت به، فانتقدت الأوضاع الملتوية، مطالباً بتصحيحها، حتى ولو كان ذلك يمس الرؤساء ومن بيدهم القرارات المتعلقة بحياة المرءوسين ورسم مستقبلهم، فاتهمت بفقدان الذكاء الاجتماعي، وقصور النظر في فهم المناخ العام، وإدراك العلاقات التي تحكم مسيرة الحياة، وتوجه مؤشر الاختيار في السلم الوظيفي، وعلى أساسها يتبوأ المرء موقعاً متقدماً في صفوف العرض أمام صاحب القرار، فيتسلل إلى المراكز الحساسة في المجتمع، ويتصدر المتزاحمين إلى المراكز العليا في الدولة.
لا توجد هذه الظاهر إلا في المجتمعات التي غابت فيها القيم، وتقهقرت فيها مقاييس العمل الجاد لتحل محلها "قيم" التزلف والتقرب، وعلى وجه الدقة: "قيم" النفاق والتلون، وغياب الموضوعية، وتحكم المحسوبية في العمل العام، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، وانتشار الفساد الأخلاقي، وشيوع الغش والتضليل والرشوة وفساد الذمم.
ومما لاشك فيه أن هذه الأمراض هي السبب في تأخر ما يسمى بالبلاد النامية، وتدهور أحوالها العلمية، والاقتصادية، والأخلاقية ...و....و ... الخ، وصدق الشاعر إذ يقول:
              وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت   #   فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
انعكست مقاييس القيم، فأصبح النفاق ذكاءً اجتماعيًّا، والتزلف والتقرب إلى أصحاب السلطة والسلطان كياسة، وفهماً لنواميس الحياة، والكذب وسيلة مشروعة لوصول المرء إلى ما يبتغيه، والتسيب وعدم الالتزام بأسلوب من يريد البقاء في المنصب، ورحم الله ابن خلدون، حيث بين أن الرئيس الذكي يتعب مرؤوسيه؛ لأنه يطلب منهم دائماً المزيد من العمل الجاد المنتج، وبالعكس، فهم يرتاحون إذا كان رئيسهم أقل ذكاءً، لأنه لا يملك من القدرة الفكرية ما يؤهله لرسم الخطط التي تتطلب عملاً منهم.
فإذا طبقنا هذه النظرية على واقع المجتمعات النامية، لبدا لنا أن الرئيس الذي لا يشكو منه مرؤوسيه – وبالتالي يظل أطول مدة ممكنة على كرسيه – فإنه – غالباً – ما يكون من النوع الثاني الذي تحدث عنه ابن خلدون.
فإذا فهمنا ذلك وأدركناه، عرفنا سبب تأخر شعوب وتخلفها عن ركب الحضارة، وعجزها عن الإبداع والابتكار، ووقوفها على أبواب من لم يبدل مفاهيم القيم الأخلاقية التي تقود من يلتزم بها – سلوكاً، وعملاً، وتقييماً للنشاط الإنساني _ إلى النافع الذي يهدي إلى الصدق، والالتزام، والحق، .... واقفين على أبوابهم، طالبين منحهم بعض ما أنتجوه، وإعطاءهم فضلات ما يتمتعون به، لتحسين أحوالهم المزرية، وإنقاذ حياتهم التي ضاعت وسط ركام من الضلال والفساد.
ومن المفارقات العجيبة أن الذين يملكون زمام الحضارة في العصر الحديث يرجعون سبب تخلف هذه الشعوب إلى الدين، ويركزون بنوع خاص على الإسلام، فيوحون إلى المسلمين تلميحاً – وأحياناً تصريحاً – بأنهم لن يبلغوا مبلغهم من الحضارة والرقى إلا إذا فصلوا الدين عن الدولة، ومارسوا نشاطهم في المجال الدنيوي، بعيداً عن الدين الذى شل حركتهم بسبب كثرة المحرمات في ميادين الاقتصاد والاجتماع والفنون ، لدرجة أنهم أصبحوا عاجزين عن إثبات وجودهم في عالم الإنتاج والتنمية، وغائبين عن إدارة دفة حركة المال، وتنشيط العمران في بلادهم ، ومتخلفين كثيراً في مجال الإبداع في مختلف الأنشطة الاجتماعية، والفنية، والتكنولوجية، حتى أصبحوا عالة على الغرب المتحضر في "كل شيء"، يستوردون منه آلات الصناعة، ومستلزمات الإنتاج، ووسائل النقل بكل أنواعها .....حتى الطعام اليومي، ليس عندهم ما يكفيهم منه، فلا يستطيعون العيش إلا بالمساعدات الأجنبية.
لا يوجد إذلال لشعب أكبر ولا أعظم من أن يمد يده إلى غيره ليلتقط من فضلاته ما يسد به رمق أبنائه؛ إذ ليس هناك خزى ولا عار يفوق ما يلحق أمة من جراء انتظار قرار مؤسسات الدول الكبرى بالموافقة على منحها مساعدات عسكرية، أو غير عسكرية.
      ومن مفارقات القدر أن كثيراً من المسلمين صدقوا هذه المقولة، فطفقوا يركزون على أن الدين هو سبب تخلفنا ومصدر المهانة التي نعيشها، سواء بانتظار قرار الموافقة على المعونة، أو بضياع كرامتنا وإهدار عزتنا، عندما نمد أيدينا إلى الجهات الأجنبية، لنلتقط ما تجود به نفوس أصحاب القرار فيها علينا. وما ذاك إلا من جراء أميتنا الدينية، فنحن لا نفهم الإسلام كما ينبغي، ولا نعرف قيمه البناءة والخلاقة في المجتمعات الإنسانية، ولا ندرك تعاليمه التي تربى الإنسان على الصدق، وتغرس فيه قيم الالتزام، والشعور بالمسئولية، وتوضح له أن النفاق، ليس فقط جرثومة التخلف والانحطاط، بل هو مدمر للقيم العليا في المجتمع، ومشوه للقدرات المبدعة عند المخلصين الصادقين، ولذلك كان العقاب عليه أكبر من أي ذنب آخر يرتكبه الإنسان، يقول الله تعالى: ﱡﭐ      [النساء : 145]   
يركز الإسلام في تعاليمه على بناء الإنسان ، ليكون مؤهلاً لبناء حضارة ، ومن أهم هذه التعاليم: الصدق قولاً وعملاً ، لأن الصدق من الصفات الحميدة في الإنسان ، بل إنه من أفضل الصفات الإنسانية على الإطلاق ؛ ذلك أن من يتحلى بالصدق في القول وفى العمل ، فهو لبنة صالحة في بناء المجتمع الإنساني على أسس راقية للحضارة والتقدم في جميع ميادين الحياة ، لأن الصدق من أهم الدعائم التي تستقيم بها حياة الفرد ، وتصلح بها العلاقات الاجتماعية ، وتقوى بها الروابط بين الناس في المجتمع ، وهو من اللبنات الأولى في بناء صرح الحضارة.
      ولهذا حث الإسلام عليه، ووعد الصادقين جنات النعيم، فقد ورد في مدح الصدق و الصادقين في القرآن الكريم أكثر من خمسين مرة، منها قوله تعالى: ﱡﭐ       [ الأحزاب : 24 ]
ويقول في سورة آل عمران: ﱡﭐ       ﲿ        ....      [ آل عمران : 15 – 17 ]
      فذكر أن الصدق من صفات هؤلاء الذين سينعمون بجنات تجرى من تحتها الأنهار ، فقال تعالى : ﱡﭐ         [ المائدة : 119 ]
كذلك ورد في حديث رسول الله  r ما يدعو المسلمين إلى التحلي بالصدق في القول والعمل، فقد روى أبو هريرة أن النبي  r قال: " من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أحد بعلم، وهو يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه. " [1]
فيبدو من هذا الحديث أن الرسول  r ينبئنا أن من الخيانة عدم الصدق في المشورة، وعدم الإخلاص في النصيحة، فالذي يشير على غيره بأمر وهو يعلم أن الهداية والرشد في غير ما أشار به، فقد خدعه وأضله؛ إذ لم يصدقه في النصح، وهو بهذا قد خان العهد الذي ينبغي أن يكون بين المسلم وأخيه المسلم. كما روى عن أبى هريرة أن النبي   r قال: " حق المسلم على المسلم ست، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه. " [2]
فهذه النصائح كلها دعائم في بناء السلوك المؤثر في ازدهار الحضارة، وخاصة الصدق، فمن حق المسلم على أخيه المسلم النصح، ولا يكون الأمر نصحاً إلا إذا صدر عن إخلاص، واعتقاد بأن فيه الهداية والرشد.
فالصدق صفة مطلوبة، وفضيلة يجب أن يتحلى بها كل مسلم، فإن لم يفعل ذلك كان جزاؤه النار وبئس المصير، فقد روى عن رسول الله  r أنه قال: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً. " [3]
فالحديث يحث على الصدق، ويوضح أنه سبيل إلى البر والخير والإحسان في الحياة الدنيا، سواء أكان للإنسان الذي يلتزم بالصدق، أو لمن يتعامل معه ويتصل به، بالإضافة إلى أنه طريق يوصل صاحبه إلى ثواب الله في الآخرة.
كما حذر المسلمين من الكذب، فبين أن عاقبته سيئة على الكاذب، فهو مهلكة له، ولمن يتعامل معه؛ ذلك أن أثره السيء يعود عليهم جميعاً، فهو موصل إلى الفجور، والموبقات، والتصرفات المرذولة في الحياة الدنيا، ثم هو بعد ذلك طريق يقود صاحبه إلى النار في الآخرة.
وكما حث الإسلام المسلمين على الالتزام بالصدق في القول، ووعد من التزم به جزاء في الدنيا ونعيماً في الآخرة، كذلك أمرهم بالصدق في العمل، فقد قال رسول الله r : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه . "  [4]
ومما لاشك فيه أن الصدق لبنة هامة في بناء الحضارة، فالشعب الصادق لا يعرف النفاق، ولا يستسيغ المداهنة، ولا يقبل قلب الحقائق، ولا يرضى بأن يُهمَل مبتكر، أو يُهضَم حق العلماء المبدعين لحساب أهل الثقة، أو لإرضاء من أخذ حقًّا ليس له، أو للتزلف لدكتاتور فرض سلطانه بجهالة عمياء وقوة غاشمة، وثبت أركان حكمه بجوقة من الطفيليين الذين يتساقطون على موائد الأمراء تساقط الذباب على فضلات الطعام.
 الصدق لبنة هامة في بناء الحضارة، لأنه يكشف الأخطاء لتُصَحَّح، ويُبْرِز العناصر النافعة فتُسْتَغَلّ، ويُبَصِّر الحاكم بأصحاب المواهب من أفراد الأمة ليستعين بهم فيسهموا في تقدم الأمة ورقيها. وهذا من أهم أهداف التعاليم الإسلامية التي وُظِّفَت في صدر التاريخ الإسلامي، فقامت حضارة إسلامية متكاملة: مادية وروحية، وهو ما يطالب به العلماء والحكماء اليوم، بعدما رأوا آثار غياب الجانب الروحي في الحضارة الحديثة من: ظلم، واحتكار، واستغلال مادى طغى على الجانب الروحي، فسادت القوة، وتوارى – أو اختفى – السلام، وشاع الاحتكار والأنانية، فتبخر التكافل والتعاون، وانتشر ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، مما جعل المجتمعات الإنسانية في أشد الحاجة اليوم إلى الإسلام لتصحصح اعوجاج الحضارة المادية، وذلك بنشر ثقافة العدل والرحمة، حتى يشعر الإنسان بالأمن، ويحس بالاطمئنان على حياته، ومستقبل أبنائه.


[1]   ) انظر ! المستدرك على الصحيحين ، وسنن أبى داود ، وسنن البيهقي الكبرى .
[2]   ) صحيح مسلم جـ 1 رقم  2162
[3]   ) صحيح مسلم جـ 4  رقم  2607
[4]   ) مسند أبى يعلى جـ 7  رقم 4386

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...