جزء 2 من مقرر
عقيدة بالعربي
( 13 )
ضرورة بعث الرسل
لو نظر الإنسان
حوله، وتمعن في مظاهر الحياة، وأمعن التفكير في ملامح كل واحد من الناس، لأدرك
اختلافات شتى، ومشارب متعددة، وأمزجة متنوعة، وآراء مختلفة، تصل إلى حد التناقض،
والتضارب، بل والتطاحن المزمن، الذى يؤدى بالمجتمع إلى هاوية الانحدار، أو الهلاك.
وهذا الاختلاف
والتناقض، يشمل ناحيتي الإنسان: الفسيولوجية، والروحية. فشكل كل إنسان وملامحه،
يختلف عن شكل الآخر، حتى ولو كان أخاً شقيقاً. كذلك تنوعت الأفكار، لدرجة أن من
النادر – بل يكاد يكون من المستحيل – أن تتطابق أفكار اثنين تطابقاً كلياً، وما
نسمعه، من حين لآخر، من التشابه بين اثنين فكرياً، أو جسمانياً، فليس إلا في
الغالب الأعم، أي في معظم الملامح، أو في غالبية الأفكار، أما التطابق الكلي، فهو
مستحيل.
وقد أشار القرآن
الكريم إلى هذه الظاهرة في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱠ [ هود: ١١٨ ]
فالاختلاف، وتعدد الأفكار والاتجاهات،
صفة لازمة للمجتمعات والأفراد،
ويعلل العلماء ذلك بأن الإنسان ابن بيئته، ولما كانت البيئات مختلفة ومتعددة،
فلابد أن يأتي تَكَوُّن الناس متبايناً ومختلفاً، حتى الأفراد الذين يعيشون في
بيئة واحدة، يظهر عليهم بعض الاختلافات، لأن البيئة تحتوي على عناصر متعددة،
وقابلية الإنسان تميل إلى عنصر، قد لا يميل إليه آخر. ومن هنا جاء الاختلاف بين
أبناء المجتمع الواحد، بل بين أعضاء الأسرة الواحدة.
وعليه، فلا يمكن أن يلتقي الناس على مبدأ فكرى واحد من تلقاء أنفسهم، أو
يتفقوا على نظام واحد في حياتهم، أو يهتدوا بعقولهم إلى أسلوب واحد في حياتهم
الاجتماعية، ويجمعوا على أنه هو الذي يضمن لهم الحياة السعيدة، أو يجنبهم الزلل في
معاملاتهم، وعلاقاتهم، بعضهم ببعض. وحوادث التاريخ: الماضي والحاضر، تؤكد لنا هذا
المعنى، فقد حدثنا التاريخ، وتنبئنا الأحداث التي نشاهدها كل يوم عن آراء شتى،
ومذاهب فكرية متعددة، واتجاهات سياسية لا حصر لها، يدعى أصحابها أنهم قد جاءوا
بالنظام الأمثل، والأحسن، والأوفق للمجتمع الإنساني، ويزعم صاحب كل مبدأ، أن ما
عنده هو الصحيح، وما عند غيره باطل، لا يصلح لتسيير دفة سفينة الحياة البشرية.
ووسط هذه الادعاءات المتنافرة، والأصوات المتناحرة، لا يمكن للإنسان بقدرته
العقلية المحدودة، أن يفضل رأياً على رأي، أو يطمئن بصورة لا تقبل الشك إلى صحة
اتجاه دون آخر، بل من المستحيل أن يوفق اتجاه ما إلى الصواب في جميع مجالات
الحياة، لأن أصحابه وواضعيه بشر، يخضعون في تكوينهم العقلي إلى بيئات ثقافية معينة،
إذن، فليس من الممكن أن يهتدى عقل الإنسان إلى كل ما ينفع البشر بنفسه، لأنه خاضع
لظروف معينة، يعجز عن مجاوزتها.
ولهذا كان إرسال الرسل لازماً، ليبينوا للناس ما عجزوا عن فهمه، وليوضحوا
لهم ما غاب عنهم، بسبب قصورهم البيئي، وليرشدوهم إلى الطريق المستقيم، وليكشفوا
لهم جانب الضلال فيما توصلت إليه عقولهم العاجزة في العقائد والمعاملات، وبذلك
تستقيم عقائدهم، وتسير حياتهم على نحو مستقيم، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲛ ﱠ [ إبراهيم: ٤] ،
أي ليظهر لهم ما هم فيه من ضلال، ويأمرهم باجتنابه، وليبلغهم وحى الله ، ويوصيهم
باتباعه.
فإرسال الرسل لازم،
لبيان ما اختلف عليه الناس، ولإخراج من اتفق منهم على الضلال، من دائرة الضلال،
إلى نور الإيمان، ولهداية من ضل في تفسير الرسالات السابقة، ومن سلك طرقاً ملتوية
لجذب النصوص الدينية، وتأويلها تأويلاً يخدم ميوله المتمردة على الحق، تأويلاً
يشبع هواه المتردي في مدارك اللهو والشهوة، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ (أي
في انحرافهم وبعدهم عن الحق) ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﱠ [ البقرة: ٢١٣]
فإرسال الرسل هو لهداية العقل البشرى العاجز، إلى طريق لا يعتريه الخطأ،
لأنه من العليم الحكيم، وإبلاغ الناس الحكم الصحيح، فيما اختلفوا فيه، وإخبارهم أن
من اتبع طريق الله الذى رسمه الوحى المنزل على الرسل، فسيكون ثوابه الجنة، ومن
خالفه فمصيره النار، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ [ الأنعام: ٤٨ ]
وهو أيضاً، لقيام الحجة على الناس، يقول الله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸﱹ ﱾ ﱠ [ النساء: ١٦٥]
ويقول: ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉﳊ ﳒ ﱠ [ القصص: ٥٩ ]
فلا عذر لمن جحد الإيمان
، وتمادى في الكفر ، ولا لمن عجز عقله عن الوصول إلى الطريق المستقيم ، وركن إلى
عجزه ، فلم يسلم قياده لمن نزل عليهم الوحى من الرسل والأنبياء ، فهم وحدهم الذين
وضحوا للناس كل ما يتعلق بالإيمان ، وبينوا لهم طريق الهدى ، ولهذا فلن يستجاب لمن أنكر رسالتهم ،
عندما يستجيرون ، وهم في عذاب النار يوم القيامة ، ولن يلتفت إلى صراخهم وعويلهم ،
عقاباً لهم على موقفهم من الرسل في الدنيا ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆﱇ ﱈ ﱉﱊ ﱋ ﱌﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱠ [غافر: ٤٩ - ٥٠ ]
ويقول:
ﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﱠ [ غافر: ٢١ – ٢٢]
وخلاصة
القول: إن
اختلاف البيئات الطبيعية والثقافية، كان سبباً في اختلاف الناس في ميولهم وأفكارهم،
مما جعل المجتمعات البشرية تعج بالاتجاهات الفكرية المختلفة، حيث يعجز العقل البشرى
عن معرفة الصحيح من الخطأ، ولهذا بعث الله الرسل ليبينوا لهم ذلك، حتى ينقذوهم من
التطاحن المدمر، والتشاحن المهلك، فيحيون حياة سعيدة في الدنيا، ويلقون جزاء حسناً
في الآخرة، وصدق الله إذ يقول: ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲾ ﱠ [ الأنفال: ٢٤]
لأن اختلاف الأفكار وتطاحنها، وعدم
القدرة على معرفة ما ينفع منها، وما يسيء، هو موات للمجتمعات والأفراد، فإذا جاءهم
من يدعوهم – وهم الرسل – إلى اتباع ما ينقذهم من هذه البلبلة الفكرية، فينبغي
عليهم أن يستجيبوا له، لأن في ذلك حياة لهم.
*
* *
( 14 )
خواطر داعية حول بعثة
الرسول e
كان العالم في القرن السادس الميلادي في
ظلام دامس وليل حالك، لضياع نور
الحقيقة الإلهية، بين ظلم الأكاسرة وطغيانهم، وبين فساد الرومان، نتيجة انحرافهم
عن تعاليم المسيح u ، ولم يستطع الكهان بيان الحقيقة للناس
، لأن ما لديهم لم يكن سوى أفكار مجموعة من البشر ، حاولت الوصول إلى كنه الرسالات
السماوية فعجزت ، لأن الإنسان لم يستطع الوصول إلى ذلك ، إلا عن طريق الوحى المنزل
من السماء .
أما من كان خارج تلك الدولتين الكبريين
آنذاك، فلم يكونوا أحسن حالاً في علاقتهم بدين الله الواحد القهار، إذ صنعوا
أحجاراً بأيديهم، وأقاموها بجوار بيت الله في مكة، يعبدونها من دون الله، وكان
أمرهم عجباً، بعبدون أصناماً في بيت الله ويقدسون أحجاراً صماء بجوار الكعبة
الشريفة. تركوا تعاليم آبائهم التي علمهم إياها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،
واتبعوا طريق الشيطان، فهم يئدون البنات خشية الفقر، ونسوا أن الله هو الرزاق،
ويقتل بعضهم بعضاً استجابة لنزعة عصبية، وإشباعاً لرغبة الحمية الجاهلية.
·
كانت
هذه هي حالة المجتمع الإنساني قبل بعثة محمد e.
·
في فارس ظلم، واستعباد،
وعبادة النار.
·
وفى الروم فساد،
وتطاحن بين المذاهب، يصحبه سفك الدماء، وتشريد الأطفال.
·
وفى الجزيرة العرب
عبادة أحجار، وتقديس أصنام، يحيط بها عصبية قبلية، ونعرة جاهلية، وفساد في
الأخلاق، أدى إلى بعد عن الفضيلة، والتنكر لمبادئ العدالة الاجتماعية.
فكان هذا
إيذاناً ببعث رسول ينقذ البشرية من الضلالة ، ويهديها إلى الصراط المستقيم ، فأرسل الله محمداً e
هادياً
، ومبشراً ، ونذيراً : ﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱠ [ الأحزاب: ٤٥ - ٤٦]
- تبشر من اتبعك: بالجنة
وثوابها، وتنذر من خالفك: بالنار وعذابها.
- تبشر من آمن بك رسولاً: برضوان الله وجنته،
وتنذر من أنكر نبوتك: بغضب الله وعقابه.
- تبشر من صدقك: بالأمن والأمان في الدنيا
والآخرة، وتنذر من كذَّبك: بالخزي في الدنيا، والخسران في الآخرة.
- تبشر من
أطاع الله: بالجزاء في الدنيا والآخرة، وتنذر من عصاه: بالخسران المبين في الدارين.
- تبشر من
امتثل لأوامر الوحي: بجنة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين، وتنذر من خالف شرع
الله: بنار وقودها الناس والحجارة، أعدت للظالمين، لأنفسهم بمعارضتهم لشرع السماء،
والظالمين لغيرهم بسلبهم حقوقهم المشروعة، التي أوصى الله بأدائها لهم.
لقد
بُعِثَ رسول الله e
رحمة
للعالمين جميعاً : ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﱠ [ الأنبياء: ١٠٧ ]
- رحمة لهم، لأنه أنقذ
المستضعفين من ظلم المستكبرين، وحرر المستكبرين من سيطرة نفوسهم الأمارة بالسوء
على أفعالهم، فرحمهم الله من تحمل ما يرتكبون من آثام.
- كانت بعثته نوراً وهداية للجميع، وتهذيباً،
وتكريماً لكافة الناس، وصدق رسول الله e
حين يتحدث عن نفسه
قائلاً: " إنما أنا رحمة مهداة "
حقاً كان رحمة مهداة إلى ذلك العالم التائه في
بيداء الجهالة، المتخبط في بحر الظلمات، جاء إليه محمداً e
فأحياه
بعد ممات : ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘﲙ ﲠ ﱠ [ الأنعام: ١٢٢]
- جاء إليه
محمد e ، فهداه بعد ضلالة ، وأعاد إليه رشده
بعد فقده ، ورد إليه كيانه بعد انهياره .
أعطاه حقوقه في التفكير
والحياة، فلم يفرق بين الكبير والصغير، ولا بين الغنى والفقير إلا بالتقوى: ﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱻ ﱠ [ الحجرات: ١٣]
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى *
فالكل في حق الحياة سواء
بُعِثَ محمد e
،
فحرر العقول والأبدان ، وأنار القرى والبلدان ، وشع ضوؤه من الجزيرة العربية ، بعد
أن أشعل القلوب بروح الله ، وحرك المشاعر بتعاليم القرآن الكريم ، ومزج العقول
بوحى السماء ، وقضى على الأوهام والمهاترات، فانطلق أصحابه في العالم:
·
مصابيح تنير،
·
وأعلام تهدي، كما قال e:" أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم
اهتديتم "
·
وقناديل تكسح الظلام،
·
وفرساناً تقضى على الفساد والظلم،
فملكوا
زمام العالم ، وطهروه من الأوثان والأصنام ، وحولوا البلاد إلى بحار من العلم المعرفة ، وغرسوا الأخلاق الحميدة ، والصفات
الفاضلة ، وأصبحوا – وهم أعداء الأمس – إخواناً متحابين ، يدعون إلى الخير
، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ، وصدق الله إذ يقول : ﱡﭐ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﱠ [ آل عمران: ١٠٣ – ١٠٤]
* *
*
( 15 )
الأنبياء
والرسل
ميز الله الإنسان على سائر الكائنات الحية بالعقل وكان
ذلك سبباً في تسخير كل ما في الوجود المشاهد له، يقول الله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﱠ [ إبراهيم: ٣٢ – ٣٣]
ويقول: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱝ ﱠ [ الحج: ٦٥]
ويقول: ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﱠ [ الجاثية: ١٢ – ١٣]
واستخدم
الإنسان عقله في الانتفاع بما في الكون، غير أنه لم يستطع الوصول بنفسه إلى حقيقة
الوجود، وإلى معرفة ما يحدث للإنسان بعد الموت. كذلك عجز عقله عن التوصل إلى نظام
ثابت للحياة، يحفظ المجتمعات من التفكك والانهيار، ولذا اصطفى الله من عباده
أناساً، أنزل عليهم وحيه، ليبلغوه للناس، ويأمروهم باتباع ما جاء به من أوامر،
وتجنب ما تضمنه من نواهٍ، إن هم أرادوا السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة،
يقول تعالى [الحج:
٧٥] ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲﱳ ﱸ ﱠ [ الحج: ٧٥ ]
ويقول: ﱡﭐ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀﳁ ﳏ ﱠ [ النساء: ١٧٠]
ويقول: ﱡﭐ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﱠ [ الشورى: ٥١]
ويقول: ﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﳋ ﱠ
[
آل عمران: ١٦٤]
فالرسول
شخص اصطفاه الله من الناس، ليبلغهم ما يريد الله تبليغهم إياه. وقد يطلق عليه نبي
أيضاً، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱎ ﱠ [ التوبة: ٧٣ ]
ويقول: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ [النساء: ١٦٣]
ويقول: ﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱠ [ الأحزاب: ٤٥]
غير أن هناك رأياً يقول : إن النبي هو
ما نزل عليه وحى ، ولم يؤمر بتبليغه ، والرسول هو ما نزل عليه الوحى ، وأُمِر
بتبليغه ، فهو نبي أيضاً ، أي أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً ، لأنه إن لم
يؤمر بالتبليغ فهو نبي فقط، فإن أُمِر كان رسولاً ، بالإضافة إلى أنه نبي بمجرد
نزول الوحى عليه ، وهذا تفسير غير سليم ؛ والدليل على ذلك ، أن الله أمر كل الناس
بالدعوة إلى الله ، ونهاهم عن كتمان الحق ، وحذرهم من عدم تبليغه ، فقد قال محذراً
من لم يبلغ أمر الله: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱠ [ آل عمران: ١٨٧]
أي
أنكم تقترفون إثماً كبيراً، إذا فعلتم مثلهم، فكتمتم أمر الله، ولم تبلغوه للناس،
فالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر واجب على كل مؤمن ومؤمنة، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲜ ﱠ [التوبة: ٧١]
ويقول:
ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐﲑ ﲕ ﱠ [ آل عمران: ١٠٤]
ويقول حكاية عن وصية
لقمان لابنه: ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﳅ ﱠ [ لقمان: ١٧]
ومن هذا يتبين: أن من واجبات المؤمن أن
يبلغ شرع الله للناس، ويعلمهم أحكامه، ويأمرهم باتباعه، وينذر من غفل منهم عن أمر
الله.
فإذا كان التبليغ واجباً على كل الناس،
أفلا يكون واجباً على النبي الذي نزل عليه وحي الله !!! فالقول بأن النبي هو: من
نزل عليه وحي، ولم يؤمر بتبليغه خاطئ من ناحتين:
الأولى: أنه
عطل مبدأ من مبادئ الدين، وهو التبليغ، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر،
فالتبليغ إذا كان واجباً على كل مؤمن، فهو على النبي أكثر إلزاماً، بل هو أول شيء
يجب القيام به.
والثانية: التي يتضح منها خطا هذا الرأي: أنه إذا كان قد نزل عليه
وحي، فكيف لا يؤمر بتبليغه؟ إن هذا أمر يتنافى مع العقل، بل هو عبث ينسب إلى الله
تعالى، وهو محال؛ إذ كيف يُنْزِل الله وحياً على إنسان اصطفاه، ثم لا يأمره
بتبليغه. إذا كان الأمر كذلك – وهو ما تنزه الله I عنه – فما الفائدة من تنزيل الوحى؟
إذاً، فليس هناك فرق بين نبي ورسول،
فالرسول نبي، والنبي رسول، أي أنهما لفظان مترادفان، بل إن لفظ النبي أدق، لأنه لا
يطلق إلا على من اصطفاهم الله، أما الرسول فقط، فيطلق على غيرهم؛ إذ شاع بين الناس
قولهم: رسول الملك، أو رسول الحكومة، أو رسول القوم. ولا يقال: نبي الملك، أو نبي
الحكومة، فالنبي لفظ خاص بمن اصطفاه الله من الناس، وأوحى إليه، وأمره بتبليغ هذا
الوحي لهم، ويجوز إطلاقه بدون إضافة إلى لفظ الجلالة، فإذا قيل: نبي، أو النبي
فُهِم منها أنه نبي الله.
أما كلمة رسول، فإذا كانت بدون "
الـ "، فلا تستعمل إلا مضافة إلى لفظ الجلالة، فيقال: رسول الله، فإن قيل:
رسول فقط، بدون إضافته إلى لفظ الجلالة، فيحتمل أن يكون المراد: رسول الله، أو
رسول غيره من الناس.
كذلك تتضمن
كلمة: " نبي ": الإنباء بالغيب، ولا يكون هذا إلا لمن اصطفاه الله من
عباده، بخلاف كلمة " رسول"، فإنها لا تتضمن ذلك
بلفظها، بل يما يُفْهَم، من أنها تطلق – إذا أضيفت إلى لفظ الجلالة – على من أنزل
عليه الوحي، ومادام ينزل عليه الوحي، فقد ينبئه الله بغيب يبلغه للناس.
وقد أرسل الله أنبياء – ورسلاً – عديدة، أخبرنا ببعضهم في
القرآن الكريم، ولم ينبئنا بالبعض الآخر، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱠ [ النساء: ١٦٣ – ١٦٤]
ويقول : ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱣ ﱠ [ غافر: ٧٨]
وقد ذكر الله I
في
القرآن الكريم أسماء الأنبياء ، الذين اقتضت حكمته أن يبلغنا بهم، وهم : آدم ، وإدريس ، وهود ، وصالح ،
وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق،
ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون، ويونس ، وداوود ،
وسليمان ، واليسع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين
، وسيدهم ، وخاتمهم : محمد e .
ويجب
الإيمان بهم جميعاً، فمن كفر بواحد منهم لا يكون مسلماً ، لأن من شروط صحة الإسلام
: أن يؤمن الإنسان بما نزل من الوحى على محمد e
،
وقد نزل الوحى عليه ، مخبراً بأنهم أنبياء ، فمن لم يؤمن بواحد منهم ، فقد أنكر
نصاً من القرآن الكريم ، ومنكر نص القرآن الكريم كافر ، يقول الله تعالى : ﭐﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲥ ﱠ [ البقرة: ٢٨٥]
خلاصة القول: أن
الله اصطفى من عباده من أنزل عليه الوحي، وأمره بتبليغه للناس، وسماه نبياً، كما
سماه رسولاً، فكل نبي رسول، وكل رسول نبي، فهما لفظان مترادفان، يطلقان على من
اصطفاهم الله، وخصهم بوحيه، وأمرهم بتبليغه، وأنه قد قص علينا بعضهم في القرآن
الكريم، وشاءت حكمته ألا يقص علينا البعض الآخر، وأنه يجب الإيمان بهم جميعاً، فمن
أنكر واحداً منهم، فقد كفر، ومن كفر فعليه كفره، ومن عمل صالحاً فلنفسه، وما ربك
بظلام للعبيد.
*
* *
( 16 )
المعجزة والكرامة
لقد بينا في حديث سابق، أن الإنسان لا
يستطيع بعقله، أن يتوصل إلى نظام للحياة، يحفظ كيان الفرد والمجتمع، ويضمن للناس
السعادة، والأمن، والطمأنينة، ولهذا كان لابد من إرسال رسل، يبينون له ما عجز عقله
عن إدراكه، ويوضحون له ما خفي عليه.
وقد ادعى كثيرون لنفسهم هذه الصفة، فزعموا
أنهم مرسلون من الله، وكانوا كاذبين فيما ادعوا، حاولوا خداع الناس، ليتبوؤوا
بينهم مركزاً، وينالوا جاهاً، وليستغلوهم في الأموال، والأغراض. ولكي يظهر الصادق
من الكاذب، وتتبين حقيقة المرسل حقاً من الله، من المدعى زوراً وبهتاناً، أيد الله
من أرسله بمعجزات، تدل على أنه صادق فيما يقول، وتوضح أنه مبلغ من الله فيما يخبر
به.
فالمعجزة:
هي أمر خارق للعادة، يظهره الله على يد من أرسله للناس، كدليل على أنه صادق،
وقد سماها القرآن الكريم آية، أي أنها علامة، ودليل على صدق الرسول فيما يخبر به
عن الله I
،
يقول الله في كتابه العزيز: ﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﳄ ﳅ ﳆﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﱠ [ البقرة: ١١٨ ]
ويقول تعالى: ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ [ الأعراف: ١٠٤ – ١٠٦ ]
أي إن كنت جئت بمعجزة، تدل على أنك
صادق، فبينها لنا إن كنت صادقاً في دعواك النبوة ....
ﱡﭐ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱠ [
الأعراف: ١٠٧ – ١٠٨]
ولكى
تكون المعجزة ملزمة للقوم ، فقد ظهرت على يد كل نبي آية من جنس ما برع فيه قومه ،
ونبغوا فيه واشتهروا به ، لأن من يعرف أسرار العلم ، ويدرك جزئياته ، ثم يرى أن
هناك من يستطيع الإتيان بظواهر ، خرجت عن قدرة أرباب هذا المجال ، يدرك أنه أمام
ظاهرة تفوق قوة البشر ، ظاهرة لا يستطيع الإتيان بها إلا من كان مُؤَيَّداً ، ممن
يملك الكون كله ، ويسيطر عليه ، ولهذا آمن السحرة ، حين رأوا عصا موسى تلقف ما
صنعوه من سحر ، لأنهم عرفوا أنهم أمام عمل
، لا يقوى عليه إنسان ، يقول الله تعالى ، مخبراً رسوله عن هذه الحادثة : ﱡﭐ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ [ الشعراء: ٣٨ – ٤٨]
آمن السحرة وصدقوا بأنه رسول من الله،
لأنهم أدركوا أن ما قام به ليس سحراً، فهو خارج عن طاقة أي ساحر، ولا يكون ذلك إلا
بتأييد من الله، فهو صادق فيما يخبر به عن الله، من أنه رسول، أُرْسِلَ إلى الناس،
ليبين لهم طريق الهدى، ولينذرهم إذا هم ضلوا، أو سلكوا طريق الشيطان.
كذلك كانت معجزة عيسى من جنس ما اشتهر به قومه، وهو
صناعة الطب، فقد برعوا فيه، وظنوا أنهم عرفوا كل صغيرة وكبيرة في جسم الإنسان،
فجاء عيسى u
،
وأظهر الله على يديه في هذا المجال، ما أفحمهم وأعجزهم عن الإتيان بمثله ، رغم
أنهم أساتذة فيه ، فكانت ولادته من غير أب معجزة لهم ، يقول الله تعالى : ﭐﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﱠ [ مريم: ٢٠ – ٢١]
وكان
كلامه في المهد معجزة، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ [ مريم: ٢٧ – ٣٠ ]
كذلك
أبرأ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله، يقول الله تعالى، في معرض الإخبار
عن هذه المعجزة: ﭐﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﱠ [ آل عمران: ٤٧ – ٤٩]
ويقول
: [ المائدة: ١١٠ ] ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ [ المائدة: ١١٠ ]
وما يشاهد من ظهور عجائب على يد السحرة،
والكهان، فليست من جنس الآيات التي أيد الله بها رسله، بل هي عجائب بالنسبة لمن لم
يعرف سرها، لأنها قد تكون راجعة إلى خفة اليد، التي لا يراها الشخص العادي، وقد
تكون راجعة إلى استخدام الساحر لأناس لا يبصرهم المشاهدون، وقد تكون هناك خدعة
بصرية، أو ربما تكون راجعة إلى تمتع بعض الأشخاص بقوى جسمية وروحية خارقة، تمكنه
من الإتيان بمثل هذه العجائب.
ومهما كان مصدرها، فهي قوى محدودة، لا يتمكن
صاحبها من الخروج عن إطارها المحدود لها، ولا يعرف حدود هذه القوى، إلا من أوتي
شيئاً منها، ولهذا عندما يفاجأ بعمل، يتعدى الإطار المألوف لمن برع في هذه الناحية،
فسرعان ما يدرك أنه أمام قوة تفوق قوة من يستعين بهم، أو في مواجهة قوة تطغى على
إمكاناته الخاصة، التي تميز بها عن غيره. ومهما أتى هؤلاء من عجائب، فإن أكثرها
كذباً وبهتاناً، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﱠ [الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٣]
كذلك ما يأتي به الكاهن، لا يدل على أنه صادق فيما يدعيه، فقد افترى الكهان
على الله، وادعوا ما لم يُنَزَّل من السماء، وكذبوا فيما أخبروا به، فلا ينبغي أن
يصدقهم المؤمن. فقد ثبت في الصحيح، أن النبي e
سئل
عن الكهان ، فقيل له : إن مِنَّا قوماً يأتون الكهان ، قال : " فلا يأتوهم
" . وثبت عنه أنه قال: " من أتى عرافاً، فسأل عن شيء، لم تقبل
صلاته أربعين يوماً ".
فمعجزات
الأنبياء، تختلف عما يأتي به الساحر والكاهن، فالساحر له طاقات محدودة، أما ما
يظهر على يدى النبي، فلا حدود له، لأنه من الله، ذي القدرة المطلقة، وأكثر ما يخبر
به الكاهن كذب، لأن الله لا يُطْلِع على غيبه أحداً، إلا أن يكون رسولاً، وفى حدود
ما يريد الله إبلاغه للناس، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﱠ [ الجن: ٢٦ - ٢٨]
فإذا كانت معجزات الأنبياء السابقين، آيات مادية
وقتية، لا تُلْزِم إلا من يراها، فإن معجزات محمد e
آية خالدة ، باقية ، يدركها الناس جميعاً ، على اختلاف العصور والأزمان ، تلك هي
القرآن الكريم ، الذى أنزله الله على محمد e
تصديقاً في دعواه ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱠ [ النساء: ٨٢]
ويقول:
ﱡﭐ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ [ الإسراء: ٨٨]
بقيت نقطة أخرى تتعلق بخوارق العادات، ألا وهى " الكرامة "،
التي اشتهر بين العامة أنها أمر يظهره الله على يد تقي، تكريماً له، وحقيقة الأمر
في هذه المسألة، أن كل من أدى الفرائض، ونفذ الوصايا، وسلك بين الناس مسلكاً يرضى
الله ورسوله فهو وَلِىّ، لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱠ [ يونس: ٦٢ – ٦٣]
ولا يكون تكريمه بإظهار خوارق العادات على يديه، لأنها خصائص النبوة، ولم
تظهر على يدي الأنبياء إلا عند الحاجة إلى إلزام المعارضين، فلم تكن عادة يومية.
فإذا كان هذا وضعها بالنسبة للأنبياء، فكيف نؤمن بظهورها على يدي إنسان عادي، لم
يقع عليه الاختيار، ليبلغ رسالة عن الله، فهو ليس بحاجة إلى ما يؤيد صدقه. إنما
تكريمه يكون بتوفيق الله له إلى العمل الصالح، وهدايته إلى طريق النجاح في مجالات
الحياة المختلفة.
فإن ظهر على يد إنسان شيء غير مألوف، فلا يُعَدّ هذا دليلاً على تقواه. قال
موسى ابن الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل
يمشى على الماء، فلا تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي:
قصر الليث، رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشى على الماء، ويطير في الهواء، فلا
تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب. أي أن مدار تقييم المؤمن، هو السلوك
الطيب، والعمل الصالح، لا ما يظهر على يديه من شيء، قد يكون من عمل الشيطان، مما
يمارسه بعض أدعياء الولاية، من سلوك أقرب إلى الْبَلَه منه إلى سمت التقوى، وصفات
الصلاح، وهو ليس من الدين في شيء. وما يردده بعض الناس عن رسول الله e أنه قال: اطلعت على أهل الجنة ، فرأيت أكثر أهلها البله ، فلا يصح مثل هذا القول عن
رسول الله e ، ولا ينبغي نسبته إليه ، فإن الجنة إنما خلقت لأولى الألباب ،
الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ،
واليوم الآخر .
وقد
ذكر الله أهل الجنة، وأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم الْبَلَه، الذي هو
ضعف العقل.
وخلاصة
القول: أن الكرامة ليست خارقاً يظهره الله على يد إنسان، وإنما هي تكريم الله
للعبد، بأن يوفقه إلى الخير في الدنيا والآخرة.
* *
*
( 17 )
وضع المعجزات
الحسية
في الإسلام
فضل
الله الإنسان على سائر المخلوقات الحية، فوهبه عقلاً، يستعين به على مواجهة ما يقابله
من عقبات على مسرح الحياة، وليكون هادياً له إلى طريق الحق، ومرشداً إلى ما ينبغي
أن يعمله، سواء أكان ذلك في مجالات الحياة المادية، أو فيما يتعلق بالجانب الروحي
في الحياة البشرية، كالاهتداء إلى العقيدة الدينية، ومعرفة ما يتعلق بها من إيمان
بالخالق، وتصديق بالبعث والحساب، ويقين بالثواب والعقاب، إن عاجلاً أو آجلاً.
غير
أن العقل، وإن أثبت قدرته في كثير من الجوانب العلمية، التي تتعلق بمظاهر الطبيعة،
إلا أنه عجز عن إدراك ما وراءها. كذلك لم يستطع أن يهتدى إلى ما يصلح المجتمع في
جميع جوانبه، بل إنه أدرك بعض النواحي الإصلاحية، وعجز عن كثير منها، أي أنه كان
جزئياً في نظرته إلى ما يصلح حياة الفرد والجماعة.
ولهذا
أرسل الله رسلاً ، بينوا له المنهج الشامل ، الذى يقود المجتمعات إلى ما فيه
صلاحها في جميع جوانب الحياة، ووضحوا له الأسلوب الذى ينبغي اتباعه ، حتى لا يضل في
ساحات ، لا تعرف لها حدود ، ولا يهوى في أودية لا يدرك لها قرار ، ولا يتردى في
قفار خاوية ، لا يصيبه منها إلا الهلاك والدمار ، غير أن الناس من كثرة سماعهم
لأصوات مختلفة، تدعى الإصلاح ، ورؤياهم لرجال يلبسون ثياب المصلحين ، أنكروا على
الرسل دعواهم ، لأنهم ظنوا أنهم مثل غيرهم ممن سلكوا هذا الطريق ، سعياً وراء شهرة
، أو طمعاً في الحصول على المال أو الجاه ، أو رغبة في الوصول إلى السلطة لإشباع
غريزة التحكم والسيطرة .
ومن
هنا كان لابد من تأييد الرسل بمعجزات، تميزهم عن هؤلاء، حتى لا يختلط أمرهم بمن
يدعون هذه الصفة كذباً وبهتاناً، وكذلك لإقامة الحجة على المنكرين، حتى لا يكون
لديهم ما يتعللون به لإنكارهم، كما أنها – أي المعجزة – أيضاً: تثبيت لإيمان من آمنوا،
واطمئنان لقلوبهم، وسكن لنفوسهم، حتى لا يكون للشيطان منفذ إليها، أو للعقبات التي
تعترض طريق الدعوة تأثير فيها.
وقد
أيد الله رسله بمعجزات حسية مختلفة، فجعل معجزة كل رسول من جنس ما نبغ فيه قومه،
حتى تكون ألزم للخصم، لأنها إذا كانت من جنس ما برعوا فيه، ومع ذلك فاقت قدرتهم،
كان ذلك أدعى إلى الاعتراف بأن هذا العمل لا يقدر عليه بشر. ويقص القرآن الكريم
بعضاً من هذه المعجزات، التي أيد الله بها رسله، فيقول عن معجزة موسى: ﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ [ الشعراء: ٤١ - ٤٨ ]
وكانت
معجزة عيسى u
في
الميدان الذى اعتقد قومه أنهم أصحابه ، ألا وهو الطب، يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ [ المائدة: ١١٠]
وهناك كثير من المعجزات
الحسية، التي أيد الله بها رسله،كانفلاق البحر لموسى u
، وانفجار العيون من الحجر، بعد أن ضربه بعصاه، ونزول المائدة من
السماء لعيسى u
، بل إن ولادته من غير أب ، لهو أكبر معجزاته الحسبة ، فقد كانت تحد لأهل الطب في
عصره ، ولازالت حتى اليوم.
غير أن المعجزات
الحسية ليس لها تأثير إقناعي، إلا على من رآها وشاهدها بعينه، أما من سمع بها ولم
يرها، فإن نفسه تحدثه بعدم تصديقها، فيزعم أن رواتها غير صادقين في نقل ما حدث، بل
إن بعض من رآها لم يصدقها، زاعماً أنها سحر، وليست معجزة تؤيد صدق الرسول، كما حدث
مع عيسى u ، إذ قال الذين كفروا منهم : ﭐﱡﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ [المائدة: ١١٠ ] ، وكما حدث مع موسى u حين غلب السحرة ، إذ قال فرعون للسحرة : ﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲜ [ الشعراء: ٤٩ ]
لهذا كانت معجزة محمد
e هي القرآن الكريم ، لأنه للبشر قاطبة ،
في كل زمان ومكان، فلا يتسنى للجميع رؤية المعجزة الحسية ، لو كانت هي الدليل على
صدقه ، فالقرآن حجة على من رأى محمداً e
،
ومن لم يره ، لأنه – أي القرآن – لازال بيننا ، فيستطيع القاصي والداني أن يقرأه ،
ويدرك جوانب الإعجاز فيه ، فهو أبلغ من أي معجزة حسية ، لأنه لا يرد عليه ما ورد
على المعجزة الحسية من أنه سحر ، فهو بيان وقواعد تشريعية ، لو طبقتها المجتمعات
لاستقام أمرها ، ولا ينكر ذلك إلا مأفون ، وهو لا وزن له في عالم الرأي.
ولا مجال للتشكيك في خبره، كما هو الحال
عند نقل خبر المعجزة الحسية لمن لم يرها، فهو أمامه بعناصره وقواعده، لا يحتوى على
ما يوهم بالشطحات الخيالية، أو يوحى بالأخيلة البعيدة عن الواقع، إذ لا يضم بين
دفتيه صورة تخالف الواقع، ولا خبراً يدل على أن محمداً e
قد ظهرت على يديه معجزة حسية ، وما ذاك
إلا لأن الإسلام ركز على الجوانب العقلية فقط في إقناع المخالفين، لعموميتها
وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
وما
ورد في الحديث من نبع الماء من بين أصابعه ، وبكاء الجذع الذى كان يخطب مستنداً
عليه ، ورد عين قتادة، وغير ذلك من المعجزات الحسية ، فليست من الأخبار المجمع على
صحتها ، ويزيدها ضعفاً أنه لم يرد في القرآن الكريم ما يماثلها ، بل ورد فيه ما
ينفيها ، وذلك في قوله تعالى : ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭﲮ ﱠ [ الإسراء: ٩٠ - ٩٣ ] ، مما يدل على أن المعجزات الحسية لا
تعتبر عنصراً أساسياً في مجال الدعوة إلى الإسلام ، بل يجب الاقتصار على القرآن
الكريم فقط ، فهو المعجزة الأولى والأخيرة ، وهو أبلغ حجة يعتمد عليها الداعية
المسلم في عصرنا الحاضر .
*
* *
( 18 )
عصمة الأنبياء وتنزيههم
عما لا يليق
إن من الحقائق المسلم بها أن الإنسان،
إذا أراد أن يبعث برسول، أو يكلف شخصاً بالقيام بعمل ما، فإنه يحاول أن يختار
الأمين الصادق، حتى يؤدى رسالته على وجهها الأكمل، بدون تحريف، أو تبديل، أو تغيير.
ولا يوجد إنسان على وجه الأرض يسلك غير هذا المسلك، في اختيار رسله، وممثليه، وإلا
كان قاصر الفكر، عاجزاً عن إدراك المبادئ الأولية في فهم طبائع الأشياء. فإذا كان
هذا هو الحال مع البشر في اختيار من يمثلهم – وهم لم يبلغوا درجة الكمال في الوجود
– فما بالك مع الله ، المطلق الإرادة ، الكامل في ذاته وصفاته ، فمن يقع عليه
اختياره ، فلابد أنه يمتاز بصفة الصدق والأمانة ، ويتحلى برداء العفة والشرف ،
ويمتاز بخلقه الطيب ، وصفاته الحميدة ، وبعده عن مواطن الشيطان ، وأماكن السوء ،
فليس للشيطان عليه سبيل ، ولا يجد أعوان السوء عنده طريقاً ، فهو محصن ضد كل ما من شأنه أن يخل بالشرف
، أو يخدش الكرامة ، أو يحط من الفضيلة ، ويطمس الأمانة ، أو ينتقص من الهيبة ،
ويهز المكانة السامية في نفوس الناس .
فإذا استعرضنا تاريخ من اصطفاهم الله من
عباده، وأرسلهم ليبلغوا رسالته، لوجدنا أنهم كانوا أخيار البشر،
قبل الرسالة وبعدها، سواء من ناحية السلوك، أو من ناحية التكوين البشرى، خلقاً،
وهيئة، فلم يكن فيهم من يعانى من علة خِلْقِية، أو يتصف بصفات تنفر الناس منه.
كذلك كان سلوكهم متميزاً عن بنى قومهم، فلم يشاركوهم في ارتكاب المعاصي، ولم
يجاروهم في عاداتهم، التي تتنافى مع توحيد الله وتوقيره، ولم يظهر على سلوكهم ما
يشين، أو يعيب، يقول الله تعالى، مخاطباً نبيه e :
ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﱠ [ القلم: ٤]
ويقول :ﭐ
ﱡ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ ﱫ ﱠ [ آل عمران: ١٥٩]
ويبين الله لنا أن
الأنبياء جميعاً من طبقة مصطفاة، خالية من الشرور والآثام، فيقول: ﭐﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﱠ [ آل عمران: ٣٣ - ٣٤ ]
ويقول:
ﱡﭐ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ ﲫ ﱠ [ البقرة: ٢٤٧]
ويقول :
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱠ [ الأعراف: ١٤٤]
ويقول :
ﱡﭐ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱠ [ ص: ٤٥ – ٤٨]
فهذه الآيات تبين أن
الرسل هم خيار خلق الله: خُلُقاً، وسلوكاً، وهيئة، وأنهم مفضلون على من عداهم،
وإلا اختار الله من يمتاز عليهم.
فإذا كان سلوك
المصطفين قبل البعثة متميزاً عن بنى قومهم في جميع مجالات الحياة، لأنهم أصدق
الناس قولاً، وأحسنهم خلقاً، وأكثرهم عطاءً، وأوفرهم سخاءً، وأشدهم جرأة، وأشجعهم
في ميدان القتال والنزال، وأشدهم صلابة في التمسك بالحق، وعدم النزول عنه، أو
الرضا ببديل له، وأبعدهم عن مواطن الشبهات، وأماكن اللهو والفسوق، فلم يرتكبوا كبيرة، ولم يميلوا إلى اقتراف صغيرة ، بل كانوا
أناساً : عملهم يعتبر قدوة ، فكلامهم حكمة ، ورأيهم سديد يجب الأخذ به ، ونصيحتهم
مبدأ ينبغي الالتزام به.
إذا كان هذا شأنهم
قبل البعثة، فهم بعد أن اصطفاهم الله، وكلفهم بتبليغ رسالته، أحرى أن يكونوا المثل
الأعلى في الفضائل كلها، والنموذج المحتذى في كل ما يجب على المرء عمله، أو
اجتنابه، فعملهم بعد البعثة مؤيد من الله، وتحت رقابته، لأنهم كما يبلغون عن الله
أوامره بالقول، فهم يرشدون الناس أيضاً إلى ما ينبغي عمله بالفعل، فكل أعمالهم
تبليغ من الله لعباده، ولذا يقول الله تعالى:
ﭐﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﱠ [ الأحزاب: ٢١]
ويقول :
ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﳇ ﱠ [ الممتحنة: ٤]
ولهذا كانوا معصومين
من الخطأ، عصمهم الله منه، كي يبلغوا أوامره لعباده دون تغيير، أو تحريف، فلا
يرتكبون خطيئة، ولا يقترفون معصية، ولا يميلون إلى شر أبداً، ولا يرضون بشيء
يتنافى مع الشرف، والكرامة، والفضيلة، لأنهم أمناء على وحي الله؛ فالأمانة شرط التكليف
بالتبليغ، لأن التبليغ لا يكون صحيحاً إلا إذا كان النبي معصوماً من الخطأ، حتى لا
يختلط خطؤه بما أُمِر بتبليغه، فالأنبياء معصومون من الخطأ، كي يصل الوحي سليماً
إلى الناس.
وما يقال من أن النبى
e جانبه الصواب في بعض ما أشار به ، وما اتخذه
من إجراءات ، فلم يكن سوى تشريع أراده
الله I ، وبيان ذلك : أنه لما نزل بالمدينة رأى
أهلها يؤبرون النخل ، أي يلقحونه ، فقال لهم : " لم تفعلون ذلك ؟ أتركوه،
فإن شاء الله أثمر، وإن لم يشأ لم يثمر "، فترك الناس عملية التلقيح،
بناءً على هذه النصيحة، فلم يثمر النخل في هذا العام، فأتوا رسول الله e يسألونه، أهو وحي أم رأي؟ أي هل كان ما أشار
عليهم من وحى الله ، أمره بتبليغهم إياه ، أم هو اجتهاد شخصي؟، فقال لهم :
" أنتم أعلم بشئون دنياكم ". أي أن ما يتعلق بمثل هذه الأمور من:
زراعة، وصناعة، وغير ذلك من شئون الحياة، فهي من الأمور التي تركها الله للعقل،
يبدع فيها قدر ما يستطيع، ولا يتدخل الدين فيها إلا بقدر المحافظة على كيان الفرد
والأمة. وعليه فلن يكون هذا الأمر إلا لبيان ما ينبغي عمله في مثل هذه الأشياء،
التي تتعلق بالتقدم والرقي، فقد أشار الإسلام عن طريق هذه الحادثة إلى أنه أعطى
الحرية فيها للفكر، يبتدع فيها ما شاء خياله، بشرط ألا يقترف إثماً، أو يهدد كيان
المجتمع الإنسانى.
ومن هذا: أن الله
أراد بهذا التصرف من النبي e تشريعاً ، وتقنيناً لأسلوب الحياة في مثل هذه
المجالات .
والحادثة الأخرى، التي
يستدلون بها، على أن النبي e خالف
الأَوْلَى ، وهى مسألة أسرى بدر ، فقد روى أن رسول الله e استشار أصحابه فيما ينبغي عمله مع هؤلاء
الذين وقعوا أسرى في يد المسلمين في معركة بدر ، فقال عمر t
:
يا رسول الله! اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي e
، ثم عاد رسول الله e ،
فقال : " يا أيها الناس ! إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم
بالأمس "، فقام عمر، فقال : يا رسول الله ! اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي
e ، ثم عاد النبي e فكرر
عليهم ما قاله، فقام أبو بكر t
، فقال : يا رسول الله ! أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء.
فذهب عن وجه رسول
الله e ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم ، وقبل
منهم الفداء، فنزل قوله تعالى :
ﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﱠ [ الأنفال: ٦٧ – ٦٨]
فلم يكن هذا سوى
تشريع لمن يأتي بعده من حكام المسلمين، إذ يؤخذ منه: أن على الحاكم أن يستشير أهل
الرأي في مثل هذه الحالات، فلا يستبد برأيه، ولا يتخذ قراراً دون الرجوع إلى من هم
في موقع المشورة، ثم عليه أن يتخذ ما يراه صالحاً للمسلمين، ويتمثل هذا في عصرنا
الحاضر في رأى الأغلبية، فهو أَوْلَى بالاتباع:
- من رأى الفرد، مهما كان مركزه في الدولة،
- ومن رأى الأقلية، وإن كان العقل يميل إليه.
لأن استطلاع الرأي، إذا سار في قنواته الطبيعية، وبَعُدَ عن التهديد،
والتلويح، والبطش، والتنكيل، كانت نتيجته معبرة عن المصلحة العامة، لأنه لا يمكن
أن تكون الأكثرية خاضعة لهوى، أو واقعة تحت مؤثرات شيطانية.
وخلاصة القول : أن الأنبياء هم صفوة الخلق ، فقد كان سلوكهم قبل البعثة
قويماً ، وبعد البعثة مطيعاً لأوامر الله، فلم يرتكبوا معصية ، ولم يقترفوا إثماً
، ولم يتصرفوا إلا طبقاً لوحى الله ، وما بدا مخالفاً لهذا ، فهو تشريع للناس ،
وبيان لهم بهذا الأسلوب الذى ارتضاه الله لحكمة يعلمها هو ، قد تكون للتعظيم ، وقد
تكون لبيان أن المنزه تنزيهاً مطلقاً هو الله ، أما الأنبياء فهم تحت رعاية الله
وحفظه ، فإن فعلوا ما ليس مطلوباً نزل الوحى بتصحيح عملهم ، وقد يكون غير ذلك ،
وما يجب علينا الإيمان به : هو أنهم معصومون من الخطأ ، حفظاً لوحى الله ، ووقاية
لشرعه ، يقول الله تعالى :
ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ [ الحجر: ٩]
أي أن الله حفظ الوحي
من التغيير والتبديل، حتى وصل إلى عباده، فالملك الذي هو أمين عليه، لا يعصى الله
فيما أُمِرَ به، فهو ممن قال الله فيهم:
ﱡﭐ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﱠ[ التحريم: ٦ ]
ومن نزل عليه الوحي،
وأُمِرَ بتبليغه – وهم الأنبياء والرسل – أناس ميزهم الله عن بقية عباده بالخلق
الطيب، والصفات الحسنة، وحفظهم من الوقوع في مدارك الهوى، ومسالك الشيطان، وعصمهم
من الخطأ، فأدوا أمانته للناس كاملة، وعلموهم وحيه بصدق وأمانة، فرضى الله عنهم،
ورضوا عنه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فهم بكل شيء عليم.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق