إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,218

السبت، 23 مايو 2020

الجزء الثالث من مقرر العقيدة بالعربي


الجزء الثالث من مقرر العقيدة بالعربي
( 19 )

موقف كل رسول مما سبقه
من الرسالات

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، فميزه على سائر المخلوقات بالقدرة على التفكير، أي منحه عقلاً يفكر به فيما حوله. ومن شأن العقل، الذي يحاول فهم الأشياء المحيطة به، وإخضاعها له، لينتفع بها، ويسخرها لنفسه، أن تقوده هذه الديناميكية الفكرية، فيما يحيط به، إلى الوصول إلى مصدر الخلق، وتهديه أبحاثه إلى الاعتراف بأن هناك خالقاً، مسيطراً على جميع هذه المخلوقات. ولكن العقل بما عرف عنه من عجز وتقصير، لا يصل في كل الحالات إلى هذه النتيجة، ومن هنا أرسل الله من يهديه إلى الطريق المستقيم، فاختار أناساً من عباده، ليحملوا وحيه إلى هذا الإنسان، الذي عجزت قدرته الفكرية عن الوصول إلى الحق، فكانت مهمة الرسل بيان التوحيد، وتبليغ الناس قواعد الدين، وأحكامه، وشرائع الله، ووصاياه، كي يسيروا على طريق يهديهم إلى السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة.
ولما كانت حياة كل رسول محدودة بزمن، فقد اقتضت الظروف أن يحمل أمانة كل رسول أناس، تفرغوا لهذا العمل، فكانت مهمتهم تبليغ الأجيال اللاحقة، ما أوحي إلى الرسل، وتعليمهم إياه، وشرحه لهم، وبيان ما غمض عليهم منه، وتأويل ما تدعو الظروف إلى تأويله، فهؤلاء هم الذين اصطلح على تسميتهم برجال الدين، أي هم الذين وهبوا حياتهم لخدمة الرسالة وصيانتها من الضياع، أو التبديل، والتحريف.
غير أن هذه الطائفة لم تسلم من عوائد الزمن ، وتقلب الدهور ، ولم تنج من مؤامرات المنحرفين ، وضلالات المخادعين ، فاندس في صفوفهم أناس ، لبسوا مسوح الدين ، وارتدوا رداء الكهانة ، ولكنهم كانوا أبعد الناس عن شريعة الله ، بل كانوا أشدهم فتكاً بها ، وأكثرهم ضرراً بتعاليمها ، وأبعدهم عن روح التشريع ومضمون الرسالة ، فطفقوا يبدلون ثوبها ، ويشوهون وجهها ، ويمحون ملامحها الأصيلة ، تارة بالتبديل والتحريف ، وأخرى بالتأويل البعيد عن منطوقها ومفهومها ، وساعدهم على ذلك بعد الزمن ، الذى نزل فيه الوحى على الرسول ، وتآمر أصحاب السوء ضد الدين ، وتكالب العامة على الشهوات والملذات ، وازدياد عدد من يعرضون عن الدين ويتنكرون له . كل هذا جعل الدين في المجتمع غريباً، وصير المتمسكين به يتوارون عن أعين الناس، لأنهم شعروا بالغربة، فاستولى عليهم اليأس، وظنوا أن العالم أصبح قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، وأن الأمل في إصلاحه بات بعيداً جداً، اللهم إلا أن يرسل الله رسولاً ليجدد رسالته، ويمحو ما ران عليها من ضلالات المنحرفين من رجال الدين، والمتآمرين على الأخلاق من الماديين، وأصحاب المصالح الدنيوية.
فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد، أرسل الله رسولاً، ليصحح للناس ما حُرِّف، وليوضح لهم ما غمض عليهم تفسيره، وليبين لهم الصواب فيما اختلفوا فيه، فكانت رسالة كل رسول، هي تصحيح للأخطاء التي ظهرت في المجتمع، عقب رحيل الرسول الذي سبقه، ولهذا كان موقف كل رسول مما قبله، هو إعادة تبليغ الناس بالوحي، الذى نزل على من سبقه، إذ أن كل الرسالات واحدة، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ         [ النساء: ١٦٣]
ويقول:
ﱡﭐ      ﱿ    [ الشورى: ١٣] 
فما أُوحِيَ إلى الرسل واحد، وما شُرِّعَ لأقوامهم متطابق.
ومن هنا كان موقف كل رسول مما قبله، هو تأكيد رسالته، وتجديد ما نزل عليه، وتصحيح الأخطاء التي وقع فيها الأتباع بعد رحيل الرسول الذى سبقه في هذه الحياة، ولهذا أمر كل رسول أتباعه بأن يؤمنوا برسالة من سبقه ، لأنها رسالته ، ومن لم يؤمن بها، لا يصبح في عداد المؤمنين به ، فمن كفر بأحد الرسل السابقين ، يكون كافراً ، لأن الإيمان بالرسل السابقين ركن أساسي من أركان الإيمان ، يقول الله تعالى :
ﱡﭐ        [ البقرة: ٢٨٥]
فمن كان على دين رسول، وأدركه آخر، فلابد أن يؤمن به، كذلك من آمن برسول، فيلزمه الإيمان بكل الرسل الذين سبقوه؛ فاليهودي الذى أدرك المسيح u ، يلزمه الإيمان به ، فإن لم يؤمن به فهو كافر ، والنصراني الذى أدرك محمداً e ، مكلف بالإيمان به ، فإذا لم يؤمن به ، فهو كافر ، كذلك على النصارى ، الذين وجدوا قيل مبعث محمد e ، الإيمان بكل نبي سبقهم ، فإن أنكر واحد منهم رسولاً ، فهو كافر .
كذلك المسلم مكلف بالإيمان بكل الرسل السابقين، الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، فمن أنكر واحداً منهم، فليس مسلماً، يقول الله تعالى:
ﭐﱡﭐ        ﱿ      [ النساء: ١٣٦]
فإذا أنكر الرسول ما بقي في أيدي الناس من بقايا الوحي، الذي نزل على الرسل السابقين، فليس هذا إنكاراً لمن سبقه، وإنما هو بيان للناس أن ما يتمسك به هؤلاء، لم يأت به رسول، وإنما هو تحريف للوحي، الذي أنزله الله على رسله، وصورة ممسوخة للرسالة، التي تركها الرسل السابقين. فمهمته تصحيح ما حرف، وتقويم ما اعوج، وبيان ما اختلف فيه الناس بعد رحيل رسلهم عنهم، وإخبارهم بأصل الرسالة كما نزلت على رسله، وبوحي الله كما بلغه الله لهم، ليعلموا الناس، ويرشدوهم إلى الطريق المستقيم، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ           ﱿ     [ المائدة: ١٥ - ١٦ ]
ويقول :
ﱡﭐ         [ المائدة: ٤٨ ]   
فالقرآن الكريم مصدق لما سبقه من كتب، أي يعترف بأنها كانت وحياً سماوياً من الله، وشريعة يجب إتباعها، غير أن الأجيال، التي أعقبت رحيل الرسل، بدلوها وحرفوها، فأرسل الله رسلاً لتصحيحها، فلو فرض أن الرسالات السابقة لم تُحَرَّف، لوجدنا تطابقاً بين ما في أيدى أتباع الرسل السابقين وبين القرآن الكريم، ولربما – وهذا مجرد فرض – لم ينزل، لأنه لم يكن هناك داعٍ لنزوله، ولهذا كانت رسالة محمد e آخر الرسالات، لأن الله حفظها من التحريف والتبديل، فقال تعالى:
ﱡﭐ    [ الحجر: ٩]  
فلم تعد هناك حاجة إلى إرسال رسول بعده، لأن ما يريد الله تبليغه لنا، لازال بين أيدينا، كما أُنْزِل على  محمد e ، لم يدخله تحريف ، ولم يصبه تغيير .
ومن هذا كله يتبين : أن كل رسول معترف برسالة من سبقه ، ومؤمن بما اُنْزِل عليه من تعاليم وأحكام ، وأن الإيمان بمن سبقه من رسل ، شرط أساسي في تعاليمه التي ينادى بها، ويطلب من الناس الاعتراف بها ، وتطبيقها في حياتهم ، وما يبدو من المخالفة بين ما نزل عليه ، وبين ما في أيدى الناس من تعاليم دينية ، فمرجعه أن الناس قد حرفوا رسالة من سبقه وغيروها ، ولهذا فهو يدعوهم إلى الإيمان بما نزل عليه ، لأنه تصحيح لما في أيديهم من أحكام دينية ، وشرائع يدَّعون أنها من الله ، وهى ليست سوى تحريف لرسالات السماء ، جاء الإخبار عنه في قوله تعالى :
ﱡﭐ        [ النساء:    ٤٦]
وقوله :
ﱡﭐ       [ البقرة: ٧٩ ]
وقوله :
ﱡﭐ       [ آل عمران: ٧٨]



*   *   *

(20)

الكتب المقدسة
وكيف وصلت إلينا

أرسل الله رسله إلى الناس، ليبلغوهم رسالات ربهم، ويعلموهم شرائعه، وأحكامه، وليبينوا لهم طريق الهدى، ويأمرهم باتباعه، وطرق الضلال، ويطلبون منهم اجتنابه، وقد قص القرآن الكريم كثيراً من أخبار تلك الرسل مع قومهم، ولكنه لم يخبرنا بكل ما يتعلق برسالات الله إلى الناس، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ      [ غافر: ٧٨]
ومن مقتضيات كل رسول أن ينزل عليه الوحي، الذى يتضمن كل التعاليم المكلف بتبليغها لبنى قومه، ولكى لا تضيع بعد رحيله عن هذه الحياة، فقد دون كل رسول ما نزل عليه من الوحى، ليكون المرجع لمن يأتي بعده من أجيال، وليصبح المصدر الرئيسي لتشريعاتهم وقوانينهم، وأطلق عليه: " الكتاب المقدس "، ولم يخبرنا القرآن الكريم إلا عن أربعة كتب من الكتب السابقة، وهي:
- صحف إبراهيم التي جاء ذكرها في قوله تعالى: ﱡﭐ       [ الأعلى: ١٨ – ١٩]
- وتوراة موسى ، كما أخبر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى :ﱡﭐ       [المائدة: ٤٤]
- وزبور داود، حيث جاء في كتابه العزيز: ﱡﭐ      [ النساء: ١٦٣]
- وإنجيل عيسى الذى تحدث عنه القرآن الكريم، فقال:  ﱡﭐ       [ المائدة: ٤٦]
- وآخر ما نزل من وحى الله لعباده هو القرآن الكريم ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ        [ الإسراء: ٩ – ١٠]
غير أن أصول الكتب المقدسة، التي نزلت قبل القرآن الكريم قد فُقِدَت، فتناقل الناس تعاليمها شفاهاً، أي أن روايتها للأجيال اللاحقة كانت عن طريق السماع، وهو أمر فتح الباب على مصراعيه، لدخول أفكار فيها، لا تمت إلى الوحي بصلة، واختلاط تعاليم غريبة عن رسالات السماء ووحي الله، واستمرت رواية الصحيح والدخيل، تنتقل من جيل إلى آخر، حتى عصر متأخر جداً من عصر نزولها على الرسل، ثم دونت بما علق بها من تحريفات وتغييرات. فلو ألقينا نظرة على ما بين أيدينا اليوم من كتب مقدسة، لوجدنا أنها تنحصر في اثنين، وهما: العهد القديم، والعهد الجديد.
ويضم العهد القديم كتب موسى الخمسة، وهي: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية، وهي معروفة باسم التوراة. وقد أُضيفت إليها أسفار أخرى، حتى بلغ جميع عدد أسفار العهد القديم 39 سفراً، عدا بعض الأسفار التي اختلف في نسبتها إلى هذا الكتاب المقدس. وقد كتب كثير من علماء الأديان في أسانيد العهد القديم، فذكروا اختلاف النصوص، وتضاربها، وضياع النسخ الأصلية.
ولما كان وقت هذا الحديث يضيق عن شرح هذه المسألة المعقدة، فسوف نكتفى بما قاله " آدموند جاكوب "، إذ يشير في أبحاثه إلى أنه في بداية تدوين هذه الأسفار، لم يكن هناك نص واحد فقط، بل كان هناك تعدد في النصوص؛ في القرن الثالث قبل الميلاد. كان هناك على الأقل ثلاث مدونات للنص العبري للتوراة، ثم ظهر اتجاه في القرن الأول قبل الميلاد إلى تدوين نص واحد، ولكن تدوين نص الكتاب المقدس لم يتم إلا في القرن الأول بعد الميلاد. ثم يضيف قائلاً: إن أقدم نص عبري موجود الآن يرجع تدوينه إلى القرن التاسع الميلادي.
وهذا يدل على أن أسانيد ما جاء في العهد القديم غير متواترة، فلا تعتبر دليلاً قاطعاً على أنها وحى من الله I، كذلك الحال أيضاً بالنسبة للإنجيل ؛ إذ لم يصلنا شيء مما أنزله الله على عيسى u ، وإنما الموجود بين أيدينا اليوم، هو تعبير عن وجهات نظر أولئك الذين تصدوا لكتابة الأحداث التي باشرها عيسى ، وقد تم تدوينها في عصر متأخر عن حياة عيسى u . وقد عبر " موريس بوكاي " عن هذا، فقال: " إن الأناجيل التي أصبحت رسمية فيما بعد، لم تُعْرَف إلا في عصر متأخر، على الرغم من أن تحريرها قد تم في بداية القرن الثاني. وطبقاً للترجمة المسكونية، فقد بدأ ذكر الروايات التي جاءت في هذه الأناجيل في نحو منتصف القرن الثاني، ولكن يكاد يكون من العسير معرفة ما إذا كانت هذه الاستشهادات قد تمت بعد الرجوع إلى النصوص المكتوبة، أو أنهم – أي الكُتَّاب – قد اكتفوا بذكر أجزاء من التراث الشفهي ".
أضف إلى هذا أن كثيراً من الكُتَّاب كتبوا أناجيل، بلغ عددها أكثر من مائة، ولكن الكنيسة لم تعترف إلا بأربعة فقط، وهي: متى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا. وقد ذكر النقاد أن لوقا ومرقص لم يكونا من تلاميذ المسيح u ، كما شكوا في نسبة إنجيل متى ويوحنا إليهما. ومما قاله النقاد بعد بحث نصوص الأناجيل الموجود بين أيدينا الآن أن دراستهم قادت إلى أنهم لم يعودوا متأكدين على الإطلاق من أنهم يقرؤون كلمات السيد المسيح في هذه الأناجيل ، وأن من الخطأ الاعتقاد بأن الأناجيل قد شكلت – بمجرد تدوينها – الكتب المقدسة الأساسية للمسيحيين ، وأنه كان يُعْتَمَد عليها في بيان رسالة المسيح اعتماداً أساسياً ، لأن السلطة لم تكن لهذه النصوص في ذلك الوقت ، بل كانت للتراث الشفهي، الذى كان ينقل أقوال المسيح وتعاليم  الحواريين ، ولم تأخذ الأناجيل الصفة الرسمية في الاعتماد عليها إلا بعد عام 170م .  
هذا هو حال الإنجيل، فلم يختلف عن حال التوراة في صحة الأسانيد وتواترها. كذلك لم نسمع عن وجود نص لصحف إبراهيم، ولم تحدثنا الروايات عن زبور داود. اللهم إلا ما ورد في أسفار العهد القديم، تحت اسم: مزامير داود. وصحة نسبتها إليه لا تختلف عن صحة نسبة التوراة إلى موسى u ، وعليه ، فليس هناك كتاب مقدس من الكتب التي نزلت قبل الإسلام يعتمد عليه ، لأن رواياتها مشكوك فيها ، فلم يبق صحيحاً غير القرآن الكريم ؛ فروايته تختلف عن رواية كل الكتب السابقة عليه ، إذ ثبت بالدليل القاطع أن الوحى كان يُكْتَب بمجرد نزوله على النبي e ، فكان يكتبه من يستطيع الكتابة من الصحابة ، أو من اختاره رسول الله e منهم لكتابته ، نذكر منهم على سبيل المثال : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى ، والزبير ، وحنظلة بن الربيع الأسدي ، وهم جميعاً من المهاجرين ، كانوا يقومون بكتابة ما ينزل من القرآن الكريم ، إما وقت نزوله في حضرتهم بإملاء رسول الله e ، وإما بعد ذلك بإملاء رسول الله من حفظه ، إذا كان نزوله في غير حضرتهم . وقد انضم إلى هؤلاء الكتبة المهاجرين، كتبة آخرون من الأنصار بعد هجرته e  إلى المدينة، فشاركوهم في كتابة ما كان ينزل عليه e  من القرآن في المدينة، نذكر منهم: أبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وآخرين ممن بلغ بهم عدد كتبته e  على أكبر الروايات إحصاءً: 43 كاتباً.
كذلك تميزت عقلية العرب بحفظ النصوص، إذ كانت مدربة بحكم ظروفها على ذلك، لأنهم كانوا يحفظون الشعر، ويتناقلونه شفاهاً، فساعدهم ذلك على حفظ نصوص القرآن الكريم، ونتيجة ذلك أن رسول الله e  حين لحق بالرفيق الأعلى كان القرآن جميعه محفوظاً في الصدور بأحرفه، ومدوناً جميعه على الوضع الذى نزل به على رسول الله e، دون زيادة أو نقص ، ودون تغيير ، أو تبديل ، أو تحريف .
وبعد انتقال الرسول e  إلى الرفيق الأعلى، هيأ الله للقرآن الكريم وسيلة حفظه إلى الأبد، فقد روى أن أبا بكر t  كلف زيد بن ثابت بجمع القرآن الكريم، فجمعه من صدور الرجال، ومما كُتِبَ فيه، ثم وضعت النسخة الكاملة عند أبى بكر حتى توفاه الله، ثم كانت عند عمر مدة حياته، ثم كانت عند حفصة رضى الله عنها. ويدل هذا العمل على العناية البالغة التي ظفر بها جمع القرآن الكريم في عهد أبى بكر، فقد كان زيد بن ثابت ذا مواهب متعددة، وخصائص لم تجتمع في غيره، إذ أنه كان من كتاب الوحي، ومن حفاظ القرآن الكريم، وكان معروفاً برجاحة عقله، وأمانته، وشدة ورعه، وتفوقه في الكتابة، وكان مساعدوه في هذا العمل من خيرة الصحابة، علماً به، وحفظاً له، ومن أشدهم تقوى، وورعاً، وصلاحاً.
ومن هذا يتبين: أن الكتاب المقدس الوحيد الذى سلم من التغيير والتبديل، هو القرآن الكريم، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ   [ الحجر: ٩]  
فهو المرجع الصحيح لوحي الله ورسالته، فينبغي على كل إنسان أن يرجع إليه، مستلهماً طريق الهدى، ومستخرجاً القوانين والشرائع، التي يتخذها المجتمع دستوراً له، يحميه من تقلبات الدهر، وعواصف الأفكار البشرية الضالة.


*    *     *

( 21 )

هيمنة القرآن الكريم على
ما سبقه من كتب مقدسة

بينا في حديث سابق، أن أصول الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن الكريم قد فقدت، وما يوجد الآن بيننا لم يدون إلا في عصور متأخرة عن الأزمان التي نزلت فيها على الرسل عليهم السلام، ولهذا فقد ضمت في نصوصها أفكار كاتبيها، والتصورات الدينية التي كانت في عصور تدوينها، وقد اختلطت هذه الأفكار بالوحي، بحيث أصبح من المتعذر على المفكرين الدينيين تمييز الوحي فيها من الدخيل عليه، بل يكاد يكون من المستحيل الجزم بأن هذا النص وحي، وذاك فكر إنساني لحق بالوحى على امتداد العصور.
وقد اهتم كثير من علماء الأديان، والباحثين في علوم اللاهوت، بدراسة الكتب المقدسة السابقة على القرآن الكريم، من الناحية التاريخية والمنهجية، فتوصلوا في أبحاثهم إلى أن هذه الكتب ليست وحياً كلها، لأنها تضمنت معلومات تاريخية غير صحيحة، واشتملت على أخلاقيات تتنافى مع روح الوحي الصحيح، ومن المستبعد أن يخبر النبي بشيء مخالف للواقع، لأنه يتلقى الوحي من الله، وهو بكل شيء عليم، كما أنه من المرفوض عقلاً، أن يبلغ الناس أحكاماً لا تتفق مع روح الدين، أو يرتكب أعمالاً تتعارض مع المبادئ الدينية.
ولهذا أخبر القرآن الكريم، بأن هذه الكتب قد فقدت حجيتها، لأنه اختلط فيها الحق بالباطل، فيقول الله تعالى:    ﱡﭐ   [ آل عمران: ٧١ ]
ويقول: ﱡﭐ       [ آل عمران: ٧٨ ]
ويقول: ﱡﭐ        [ المائدة: ١٣]
غير أن بعض الناس يزعم أن القرآن الكريم قد شهد بصحة التوراة والإنجيل، ويستدلون على هذا الزعم بقوله تعالى:
ﱡﭐ         [ آل عمران: ٩٣]
وقوله:
    ﱡﭐ       [ المائدة: ٤٣]
وقوله:
ﱡﭐ       [ المائدة: ٤٧]
فيقولون: إن هذه الآيات تدل على أن ما في التوراة والإنجيل صادق، ويجب اتباعه. وغاب عن هؤلاء إخبار القرآن الكريم في أكثر من آية، أن التوراة والإنجيل قد دخلهما تحريف وتبديل، ولبيان ما قد يبدو بين هذه الآيات التي تدعو إلى تنفيذ ما في التوراة والإنجيل من أحكام، وبين الآيات التي تخبر بأنهما محرفين من غموض، نقول:
لاشك أنه قد ثبت بالدليل القاطع ، أن التحريف قد أصاب هذين الكتابين  المقدسين ، كما أخبر القرآن بذلك ، ولكن ليس معنى هذا ، أن كل ما فيهما محرف من الألف إلى  الياء ، فهذا لا يقول به أحد ، وإنما اختلط المحرف بالصحيح ، بحيث أصبح من المتعسر التمييز بينهما ، فإذا أخبر القرآن الكريم بأنهما محرفين فهو صادق ، لما نرى من أدلة واضحة ، وقاطعة على هذا التحريف ، وإذا أشار في بعض آياته إلى أن فيهما هدى ونور ، أو أنه يجب على اليهود والنصارى الالتزام بما فيهما من أحكام ، وتطبيق ما فيهما من قوانين شرعها الله ، فإنما يقصد القرآن بذلك ، تلك الفقرات التي لم يعتريها التحريف ، أو يلحقها تغيير أو تبديل .
ولما كان التمييز بين كلا النوعين عسيراً – أي أن معرفة المحرف من غير المحرف ليس في طاقة البشر، مهما بلغت قدرته في مجال العلوم الدينية – فقد أصبح من اللازم الرجوع في ذلك إلى مصدر لا يرقى إليه شك، ويكون من المكانة، ما يجعله قادراً على القيام بهذا العمل دون أدنى شك، ولا يتحقق ذلك إلا في القرآن الكريم، فهو وحي الله الذي سلم من التحريف والتغيير.
وعليه فما وافق القرآن الكريم من فقرات التوراة، والإنجيل، فهو صحيح، وما ظهر أنه مخالف لما في القرآن الكريم، فهو الذي دخله التحريف، أي أن القرآن الكريم يعتبر بمثابة الأصل الذي يراجع عليه ما في التوراة والإنجيل، ليتبين الصحيح، والمحرف فيهما.
وهذا هو مفهوم هيمنة القرآن الكريم على ما سبقه من كتب مقدسة، ذلك أن رسالة الله واحدة في كل العصور والأزمان.
فإذا جاء القرآن بشيء، ولم يوجد ما يقابله في التوراة والإنجيل، فمعنى ذلك أنه حُذِفَ، أو أُهْمِلَ وتُرِكَ، فلم يُذْكَر في نصوصهما.
وإذا ثبت في القرآن شيء يخالف ما في التوراة والإنجيل، فمعنى ذلك أن ما فيهما قد حُرِّفَ وبُدِّلَ، وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم، في قوله تعالى:
ﱡﭐ     ﱿ     [ المائدة: ٤٨]   
أي وأنزلنا إليك القرآن الكريم مصدقاً لما سبقه من كتب مقدسة، وهي التوراة والإنجيل، ومهيمناً عليهما، أي أنه صاحب هيمنة، ورقابة، وحجية، بحيث يكون ما فيه هو الفيصل، إذا كان ما في التوراة والإنجيل يخالفه.
ولهذا، فاحكم -يا محمد -بين أهل الكتاب بما أنزل عليك، أي بالقرآن، ولا تتبع أهواء أهل الكتاب، وهو ما ينسبونه إلى التوراة والإنجيل، فهو يختلف عما نزل به الوحي في القرآن حقاً وصدقاً، وعليه فينبغي أن يكون القرآن وحده، هو الركيزة الأولى في الرقابة والهيمنة على هذين الكتابين، ويكون هو وحده المرجع في الحكم، لأن ما يقرره هو وحي الله، الذي لم يلحقه تغيير، ولا تبديل، فلم يختلط فيه وحي السماء بأفكار الأرض.
فهيمنة القرآن الكريم على الكتب المقدسة، ترجع إلى أنه المصدر الوحيد للوحي الذي سلم من التحريف، أو التغيير والتبديل، فكان بذلك المرجع لكل ما في أيدي رجال الدين من اليهود والنصارى، يصحح ما حُرِّف، وبفصل فيما بينهم من خلاف؛ إذ هو يمثل رسالة الله الصادقة، فمنزلته من الكتب السابقة هي منزلة الرقيب، وهي منزلة المرجع الذي يصحح ما في أيدي الناس من كتب سماوية، قيل إنها من عند الله، فهو الفيصل في جميع المسائل التي اختلف أهل الكتاب فيها، ولذلك يقول الله تعالى:
  ﱡﭐ           ﱿ      [ المائدة: ١٥ - ١٦]  
وخلاصة القول : أن الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم ، قد أصابها التحريف والتبديل ، وأن رجال الدين اختلفوا فيما بينهم حول النصوص المقدسة ، وما تدل عليه من أحكام وتشريعات ، ولم يكن هناك مخرج من هذا النزاع إلا أن يرسل الله رسولاً ، ويوحى إليه وحياً ، يبين للناس ما حُرِّف ، ويوضح لهم الحكم الصحيح فيما اختلفوا فيه ، فكان القرآن الكريم ، وأصبح بذلك مهيمناً على ما سبقه من كتب مقدسة ، أي مصححاً لها ، ومبيناً للناس ما حُرِّف منها وما بُدِّل ، فصارت له اليد العليا على ما عداه من كتب مقدسة ، يهيمن عليها بالتصحيح والبيان ، ويهدى البشر إلى ما فيه صلاحهم ، وفلاحهم، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ       [ النمل: ٧٦ - ٧٨ ]


*   *   *

( 22 )

موقف الإسلام من العقائد
السابقة وأهلها

اقتضت حكمة الله I  أن يبعث إلى كل أمة رسولاً، يبلغهم وحيه، فيأمرهم بطاعته، ويحذرهم من معصيته، فكانت رسالة كل رسول خاصة إلى بنى قومه، يقول تعالى:
ﱡﭐ       [ الأعراف: ٦٥]
ﱡﭐ     [ الأعراف: ٧٣]
ﱡﭐ    [الأعراف: ٨٥ ]
ويقول:
ﱡﭐ        [ إبراهيم: ٥ ]
ويقول:
ﱡﭐ   [ الصف: ٦]
حتى جاء خاتم الرسل محمد e ، فكانت رسالته عامة للناس جميعاً ، يقول الله تعالى: ﱡﭐ     [ سبأ: ٢٨]
ويقول رسول الله e : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي " وذكر من الخمس : أن كل رسول كان يبعث إلى قومه خاصة ، وبعث هو إلى الناس كافة .
ولهذا وجه الله النداء في القرآن الكريم إلى الناس جميعاً، فقال:
ﭐﱡﭐ            [ الأعراف: ١٥٨]
وقال:
ﱡﭐ   ﲿ          [ النساء: ١٧٠]
فكل إنسان بلغته الدعوة، وجب عليه الإيمان، وإلا أصبح من الكافرين.
وأول ما يجب الإيمان به، وحدانية الله I ، فهي أساس كل الرسالات ، إذ دعا كل نبي قومه إلى الإيمان بالله الواحد ، لا شريك له ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ       ﲿ   [ البقرة: ١٣٣]
ويقول: ﭐﱡﭐ     ﲿ   [ التوبة: ٣١]
فالتوحيد هو أصل الإيمان، فمن أشرك مع الله إلها آخر، أو أنكر وجود الله، فهو مشرك، أو ملحد.
والركن الثاني من أركان الإسلام : الاعتراف بأن محمداً e رسول الله ، ويتضمن هذا الاعتراف : الإيمان بأن القرآن الكريم وحي الله ، يجب تنفيذ ما جاء به من أوامر ، والابتعاد عما نهى عنه ، وقد عُرِف هذين الركنين بالشهادتين ، إذ ذُكِر في الحديث المروى عن رسول الله e أن أركان الإسلام خمسة ، وبدأ بهاذين الركنين معبراً عنهما  بقوله: " شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله " ، فهما ، وإن ذُكِرا في الحديث على أنهما ركن واحد ، إلا أنه ينبغي أن نعتبرهما هنا ركنين ، لأن من الناس من يعترف بأن الله واحد ، وينكر رسالة محمد e ، فيقف الإسلام منه موقفاً يختلف عن موقفه مع أولئك الذين ينكرون الإثنين ، فلا يعترفون بالله – أو يشركون مع الله آلهة أخرى - ، ولا يؤمنون بأن محمداً رسول الله .
فالناس بالنسبة للإسلام ثلاثة أصناف: 
-        صنف ينكرون وجود الله، وهؤلاء يطلق عليهم: " الملحدون " ..
-        والصنف الثاني: يشرك مع الله إلهاً آخر، أو آلهة أخرى، ويعرفون: بـ  " المشركين ".
-        وصنف ثالث: يؤمن بوحدانية الله، لأنهم يعترفون برسالة أحد الأنبياء السابقين على بعثة محمد e ، ولكنهم لا يعترفون برسالة محمد e ، وهؤلاء يطلق عليهم : " أهل الكتاب " ، والمراد من يعترف بالتوراة ، أو الإنجيل ، أي اليهود والنصارى .
ولما كانت رسالة محمد e عامة لجميع البشر ، فقد بَلَّغِ دعوته لجميع الناس ، على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، فطلب من الملحد أن يكف عن إلحاده ، و يعترف بوجود الله ، وأمر المشرك أن يخلص العبادة لله وحده ، فإن أبيا ، فلا مكان لهما في المجتمع الإسلامي ، فعليهم أن يرحلوا عنه ، لأن الإسلام لا يقبل أن يكون في دولته من ينكر وجود الله ، ويدعو الناس إلى هذا الاتجاه ، كما نصح أهل الكتاب بالدخول في الإسلام ، لأنه وحى الله ، الذى نزل على أنبيائه جميعاً ، يقول الله تعالى :
ﱡﭐ       [ النساء: ١٦٣]
ويقول: ﱡﭐ      ﱿ     [ الشورى: ١٣]
وكانت دعوته للجميع سلمية، فلم يكره أحداً على تغيير عقيدته، ولم يجبر أحداً بطريق مباشر، أو غير مباشر، على الدخول في الإسلام، بل أسمعهم وحي الله، وتركهم يقررون بمحض اختيارهم ما ترتضيه نفوسهم، حتى تتحقق العدالة في الثواب والعقاب، فالرضا بالإسلام ديناً، ينبغي أن ينبع من ذات الشخص نفسه، بعد أن تظهر أمامه حقائق الأشياء واضحة.
يقول الله تعالى:
ﱡﭐ        [ البقرة: ٢٥٦]
ويقول:
  ﱡﭐ      [ الإسراء: ١٥]
وعليه فالإسلام لا يجبر أحداً على تغيير دينه، ولا يستعمل السلاح لحمل الناس على اعتناق مبادئه، بل يتركهم أحراراً في عقائدهم، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ         [ آل عمران: ٦٤]
غير أنه لا يسمح لأحد، بأن يصد الناس عن ذكر الله، أو يمنع أحداً من سماع كلمة الله، فإن منع أحد دعاة الإسلام من تأدية مهمتهم في ميدان التبليغ، فعلى المسلمين أن يتصدوا له بكل وسيلة ممكنة، ليؤمنوا وصول كلمة الله إلى الناس جميعاً، فإن اقتضى الأمر القتال، فلا يكون لحمل أحد على الدخول في الإسلام، وإنما لمنع من يتصدى للدعاة، ويمنعهم من تبليغ كلمة الله للناس.
وإن جرد أحد أصحاب هذه العقائد السلاح ضد المسلمين، فعليهم مقاومته، ورد عدوانه عنهم. ولم يخرج الإسلام في إباحة القتال في مثل هذه الأحوال عن الطبيعة الإنسانية، ذلك أن الإنسان يمتاز عن الحيوان بالقدرة على التفكير. ومن خصائص هذا التفكير ميل الإنسان إلى الحرية في التعبير عن آرائه، وفى اعتناق ما يراه موافقاً لطبيعته، فإذا منع من هذا بقوة السلاح، فإن من الطبيعي أن يدافع عن آرائه بالوسائل التي يقابله بها من يريد كبت حريته، فإذا أراد أحد أن يفتن آخر عن عقيدته، مستعملاً الدعاية والمنطق دون اللجوء على حمله على ترك عقيدته بالقوة، لم يكن للمؤمن أن يدافع عن عقيدته، إلا بالحجة والمنطق.
أما إذا أُجْبِر بقوة السلاح، لم يكن له من سبيل إلا حمل السلاح أيضاً، للدفاع عن عقيدته، لأنها أثمن شيء عند من يفهمون معنى الإنسانية، فهي أثمن من المال والجاه، بل أغنى من الحياة نفسها. وقد أدرك المسلمون الأولون هذا المعنى، فدفعوا حياتهم ثمناً للدفاع عن عقيدتهم، وتلك سنة الله في خلقه.
يقول الله تعالى: ﱡﭐ     [ البقرة: ٢٥١ ]
ويقول: ﱡﭐ        [ الحج: ٤٠]
فإن سلك أصحاب العقائد الأخرى أسلوباً حضارياً تجاه الإسلام، فتركوا دعاته يعرضون الدعوة، واقتصرت معارضتهم على المجادلة بالحسنى، تركهم الإسلام يعتنقون ما يشاءون، ولكنه لا يسمح لملحد، أو مشرك، أن يقيم في المجتمع الإسلامي، ويظهر إلحاده علانية، فإن كف عن هذا، واكتفى بالجدل العلمي، تُرِكَ وشأنه، ولكنه لا يتولى مناصب، لها أثر في مجال التوجيه الثقافي في المجتمع. وعليه أن يلتزم – هو وغيره ممن لا يعتنقون الإسلام ديناً – بكل ما تقرره الدولة الإسلامية من أحكام، وما تتخذه من إجراءات. وأهل الكتاب أحرار فيما يعتقدون، وفيما يمارسون من طقوس وعبادات، ولا يتدخل الإسلام في تصرفاتهم، إلا بمقدار ما يحفظ طابع المجتمع الإسلامي، ويصون حرية الفكر، وإبداء الرأي.
وفيما عدا ذلك، يعيشون مع المسلمين، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، لا يضارون في معيشة، ولا يُضَيَّق عليهم في رزق، ما داموا ملتزمين بما آمنت به الأغلبية من قوانين وتشريعات لا تمس عقيدتهم، ومنفذين ما تراه الأغلبية حفاظاً للمجتمع من التفكك والانهيار، وصوناً للأمة من الضعف والانحلال.
وخلاصة القول: أن الإسلام لجميع الناس، ولا يكره أحداً على اعتناقه، ومن يأبى الدخول فيه صنفان: مشرك، أو ملحد، وهؤلاء لا يسمح لهم بإظهار إلحادهم، أو شركهم علانية، فإن أبوا إلا ظهور شركهم والدعوة له، فعليهم أن يرحلوا من المجتمع الإسلامي. أما الصنف الثالث: فهم أهل الكتاب، وهؤلاء مسموح لهم أن يعيشوا في المجتمع الإسلامي، ويمارسوا عبادتهم بحرية، بشرط أن يلتزموا بما تقرره الأغلبية من قوانين وتشريعات.

*   *   *

( 23 )

حكم الإسلام فيمن
لم يؤمن به

أرسل الله محمداً e  إلى الناس كافة، ليبلغهم رسالة ربه، ومن مقتضيات التبليغ، إلزامهم بالإيمان به رباً، و به رسولاً، والاعتراف بأن القرآن هو وحي الله، الذى أنزل عليه، والتصديق بما فيه من أخبار عن الأنبياء السابقين، وعن أحوال الآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، كما أنهم ملزمون بعد هذا، بتنفيذ ما جاء فيه من أوامر واجتناب ما تضمنه من نواهٍ، فإن فعلوا ذلك كله، فهم مسلمون، تجرى عليهم أحكام الإسلام.
ومن تبلغه الدعوة، ويأبى الدخول في لإسلام أصناف:
صنف يؤمن برسالة سماوية، كاليهود والنصارى، فهؤلاء يُتْرَكون وشأنهم، امتثالاً لقول الله تعالى:
 ﭐﱡﭐ           [آل عمران: ٦٤]
 فإن أقاموا في مجتمع إسلامي، فهم مطالبون بالحفاظ على أمن المجتمع وسلامته، فلا يتآمرون مع عدو من أعداء الإسلام ضد الدولة، ولا يباشرون أعمالاً تؤذى شعور المسلمين، أو تكون سبباً في إشاعة الفاحشة والفساد بين أفراد الأمة، وعليهم أن يؤدوا الجزية، بمعنى أن يدفع القادر منهم قدراً من المال في مقابل الدفاع عنه ضد المعتدين.
فليست الجزية احتقاراً لأهل الكتاب، كما أنها ليست اغتصاباً من المسلمين لأموال اليهود والنصارى، وإنما هي تنفيذ لعقد اجتماعي، وبمقتضى هذا العقد، يقوم المسلمون بالدفاع عن الوطن في ساحات القتال، ويدفع أهل الكتاب جزءاً من مالهم، ولا يكلف بدفع هذا المال، إلا القادر منهم مادياً. فأيهما المغبون في هذا العقد – إن كان هناك مجال للحديث عن غبن وقع على أحدهما - ، أهم المسلمون الذين يضحون بحياتهم في ساحات القتال ، أم أهل الكتاب الذين يدفعون جزءاً بسيطاً من أموالهم ، في سبيل أن يشعروا بالطمأنينة والأمن ، وهم قابعون في ديارهم ، يتمتعون بالراحة على وسائدهم   اللينة ، ويستطعمون غذاءهم على موائدهم العامرة بأصناف الطعام والشراب ، بينما المسلمون المجاهدون في ساحات القتال ، ينامون على الثرى ، ويكتوون بشظف العيش ، تحت أشعة الشمس المحرقة، وزمهرير الليل القارس ، ولا يشعرون براحة في نومهم ، ولا بلذة في تناول طعامهم ، كتلك التي يتمتع بها أولئك الذين يدفعون الجزية ، في مقابل إعفائهم من هذا العمل الشاق ؟؟؟؟؟
ولا تقف سماحة الإسلام مع أهل الكتاب عند هذا الحد ، فقد أعطاهم الحرية الكاملة في ممارسة عباداتهم ، وتأدية طقوسهم الدينية ، فلا يضيق عليهم في معابدهم ، ولا يؤذون في مشاعرهم الدينية ، كما أنه منحهم حقوق المواطنة كاملة في تحصيل  أرزاقهم ، وممارسة هواياتهم الاجتماعية ، مادام ذلك في إطار الشرعية ، وفى حدود قانون الدولة ، وسوى بينهم وبين المسلمين في مجال العمل ؛ فيحدثنا التاريخ : أن من أهل الكتاب من بلغ منصب الوزارة في الدولة الإسلامية ، وهذه ظاهرة لم توجد في أي دولة في العصور القديمة – حيث كان الفكر الديني هو المسيطر على مقاليد الحكم - ، إذ لم يحدث أن وصل أحد من الأقليات الدينية إلى منصب مرموق ، فضلاً عن منصب  الوزارة ، فوجود هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي دليل على سماحة الإسلام مع أهل الكتاب ، الذين أبوا أن يعترفوا برسالة الإسلام .
فإن لم يلتزم أهل الكتاب المقيمون في المجتمع الإسلامي بتنفيذ ما يقتضيه حق الجوار، وما تتطلبه أنظمة الدولة، بأن ارتكبوا أعمالاً ، من شأنها جرح الشعور الديني للمسلمين ، أو إلحاق الضرر بنظام الدولة العام ، فعلى الحاكم محاسبة المذنب منهم بالطرق القانونية ، وتوقيع العقوبة عليه طبقاً للأحكام المقررة في الدستور ، والمنصوص عليها في التشريع الإسلامي ، ولا يعاقب جميع أفراد الطائفة بذنب ارتكبه فرد واحد  منهم ، كما أنه لا يجوز للمسلمين أن يردوا الاعتداء على مقدساتهم بأسلوب يؤدى إلى إشعال الفتنة ، لأن هذا عمل يسيء إلى الإسلام ، ويعطى الفرصة لأعدائه للنيل منه ، وتصويره بصورة تنفر المجتمع الدولي منهم ، بل عليهم أن يسلكوا في وقف الاعتداء على حرماتهم الدينية أسلوباً ينفى عنهم شبهة اضطهاد أهل الأديان الأخرى ، ويحافظ على الصورة المشرفة ، التي انفرد بها الإسلام على امتداد التاريخ في معاملة من يعيشون في مجتمعه من أصحاب العقائد التي لا تتفق معه في بعض المبادئ والاتجاهات .
فقد عامل الإسلام أهل الكتاب، على أنهم جزء من الرعية الإسلامية، مع احتفاظهم بعقيدتهم، وعليه، فلم تعقد الدولة الإسلامية معاهدات مع الدول الأخرى، إلا وكان المسلمون، وأهل الكتاب ممثلين فيها معاً، على اعتبار أنهم مواطنون في أمة واحدة، فقد روى أبو يوسف في كتابه: " الخراج ": " لما صالح عبد الله بن أبى السرح ملكَ النوبة، تقرر في الصلح أنه أمان وهدنة جارية بينهم وبين المسلمين، مما جاورهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين، وأهل الذمة. وأخذ النوبيون على أنفسهم العهد بحماية من نزل بلدهم، أو طرقه من مسلم أو معاهد " أي أن أهل الكتاب داخلون في هذه المعاهدة، مثل المسلمين سواء بسواء.
فإن كان أهل الكتاب لا يعيشون في الدولة الإسلامية، فإن الإسلام يجيز للمسلمين أن يتعاملوا معهم، على أساس حسن الجوار الدولي، إن لم يظهروا العداوة للإسلام كأن يستهزئوا به وبتعاليمه، أو يمنعوا الدعاة من تأدية واجبهم، أو يدبروا المؤامرات للإغارة على الدولة الإسلامية، فإن فعلوا ذلك، فلا يجوز لمسلم أن يتخذهم أصدقاء، امتثالاً لقول الله تعالى:
ﱡﭐ       [ المائدة: ٥٧]
فإن أعلنوا الحرب ضد الإسلام، فليس للمسلمين من سبيل، سوى الرد عليهم بمثل ما مالوا إليه، وهو الحرب والقتال، أينما وجدوا، وبأي كيفية متاحة لهم، يقول الله تعالى:
 ﱡﭐ     ﱿ     [ الممتحنة: ٨ – ٩]
ويقول: ﱡﭐ ﱿ       [ البقرة: ١٩٤]
ولا ينبغي أن تؤثر حالة الحرب بين الدولة الإسلامية، وبين دولة مسيحية على معاملة المسلمين لأهل الكتاب الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي، فلا يؤخذون بذنب ارتكبه أبناء ملتهم في الدولة المعادية، ما داموا محافظين على الدولة التي يعيشون فيها، ويستظلون بظلها. فإن خان أحدهم العهد، واتصل بالدولة المعادية، فعلى الحاكم أن يطبق عليه حكم من رفع السلاح في وجه المسلمين، دون أن يتجاوز عقابه إلى من التزم بالعهد منهم، فلا يؤخذ أبناء ملته بجرمه، ولا ينقص عهدهم مع المسلمين، مادامت الخيانة التي ارتكبها المذنب منهم عملاً فردياً، أي لم تأخذ صورة التآمر الجماعي.
أما الصنف الثاني: ممن بلغته الدعوة الإسلامية، ولم يؤمن بها، فهم المشركون مع الله إلها آخر، وهؤلاء لا مكان لهم في المجتمع الإسلامي، فلا يسمح لهم بإقامة شعائر، ولا بتشييد معابد، بل ولا يقيمون بين المسلمين في الدولة الإسلامية، ما داموا مصرين على إظهار عقيدتهم بأي صورة كانت، يقول الله تعالى:
ﱡﭐ           [ التوبة: ٧ – ٨]
ويقول: ﱡﭐ       [ التوبة: ١٤ – ١٥]
والصنف الثالث: هم الملحدون، الذين ينكرون وجود الله، فهم أعداؤه، ولا مكان لمن يظهر العداوة لله في المجتمع الإسلامي، ولا في قلوب المؤمنين، يقول الله تعالى: ﱡﭐ             ﱿ                                                      [ الممتحنة: ١ – ٢]
فلا يجوز لمسلم أن يتخذ عدواً لله ولياً له، بل يجب عليه قتالهم، امتثالاً لأمر الله I  حيث يقول: ﱡﭐ      [ التوبة: ٢٩]
ويجب على المسلمين تنفيذ هذه الأحكام في الأصناف الثلاثة، إن أظهروا عقيدتهم سافرة، أما إن أخفوها، فليس لأحد القدرة على حساب شخص على ما في قلبه، فذلك متروك حسابه لله تعالى، فهو يحاسبهم في الآخرة على إنكارهم رسالة الله، وعلى ما اقترفوا من سيئات، تتعلق بالعقيدة، فإن شاء عفا عنهم، وإن شاء أذاقهم عذاب الجحيم، غير أنه أخبرنا في كتابه أنه، وإن وسعت مغفرته المذنبين كلهم، فلن يغفر للمشركين أبداً، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ         [ النساء: ٤٨]
ولا شك أن ذنب الملحد فوق ذنب المشرك، وليس دونه، فهو داخل مع أولئك الذين لن يغفر الله لهم أبداً.

*   *   *


( 24 )

خواطر داعية حول
" الهجرة "

لن أحدثك اليوم عن قصة الهجرة ، وما حدث فيها من معجزات ، دلت على أن محمدا رسول الله حقاً ، فهذه أمور معروفة ، ويستطيع كل مسلم أن يطلع عليها في كتب السيرة النبوية ، بل سأحدثك عن معانٍ ، تدور في الذهن عند ذكر هجرة الرسول e من مكة إلى المدينة ، معانٍ لا يستطيع إدراكها إلا من أوتى بصيرة في فهم الرسالات ، وعرف أنها لا توجد في أي دين من الأديان على الإطلاق إلا الإسلام ، ولم يعرفها أي نظام ظهر في المجتمعات البشرية حتى الآن ، لأن تلك المعاني تسمو فوق طاقة البشر ، ويعجز عن التفكير فيها عقل الإنسان ، ولا ينتبه إليها أي فرد ، مهما كانت قدرته في الذكاء  والإبداع ، فهي من توجيه العليم الخبير بالنفس الإنسانية ومطالبها ، وبالطبيعة البشرية ومتطلباتها ، وبما تحتاجه المجتمعات البشرية من جهاد لتحرير النفس ، وروابط تجمع  الشمل ، ومبدأ عام يلتف حوله الناس .
لقد كانت الهجرة حداً فاصلاً بين عهدين متميزين في تاريخ الدعوة الإسلامية، بين عهد مليء بالخوف والرعب، والإيذاء النفسي والبدني، بالنسبة لصاحب الرسالة محمد e  وصحابته الأُوَل الأقلاء رضوان الله عليهم، وعهد استقرت فيه النفس واطمأنت، وكثر عدد المسلمين، وقويت شوكتهم.
كانت هجرة الرسول وصحابته من مكة إلى المدينة خاتمة لمرحلة كفاح ، من أجل  الحق ، وهو كلمة التوحيد ، اعتمد فيها المسلمون في دعوتهم إلى الله  على الصبر ، فتحملوا الأذى، وصبروا على المشاق في توصيل كلمة الحق إلى هؤلاء الذين استكبروا ، فلما لم تظهر عليهم أي بادرة تدل على تحولهم إلى الإسلام ، أمر الله نبيه e وأصحابه بالهجرة إلى المدينة ليتحرروا من الإيذاء المادي والنفسي، الذى كانت قريش تصبه عليهم صباً ، وليبدؤوا مرحلة جديدة في الكفاح لنشر دين الله ، مرحلة غلبت فيها قوة العدد والعدة عن ذي قبل ، بجنب قوة الإيمان المستمر التي لم تفارق الكفاح من أجل هذا  الحق، حتى انتصر ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً . وبفضل هذا الكفاح والإيمان القوي، وُصِفَ المؤمنون المهاجرون بأنهم أصحاب درجة عظمى عند الله، يقول الله I :  ﱡﭐ ﲿ     [ التوبة: ٢٠]
فالهجرة عنوان الكفاح في سبيل الله، وراية لتحرير الإنسان من ظلم أئمة الكفر والفسق في مكة، وسبيل يحتذى، إن كان لابد منه لتطوير حركة الدفاع عن الإسلام.
وستظل الهجرة تمثل مرحلة يهتدى بها كل من اسْتُضْعِف، فعليه أن يهاجر إلى أرض يستطيع أن يمارس فيها شعائره الدينية، ويتمكن منها من ضرب الطغاة الظالمين.
أما المعنى الثاني للهجرة: فهو وحدة الأمة.
لقد كانت الهجرة حدثاً، وضح للمسلمين بصورة لا تقبل الشك، أنهم جميعاً أخوة في الله، لا تباغض، ولا تناحر بينهم، ولكن تآلف ومحبة، يقول الله تعالى: ﱡﭐ       [ الأنفال: ٦٢ – ٦٣]
فقد أثمرت الهجرة – فيما أثمرت – وحدة القلوب بين المهاجرين، الذين هاجروا بإيمانهم وبرسالتهم من مكة إلى المدينة، وبين الأنصار، وهم المؤمنون من سكان المدينة، الذين آووا ونصروا أولئك المكيين المهاجرين، عندما وصلوا إليهم.
أثمرت تماسكَهم وترابطَهم، أثمرت لقاءَهم في طريق واحد، وعزمهم على الوصول إلى الهدف الواحد، أثمرت رفعَ ما كان بينهم من روح العصبية القبلية، وإزالة ما كان بينهم من خصومة، أوجدها الصراع، الذي كان يسود حياة القبائل العربية إلى قيام الدعوة الإسلامية.
لقد كان التآخي بين المهاجرين والأنصار مثلاً فريداً من نوعه في العالم، يدل على أن علاقة العقيدة الإسلامية أقوى من كل رباط بين البشر، وكان – ولا يزال – يُذَكِّر المسلمين بأن الوضع الطبيعي للعلاقة بينهم، أن يكونوا إخوة متحابين، يساعد بعضهم بعضاَ، لأن هذا هو طريق القوة، وسبيل العزة، ووسيلة التماسك القوي، للوقوف أمام أعداء الإسلام.
أما المعنى الثالث للهجرة: فيؤخذ مما فعله عمر t  حين أراد أن يجعل للتاريخ العربي بداية، إذ هداه الله إلى أن يجعل الهجرة بدايته، وكان من الممكن أن يجعل ميلاد محمد e  بَدْءًا له، كما هو الحال في جميع الأديان التي ربطت تاريخها بمولد مؤسسيها، وهذا الإلهام من عمر t  يذكرنا بأن الإسلام لا يرتبط بشخص مخلوق، حتى ولو كان النبي e  نفسه، بل يرتبط بالمبادئ، والهجرة من أسمى المبادئ في التاريخ الإسلامي، لأنها فصلت بين عهدين، وكانت بداية انتصار الإسلام، الذي لم يتوقف حتى بلغ أقصى الأرض.    

*   *   *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...