الجزء
الأول من مقرر العقيدة بالعربي
مـقـدمــة
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الشباب ومشكلاته؛ إذ عقدت ندوات على
مختلف المستويات، وظهرت مقالات في الصحف والمجلات، وأخرجت المطابع نشرات وكتيبات،
وكلها تتناول مشاكل الشباب من جميع جوانبها: التعليمية، والثقافية، والاقتصادية،
والسياسية، والاجتماعية، والدينية. غير أن من الملاحظ أن حجر الزاوية في هذه
المشكلة هو الفراغ الديني، فهو المؤثر الفعال في سلوك الشباب واتجاهاتهم، إذ من
الملاحظ أن هناك مجتمعات متخلفة ثقافياً واقتصادياً، ومع ذلك لم تظهر فيها هذه
الظواهر السلوكية التي توحي بأن هناك مشكلة يعاني منها الجيل الناشئ، ذلك أن ما من
مجتمع تعرض للتيارات الفكرية التي تطمس معالم الدين، أو تمسخها، إلا وظهر فيها
اتجاهان متنافران:
أحدهما: الانحلال التام بين أفراده، حيث
ينغمسون في الملذات المادية، ويجرون وراء كل ما من شأنه أن يجلب عليهم نشوة الجنس،
وسعادة الشهرة، ولذة جمع المال وتكديسه، ويتفننون في خلق الظروف، التي توصلهم إلى
أهدافهم في هذه المجالات.
وأحيانا يهيئ لهم سماسرة الجنس ، ووسطاء المادة ، وتجار السياسة ،
وعباقرة اللعبة الدولية ، الطريق الموصلة
إلى الانغماس في هذا الخضم المائج ، بحيث لا يعترفون بدين ، ولا أخلاق ، ولا يصغون
بآذانهم لأصوات الحق ، فهم صم بكم عن هذا النداء ، معرضون عن كل ما يذكرهم به ، ففي
قلوبهم أكنة ، وفى آذانهم وقر ، وبينهم وبين ساحة الشريعة – حيث الفضيلة والشرف والأمانة – حجاب لا
يدركونه ، وإن أدركوه في ساعة تفكير في المصير والمآل ، فلا يستطيعون اختراقه ، أو
حتى محاولة – مجرد محاولة – إزالته ، فيرتدون بعد هذه المحاولة الفكرية إلى حيث
تدور عجلة الزمن بآثامها وأوزارها .
ثانيهما: الهروب من مجالات الحياة، والانطواء داخل النفس، وهو يعتبر رد
فعل للاتجاه الأول؛ إذ تترك الظواهر اللاأخلاقية في المجتمع أثراً على بعض الناس،
فيدفعهم ذلك إلى الهروب منها، إما لعجزهم عن مجاراتها، أو ليقظة الضمير الديني عندهم.
وسواء أكان السبب في هروبهم هذا أو ذاك، فهم لا يجدون لهم ملجأً يحميهم من هذا الطوفان
الجارف، إلا الدين، فينصرفون عن الدنيا وملذاتها، ويندفعون إلى كتب الدين وعلمائه،
في محاولة للحصول على ما يقيهم شر هذه الأمواج المتلاطمة حولهم. غير أن واقع كثير
من كتب الدين وعلمائه لا يساعدهم على سلوك الطريق الصحيح الذى رسمه الإسلام، فنرى
فريقاً منهم يكتفى بترديد بعض كلمات، يظن أنها ستحميه من قوارع هذا المجتمع المنحل،
وفريقاً ثانياً يفهم الإسلام على نحو يجعله رافضاً لكل ما في الحياة من طيبات
الرزق، منكراً كل زينة في المجتمع، وآخرون يميلون إلى العنف سلاحاً يحاولون به
تغيير المجتمع، ليأخذ شكل وهيئة الصورة التي في أذهانهم.
وكل هؤلاء مخطئون في فهم
طبيعة الإسلام ؛ إذ ليس هو الدين ، الذى يطلب من أتباعه أن يكونوا سلبيين إزاء ما
يحدث في المجتمع ، فمن يكتفى بترديد كلمات الاستغفار والتسبيح – وإن كان ذلك
مطلوباً لصفاء النفس وربطها بالجانب الروحي في الإسلام – لا يكون إسلامه كاملاً ،
لأن الإسلام يطلب منه أن يكون إيجابياً في مجالات العمل المختلفة، فيتحمل
المسئولية كاملة في مجال اختصاصه ، قال عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما – سمعت
رسول الله يقول : " كلكم راع ٍ
وكلكم مسئول عن رعيته ، الإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ في أهله ، وهو
مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ، ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راعٍ
في مال سيده ومسئول عن رعيته " قال : وحسبت أنه قال : " والرجل راعٍ في
مال أبيه ومسئول عن رعيته ، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته."[1]
فالحديث يدل على أن المسلم لا ينبغي أن ينطوي على نفسه، مكتفياً
بالصلاة والتسبيح، لأنه مسئول عما يرعاه، ومن مقتضيات هذه المسئولية أن يعمل من
أجل رعيته.
أما الفريق الذى حرم على نفسه ملذات
الحياة وطيباتها، فلا يمثل روح الإسلام، لأن الله تعالى يقول: ﱡﭐ
ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ
ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ [ الأعراف: ٣١ – ٣٢] ، ويقول : ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱼ ﱠ [
المائدة: ٨٧ ]
فتحريم ما في الحياة من طيبات رهبانية، لم يكتبها الله على المؤمنين،
ولم يمارسها الأنبياء، بل كانوا في حياتهم بشراً سوياً؛ يأكلون ويشربون، وينكحون
النساء، فمن يحرم ذلك من المسلمين على نفسه، فقد تنكب الطريق المستقيم الذي رسمه
الإسلام للمؤمنين.
أما من يتخذ العنف طريقاً للتغيير في
المجتمع، فقد انحرف عن الأسلوب التربوي الذى رسمه لنا رسول الله في مجال الدعوة إلى الله؛ حيث
دعا إلى الرحمة، وحض على السلم، وحث على التحلي بالحكمة، والالتزام بالموعظة الحسنة،
إذ من الإساءة إلى دعوة الإسلام، والصد عنها، أن يصير الإكراه طريقاً من طرق
الإيمان بها، لأن الإنسان إذا شعر أنه مُكْرَه على شيء، انصرف عن تقديره،
واحترامه، والتفكير فيه، فضلاً عن الإيمان به. فأسلوب الإكراه في مجال الدعوة الإسلامية
مرفوض، لأن الإسلام أعلنها صريحة أن لا إكراه في الدين، يقول تعالى: ﱡﭐ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗﳘ ﳩ ﱠ
[ البقرة: ٢٥٦]
فظاهرة الإفراط والتفريط في المجتمع الإسلامي ترجع إلى جهل الناس بروح
التعاليم الإسلامية، فهم ما بين منكرٍ لها، لأنها في نظره معارضة لمتطلبات النهضة
في مجالات الحياة المختلفة، وبين مفرِّطٍ فيها بصورة تعمق الهوة بين الإسلام، وبين
من يرون ضرورة التمتع بما أنتجته الحضارة، على اختلاف أنواعه وأشكاله.
ولهذا رأيت حين طُلِبَ منى أن أكتب أحاديث للبرنامج الموجه من إذاعة
جمهورية مصر العربية، أن أتناول القضايا التي تهم الإنسان بصورة مفهومة، بعيدة عن
غموض الكتب القديمة، لتكون في متناول جميع المستويات الثقافية، والتزمت في ذلك
منهجاً يصلح لمخاطبة المسلم، وغير المسلم، لأن هذه الأحاديث كانت تذاع بأكثر من
عشر لغات، فسمعها المسيحي واليهودي، والبوذي، والبراهمي، وغيرهم ممن يعتنقون أديان
ومذاهب شتى.
كذلك آثرت أن تكون هذه الأحاديث وسيلة لتوضيح موقف الإسلام من كثير من
قضايا العصر، التي تثار التساؤلات حول موقف الإسلام منها، فجاءت متنوعة في
موضوعاته ومنهجها، فهي في العقيدة، والأخلاق، والعبادات، وفى مجال الأسرة، وقضايا
العصر، سواء أكانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية. كما أنها تناولت أيضاً موقف
الإسلام من التيارات الفكرية المعاصرة.
وإني إذ أقدمها اليوم للقارئ، كما قدمتها من قبل للمستمع، فغايتي ومقصدي
الإسهام في مجال الدعوة إلى الله، لتصحيح المفاهيم في المجتمع الإسلامي، وتقديمها
خالصة نقية لغير المسلمين، لتقوم الحجة على هؤلاء وأولئك.
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
القاهرة فى 10 من جمادى الآخرة 1402هـ
= 4 من إبريل 1982
محمد عبد الغنى شامة
الفصل
الأول
فى العقيدة
( 1 )
وجود الله
اصطفى الله رسلاً من خلقه ليبلغوا
رسالته، ولكن كثيراً من الناس لم يصدقوهم، لأنهم لم يكن عندهم الاستعداد ليؤمنوا
بوجود الله، ويشهد القرآن بذلك فيقول: ﱡﭐ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱﲲ ﲻ ﱠ [
الأنعام: ١١٦]
- فما هي الأدلة التي
ساقها الأنبياء للمعارضين المنكرين؟
-
اختلفت الأدلة حسب اختلاف الشعوب وطبيعة
العصور، كما انقسمت الأدلة إلى جانبين:
الأول: للتدليل على صدق الرسول، وأنه يوحى إليه من الله.
الثاني: للتدليل على وجود الله لمن ينكر وجوده.
أما التدليل على صدق الرسول، فكانت المعجزات التي ظهرت على يد كل رسول،
ليثبت للمنكرين أنه رسول من عند الله: فمعجزة موسى كانت إبطال السحر، ومعجزة عيسى
كانت إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ومعجزة محمد هي القرآن الكريم.
·
لماذا اختلفت المعجزات؟
-
لأن المعجزة لا تكون ملزمة الإلزام
الكافي إلا إذا كانت من جنس ما برع فيه القوم، فالرسول يأتي بأشياء أكبر مما برعوا
فيه، ومن هنا يكون الإعجاز قد تحقق؛ فقوم موسى اشتهروا بالسحر، فجاء موسى بما فاق
ذلك وأبطل سحرهم، وقوم عيسى برعوا في الطب، فأتى عيسى بأعمال فاقت كل ما أتوا به في
هذا المجال، وقوم محمد اشتهروا بالبلاغة والفصاحة، فجاء محمد بما عجزوا عن الإتيان
بأقل سورة منه، وهو القرآن الكريم.
أما الدليل على وجود الله لمن أنكر ذلك،
فجاء متشابهاً تقريباً في كل الرسالات، ذلك أنه اعتمد فيه على العقل والمشاهدات
الطبيعية، فركز على ما في الكون من مخلوقات تتغير وتتحرك، ووجه العقل إلى التفكير
في ذلك، ليصل بنفسه إلى أن هذا الكون لابد له من خالق، فقال تعالى: ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ [ يونس: ٦،
وقال: ﱡﭐ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀﳁ ﳇ ﱠ
[ لقمان: ١١] ،
وقال: ﱡﭐ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱿ ﱠ [
فاطر: ٤٠] ،
وقال: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ
ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ [
البقرة: ١٦٤] ،
وقال: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ
ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱠ [
القصص: ٧١ – ٧٣]
وحث الله الإنسان على التفكير في نفسه،
كي يهتدى إلى خالقه، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ
[يس: ٧٧ ]
و يقول تعالى: ﭐﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ
[ الطارق: ٥ – ٧]
كما حثه على التفكير فيما أنعم عليه من مخلوقات ، فقال : ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱠ [
يس: ٧١ – ٧٣ ] .
وقال: ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ
[ الفرقان: ٤٨ – ٤٩]
ثم وجه القرآن الكريم الحديث لمن غفل عن النظر في نفسه، وفى ملكوت الله،
وفيما أنعم عليه من طيبات ما أخرجته الأرض، وما سخره الله له من الحيوانات، فتحداه
أن يأتي بمثل ما أنعم الله به عليه، أو يخلق أدنى الأشياء، فقال:
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ
[ الحج: ٧٣ ]
وقال:
ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱠ [ النحل: ٢٠]
·
لكن من الناس من يرى أن وجوده، ووجود هذا الكون
حدث بطريق الصدفة، فكيف نثبت لهم خطأ اعتقادهم هذا، ونبين لهم بالدليل الملموس أن
للكون خالقاً؟
-
لقد أثبت العلم الحديث أن الفضاء الكوني
فسيح جداً، تتحرك فيه كواكب لا حصر لها بسرعة خارقة، بعضها يواصل رحلته وحده،
ومنها أزواج تسير مثنى مثنى، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات. ولو أنك لاحظت ضوء
الشمس الذي يدخل غرفتك من النافذة، فسترى أن هناك ذرات كثيرة من الغبار، تتحرك
وتسير في الهواء، فلو استطعت أن تتخيل هذا في شكل أعظم لأمكنك أن تحظى من الفهم
بشيء عن السيارات والكواكب في الكون، مع الفرق الهائل المتمثل في أن ذرات الغبار
تتحرك ويتصادم بعضها ببعض، ولكن الكواكب مع كثرتها يواصل كل واحد منها سفره على بعد
عظيم يفصله عن الكواكب الأخرى، ولا يقترب منه، ولا يتصادم معه. فالعقل السليم حين
ينظر إلى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق، لا يلبث أن يحكم باستحالة أن يكون
هذا كله قائماً بنفسه، بل إن هناك طاقة غير عادية، هي التي تقيم هذا النظام
العظيم، وتهيمن عليه، وتتحكم فيه، وسيصل في نهاية تفكيره أن هذه الطاقة عاقلة
مريدة، ولا تكون إلا لله ،
العليم الخبير، خالق الكون وأسراره .
أضف إلى هذا أن هناك أموراً كثيرة تؤكد وجود
الله : فما كشفه العلم حتى الآن هو قليل من كثير، وكل ما يمكن للإنسان
أن يعبر به عن آلاء الله ونعمه ، لا يكون سوى غاية في النقص ؛ فمهما فصل وأسهب في
شرح أسرار الكون ، فلن يبلغ ذرة من محيط ،
وصدق الله إذ يقول : ﱡﭐ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﱠ [ لقمان: ٢٧]
ويقول : ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﱠ
[ الكهف:
١٠٩]
وقد شعر بوجود الله علماء كثيرون، وصلوا إلى إيمانهم عن طريق ما تكشف
لهم من صفحة الكون، فهذا عالم الطبيعة الأمريكي " جورج إيريل ديفس " يرد
على هؤلاء الذين يزعمون أن الكون خلق نفسه، فيقول " لو كان للكون أن يخلق
نفسه، فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفى هذه الحالة سنضطر أن نؤمن بأن
الكون هو الإله ... وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود إله، ولكن إلهنا سوف يكون
عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد. إنني أفضل أن أومن بذلك الإله الذي خلق
العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه، ومديره، ومدبره، بدلا من
أن أتبنى هذه الخزعبلات ".
* * *
( 2 )
حقيقة الدين
ينبغي أن نتحدث عن كلمة: " الدين "، ونبين معناها، لأن
فريقاً من الناس يرى:
-
أن كل معتقد يسمى ديناً،
-
وآخرون يرون: أن يقتصر معنى الدين على
الرسالات السماوية، فيقولون: الدين هو ما نزل من السماء، كاليهودية، والنصرانية،
والإسلام، وما عدا ذلك فليس بدين.
وعندما فتحت عدداً من القواميس لأبحث عن معنى كلمة " الدين "
، لم أخرج منها بشيء مقنع؛ ذلك أنى وجدتها تنص على أن الدين هو الملة ، والملة هي
الدين .
وعليه فلو تتبعنا استعمالات كلمة "
الدين " في اللغة، لوجدنا أنها متعددة المعاني؛ إذ يطلق الدين ويراد منه:
الجزاء، ومنه قوله تعالى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ
ﱠ[الفاتحة : ٤]، أي يوم الجزاء، وهو يوم القيامة .
ويطلق ويراد منه: الحكم والسلطان، ومنه
قوله تعالى: ﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲪ ﱠ [
يوسف: ٧٦] ، أي في حكم الملك وسلطانه .
كما يطلق على العادة، كقول الشاعر:
تقول وقد
دَرَأْتُ لها وضيني * أهذا دينه أبداً وديني
أي عادته وعادتي.
وكذلك يطلق، ويراد منه الطاعة والانقياد، يقال: دان له دِيناً وديانة،
أي خضع وأطاع.
ويطلق ويراد به: ما يدين به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي اتخذه ديناً،
وتعبد به.
فهذه استعمالات خمسة، وهي: العادة، والطاعة، والحكم، والجزاء، وما يدين
به الإنسان، أي يعتنقه. فليس معنى هذا: أن المعاني الأخرى غير داخلة فيه؛ إذ لو
تدبرناها، لوجدنا أنها داخلة كلها في هذا المعنى، لأن من يدين بدين، تصبح تعاليمه
عادة له، ويطيع من شَرَّعَ هذا الدين، ويخضع لسلطانه، ويرجو منه الجزاء، فأنت ترى
المعاني الخمسة هي عناصر لكلمة الدين بمعناها المشهور.
·
فهل يكون كل اعتقاد ضم هذا المعنى ديناً؟
-
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن
نتناول الموضوع من جانبين:
الأول: معنى الدين عند علماء الأديان.
الثاني: بيان العنصر الذي يفصل الدين عن العقائد التي لا تسمى ديناً.
أما في الجانب الأول، فقد عَرَّفَ بعض علماء الأديان الدينَ بأنه: وضع
إلهي سائق لذوي العقول – باختيارهم إياه – إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل،
وهو يشمل العقائد والأعمال. فهذا التعريف لا ينطبق إلا على الأديان السماوية:
كاليهودية، والنصرانية، والإسلام.
أما غيرها من المعتقدات التي لا صلة لها بالسماء، واصطلح الناس على
تسميتها ديناً، فلا يسميها هؤلاء العلماء ديناً، لأنها في نظرهم تشريعات أرضية،
تنسب إلى البشر، ولا صلة لها بالله ، والدين لابد أن يكون
منزلاً من الله العلى القدير .
ويرى فريق آخر من العلماء أن الدين: هو
عبارة عن الإيمان والعبادة، مهما كانا، فإيمان الوثنيين دين، وإيمان البوذيين دين،
وإيمان البرهمانيين دين، وكل عقيدة تشتمل على الإيمان بقوة أو قوى سائدة تحكم
الأرض، وتلزم أتباعها بالخضوع لهذه القوة وعبادتها فهي دين. ومعنى هذا أن الدين
عند هؤلاء يشمل الأديان السماوية وغير السماوية، أي التي وضعها البشر، ولا تمت إلى
الله بصلة. واستدلوا بآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﱡﭐ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ
[ آل عمران: ٨٥]
فقد أطلق الله في هذه الآية الدين على
العقائد الباطلة، كما أطلق على ما كان عليه كفار قريش من الاعتقاد بألوهية الأوثان
والأصنام ديناً، فقال تعالى موجهاً الخطاب إليهم: ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ
ﱟ ﱠ ﱠ
[ الكافرون: ٦]
وأرى أنه لا يوجد خلاف جوهري بين الفريقين؛ ذلك أن الفريق الأول عندما
حصر معنى الدين في اليهودية، والنصرانية، والإسلام، كانت نظرته إلى كلمة "
الدين " نظرة خاصة، إذ أنه أراد بذلك: الدين الموحى به من السماء.
أما الفريق الآخر، فينظر إلى الدين نظرة عامة، أي كل ما يشمل الاعتقاد
في قوة، وخضوع لتلك القوة، وعبادة لها، سواء أكان مصدرها السماء، أو كان منبعه
الأرض.
وعندما يريد هذا الفريق تخصيص المعنى، فإنهم يقولون: هذا دين حق، وهذا
دين باطل، فالكل عندهم دين، لكن يضاف إليه ما يبين خصائصه، من كونه ديناً سماوياً،
أو ديناً وضعياً، ويوضح الحكم عليه بكونه ديناً حقاً، أو ديناً باطلاً.
ويجب أن نضم إلى العناصر المكونة للدين عنصر الاعتقاد بالذات الغيبية
الروحية، المتصلة معنوياً بعابديها، لنخرج المعتقدات في الفكر الفلسفي المعاصر عن
دائرة الدين؛ فالشيوعية، والوجودية، وغيرهما من أنواع المعتقدات الفلسفية لا تسمى
ديناً، لأنها لا تؤمن إلا بالمشاهد المحسوس، والدين لابد فيه من الاعتقاد في قوة
غيبية غير مشاهدة.
نريد أن نقول: إن كل مذهب أو اتجاه عقدي لا يؤمن بالقوة الغيبية لا
يسمى ديناً، وبذلك يظهر أمامنا أنواع ثلاثة:
-
دين سماوي،
-
ودين وضعي،
-
ومذهب حسي.
فهذا الأخير، وإن أطلق البعض عليه عقيدة، إلا أنه لا يدخل في دائرة
الدين، فلا يسمى ديناً.
·
هناك كلمتان مرتبطتان بالدين، وهما:
الملة، والنحلة، ألست ترى معي أنه لابد من بيان معناهما حتى تكتمل الفائدة؟
-
نعم، إذ تطلق الملة ويراد بها – طبقاً
لما جاء في المعاجم اللغوية -: الشريعة، أو الدين، كملة الإسلام، أو ملة
النصرانية، أو اليهودية.
إذاً، فالملة تطلق على الأديان المنزلة،
فيقول الراغب الأصفهاني: " الملة: اسم لما شرعه الله لعباده على لسان
أنبيائه، ليتوصلوا به إلى جوار الله، والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف
إلا للنبي ، الذى تنسب إليه، نحو قوله تعالى: ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﲂ
ﱠ[ النحل: ١٢٣] ، وقوله : ﭧﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱝ ﱠ [ يوسف: ٣٨ ]
ولا تكاد توجد مضافة إلى الله، ولا تضاف إلى آحاد الناس، ولا تستعمل
أيضاً إلا في جملة الشرائع، دون آحادها، فلا يقال: ملة الله، كما لا يقال: ملتي،
أو ملة زيد، وبالعكس يقال: دين الله، ودين زيد.
وتطلق النحلة ويراد بها: ما انتحل من
الدعاوى، فيقال: انتحل فلان كذا، أي ادعاه وهو لغيره. ويتضح من هذا: أن مدلول
الكلمة يشير إلى الكذب والانتحال الذي لا أساس له من الصحة. وتلك هي طبيعة النحل
والعقائد التي تتنكر لآيات الله، وتكفر برسله، فكل دعوة هذا شأنها يطلق عليها:
نحلة، لأن ما تدعيه من إنكار لله ورسله، هو كذب وافتراء.
وقانا الله شر هذا الاتجاه، وهدانا إلى دينه الحق ... دين الإسلام ...
إنه سميع مجيب.
( 3 )
ما هو الإسلام؟
·
ألاحظ أن كلمة الإسلام تستعمل في عبارات
وتراكيب لغوية مختلفة، وأفهم من كل عبارة معنى لها يخالف معناها في العبارة الأخرى،
فهل تدل كلمة الإسلام على معانٍ متعددة، بمعنى أنها تستعمل استعمالات مختلفة،
فيكون معناها في استعمال يختلف عن معناها في الاستعمال الآخر، أم أن بين
الاستعمالات المتعددة جانباً مشتركاً؟
- إذا
أردت أن تبحث عن معنى كلمة ما، فلا بد أن تلاحظ استعمال الفعل المشتق منها، فالفعل
المشتق من كلمة الإسلام هو: أسلم يسلم، ومعناه: انقاد، فتقول: أسلمت وجهي لله، أي
أطعت الله، أو انقدت لأمر الله. فالإسلام على هذا النحو هو: الانقياد والخضوع
والطاعة لله ، يقول القرآن الكريم، حكاية
عن إبراهيم : ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﱠ[ البقرة: ١٣٠ - ١٣١ ]
·
إذا فُهِمَ الإسلام على أنه الخضوع
والانقياد والطاعة ، فلربما يتبادر إلى الذهن : أنه يدعو إلى أن يكون المسلم
متواكلاً ؛ لأن معنى كلمة " الانقياد " : هو التسليم بما يجرى ويحدث،
دون اعتراض ، ودون محاولة التأثير على مجرى الأحداث ، وهو ما يسمونه بـ : "
الجبرية " ، أي أن الإنسان خاضع للمشيئة ، دون محاولة التأثير على ما يعتقد
أنه إرادة القوى العليا ، فهو كريشة معلقة في الهواء ، إذ تسيرها الريح حيث شاءت ، فالمسلم قد استسلم للأحداث بانقياده ،
فلا يتدخل في تغييرها ، وذلك ما يلاحظ عند عامة المسلمين، فهم متواكلون ، بل
متكاسلون ، فإذا حاولت دفعهم إلى العمل قالوا لك : "خليها على الله ، ما كان لك سوف يأتيك " ، ألا يكون
سبب هذه السلبية ، هو ما يُفْهَم من كلمة الإسلام ، من أن هو – أي الإسلام – هو
الانقياد والخضوع المطلق؟
- يخطئ من يفهم أن الإسلام يدعو إلى
الكسل ، أو السلبية ، فإنه يحث على العمل والمثابرة ، يقول الله تعالى : ﭐﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲾ ﱠ [
التوبة: ١٠٥] ، ويقول :
ﱡﭐ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ
[ النحل: ٩٧]
ولو أحصيت لك الآيات التي وردت في القرآن الكريم في معرض الحث على
العمل، وجزاء العاملين، لضاقت بنا هذه المساحة، مما يدل على أن الإسلام لا يحب أن
يكون المسلم سلبياً، بل يدفعه دفعاً إلى العمل، ويَعِدُه بثواب على أعماله الطيبة.
·
لا يوجد أدنى اختلاف على أن الإسلام
يدعو المسلمين إلى الإكثار من الأعمال الطيبة في مجال العبادة من : ذكر ، وتسبيح ،
وصلاة ، وغير ذلك ، ولكن الخلاف فى
الأعمال الدنيوية ، أي في السعي إلى ما يعود على الإنسان بالخير المادي ، فكثير من
المسلمين يلتزمون بأداء العبادات ، ويتواكلون فيما يعود على المجتمع بالرفاهية
والتقدم الحضاري ، اعتقاداً بأنهم سوف ينالون ذلك في الآخرة، أما في الدنيا فلا
بأس عليه أن يعيش فقيراً محروماً ، ولذلك تسمع كثيرا منهم يقول : " لنا
الآخرة " أي أنه وإن فاتته الدنيا بسبب كسله وتواكله ، فسينال في الآخرة ما
حُرِمَ منه في الدنيا !!!
-
هناك نقطتان ينبغي أن تلاحظهما جيداً،
وهما:
أولاً: كما حث الإسلام في مجال العبادات، حث على العمل في المجال
الدنيوي، فقال تعالى: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱧ ﱠ [ الجمعة: ١٠ ] ،
وقال: ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱣ ﱠ
[ الملك: ١٥] ،
وقال: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ
ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ
[ الأعراف: ٣٢]
وقال رسول الله :
" لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف
الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه." [البخاري: باب الزكاة]
فهذه النصوص تدل على أن الإسلام، وإن كان معناه الخضوع والانقياد، إلا
أنه خضوع لله فقط، وليس خضوعاً للظروف المادية التي تحيط به، أي أن المسلم لا يجوز
له أن يستسلم للعقبات التي تعترض طريقه في الحياة الدنيوية، بل عليه أن يتخطاها
بالاجتهاد والمثابرة في العمل، الذي يدر عليه وعلى أولاده رزقاً يعيشون منه، وفى
ذلك أيضاً فائدة للمجتمع، لأنه بإنتاج أبنائه يقوى على مواجهة التيارات المعادية
له.
النقطة الثانية التي ينبغي أن تلاحظها: هي أن الخضوع لله يتطلب
تلقائياً العمل، والجد في الأعمال الدنيوية، لأن معنى الخضوع لله أن تنفذ كل ما
أمرك به، وقد أمرك بالسعي على الرزق، والعمل بجد في مجال الإنتاج لتقوى الأمة. فمن
يتكاسل في عمله، فقد فرط في جانب رئيسي من جوانب خضوعه لله، أي أن إسلامه يكون
ناقصاً، لأنه لم يقم بما يتحقق به الإسلام.
·
إذا كان معنى الإسلام هو الخضوع والطاعة،
فهل كل من خضع لله وأطاعه يعتبر مسلماً؟
- نعم، ولذا قال الله تعالى: ﱡﭐ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲯ ﱠ [
آل عمران: ٦٧]
أي أنه كان في سلوكه منفذاً ما أمر الله
به، طائعاً له، ولم يتبع ما أدخل على دين الله بواسطة الأحبار والرهبان، فكل إنسان
سار على هدى الله، ونفذ ما نزل به الوحى من عند الله يعتبر مسلماً، فيوسف يقول: ﭐ ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﱠ
[ يوسف: ١٠١]
وبلقيس، ملكة سبأ، تقول: ﱡﭐ ﳩ ﳪ ﳫ ﳬ ﳭ ﳮ ﳯ ﳰ ﳱ ﳲ ﳳ ﱠ
[ النمل: ٤٤]
·
إذاً، فمعنى الإسلام هو أنه دين الله من
لدن آدم حتى الآن؟
-
نعم، فمن لم يؤمن به، فقد اتبع طريق
الشيطان، وسارع إلى ما شرعه له الرهبان والأحبار.
·
ولكنى أرى أسماء عدة للدين، فهذه:
اليهودية، وتلك: النصرانية، أليس هذان الدينان أيضاً من عند الله؟ وإذا كانا كذلك،
فلماذا سميا بهاذين الاسمين، ولم يسميا الإسلام؟
- دين
الله هو الإسلام، لكن اليهود حرفوا فيه، فجاءت النصرانية على لسان عيسى لتصحيح ما
حرفوا – وهما في الأصل دين الله الذى هو الإسلام – ولما حُرِّفَت النصرانية، نزل
الوحى على محمد ليبلغ الناس دين الله، الذى هو
الإسلام . فمن لم يؤمن به لم يكن مسلماً، وبالتالي لا يكون مطيعاً له، يقول تعالى:
ﭐﱡﭐ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬﱭ ﲄ ﱠ [
آل عمران: ١٩]
أي هو ما أنزل على محمد ، لأنه هو الدين الوحيد ،
الذى سلم من التحريف والتبديل ، فهو دين
الله من لدن آدم حتى محمد .
* * *
( 4 )
ما هو الإيمان؟
· تحدثنا عن الإسلام، فبينا أنه الخضوع والانقياد
والطاعة لله، وشرحنا أن هذا المعنى لا يكون سبباً في أن يتواكل المسلم أو يتكاسل،
لأن الإسلام يحث على العمل، سواء أكان ذلك في مجال العبادة، أو كان متعلقاً
بالمسائل الدنيوية، من: تجارة، وزراعة، وصناعة، وغير ذلك. ولكن
بقى جانب آخر يبدو غير واضح ، وهو أنه ورد في الحديث الشريف أن النبي قال:
" بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ،
وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم
رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ."....فهل
إذا فعل المسلم هذه الأركان الخمسة فقط يعتبر مسلماً ؟
-
نعم، لأن هذه الأركان، إذا أديت تدفع
بمن يؤديها إلى أن يفعل الخير، ويتجنب كل أعمال الشر، فالصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر، والزكاة تربى في المسلم غريزة حب الخير والعطف على المحتاجين، والصوم
يهذب أخلاق المسلم، فيحرره من غرائز الشهوات الجسمانية، والحج يعمق في قلوب
المسلمين الشعور بوحدة المجتمع الإسلامي، وفوق هذا كله فالشهادة تحرر المسلم من
سيطرة البشر عليه، فهو لا يخضع إلا لله.
إذا كان المسلم يتصف بهذا كله، أو إذا
كان تنفيذه لهذه الأركان يؤدى إلى أن يكون مسلماً مطيعاً لله، منفذاً تعاليمه،
فلماذا قال الله في كتابه رداً على الأعراب الذين جاءوا يعلنون إيمانهم للنبي ،
بأنهم ليسوا مؤمنين ، بل مسلمين ، فقال :
ﱡﭐ ﱽ ﱾ ﱿﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﲌ ﲛ ﱠ [ الحجرات: ١٤]
فهل الإيمان غير الإسلام؟
-
يجب أن نعرف أن الإسلام هو الخضوع والانقياد
الظاهري، فإن صاحبه تصديق بالقلب ، يكون إسلاماً صحيحاً ، لأن الإيمان هو التصديق
بالقلب ، والتعبير عنه باللسان – كأن ينطق المرء بالشهادتين ، أو يتلو القرآن – ،
أو بالعمل – كأن يقوم بأداء العبادات –
إنما هو علامة على ما في القلب من الإيمان ، فإن كان التعبير صدى لما في القلب من
إيمان ، كان إسلاماً حقيقياً ، وإلا فيكون تظاهراً فقط ، كما كان حال المنافقين ؛ فقد تظاهروا بالإسلام ، ولم يدخل
الإيمان قلوبهم ، وهو ما كان عليه الحال مع الأعراب الذين تحدثت عنهم الآية ، فقد
كانوا خاضعين ، ولكن لم يكن الإيمان قد دخل في قلوبهم بعد .
ولهذا لا يمكن الحكم على إنسان بأنه
مؤمن، أو غير مؤمن، لأن ذلك الأمر يتعلق بالقلب، ولا يطلع عليه إلا الله ، وإنما نقول: فلان مسلم ،
وهذا هو السبب في شيوع استعمال كلمة : " المسلمون " وقلة استعمال كلمة:
" المؤمنون " . فإطلاق الإيمان على المسلمين لا يكون إلا من الله الذي
يعلم ما في القلوب. ومن جاء تعبير: " الذين آمنوا " في القرآن الكريم
أكثر من مائتي مرة ، ولم يأت تعبير : " الذين أسلموا " إلا مرة واحدة ،
حيث يقول الله : ﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﲝ ﱠ [
المائدة: ٤٤] ،
أي يحكم بها الأنبياء الذين أطاعوا الله،
ولم يسيروا وراء شريعة وضعها البشر للمجتمع اليهودي.
·
إذاً، فالإيمان هو تصديق بالقلب، والإسلام نطق
باللسان، وعمل يقوم به العبد تنفيذاً لما جاء به القرآن الكريم. وقد يكون هذا
العمل ظاهرياً فقط، كما كان في حال المنافقين، أي أنهم تظاهروا أمام المؤمنين
بأنهم آمنوا، ولم يدخل الإيمان قلوبهم. وقد يكون معبرًا تعبيراً صادقاً عما في
القلب من إيمان، فكيف نفرق بين العملين؟
-
من الصعب جداً التفريق بين عملين: عمل
قام به صاحبه تظاهراً، وآخر نابع حقيقة من القلب، فذلك لا يقدر عليه إلا العليم
بأسرار القلوب، وهو الله ، لكن المرء غالباً ما يلحظ – إن واتته الظروف ، أو كان ملازماً
للشخص في جميع الأوقات – صدق العمل الذى يقوم به صاحبه ، وذلك إذا كان سلوك الشخص
طبقاً لم يظهره من : تقوى ، وحرص على تأدية العبادات .
وتوضيحاً لهذين المعنيين للإسلام
والإيمان ، وُصِفَ ما يتعلق بالقلب بأنه الإيمان ، وما يظهر على الجوارح بأنه
الإسلام ، فيقول الله تعالى : ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲥ ﱠ [
البقرة: ٢٨٥] ، لأن التصديق لا يتحقق في هذا إلا بالقلب ، فسمى إيماناً .
أما
ماله جانب ظاهري فقد وُصِفَ بالإسلام؛ فقد جاء في حديث رسول الله حين سأله جبريل عن الإسلام
قوله: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة،
وتؤدى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً "، فالنطق
بالشهادتين له جانب ظاهري، وكذلك الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
إذاً، فالإسلام هو: ما يتعلق بالظاهر، والإيمان هو: ما يتعلق بالقلب،
وإن كان الإسلام لا يكون صحيحاً إلا إذا كان مصاحباً للإيمان بالقلب. فإذا انتفى
الإيمان بالقلب أصبح العمل الظاهري نفاقاً، وليس إسلاماً. ولا يطلع على هذا إلا
الله، لأنه أعلم بالقلوب، ولذلك لا يصح أن ننفى الإيمان عن مسلم التزم بأداء
الأعمال الظاهرية، فنصفه بالكفر، أو النفاق، لأن هذا خارج عن قدرتنا، والأولى أن
نطلق عليه وصف مسلم فقط.
أما وصف المؤمن فندعه لله ، فهو وحده الذى يعلم ما في قلبه .
* * *
( 5 )
الوحي
حدثنا عمر بن الخطاب قال:
بينما نحن عند رسول الله إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب،
شديد سواد الشعر، ما يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فأقبل حتى جلس بين يدي
رسول الله وركبته تمس ركبته، قال: يا
محمد! أخبرني عن الإسلام! فقال رسول الله : تشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت
إن استطعت إليه سبيلاً . قال: صدقت ...فتعجبنا من سؤاله وتصديقه . ثم قال: فما الإيمان؟
قال: أن تؤمن بالله وحده، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، والجنة
والنار، وبالقدر: خيره وشره. فقال: صدقت، ثم قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله
كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الساعة! فقال: ما
المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن أماراتها! قال: أن تلد
الأمة ربها، وأن ترى الحفاة العراة، رعاة الشاة يتطاولون في بنيان المدر، قال: صدقت.
ثم انطلق، فلبثنا ملياً، ثم قال رسول الله : " يا عمر! هل تدري
من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم.
فال: " ذاك جبريل، أتاكم يعلمكم أمر دينكم، وما أتاني في صورة إلا عرفته
فيها، إلا في صورته هذه "[البخاري: جـ 1 صـ 9 ]
فهذا الحديث يشتمل على أربع مسائل، وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان،
وأمارات الساعة. وقد تحدثنا عن اثنتين منه، وهما: الإسلام والإيمان ... ولا أريد
أن نتحدث الآن عن الاثنتين الباقيتين، وهما: الإحسان، وأمارات الساعة، لأن الحديث
عن الإحسان سيأتي عندما نتحدث عن الأخلاق، وحديث الساعة سيأتي عندما يحين الكلام
عن السمعيات، ولكن ما أريد معرفته الآن هو: ما هو جبريل؟
جبريل: لفظ سرياني، معناه: عبد الرحمن،
أو عبد العزيز، فيما رواه ابن عباس، وهو الملك الذى وكله الله بإبلاغ الوحى إلى
أنبيائه ورسله عليهم السلام، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم في ثلاث آيات، هي قوله
تعالى: ﱡﭐ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﱠ [
البقرة: ٩٧] ،
وقوله: ﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﱠ [
البقرة: ٩٨ ] ، وقوله : ﱡ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﱠ [
التحريم: ٤ ] .
ويقول العلماء: إن جبريل هو كبير الملائكة، ولذا فوضه الله بتبليغ الوحي
إلى رسله.
·
فما معنى الوحى ؟
- الوحى في اللغة: الإلهام، ومنه قوله
تعالى: ﱡﭐ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ
[ النحل: ٦٨] ، أي ألهم ربك النحل بأن تتخذ من الجبال
بيوتاً .
وقوله: ﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﱠ [
المائدة: ١١١] ، أي ألهمتهم إلى الإيمان .
كما جاء في قوله: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱠ
[ القصص: ٧] ، أي ألهمناها بأن ترضعه وتلقيه في اليم .
أما المعنى الاصطلاحي للوحي، فهو: ما أُنْزِلَ على الأنبياء والرسل من
تشريعات ليبلغوها إلى أقوامهم.
فيقول الله مخاطباً محمداً : ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ
[ النساء: ١٦٣] ، أي أنزلنا إليك تشريعاً ، كما أنزلنا
إلى نوح والنبيين .. وعليه فالقرآن الكريم هو: وحي الله الذي نزل به جبريل من الله
إلى محمد ليبلغه للناس. والتوراة هي:
الوحي الذي نزل به جبريل من عند الله على موسى ليبلغه
لبنى إسرائيل. والإنجيل هو: الوحي الذي نزل به جبريل على عيسى ليبلغه لبنى قومه. والزبور هو:
الوحي الذي نزل على داوود .... وغير ذلك كثير، لم يقصصه القرآن الكريم علينا، فقد
قال لنبيه: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ
ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱠ
[ غافر: ٧٨]
فالوحى هو ما أنزله الله على رسله بواسطة جبريل وأمره
بتبليغه كما قال الله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅﱆ ﱇ ﱈﱉ ﱊ ﱋ ﱌﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ
ﱟ ﱠ ﱡﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ
الأنعام: ١٩]
وقوله: ﱡﭐ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﱠ
[ الكهف: ٢٧]
·
هل يدخل في معنى الوحي رؤيا الأنبياء
التي كانوا يرونها قبل أن يأتيهم المَلَك بوحي الله؟
- لا
تدخل الرؤيا في معنى الوحي، بمعنى أن الأنبياء لم يؤمروا بتبليغ شيء رأوه في
المنام، كذلك لم تكن الرؤيا طريقاً للتشريع، وإنما كانت إرهاصاً فقط بقرب الوحي،
فالأنبياء كانوا يرون قبل تكليفهم بالتبليغ، وكانت الأحداث تأتى مصدقة لما رأوه.
وهذه فترة تسبق مجيء الوحى إلى الرسول، فقد روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت:
" أول ما بدئ به رسول الله من الوحي:
الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ
إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتعبد فيه الليالي، حتى جاءه الملك وهو في
الغار، فقال له: إقرأ! قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ منى الجهد،
ثم أرسلني، فقال: اقرأ!، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ منى
الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم
أرسلني، فقال: ﭐﱡﭐ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﱠ
العلق: ١ - ٣ ] . فالحديث يخبر بحالتين، الأولى: الرؤيا الصادقة، ولم يبلغنا
الرسول بما رآه، وبالتالي لم نلتزم
بشيء جاء عن طريق الرؤيا، وإن عُدَّت من بواكير الوحي.
أما الحالة الثانية: فهي ظهور جبريل له، وإقراؤه أول آية نزلت من القرآن
الكريم، وهذه بلغها النبي ، لأنه مأمور بتبليغ ما جاء به المَلَك جبريل من الله .
إذاً، فالوحى هو: ما نزل به جبريل من الله إلى النبي وأُمِرَ بتبليغه. ومن هنا يطلق على القرآن
الكريم بأنه وحي الله، لأنه نزل به جبريل إلى النبي وأمره
بتبليغه.
فجبريل هو الواسطة بين الله وبين رسله، فهو حامل الوحي إلى الأنبياء،
تارة يأتي على صورته كمَلَك، وأخرى يأتي على صورة إنسان، كما جاء في الحديث
السابق، ويسمى: " الروح " ، قال
تعالى : ﱡﭐ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﱠ
الشعراء: ١٩٣ –
١٩٥]
كما سمى روح القدس، قال تعالى: ﱡﭐ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﱠ [ النحل: ١٠٢]
·
أهو روح القدس المعروف لدى النصارى؟
- نعم،
ولكن النصارى يعتبرونه أحد أجزاء التثليث؛ إذ يعتقدون أنه ظهر للتلاميذ، وأوحى
إليهم، ولم يكونوا أنبياء، ويظهر للبابوات، وقد يظهر لأفراد أخر، وليسوا بأنبياء.
أما جبريل الذى أطلق عليه أيضاً: الروح القدس في الإسلام، فهو: ملك خلقه الله كما
خلق غيره، فهو من مخلوقات الله وعباده، وقد تحدث القرآن الكريم عن الملائكة، فقال: ﱡﭐ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﱠ [لنساء: ١٧٢]
ﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﱠ
النحل: ٤٩]
وقال: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱠ الزمر: ٧٥]
فهم عباد الله، لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون، ولم يظهر جبريل إلا لنبي يوحى إليه، وما يزعمه النصارى من
ظهوره لأفراد غير الأنبياء لا أساس له من الصحة.
( 6 )
التفرقة بين المؤمن
والكافر والفاسق
·
من الكلمات التي تتردد كثيراً في مجال الحكم
على الإنسان، من جانب سلوكه الديني، كلمتا: الكفر والفسوق ومشتقاتهما، فإننا نسمع
كثيراً من الناس يحكمون على عمل بأنه كفر، بينما نرى آخرين يطلقون على نفس العمل
فسقاً، فهل هناك فرق بين الكلمتين؟
- لكي
يتضح معنى هاتين الكلمتين، يجب علينا أن نضم إليهما كلمة: الإيمان، فالشيء يتميز
بضده. وقد عرفنا أن الإيمان هو: الاعتراف بوجود الله، والإقرار والطاعة له، ويدخل
في هذا: تصديق رسله، والتسليم بأن له ملائكة، وأنه أنزل كتباً على رسله وأنبيائه،
وأنه خلق الجنة والنار، وأنه سيحاسب الناس على أعمالهم التي مارسوها في حياتهم؛
فمن عمل خيراً أدخله الجنة، ومن عمل شراً فسيقذف به إلى النار، ويجمع هذا كله قوله
تعالى: ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲥ ﱠ البقرة: ٢٨٥]
والكفر: ضد الإيمان، أي من لم يؤمن
بالله، أو أشرك معه إلها آخر فهو كافر، ومن لم يؤمن بالرسل فهو كافر، ومن لم يؤمن
بالملائكة أو الكتب المنزلة على رسله، أو باليوم الآخر فهو كافر، يقول الله تعالى:
ﭐﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ النساء: ١٣٦ ]
وقد وردت كلمة الكفر والكافرين في القرآن
الكريم في آيات عدة، وكلها تدور حول من لم يؤمن بالله، أو كذب رسولاً من رسله، أو
لم يتبع ما أنزل على رسله من: عبادات، وتشريعات، أو أنكر البعث والحساب، أو الجنة،
أو النار.
·
هناك نقطتان تحتاجان للتوضيح، وهما: الأولى: من
آمن برسول وكفر بآخر، فهل يكون كافراً؟ والثانية: اختلف المسلمون في فهم النصوص
الإسلامية، فتكونت فرق متعددة نتيجة لهذا الاختلاف، فهل يصح لفريق أن يحكم على آخر
بأنه كافر، أي يرميه بالكفر، لمجرد أنه يخالفه الرأي؟
- أما ما يتعلق بالنقطة الأولى، فاعلم
أن من آمن برسول وكفر بأخر فهو كافر، وقد نص القرآن الكريم على هذا في قوله تعالى:
ﱡﭐ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲥ ﱠ البقرة: ٢٨٥] ، أي لا
نفرق بين الرسل في وجوب الإيمان بهم جميعاً ، فمن آمن بالإسلام لا يكون إيمانه
صحيحاً ، إلا إذا آمن بكل الرسل السابقين على الإسلام ، ممن أخبر بهم القرآن
الكريم ، لأنه إذا كفر بواحد منهم ، فيكون قد أنكر نصاً من نصوص القرآن الكريم ،
ومن ينكر حرفاً منه فهو كافر . وعليه أيضاً فمن يؤمن بموسى، ولا يؤمن بمحمد، أو
يؤمن بعيسى، ولا يؤمن بمحمد فهو كافر؛ لأنه أنكر القرآن كله.
وما يتعلق بالنقطة الثانية، وهو: الحكم
على طائفة من المسلمين بالكفر، لمجرد أن لها رأياً ومفهوماً يخالف الآخرين، فلا
يصح هذا الحكم إلا إذا كان هذه الطائفة تنكر أصلاً من أصول الدين، كأن تنكر
القرآن، أو الحديث المتواتر، أو لا تعترف بفرضية الصلاة، أو الزكاة، أو الحج. وما
عدا هذا فلا يصح وسمها بالكفر، بل يمكن أن يطلق عليها لفظ: الضلالة، أو الانحراف
عن المفهوم الذي عليه الجمهور إن كانت آراؤها متطرفة.
معنى هذا: أن هناك أسساً في الدين، تفصل
بين الكافر والمؤمن، وهذه الأسس هي: الإيمان بألفاظ القرآن الكريم، فمن أنكر
حرفاً، فقد كفر، والإيمان بحديث رسول الله، ومعنى ذلك أنه إذا ثبت عن طريق القطع
أن الحديث قد قاله رسول الله ، وأنكره جماعة لمجرد الإنكار ، فهذا كفر ، لأنه تكذيب لرسول الله
. أما إذا أنكرت طائفة حديثاً بحجة أنه لم يصح إثبات أن الرسول قد
قاله، فلا تكون كافرة بهذا الإنكار، لأنها لم تكذب رسول الله ، بل كذبت الرواة . ولهذا
لا يصح وصف من ينكر حديثاً لعدم صحة سنده بأنه كافر، كذلك لا يكون كافراً من اعترف
بنص القرآن الكريم، وخالف الجمهور في الفهم أو التفسير، ولذا يقول العلماء عن
القرآن الكريم: " قطعي النص، ظني الدلالة " أي أن نصه مقطوع به، فمن
أنكر حرفاً منه فقد كفر، وظني الدلالة، أي أن دلالته تختلف من شخص لآخر، ومن هنا
جاء الاختلاف في التفسير والتأويل. وعليه فكل طائفة داخلة في دائرة الإيمان، ما لم
تخرج خروجاً واضحاً عن الإسلام، ولا يكون هذا إلا بإنكار نص صحيح، أو الحكم بإبطال
شيء معلوم من الدين بالضرورة، كفرضية الصلوات الخمس، ووجوب الجهاد في سبيل الله،
إذا تعرض الوطن الإسلامي للاعتداء، وغير ذلك من الأحكام المجمع عليها بالتواتر،
وماعدا ذلك فالكل مسلم، وإن اختلفت آراؤهم في تفسير القرآن الكريم، وتباينت
مناهجهم في استنباط الأحكام.
·
وبعد أن وضحت كلمة: الكفر، نعود إلى
كلمة: " الفسق "، ما هي؟ ومتى تُطْلَق؟ وعلى من تُطْلَق؟
- اعلم أن هذه الكلمة وردت في القرآن
الكريم في ثلاث آيات: في قوله تعالى:
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱞ ﱟﱠ ﲂ ﱠ [
المائدة: ٣]
وقوله: ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲱ ﱠ [ الأنعام: ١٤٥]
وقوله: ﭐﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹﱺ ﲆ ﱠ
[ الأنعام: ١٢١ ]
فقد وردت في الآيات الثلاثة في وصف
الأكل مما حرمه الله، أي أنها أطلقت على فعل معصية، أي أن من يفعل ذلك فإنه فاسق،
وأنه في الوقت نفسه يؤمن بالله، وهذا يجعلها محصورة في دائرة المعصية؛ فهي وإن
أطلقت في الآية الأولى على من يذبح على النصب ويستقسم بالأزلام – وهما من أعمال من
لم يؤمن بالله – إلا أنه روعي فيها الجانب العملي، لا الجانب الاعتقادي، أي أنها
تطلق على الانحراف في السلوك، فمن يقترف إثماً، يُعَدّ عمله فسقاً.
فلو تتبعنا كلمة: " الفاسق "
التي وردت في القرآن الكريم، لوجدنا أنها تأتى – غالباً – عقب بيان الانحراف في
السلوك، ومن هنا وصف الله المنافقين بها، فقال: ﱡﭐ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ [
التوبة: ٨]
وقوله: ﱡﭐ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﱠ [التوبة: ٦٧]
لأن سلوك المنافقين في تظاهرهم
بالالتزام بما أمر الله به كان سلوكاً منحرفاً. أما إذا وصف الكافرون بالفسق، فيكون
من باب التلازم؛ إذ يلزم من كفرهم – في الغالب الأعم – انحراف سلوكهم، لأنهم لم
يلتزموا بضوابط تمنعهم من الانحراف في السلوك.
إذاً، فالفسق – في الغالب – وصف
للمعصية، فمن يؤمن بالله ويعصاه، فهو مؤمن فاسق. وقد يطلق لفظ الفسق على الكافرين،
باعتبار أن كفرهم يبعدهم – في الغالب – عن الالتزام بقواعد السلوك التي فرضها الله
على المسلمين.
وردت في القرآن الكريم ثلاث آيات،
مضمونها واحد، وهو عدم الحكم بما أنزل الله، غير أن وصف من لم يحكم بما أنزل الله
جاء مختلفاً في الآيات الثلاث، فهو كافر مرة، وظالم أخرى، وفاسق في الثالثة، وهذه
الآيات هي قوله تعالى: ﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﱠ [
المائدة: ٤٤]
وقوله: ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱠ [ المائدة: ٤٦ – ٤٧]
فلماذا اختلف الحكم، مع أن العمل واحد
في الثلاثة، وهو عدم الحكم بما أنزل الله؟
-
ليس العمل في الآيات الثلاثة واحداً كما تصورت؛
إذ أن الآية الأولى تتحدث عمن ينكر ما أنزل الله، بدليل أنه قال: ﭽ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﭼ ، أي لا تنكروا ما أنزل الله ، ابتغاء عرض زائل .
-
أما في الآية الثانية: فالأمر يتعلق بارتكاب
معصية، إذ الحاكم مؤمن بما أنزل الله، ولكنه حاد عن الطريق العدل، فلم يجعل السن
بالسن، والعين بالعين ...إلخ، فهو لم ينفذ مبدأ من مبادئ القوانين الإلهية إنكاراً
له، بل حكم بشيء آخر مراعاة لظروف رآها واجبة الاتباع، فخرج بذلك عن إطار العدالة
الإلهية، ولهذا كان ظالماً في الحكم، ولم يكن كافراً لأنه آمن بالتوراة كتاباً من
عند الله، وترك ما جاء فيها من أحكام.
-
أما الآية الثالثة:
فتتعلق بالسلوك؛ ذلك أنه ذُكِرَ فيها الهدى والنور والموعظة، وكلها أمور أقرب إلى
السلوك منها إلى الاعتقاد، فمن ينحرف في الحكم على السلوك يُعَدّ فاسقاً، مثل من
ينحرف في السلوك نفسه، ومن يستحسن المعاصي يُعَدّ فاسقاً مثل من يرتكبها، فوصف من
لم يحكم بما في الإنجيل بأنه فاسق، جاء من ناحية أن الإنجيل جاء بمواعظ وأخلاق،
ولم يأت بأحكام، لأن ما في التوراة كان ملزماً لمن يؤمن بالإنجيل، فمن لم يطبق
ويجعل ما في الإنجيل مقياساً للحكم على السلوك، فهو فاسق.
* * *
( 7 )
علم الله وإرادته
ذكرنا عند الحديث عن العناصر التي تميز
الدين عما عداه من المعتقدات والأيديولوجيات، أنه لابد فيه من الاعتقاد في قوة
غيبية لها اتصال معنوي بعابديها،
هذا فيما يتعلق بالدين عموماً
أما ما يتعلق بالإسلام خاصة، فينبغي على
المؤمن: أن يؤمن بأن لله صفات الكمال كلها، فمما يجب الإيمان به:
الإقرار بأن الله قديم أزلي، وأن له
البقاء وحده، كما نص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﳃ ﳄ ﳅ ﳍ ﱠ
[الحديد: ٣]
وقوله: ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱠ
[ الرحمن: ٢٦ – ٢٧]
كما ينبغي أن يؤمن بأنه: " سميع
بصير "، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﱠ [ الحج: ٦١ ]
وأنه عليم ، يقول تعالى : ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﱠ
[ التوبة: ١١٥]
وأنه مريد ، يقول تعالى : ﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﱠ
[يس: ٨٢]، ويقول : ﱡﭐ
ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱠ
[ البقرة: ٢٥٣ ]
فإذا كان الإله في بعض الأديان من جنس
الطبيعة، أو كان قوة انقطعت صلتها بالعالم، أو كان عاجزاً عن إدراك ما يجرى في
الكون، فإن الإله في الإسلام هو: الله، خالق الكون، ومدبره، ومتصل به اتصال تدبير
ورعاية، وهو متصف بكل كمال، فهو: قادر، عليم، سميع، بصير، مريد. وليس اتصافه بهذه
الصفات يجعله شبيهاً بالإنسان.
لا، فهو ليس كمثله شيء.
إذ من الأمور المسلم بها، أنه لا يوجد
تشابه بين الله والإنسان، فإن وصف بصفة وصف بها الإنسان، فليس معنى هذا أنه شبيه
له، أو مثيل، لأن صفة الله غير صفة العبد، فصفة الله: هي الكمال، وصفة العبد: شيء
ممنوح من الله له، ليستعين به على مواجهة الحياة، غير أن هناك صفتين تحتاجان إلى
توضيح، لأن لهما اتصال بعمل العبد ومسئوليته، وهاتان الصفتان هما:
العلم والإرادة،،،،،، أو
المشيئة.
فعلم الله علم كامل شامل، يحوط ما في
الكون من مخلوقات، سواء أكانت جماداً، أو نباتاً، أو حيواناً، لأنه خالقها، فلا بد
أن يعرف دقائق ما خلق. وذلك أمر مسلم به في الحياة العادية؛ فإن من يخترع آلة، لا
يشك أحد في أنه يعرف كل جزء فيها، مهما كانت معقدة ومتشابكة في تشغيلها. فإن كان
هذا هو الشأن في العلم المكتسب، لأن المخترع اكتسب القدرة على الإبداع في مجال
تخصصه عن طريق الدراسة، والتفكير، والتجربة، والخبرة الطويلة، فما بالك بمن علمه
صفة لازمة له، وخلق الكون من غير مثال، ولا نموذج يحاكيه، وإنما هو من قدرته وعلمه،
فلابد من التسليم بأنه يعلم كل جزئية من جزئيات هذا الكون مهما صغرت، أو توارت عن
الأعين في طيات الملايين من مثيلاتها.
وقد أخبرنا الله عن إحاطة
علمه بالكون في القرآن الكريم في آيات عدة، نذكر منها قوله تعالى:
ﱡﭐ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ
[ الأنبياء: ٤] وقوله: ﱡﭐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ [
الحج: ٧٠ ] ، وقوله : ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ
[ الفرقان: ٦] ، وقوله : ﱡﭐ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱠ [
النمل: ٦٥ ] ، وقوله : ﱡﭐ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﱠ
[ الحجرات: ١٨] ، وقوله: ﱡﭐ
ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ
ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱠ
[ الحديد: ٤] ، وقوله : ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱳ ﱠ [
المجادلة: ٧ ] ، وقوله : ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱼ ﱠ [
التغابن: ٤]
وغير ذلك من الآيات التي توضح: أن علم
الله محيط بالكون كله، فهو يعلم ما يجرى في السماء، وما يحدث في الأرض، وما يسر به
الإنسان، وما يدور خلف الكواليس والحواجز، مما يدل على أن علمه لا يخضع للقوانين
البشرية المعروفة، بل هو فوقها، لأنه هو الذي خلقها.
ولهذا فهو وحده يعلم الغيب، إذ لم يمنح
أحداً القدرة على علم الغيب إطلاقاً إلا ما أخبر به الأنبياء.
وقد نص على هذا في القرآن الكريم، حيث يقول:
ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﱠ [ الجن: ٢٦ – ٢٨]
ومن الآيات الدالة على علمه الغيب، سواء
أكان في صدور الناس وفي نفوسهم، أو كان مطوياً في باطن الأرض، أو محجوباً بين
الكواكب العلوية قوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﱠ [
البقرة: ٣٣ ]
وقوله: ﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﱠ
[ التوبة: ٧٨ ]
وقوله: ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﱠ [ الرعد: ٨ – ٩ ]
وقوله: ﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﱠ
[ إبراهيم: ٣٨ ]
وينبغي أن نضع نصب أعيننا هذه الآيات،
وخاصة ما يتعلق منها باستئثار الله بعلم الغيب، ذلك أن كثيراً من الناس قد ينساها
أو يهملها، عندما يقابل شخصاً يدعى له أنه يقرأ الغيب، أو يكشف المستور في مستقبله،
إذ ما يلبث المرء إزاء هذا الموقف، أن يصدقه، فيستمع إليه، وينسى أن الله لم يعط
علم الغيب لأحد على الإطلاق، كما جاء في القرآن الكريم، إلا أن يكون نبياً، وحتى
النبي لا يطلعه على الغيب كله، بل بمقدار ما أمر بتبليغه فقط.
فمن يدعى علم الغيب فهو كاذب !!!!!
·
ولكننا نرى أن بعض الناس يُخْبِر بشيء
حدث في مكان آخر، ألا يُعَدّ هذا غيباً؟
-
يجب أن نفرق بين شيئين: حدث وقع بالفعل، ولكنه
في مكان آخر، بعيد عن المخبر به، وهذا ممكن لبعض الناس – الذين أوتوا قوة روحية
خاصة – الإخبار ببعضه، وليس كله، أو الإخبار بأجزاء متناثرة منه، لا تعطى صورة
كاملة، وهذا ما يسمونه " التخاطر "، ومعناه: اتصال روح بأخرى بطريقة ما،
خارجة عن النطاق العادي، وهو الذي يسمونه " التلباثي "، وهذا لا يسمى
إخباراً بالغيب، لأن الحدث وقع فعلاً. والمخبر لا يستطيع إخبارنا بجزئياته، وإنما
يعطى إشارات عنه، ويحتمل أن تكون غير حقيقية .... حتى وإن كانت صحيحة، فهي لا تعطى
صورة كاملة للحدث. أما الإخبار بما سيحدث، فلا يمكن لأحد – مهما كانت قدرته
الروحية – أن يخبر به، لأن ذلك مما استأثر الله بعلمه.
إذاً، فمن يخبر بالمستقبل فهو كاذب، ومن
يدعى الإخبار بما حدث في مكان آخر، فلا يؤخذ كل ما يقوله على أنه صورة طبق الأصل
لما حدث، لأنه إن كانت روحه تقدر على ذلك، فليس باستطاعتها نقل صورة كاملة للحدث.
والأولى ألا نصدقه، لأن كثيراً من الدجالين يمارسون هذا العمل للكسب عن طريق حرام.
وما يعرف في عالم الفلك بالتنبؤات
الجوية، فليس من الإخبار بالغيب، لأنه استنتاج لظواهر طبيعية مترتبة على ظواهر
أخرى موجودة فعلاً، ومعروف بالتجربة ما يترتب عليها، ونكتفي بهذا القدر ...على أن
نعود إلى الحديث مرة أخرى، لنستكمل ما بقي، وهو علاقة الإرادة الإلهية بأفعال
العباد.
*
* *
( 8 )
عمل الإنسان وعلاقته
بعلم الله وإرادته
بعد أن انتهينا في الحديث السابق، إلى
أن علم الله كامل، يشمل ما حدث وما سيحدث، يجب أن نبين أيضاً أن مشيئة الله كاملة
لا تتخلف، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا علم الله بأن شيئاً سيحدث
أراده، وإذا أراد فلابد من وقوعه؛ إذ لا يتخلف شيء عن علم الله وإرادته، ولا يقع في
هذا الكون إلا ما يريده ، وهناك آيات كثيرة تدل هذا ، مثل قوله تعالى : ﱡﭐ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﱠ
[ التكوير: ٢٩]
وقوله: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱠ [
الأنعام: ١١١]
وقوله: ﱡﭐ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱲ ﱠ [
الأنعام: ١١٢]
وقوله: ﱡﭐ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱧ ﱠ[ يونس: ٩٩]
وقوله: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕﱖ ﱟ ﱠ [ الأنعام: ١٢٥]
وقوله: ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﱠ [
هود: ٣٤ ]
وقوله:
ﭐﱡﭐ
ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ
[ الأنعام: ٣٩]
فمشيئة الله يترتب عليها وقوع الفعل لا
محالة، فلا يتخلف شيء أراده الله. لكن لا يصح أن يحتج أحد بهذا لتبرير أعمال، كما
احتج الكفار بذلك في قوله تعالى:
ﭐﱡﭐ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱷ ﱠ [ الأنعام: ١٤٨]
وقوله: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕﱖ ﱣ ﱠ
[ النحل: ٣٥ ]
وقوله: ﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﱠ [ الزخرف:
٢٠ ]
لأن الله ذمهم على موقفهم هذا، وأنكر
عليهم احتجاجهم بمشيئة الله على ارتكابهم المعصية، كما ذم إبليس، حيث أضاف الغواية
إلى الله، فقال تعالى: ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱠ [ الحجر: ٣٩ ]
وقد خاض كثير من الناس في هذا الأمر،
فاحتجوا بأن علم الله مشيئة لا تتخلف، ولذا لو أردت أمراً، وأراد الله غيره، فلن
يقع ما أردته، لأن ما أراده الله واقع لا محالة، فلا ذنب لمرتكب المعصية، ولا ينبغي
أن يلام مَنْ اقترف السيئات، لأنه منفذ لعلم الله وإرادته، ولم يكن في مقدوره أن
يفعل شيئاً آخر.
إذاً، فلا ذنب عليه، لأن الله قدر ذلك
وأراده، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ويتمادى بعضهم أكثر من هذا فيقول:
إن الله أراد الكفر من الكافر، والمعصية من العاصي، ولولم يكفر الكافر، ويعصى
العاصي، لتخلفت إرادة الله، وهذا مستحيل.
وتلك مغالطة لو آمن الناس بصحتها
لَهُدِم الدين، ولارتفع التكليف، لأن من لم يؤد ما عليه من واجبات، سيأخذها حجة ضد
من يوجه إليه اللوم، إذ سوف يقول له: لقد أراد الله هذا، وما أنا إلا منفذ لإرادته.
وتلك حجة يتعلل بها الزنادقة والجهلة، إذا أُمِروا بشيء أو نهوا عن شيء آخر. وقد
حدث أن احتج سارق على عمر بأن الله شاء أن يسرق، فهو
منفذ لمشيئة الله، فهذا قدر مكتوب عليه، ولابد له من تنفيذه، فليس له اختيار فيه،
فقال له عمر: وأن أقطع يدك بقضاء الله وقدره، فقد شاء الله أن تسرق، وشاء الله أن
أقطع يدك.
ولتوضيح ما يلتبس على الناس من العلاقة
بين مشيئة الله ، ووقوع الفعل ، وبيان أن علم الله ومشيئة ليسا سبباً في وقوع
الفعل ، نسوق هذا المثال : لو فرضنا أنك كنت في زيارة أحد أصدقائك ، وبينما كنتما
جالسين سمعته يحذر ابنه من الخروج ، واللعب في الشارع ، وإلا فلسوف ينزل به العقاب
، وعندما دخل الابن إلى البيت ، وأصبح في مكان بعيد عن أبيه وعنك ، أسر أبوه إليك
بأنه – أي الطفل – لا يمكن أن يستقر في البيت أبداً ، فهو يميل إلى الخروج واللعب
في الشارع ، لأنه متعلق بالأطفال خارج
البيت ، وأنا متأكد تمام التأكد أنه سوف يخرج بعد دقائق معدودة ، وفعلاً لم
تكد تمر الدقائق إلا وخرج الطفل ، فَهَمَّ أبوه بتوقيع العقاب عليه .
فهل يجوز للطفل أن يحتج بأن أباه يعرف –
نظراً لخبرته بميول الأطفال – أنه سوف يخرج، فهو ينفذ هذا، حتى لا تتخلف معرفته
بهذه الناحية التربوية، فمعرفته بمثابة أمر له بتنفيذ هذا العمل، ولهذا لا يجوز له
أن يعاقبه!!!
بالطبع لا .... لأن علم أبيه بخروجه، لا
يكون أبداً أمراً له بالخروج، ولا سبباً لخروجه.
فهذا المثال يوضح: أن علم الله ومشيئته،
ليسا أمراً من الله بإتيان الفعل، وليس رضاً منه عما يقوم به الإنسان من كفر
ومعصية، وإنما ينظر إليه من ناحية أن علم الله كامل، فهو لا يتخلف، وقد علم الله
أولاً، أن هذا العبد سيكون من الصالحين المؤمنين، وأن ذاك العبد سيكون من الكافرين
العاصين، وعلم ما سيفعله كلٌّ منهما، فأراده، وكتبه، وبقي الإنسان حراً، له مطلق
الاختيار، لأنه لا يعلم ما كُتِبَ عليه. ولهذا لم يكشف الله له عما أراده حتى لا
يتأثر اختياره، فهو حر مائة في المائة فيما يختار، غاية الأمر أن الله علم مسبقاً
ما سوف يختاره العبد، لأن علمه كامل يشمل ما هو كائن، وما سوف يكون.
ولقد عاب الله على المشركين الذين
احتجوا على شركهم بأنه أمر شاءه الله لهم، لأنهم لم يطلعوا على هذه المشيئة، فحين
اختاروا الكفر، كانوا أحراراً فيما اختاروا، فلم يجبرهم الله عليه، غاية الأمر أنه
كامل في علمه، والكمال في العلم يقتضي معرفة ما سيحدث، وإلا كان ناقصاً.
وخلاصة القول: أن علم الله كامل، فهو
يعلم ما سيحدث، ومن ضمن ما سيحدث، أعمال الناس، فأرادها وكتبها، لأنها لن تتخلف،
وحجب ذلك عن الناس، حتى لا يتأثروا في اختيارهم، فاختاروا في جو من الحرية
أعمالهم، ولهذا سيعاقبون، إن ارتضوا الكفر، ويُجْزَوْن إن اختاروا الإيمان، وعملوا
عملاً صالحاً.
*
* *
( 9 )
التوكل والتواكل
أثر مبدأ الإيمان بالقضاء والقدر في
الإسلام على بعض الناس، ففهموا أنه يؤدى إلى الاعتقاد، بأن الإنسان مجبر لا مخير،
وظنوا أن المسلم كالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الريح، كيفما تشاء، فلا اختيار
له في قول أو فعل، بل كل ما يباشره هو قضاء وقدر، وما قدرته إلا آلة في يد القضاء
والقدر، آلة لا حول لها ولا قوة، فهي خاضعة لقوة أخرى تسيرها، كما تخضع الآلة لقوة
التيار الكهربائي. وهذا فهم غير صحيح لمعنى القضاء والقدر؛ ذلك أن الإنسان في
الإسلام حر فيما يفعل، مريد لما يباشر من أعمال، وما يترك من سلوك واتجاهات، يشهد
بذلك قوله تعالى: ﱡﭐ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟﳠ ﳡ ﳢ ﳣﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﳨ ﳩ ﱠ[ فصلت: ٤٦ ]
وقوله: ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱠ [ الروم : ٤٤]
ولا تكون هذه المسئولية إلا إذا كان
حراً في تصرفاته، لا يخضع لأى تأثير خارجي عنه، عندما يختار الكفر، أو يفضل
الإيمان والعمل الصالح.
والإيمان بالقضاء والقدر من أهم الأسباب
، التي تدفع المؤمن إلى مواصلة العمل ، وتحثه على الجد والاجتهاد، سواء أكان ذلك في
مجال العبادات، أو في آفاق الحياة الدنيوية ، ذلك أن الإنسان لا تخلو حياته من
كبوات ، فإذا كان مؤمناً بالقضاء والقدر ، دفعه إيمانه إلى مواصلة السير ، ومحاولة
الاستمرار في العمل ، بدل أن يجلس نادباً حظه
" مولولاً " على ما فاته ، ملقياً اللوم على هذا أو ذاك ، لأن
المطلوب منه – طبقاً لهذا المبدأ من الاعتقاد فى القضاء والقدر – أن يؤدى واجبه
كاملاً ، فإذا أخفق ، استمر في سيره ، لا يلتفت إلى الوراء إلا بقصد معرفة مواطن
الخطأ التي أدت إلى هذا الإخفاق حتى يتفاداها في المستقبل ، وصدق من قال : "
علىّ أن أسعى ، وليس علىّ إدراك النجاح " ، أي أن الواجب على المؤمن هو السعي
الجاد ، أما ضمان النجاح فذاك موكول إلى الله
ولبيان الفرق بين من يؤمن بالقضاء والقدر، ومن لا يؤمن به، نسوق هذا
المثال:
لو أن هناك شخصين يعملان في مجال ما، وأخفقا، أي لم يوفقا في الوصول
إلى هدفيهما، أو أصيبا بنكسة منعت كل واحد منهما من تحقيق هدفه، فإن من لم يؤمن
بقضاء الله وقدره، يظل واقفاً في مكانه يندب حظه مردداً: لو كنت فعلت كذا لكان
كذا، ولو لم أفعل كذا، ما حدث هذا، ولو لم يتدخل هذا أو ذاك، لما وقعت في هذا
المأزق. ويظل على هذا الحال مدة، قد يصاب فيها باليأس النفسي، فيعتريه ملل يمنعه
من مواصلة العمل، أو محاولة استئناف مسيرة الحياة.
أما من يؤمن بقضاء الله وقدره منهما، فيرى أنه فعل ما عليه، وما أصابه
لم يكن في مقدوره تجنبه، وعليه –
بعد أن يبحث عن سبب هذا الإخفاق – أن يواصل السير مرة أخرى نحو هدفه، وبذلك يكون
قد عاد إلى نشاطه، ونفض عن نفسه الآثار النفسية، التي خلفتها الأحداث السيئة.
وعليه فيكون الاعتقاد في القضاء والقدر دافعاً إلى العمل، لا مثبطاً له،
وقد عبر عن هذا المعنى الإمام محمد عبده، حيث يقول: " الاعتقاد بالقضاء
والقدر، إذا تجرد عن شناعة الجبر، يتبعه صفة الجرأة والإقدام، وخلق الشجاعة
والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك، التي ترجف لها قلوب الأسود، وتنشق منها مرارة
النمور. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأحوال،
ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج عن كل ما يعز عليها، بل يحملها
على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة، كل هذا في سبيل الحق، الذي قد دعاها إلى
الاعتقاد بهذه العقيدة.
الذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله، يصرفها
كيف يشاء، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه، وإعلاء كلمة أمته أو ملته، والقيام
بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر من ينفق من مال في تعزيز الحق وتشييد
المجد، على حسب الأوامر الإلهية، وأصول المجتمعات البشرية؟
امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد، مع
بيان فضله في قول الحق حيث يقول: ﭐﱡﭐ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ [
آل عمران: ١٧٣ - ١٧٤ ]
فهذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام
جيوش يغص بها الفضاء، ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم، وردوهم على
أعقابهم." [تاريخ الإمام: جـ 2 صـ
259 وما بعدها، نقلاً عن: " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي
" للدكتور محمد البهي صت 156 – 157 .
ويرتبط الاعتقاد بالقضاء والقدر بالتوكل
ارتباطاً وثيقاً، ذلك أن المؤمن به يعمل ما يجب عليه، ويتوكل على الله فيما يرمى
إليه من أهداف، معتقداً أن الله معه، يوفقه ويؤيده، يقول تعالى: ﱡﭐ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜﲝ ﲩ ﱠ [
الطلاق: ٣ ]
ويقول:
ﱡﭐ
ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﲤ ﲥ ﲦﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﱠ [ يوسف: ٦٧ ]
فالتوكل على الله هو: الاعتماد عليه. وهو ليس كلمة ينطق بها المؤمن،
طالباً العون من الله، وإنما هو قبل كل شيء، اتباع الطريق المستقيم الذى جاء به
الوحي في القرآن الكريم، راسماً الحدود التي ينبغي على المسلم الالتزام بها، أي
أنه تنفيذ الوصايا والأوامر، التي جاءت في القرآن الكريم، واجتناب ما نهى الله عنه،
فإذا لم يقم المرء بما يجب عليه، صار توكله تواكلاً، وهو مذموم في الإسلام.
فمن الخطأ البيّن، ما يفهمه كثير من المسلمين اليوم، من أن التوكل هو:
إلقاء المسئولية في مجال السعي على الرزق، وفى العمل في مجالات الحياة المتعددة
على الله، ثم يقعد المتوكل، دون أن يعمل، معتقداً أن الله كافيه، ورازقه، وهو لم
يؤد ما فرضه الله عليه في القرآن الكريم، من المشي في مناكبها، والبحث، والتنقيب
عما يقيم أوده، وينشر السعادة عليه، وعلى أمته الإسلامية.
يقول الله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ
ﱟﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱠ [ الملك: ١٥]
ويقول: ﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ
ﱧ ﱠ
[الجمعة: ١٠ ]
أي ابحثوا في الأرض عما تفضل الله به، فوضعه فيها لتأكلوا منه.
إن التوكل بهذا المعنى، وهو القعود عن السعي، والكسل، والتراخي في
العمل، لم يأت به القرآن الكريم، ولم يجر على لسان الأنبياء والمرسلين مع قومهم،
لأنه بهذه الصورة يكون تواكلاً وكسلاً، وركوداً في الحياة الإنسانية، وحاشا لله أن
يأمر بشيء يصيب الحياة في المجتمع بالشلل والتوقف.
فالإنسان خُلِقَ ليعمل، ويسعى، خُلِقَ ليتحرك يميناً وشمالاً، خُلِقَ
ليقاوم ويكافح عوامل الفناء في هذا الكون، خُلِقَ ليقيم حياة على هذه الأرض، ولا
تكون حياة إلا بالسعي، والعمل، والمقاومة.
فمن يعمل، يحق له أن يطلب المعونة من الله، أي يتوكل عليه، وهو موقن
أنه سيعينه. أما من يترك العمل، فلا يحق له أن يتوكل.
أما من يهمل فيما طُلِبَ إليه من واجبات، فلا يمكن أن يكون الله حسبه،
لأن الله حسب من يتوكل عليه، والمتوكل عليه منفذ لكل ما أُمِرَ به.
ومن ضمن ما أُمِرَ به: العمل، والسعي، فلا عون من الله لمن لا يعمل،
ولا تأييد منه لمن يتواكل، أي يقعد عن العمل، ويطلب المعونة من الله، ولهذا كانت
إجابة النبي للأعرابي الذي سأله، وهو واقف
على باب المسجد، أيعقل ناقته، أم يتركها! قوله : " اعقلها وتوكل
" ..
أي أن تركها بدون عقال هو تواكل لا توكل، لأنه لم يأخذ بأسباب المحافظة
عليها، كما يدل على ذلك القرآن الكريم، وروح التشريع الإسلامي. فعقلها واجب، ثم ما
يلى ذلك، يكون الاعتماد فيه على الله، لأنه مادام قد أدى ما عليه، وهو عقلها، فطلب
المعونة من الله بحفظها في ذلك الوقت، تصرف سليم. أما إذا تركها بدون عقال، فقد
فرط فيما طُلِبَ منه، وعليه فيكون التوكل في غير محله.
فعلى المسلم أن يؤدى ما عليه من: الجد، والسعي في العمل، فلا يفرط، ولا
يتهاون، ويتوكل على الله، أي يسأله التوفيق في الوصول إلى الهدف، فإن أخفق فلا
يمنعه إخفاقه من مواصلة السير، لأن ما حدث لا دخل له فيه، فهو قضاء وقدر، وعليه أن
يحاول مرة ومرات، لعل الله يوفقه في الوصول إلى هدفه المنشود في هذه الحياة.
* * *
( 10 )
الخير والشر في حقيقتهما
ونظرة الإنسان إليهما
تضاربت الآراء قديماً وحديثاً حول تحديد الخير والشر، ما هما؟ وما
مصدرهما؟ وهل يوجد مقياس واحد للخير والشر، على اختلاف العصور والأزمان؟ وهل يصلح
مقياس واحد لتقييم الخير والشر لكل الشعوب، على اختلاف أجناسها، وألوانها وعقائدها؟
ومن أوضح الخلافات التي تثار حول هذه المشكلة، هو الخلاف المتعلق بمركز
الخير وقيمته. أللخير وجود مطلق؟ أهناك خير بالمعنى العام، أو هو خير نسبى، تبعاً
لرضا فرد معين، أو تفضيله، فما هو خير عند هذا، لا يكون خيراً عند ذاك، وما تعارف
عليه الناس في القديم بأنه خير، ينظر إليه الحاضرون على أنه شر؟؟
ورغم هذا الاختلاف في الرأي، فقد ذهب كثير من العلماء إلى وجود معيار
واحد للخير والشر ، وهو صحيح منذ الأزل ، وهو الذى ينبغي أن يسرى على البشر أجمعين
، هذا المعيار لا يسرى على نحو عالمي شامل فحسب، بل إنه أيضاً لا يرتبط بالعصر ،
ولا بالموقع الجغرافي، ولا يخضع للتقاليد الاجتماعية المعروفة، ولا يتأثر بالأعراف
القانونية الموضوعة ، ذلك هو ما وضعه الله ، وأنزله على أنبيائه ورسله ، فلو آمن
الناس بإله واحد، كما أمرتهم الرسل ،
وصدقوا ما جاء به الوحى ، واتبعوا ما أنزل على الرسل ، لأصبح حكمهم على الأشياء –
على وجه العموم - بالخيرية ، وعدم الخيرية واحداً ، ولصارت نظرتهم في تقييم السلوك
البشرى متطابقة إلى حد ما ، أو على الأقل في المبادئ العامة .
وما يظهر من اختلاف في الحكم على الأشياء بين أصحاب العقيدة الواحدة،
لا يرجع إلى تضارب في مصدر التقييم الإلهي للأشياء، إنما يرجع إلى اختلاف المؤمنين
في فهم النصوص الدينية، لأن الله لا يمكن أن ينزل إلا قانوناً أخلاقياً عاماً، ليس
فيه اختلاف ولا تباين، ولا يعتريه تضارب، أو تناقض. وعليه فيكون تباين الحكم على
الأشياء، واختلاف وجهات النظر في الخير والشر من مكان إلى مكان آخر، ومن عصر إلى
عصر، لا يمكن أن يكون راجعاً إلا إلى الجهل بإرادة الله، المعبر عنها في النصوص
الدينية، فلو كان الناس جميعاً يعرفون الإرادة الإلهية، لكان لهم جميعاً قانون
أخلاقي واحد، ولوصف الجميع نفس الأشياء، بأنها
" خيِّرة "، ونفس الأعمال بأنها صالحة.
ومادامت الرسالات السماوية، هي مرجع الحكم على الأفعال والأشياء
بالخيرية وعدم الخيرية، فيمكن أن نقول: إن الخير هو البناء، والعمل، والإنتاج،
والعمل على ترقية الحياة، وحب الناس بعضهم لبعض، وتعاونهم في سبيل التغلب على
مصاعب الحياة، وتواصيهم بما يعود عليهم بالنفع في الحياة الدنيا، وما يؤدى بهم إلى
نيل الثواب في الآخرة.
والشر هو ضد ذلك؛ فهو
الهدم، والكسل، والتراخي في الإنتاج، ومحاولة إعاقة التقدم في الحياة، وهو أيضاً
كره الناس بعضهم لبعض، وعدم التعاون فيما ينفع، واقتراف ما من شأنه أن يدمر الحياة
الإنسانية، ويتسبب في تفكيك الأسرة والمجتمع، ويؤدى إلى التشاحن والبغضاء بين
الأمم والشعوب، وفى داخل الأسرة، والتجمعات الإنسانية.
ولما كان الله لا يرضى إلا بالخير ، ولا
يأمر إلا بما يعود على الإنسان بالنفع والفائدة، فقد خلق الإنسان، وأودع فيه حب
الخير ، فمن طبيعة الإنسان الميل إلى النمو ، والتطور، ومحاولة الإسهام في بناء
الحضارة الإنسانية ، والترقي بأساليب الحياة البشرية ؛ ففي النفس الإنسانية قوى
كامنة تميل للبناء ، وهى تلتمس الظهور في العمل الصالح ، وتسعى نحو التغيير عما هو
كائن فيها من الجوانب الحسية والانفعالية ، والجسمية والذهنية ، وكل هذا مصدر ه
خير ، تصديقاً لقول رسول الله : " كل مولود يولد على الفطرة " أي على الخير كما جاء في
قوله تعالى: ﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱠ
[ العاديات: ٨]
ولكن قد يحدث في بعض الأحيان، أن يلتقي هذا النزوع البشرى نحو الخير
ببعض القوى الخارجية، التي تحول دون انطلاقه، وسرعان ما تستحيل طاقة البناء
الخلاقة، إلى طاقة حيوانية هدامة، فيميل الإنسان إلى الشر، ويسير في طريقه إلى أن
تطغى معالم الشر المكتسبة على ما عنده من قوى خيرية. ومعنى ذلك أن الإنسان لا يولد
شريراً بالفطرة، وإنما يصبح شريراً، عندما تتعطل قوى الخير عنده عن الظهور، فتطمس
التيارات الشريرة الخارجية على ما عنده من نزوع نحو الإنتاج في المجالات الخيرية،
فيقع ضحية للمرض النفسي، أو الميول العدوانية الهدامة، فيصبح شريراً.
أي أن ما يُحَوِّل الإنسان إلى الشر، ليس كامناً في ذاته، وإنما هو
طارئ عليه من الخارج، من البيئة، ومن أساليب التربية والتعليم، ومن وسائل الثقافة
التي يتلقاها من: أبويه، وأصدقائه، وجيرانه، ومجتمعه. وصدق رسول الله حين يقول: " كل مولود
يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه."
أي أن الإنسان يولد بطبيعة خيِّرة،
ويكتسب الشر من مجتمعه، الذي يعيش فيه، فالخير هو أصل الوجود في الإنسان، والشر
مظهر طارئ، يحاول إعاقة الطاقة البناءة فيه. ولا تقتصر المحاولة على الإعاقة ، بل
تحولها إلى نوازع هدامة ، تغرس في نفسه بطريق التلقي والمعاشرة ، فيقترف السيئات ،
ويرتكب الأعمال الشريرة ، فيصبح الميل إلى الشر متمكناً منه ، حتى يصير كالجزء منه
، أي يصير كنفسه ، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى : ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱠ [
يوسف: ٥٣ ] ، وهى النفس التي اكتسبها
من البيئة ، فما في الوجود من : تنافر ، وتشاحن ، واضطراب، يرجع في حد ذاته إلى
وسوسة هذه النفس ، التي تدفع صاحبها إلى نشر الانقسام والخصام ، وتغليب الحرب على
السلام .
وهذه النفس المكتسبة من البيئة توجه
صاحبها إلى التفنن في خلق ضروب التعذيب والإيلام ، فمتى اكتسب الإنسان صفات الشر
من البيئة ، استمر في هذا الطريق ، مشيعاً الاضطراب بين القيم ، ومحاولاً توطيد
دعائم الخلاف بين المعايير الأخلاقية ، لأنه نسى المعيار الأخلاقي الصحيح ، نسى ما
أنزل الله ، أنسته إياه تلك الصفات التي اكتسبها من أصحاب السوء ، فما يرتكبه من
أعمال الشر ، نابع من هذه النفس ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠﳡ ﳩ ﱠ
[ النساء: ٧٩] ...، لأنها هي التي أغوتك ، ودفعتك إلى
ارتكاب المعاصي المهلكة ، واقتراف السيئات التي تعود عليك ، وعلى من حولك ، وما
يحيط بك ، بالدمار والهلاك .
ولكي يُحْفَظ المجتمع، بعيداً عن هذه
الشرور والآثام، ينبغي العناية بمصادر الثقافة، والمحافظة على الأساليب الصحيحة في
حياة الأسرة. ولما كانت النظم البشرية، والعادات الأسرية، تتأثر بنوازع شريرة، ولا
يخلو مجتمع من المروجين لها، فقد وجب علينا أن نتمسك بما أنزل الله، ولا نفرط في
شيء منه، حتى نقي أنفسنا، ومجتمعاتنا من عوامل الهدم، والتخريب. وأول ما يجب علينا
هو: الإيمان بالله، يقول تعالى: ﱡﭐ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀﳁ ﳏ ﱠ
[ النساء: ١٧٠ ]
فمن الخير أن نؤمن بالله ، ولا نعبد
سواه ، حتى لا نتخبط بين شرائع وقوانين ، لا يُعْرَف الصحيح فيها من الفاسد ، ولا
يَبِين حَقُّها من باطلها ، فالإيمان بالله وبما أنزل على محمد هو
خير للأمة وللبشرية ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ
ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡﱢ ﱧ ﱠ [
آل عمران: ١١٠ ]
فالإيمان خير ، والكفر شر ، قال تعالى :
ﱡﭐ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ [ الأنفال: ٥٥ ]
والعدل والإحسان، وصلة ذي القربى، سواء
أكانت قربى جوار، أو قربى نسب خير، والفحشاء والمنكر شر، قال تعالى: ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱼ ﱠ [
النحل: ٩٠ ]
ويمكن إجمال القول بأن: كل ما أمر به الله خير، وما نهى عنه شر، فمن لم
يمتثل لأمر الله، فهو إنسان يسعى لنشر الفساد في الأرض، والله لا يحب المفسدين.
فالمفسدون عليهم لعنة الله في الأرض، ولهم سوء العذاب يوم القيامة، يقول الله
تعالى:
ﱡﭐ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﱠ
[ البقرة: ٢٧]
ويقول:
ﱡﭐ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﱠ [
الرعد: ٢٥]
* * *
( 11 )
أعمال الإنسان في الدنيا
والجزاء عليها
خلق الله الإنسان، وأودع فيه جملة من الغرائز والصفات، طبعته بطابع
متعدد الميول والرغبات. ومن هذه الصفات: ميله إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من المنافع،
سواء أكانت مادية، أم معنوية، ولذا نراه يسعى في مجالات الحياة المختلفة، للوصول
إلى هذا الهدف، فهو يجد ويجتهد لتحصيل المال، أو الجاه والسلطان، أو لإشباع رغبات
نفسية عنده، ترنو إلى الشهرة وحب الظهور.
ولكن الذي يُحَكِّم عقله في هذا الخضم الهائل، من التيارات الجارفة، في
مجالات الحياة المختلفة، يهتدى دائماً إلى سلوك الطرق التي تضمن له استقراراً
نفسياً دائماً، وجزاء لا يعقبه ندم، أو يؤدى به إلى هلاك. ولذا نرى العقلاء وأصحاب
الرغبات المعتدلة، يلتزمون في حياتهم بما تمليه عليهم ضمائرهم الحية، من عدم الخروج
على التقاليد الاجتماعية التي تعارف الناس على ضرورتها في الحياة الاجتماعية، وعدم
مخالفة القانون الذي ينظم العلاقات بين الناس، وكذلك الالتزام بتأدية ما يعود على
الفرد والأمة بالخير والسعادة.
ولما كان الوحي السماوي، هو المصدر الوحيد لتنظيم المجتمع، وتقعيد
القواعد، التي يجب على كل فرد الالتزام بها، ليؤدي دوره السليم، والصحيح في البناء
الاجتماعي، فقد وجب على المؤمن عدم الخروج عليه في كل مجالات حياته، فهو حين يؤدى
ما أمر الله به، ويكف عما نهاه عنه، فقد سار على الطريق الصحيح، الذي يؤدى به إلى
إشباع رغبته للحصول على أكبر نفع في الدنيا والآخرة، وسوف يجنبه سلوك هذا الطريق
عثرات الدهر في الدنيا، ويخلصه من العذاب الأليم في الآخرة.
ذلك أن الله يثيب كل من عمل عملاً
صالحاً، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ
[ النحل: ٩٧ ]
ويقول:
ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﱠ [
سبأ: ٣٧ ]
ولا يثيب الله المؤمن على عمله في الآخرة
فقط، بل يجزيه في الدنيا، ويثيبه في الآخرة، يقول الله تعالى: ﱡﭐ
ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﱠ [
النحل: ٣٠ – ٣١]
ويقول: ﱡﭐ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛﳜ ﳝ ﳞ ﳟﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﱠ [ الزمر: ١٠]
ويقول: ﱡﭐ ﲴ ﲵ ﲶ (أي قول المؤمنين، الذين ثبتت أقدامهم في الجهاد في سبيل الله ) ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱠ
[ آل عمران: ١٤٧ – ١٤٨]
وكما بشر الله المؤمنين بالجنة، توعد
الكافرين بالنار، فقال تعالى: ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ
[ البقرة: ٣٩ ] وقال:
ﱡ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱦ ﱫ ﱠ[ آل عمران: ٤] ، وقال : ﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱠ [ التوبة: ٣]
وما يشاهد في هذه الحياة الدنيا، من
امتلاك الكفار والعصاة كثيراً من أسباب المتع المادية، ليس دليلاً على استحسان
الله لموقفهم من الإيمان، بل إن هذه الظاهرة تحدث عنها القرآن الكريم، فبين أنها
من باب إملاء الله للكافر، ليظهر الوجه الحقيقي لنفسه الأمارة بالسوء، لأن هذه النفس
تطغى، وتستمر في طغيانها، إذا أحست أنها تملك القوى المادية، يقول تعالى: ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﱠ [
العلق: ٦ – ٧]
ولذا يقول الله تعالى مبيناً الحكمة في
حصول بعض الكفار على المال والجاه: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﱠ
[ آل عمران: ١٧٨] ، ويقول: ﱡﭐ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﱠ [الزمر:
٨ ]
فمحور الثواب والجزاء في الآخرة هو:
الإيمان؛ فمن آمن، وعمل صالحاً، يثاب على عمله، بل يضاعف له الثواب في الآخرة.
وإذا أساء فيعاقب بمثلها فقط، أي أن الله يشبع رغبة الإنسان في الحصول على جزاء ما
يعمل، فيعطيه أكثر من عمله إذا كان صالحاً، ويعاقبه بمثل إساءته فقط، فالله أخبرنا
بأنه يجازى على الحسنة بخير منها، ويعاقب على السيئة بمثلها، فيقول في كتابه
العزيز: ﱡﭐ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﱠ
[ القصص: ٨٤ ]
وقد وصلت الزيادة في الثواب على الحسنة إلى عشرة أضعافها، يقول الله
تعالى: ﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﱠ
[ الأنعام: ١٦٠]
أي لا يُظْلَمون حين يعاقبون على السيئة بمثلها، أما ما يثيبهم الله
على الحسنة بعشر أمثالها، فهو تفضل منه
، تكريماً لهم، لأنهم آمنوا أولاً ، وأضافوا إلى إيمانهم عملاً صالحاً .
وقد يكفر الله سيئات المؤمن، إذا التزم
بالعمل الصالح، ويدخل ذلك في باب العفو عن السيئات، إذا كان الطابع العام لسلوكه
حسناً، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳝ ﱠ
[ التغابن: ٩ ]
هذا إذا كانت السيئة تتعلق بحق الله تعالى فقط، كأن يفعل الإنسان شيئاً
سيئاً لا يتعلق به ضرر لأحد من الناس. أما إذا تعلقت السيئة بحق العبد، كأن يكون
العمل سبباً مباشراً، أو غير مباشر لضرر إنسان، كالسرقة منه، أو إلحاق الأذى له بأي
صورة من صور الإساءة، فلابد من رد المسروق، وعفو من وقع عليه الإيذاء، كشرط من
شروط غفران الله له هذه السيئة. كذلك إذا كان العمل فيه ضرر للمجتمع، كسرقة المال
العام أو إتلافه، فلابد من رد المال العام وإصلاح ما أتلف، كي يكون الأمل كبيراً في
عفو الله له هذه الإساءة.
فالعمل الصالح سبب من أسباب تكفير
السيئة ، إذا وقعت عفواً دون إصرار أو
استمرار ، فمن يؤمن ويعمل صالحاً ثم يعتريه ضعف في بعض الأوقات ، فيقع
فريسة الغواية ويرتكب معصية ، فإن تذكر الله ، ورجع إليه ، فأقلع عما وقع فيه ،
وتراجع عن التمادي في هذا الطريق المعوج فسأل الله الغفران ، فلسوف يغفر الله له
هذه الزلة، لأنها طارئة ، وقع فيها في فترة غفلة عن أوامر الله ،
وهذه منحة من الله للمؤمن فقط، أما الكافر فلن يغفر الله إطلاقاً ، وخاصة إذا كان
الذنب هو الإشراك بالله ، يقول تعالى : ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲧ ﱠ [
النساء: ٤٨ ]
فمهما يقدم الكافر من أعمال صالحة، فلن
تكون سبباً في نجاته من النار، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﱠ
[ آل عمران: ٩١]
ويقول: ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱠ
[ النور: ٣٩]
وخلاصة القول: إن الثواب في الآخرة لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً،
فيثاب على إيمانه، وعلى ما قدم من عمل صالح، وقد يصل هذا الثواب إلى عشرة أضعاف ما
قدم من الأعمال الصالحة. أما إذا اقترف سيئة فيعاقب بمثلها، وقد يغفرها الله له،
إذا كانت عارضة، أي إذا حدثت مرة، ثم أسرع فرجع عنها، واستغفر الله، ورد ما عليه،
إذا كان الأمر يتعلق بالفرد أو المجتمع.
أما الكافر فليس له جزاء على كفره إلا النار. أما عمله الصالح فلا أثر
له، أي لا ينقذه من دخول النار، وإن كان يخفف عنه عذابها، بمعنى أن الكافر الذي
يعمل في الدنيا عملاً صالحاً لبنى وطنه، أو لمجتمعه الإنساني، فسوف يكون عذابه أقل،
وأخف من عذاب الكافر الذي لا يعمل صالحاً في الدنيا. فكما أن الجنة درجات، فالنار
درجات أيضاً، أسفلها وأشدها عذاباً لمن كفر ولم يعمل صالحاً في حياته، وأخفها من
كفر وقدم من الأعمال الصالحة ما انتفع به بنو وطنه، أو ما خفف ألماً عن الإنسانية.
فإذا نال المؤمن خيراً في الدنيا، حمد
الله، وإن أصابه مكروه صبر، لأن ذلك ابتلاء واختبار لمدى قوة إيمانه، يقول الله
تعالى: ﭐﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﱠ
[ العنكبوت: ٢ – ٣ ]
فإن رأى الكافر ينعم بنعمة هو محروم منها، فليعلم أن ذلك لحكمة يعلمها
الله تعالى، وليتذكر أن ذلك "ربما" يكون اختباراً له أيضاً لتظهر النفس
على حقيقتها. فلولا ضعف النفس الإنسانية، وعدم قدرتها على تحمل مثل هذه الفتنة
لزاد الله في مال الكافر، يقول الله تعالى: ﱡﭐ
ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱠ
[ الزخرف: ٣٣ – ٣٥]
أي أن الله لم يعط الكافر هذا، حتى لا يصبح الناس كلهم كافرين، لأن
النفس ضعيفة، تنهار أمام المغريات المادية بسرعة، فعلى المؤمن أن يدرك هذه
الحقيقة، فيعلم أن العاقبة خير وأبقى. ومع ذلك لا ينبغي أن يكون هذا المعنى سبباً
في تقاعس المؤمن عن عمله، وتكاسله في تحصيل المادة من طرقها المشروعة، لأن التكاسل
سيئة يعاقب عليها، والجد والعمل في مجالات الحياة المختلفة عمل صالح يثاب عليه،
فليجد ويجتهد، حتى يكون في زمرة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأولئك لهم الدرجات
العلى.
* * *
( 12 )
الهداية إلى السعادة
في الدنيا والآخرة
يسعى الناس جميعاً إلى سلوك الطرق التي تؤدى بهم إلى أن يعيشوا سعداء ،
غير أن مفهوم السعادة يختلف من شخص لآخر ؛ فبينما برى بعض الناس أن سعادتهم لا
تتحقق إلا بالحصول على قدر أكبر من المال ، أو بتقلد المناصب الكبرى ، التي تضفى
عليهم سلطاناً وجاهاً ، وشهرة بين الناس ، يرى آخرون السعادة في الدفاع عن المبادئ
السامية ، أو في القيام بمساعدة الضعفاء ، ومعاونة المحتاجين ، وفي دعوة الناس إلى
حب الخير لبعضهم، وحثهم على الالتزام بالمبادئ الأخلاقية ، حتى يعيش الناس في أمان
واطمئنان ، وحب ووئام، يساعد بعضهم بعضاً ، فيحمى الأخ أخاه ، ويحنو الجار على
جاره ، ويحول المواطن دون وقوع الشر على أخيه المواطن ، فتتساند الشعوب والأفراد
جنباً إلى جنب في مواجهة تقلبات الدهر ، وأعاصير الحياة .
ورغم اختلاف الاتجاهات والمشارب في
تفسير معنى السعادة، وطرق الحصول عليها، فإن هناك معنى عاماً للسعادة، يكاد يجمع
عليه الناس جميعاَ، ألا وهو: أنها تكمن في اطمئنان النفس، وراحة الضمير، وصفاء
القلب، وخلوه من الغل والحقد، والقلق على المستقبل، ولذا ذكر الله هذه الصورة في
معرض الامتنان على المتقين، فقال تعالى:
ﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﱠ [ الحجر: ٤٥ - ٤٨ ]
ذلك أن الجو النفسي المحيط بالشخص يؤثر تأثيراً بالغاً على جميع أعصابه
، فإذا ساده التوتر ، والقلق ، والخوف ، انعكس ذلك على الأعصاب ، فيهتز بنيانها ،
ويضطرب عملها، فيصاب الإنسان بشعور لا يستطيع تفسيره ، ولا يدرك له سبباً مباشراً ، يمكنه إزالته ، وساعتئذ لا ينفعه مال ولا بنون ، ولا
ينقذه جاه ولا سلطان ، بل قد تصبح هذه النعم المادية من العوامل التي تضاعف من علته
، وتؤخر شفاءه ، أو قد تكون هي سبب هذه العلة ، عندما يسيطر عليه حب المال والجاه
، فيسلك طرقاً يرى أنها توصله إلى هدفه،
بينما هي تزيد من علته ، وتضاعف من ألمه ، لأنه يحقد على من يفوقه في هذا المجال ،
ويسعى إلى وضع العقبات في طريقه ، أو تدبير المؤامرات لسلب ما في يده من مال ، أو لإقصائه عن مركزه ليتقلده هو ، وسواء
نجح في هذا ، أو أخفق ، فهو يعيش حياته كلها في قلق مستمر ، يخشى أن تفشل خططه في
الوصول إلى الهدف ، أو يخاف ضياع ما حقق من أهداف ، عندما تصبح في يده ، لأنه يظن
أن غيره يكيد له المكائد، كما فعل هو مع غيره ، ويسعى إلى سلب ما بيده ، كما صنع
هو مع من سبقه .
فالمال والجاه ليسا سببين من أسباب
السعادة في حد ذاتهما ، وإنما هما وسيلة فقط ، لتخفيف عبء الحياة المادية عن الإنسان
، فهما سلاح ذو حدين ، أي أنهما قد يكونان سبباً من أسباب سعادة المؤمن ، إذا اتبع
في الحصول عليهما الطرق التي رسمها الله تعالى ، فلا يظلم أحداً ، ولا يحقد على
أحد امتاز عنه بكثرة المال ، أو فاقه في تقلد المناصب ، أو نال مكانة سامية بين
بنى قومه ، فإن فعل ذلك ، اطمأنت نفسه ، فرضيت بما قسمه الله لها ، وفى ذلك سعادة بالغة ، لا يراها إلا من
يعيش في ظلها ، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا ، حيث يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ
ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ
[ الفجر: ٢٧ – ٣٠]
فالنفس لا تطمئن إلا إذا رضيت بما قسم
الله لها، وتمنت للناس الخير، كما جاء في حديث رسول الله ، حيث يقول : " لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
فالإيمان بالله، والالتزام بالطرق المشروعة في مجالات الحياة المادية،
وحب الأخ لأخيه، وعدم تمنى زوال ما عند الغير من نعمة، هي: معالم الطريق التي تؤدى
إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
أما لحقد، فهو: مدمر للنفس والبدن، وهو
السبب الرئيسي، الذي يدفع الإنسان إلى إيذاء أخيه، وهو غافل عن إدراك أن هذا هو
إيذاء لنفسه أيضاً، لأنه يضفي على حياته القلق النفسي، والتوتر العصبي، فلا تتحقق
له سعادة؛ فهو لا يهنأ بحياة، لأن الشعور باللذة الحقيقية قد فُقِد، وسيطر عليه
الإيحاء بأنه سينتصر بهذا على ما يظنهم أعداءه، بينما يسوقه هذا العمل إلى الدمار
والهلاك. ولن يدرك هذا إلا بعد فوات الأوان، وساعتئذ لا يلومن إلا نفسه، يقول الله
تعالى حكاية عن هذه النفس: ﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱓ ﱠ [
يوسف: ٥٣]
ويقول: ﱡﭐ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠﳡ ﳩ ﱠ [ النساء: ٧٩]
والحد الثاني للمال هو: استعمال لإلحاق الضرر بالناس، أو تحصيله من طرق
غير مشروعة، كـ: السرقة، والغش في المعاملات التجارية، أو المغالاة في الأسعار
لتحصيل أكبر ربح ممكن، على حساب الضعفاء والمساكين. وفضلاً عن أن هذا العمل سيعاقب
عليه المرء في الآخرة، فهو أيضاً سبب من أسباب الشقاء في الدنيا، لأن من يتبع هذا
الأسلوب غير الشرعي في تحصيل المال، فهو، لا محالة، قد سيطر عليه حب الثروة، على
نحو يجعله غير مطمئن إلى ما في يده، وغير راضٍ بما حصله، وتلك حالة تفقده السعادة،
وتجعله يعيش قلقاً بالليل والنهار؛ يخشى أن يضيع ما بيده، ويخاف من عدم الوصول إلى
المزيد.
وخلاصة القول: أن المال لا يكون سبباً
من أسباب السعادة إلا إذا التزم المرء بالطرق المشروعة في تحصيله، وأدى ما عليه من
زكاة، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲛ ﱠ [التوبة: ١٠٣]
ويقول: ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﱠ
[ البقرة: ٢٦١ – ٢٦٢]
فالإيمان، وتحصيل المال من طرقه المشروعة، وإعطاء الفقراء حقهم منه،
يضمن السعادة، لأن الله وعد من يلتزم بذلك، بالأمان والاطمئنان في الدنيا، وبالأجر
والثواب في الآخرة.
أما إذا فُقِدَ الإيمان، فلا تكون سعادة،
بل حقد على الغير، وخوف منه، وركض وراء المال في كل الطرق، وفى كل ذلك تدمير للنفس،
وهلاك للبدن، وفضلاً عن ذلك، فمآله الجحيم والعذاب في الآخرة، يقول الله تعالى:
ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱠ [ التوبة: ٥٥]
كذلك من عوامل السعادة: الرضا بما قسم الله؛ فقد جاء في الحديث القدسي
أن الله يقول: عبدي! إنك تريد، وأنا أريد، فإن رضيتَ بما أريد، أعطيتك ما تريد،
وإن لم ترض بما أريد، أتعستك فيما تريد، ولا يقع في ملكي إلا ما أريد."
فلا ينبغي لإنسان أن يتطلع إلى ما في أيدى الناس، بل عليه أن يجتهد في
عمله، فإن وصل إلى مركز، حمد الله عليه، واستمر في عمله، ولا يحقد على من تميز عنه
في مركز، أو جاه، لأن ذلك معصية، وفى المعصية فقدان للسعادة في الدنيا والآخرة.
فطريق السعادة في الدنيا والآخرة، ينحصر في الإيمان، والعمل الصالح،
سواء أكان هذا العمل يتعلق بالعبادات، أو بالمعاملات؛ ففي العبادات، ينبغي أن يحرص
المؤمن على تأدية الفرائض في أوقاتها، والالتزام بالفضائل التي رضي الله عنها.
أما في المعاملات، فعليه أن يكون سعيه إلى تحصيل المال من طريق حلال،
وأن ينفقه فيما يعود عليه وعلى أسرته وأمته بالخير، وأن يلتزم في معاملته للناس
بالمبادئ الإسلامية، التي تدعو إلى حب الأخ لأخيه، وعطفه علبه، ومساعدته له، فإن
ذلك يحقق السعادة للجميع.
ولا تكتمل السعادة في الأمة، إلا
بالتواصي بالحق، وذلك بأن يوجد في المجتمع من يدعو الناس إلى الخير، وينهاهم عن
الشر، يقول الله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱧ ﱠ [ آل عمران: ١١٠]
فالدعوة إلى الله، تحقق السعادة للداعي، الذى يرى في قيامه بهذا العمل،
إشباعاً لنزعة دينية عنده وإرضاء لله، كما يؤدى بالأمة إلى السعادة، حيث يسود
الإيمان ومظاهره، ويختفى الضلال وآثاره، وبذلك يكتب الله لهم جنات عدن في الآخرة،
جزاء ما قدموا في الدنيا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق