الجزء الخامس من مقرر العقيدة بالعربي
( 31 )
الشفاعة
اتفقت المذاهب الإسلامية على أن الله لن
يظلم أحداً عند حسابه يوم القيامة، لأن الظلم منقصة، والله منزه عن النقائص، كما
تواترت الأدلة والبراهين بصورة ترفع الخلاف في هذه المسألة، منها قوله تعالى:
ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﱠ [ الكهف: ٤٩]
وقوله: ﱡﭐ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱠ [ النساء: ٤٠]
وورد في أحاديث متعددة وعيد الله
للظالمين، وإنكاره للظلم، وإخبار النبي e
المسلمين بأن الله لا
يظلم أحداً من خلقه. ولكنه قد يتجاوز عمن أساء في حقه، فيغفر لبعض المؤمنين، يقول
الله تعالى:
ﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧﱠ [النساء: ٤٨]
فغفران الذنوب، تفضل من الله على العبد،
والتفضل من شيم الكرام، وعلى هذا الأساس نشأت بين العلماء قضية عقدية، ألا وهي أن
وعيد الله يتخلف، بمعنى أن الله قد يتنازل عن وعيده بتعذيب العاصي، فيغفر له
ذنوبه، وهذا هو رأى أهل السنة. أما المعتزلة والخوارج فينكرون ذلك، مستندين إلى أن
العاصي قد ارتكب إثماً، فيجب أن يأخذ عقابه، وإلا أفلت مذنب من العقاب على ما
ارتكب.
وتفرع من هذه القضية مسألة الشفاعة يوم
القيامة، فجميع المذاهب متفقة على أنه لا شفاعة لكافر، لكنهم اختلفوا في شأن عصاة
المؤمنين، فذهب المعتزلة والخوارج إلى إنكارها، مستدلين على ذلك بقوله تعالى:
ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ [
غافر: ١٨]
وقوله:
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﱠ البقرة: ٤٨
ﭐﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ
ﳒ ﱠ [ البقرة: ٤٨]
أما أهل السنة، فقد
أثبتوا الشفاعة لأهل الإخلاص، وقالوا: إنها مقيدة بأمرين: إذن الله للشافع، ورضاه
عن المشفوع له، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:
ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯﲰ ﳍ ﱠ [ البقرة : ٢٥٥]
وردوا على
الآيات التي استدل بها المعتزلة على رأيهم في نفي الشفاعة، بأنها وردت في حق
الكفار، ومعلوم أن الجميع متفقون على أنه لا توجد شفاعة للكافر.
وعليه، فأهل
السنة يثبتون الشفاعة لمن يأذن الله لهم من المؤمنين، كما يثبتون الشفاعة للنبي e
،
فذكروا أن له شفاعات عدة، منها:
-
شفاعته في أهل الموقف، حتى يقضى
بينهم، وهي المعروفة بشفاعته العظمى، لتعجيل الحساب، وإراحة الناس من هول الموقف،
وهذه خاصة به دون سائر الأنبياء.
- وشفاعته في عصاة الموحدين، الذين يدخلون النار
بذنوبهم، يشفع فيهم لإخراجهم منها.
- وشفاعته لقوم من أهل الجنة في
زيادة ثوابهم ورفعة درجتهم.
- وشفاعته في قوم تساوت حسناتهم
وسيئاتهم، فيشفع فيهم فيدخلون الجنة.
- وشفاعته في بعض أهله الكفار من
أهل النار، حتى يخفف عنهم العذاب، وهذه خاصة بأبي طالب.
ويرى بعض
الباحثين المعاصرين: أن الشفاعة ما هي إلا صورة من صور الوساطة، التي تمارس في
المجتمعات الإنسانية، إذ بواسطة من له علاقة بمن بيدهم الأمر تُرْتَكَب مخالفات
دون محاسبة، ويُتَجَاوَز عن معاقبة المذنب إرضاءً لصاحب الأمر، فتُطْمَس معالم
العدالة – وحاشا لله أن يقبل أمراً يمس تطبيق العدالة بين الناس -، ولذا فهم
ينكرون الشفاعة، ويؤولون الآيات التي وردت في شأنها، كما فعل ذلك المعتزلة في صدر
الإسلام.
غير أن حقيقة
الشفاعة تخالف هذا المفهوم الذي توصلوا إليه، ألا وهم أن الله عندما يريد العفو عن
مسيء، لبادرة قام بها في حياته، أو لتصرف حميد من ناحية ما، ويريد في الوقت نفسه
تكريم عبد، فإنه يحرك هذا العبد ليشفع فيمن أراد الله أن يغفر له. فالحقيقة أن
الله سيغفر لهذا العبد، سواء شفع له الشافع أم لم يشفع، غاية الأمر أن الله أراد
أن يكرم الشافع، فوجهه للشفاعة في أمر قد تقرر قبوله. وبهذا المعنى تختلف الشفاعة
عن ظاهرة الوساطة الموجودة في عالمنا الإنساني، بدليل أن الشفاعة لا تقبل فيمن كفر
بالله، كما لا تقبل فيمن سلب حقوق الآخرين، حتى يؤدى ما عليه بإعطائهم من حسناته،
فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئاتهم ووضعت في حسابه. وليس هناك شفاعة لمن ارتكب
الكبائر.
كل هذا يبين
أنها تكريم للشافع، فيمن أراد الله العفو عنه، وليست وسيلة لضياع الحقوق، أو براءة
من أذنب في حق الآخر.
(32 )
حقائق المصطلحات التي
وردت عن الآخرة
وهب الله الإنسان العقل، وألهمه التفكير فيما حوله من مظاهر الطبيعة، بل
إنه استنكر على من ألغى عقله هذا الاتجاه، فقال تعالى: ﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱱ ﱠ [الروم: 8]
وقال: ﱡﭐ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲱ ﱠ [ الأعراف:
١٨٥]
وقد استخدم الإنسان عقله، فأجرى بحوثاً
عديدة بغية الكشف عن أسرار الطبيعة، غير أنه – على الرغم من التقدم الهائل في مجال
البحث العلمي – لم يستطع أن يتوصل إلا إلى القليل من أسرار الطبيعة، ذلك أن عقل
الإنسان محدود بقدرة معينة، لا يستطيع أن يتجاوزها.
فإذا كان هذا حاله في مظاهر الطبيعة المحيطة به،
فمن باب أولى فهو أشد عجزاً في مجال البحث عما خفى عليه، أعنى فيما وراء الطبيعة؛
إذ ما يتعلق بها لا دخل للعقل فيه، لأنه يعجز عن التوصل إليه، وإنما مصدره السماع،
أي ما يخبر به الوحى عن طريق نبي يوحى إليه، ولهذا سمى هذا النوع في العقيدة
الإسلامية بالسمعيات.
ومما ورد في السمعيات
الإخبار بالميزان، والصراط، والحوض، وغيرها. أما الميزان، فقد جاء ذكره في القرآن
الكريم في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱰ ﱠ [ الأنبياء: ٤٧]
وقوله: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﱠ [ القارعة: ٦ – ٩]
غير أن العلماء
اختلفوا في تحديد هيئته وصورته، فقال أهل السنة: إنه بعامود وكفتين، والموزون فيه:
صحف الأعمال، أو مثالات يخلقها الله تعالى، ويزنها على قدر أجور الأعمال، وما
يتعلق بها من ثوابها وعقابها.
أما المعتزلة فقد
أنكروا هذا التصور للميزان، وأوَّلوا الوزن على اعتبار الحسنات، وقالوا: "
وزن كل شيء بما يليق به".
أما
الصراط، فقد وردت آيات عدة في القرآن الكريم، تتحدث عن الصراط المستقيم، وهداية
الله الإنسان إليه. كما وردت آية تتحدث عن صراط الجحيم، ويفهم من هذه الآيات أنه
هو الطريق الصحيح في الهداية والرشاد، فمن اهتدى فقد سلك الصراط المستقيم، الذى
رسمه الله لعباده في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱠ [ الأنعام: ١٥٣]
ومن ضل فقد تنكب
الطريق المستقيم، ومال إلى طريق جهنم، كما قال الله تعالى عنه: ﱡﭐ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﱠ [ الصافات: ٢٢ – ٢٣]
غير أن هناك أحاديث تخبر عن صراط
الآخرة، ويفهم منها: أنه جسم ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، كما ورد
فيها: أنه أدنى من الشعرة، وتكون سرعة الناس عليه، على قدر أعمالهم. وقد أنكر ذلك
المعتزلة، وأوَّلوا الصراط بطريق الجنة، وبالأدلة الواضحة، وبالعبادات كالصلاة، والزكاة،
وغيرها من الأعمال التي تقرب العبد من الله I
.
أما الحوض فلم يرد له ذكر في القرآن الكريم إطلاقاً، وإنما ورد في الأحاديث،
منها ما رواه مسلم عن أنس أنه قال: بينما رسول الله بين أظهرنا، إذ غفى إغفاءة، ثم
رفع رأسه مبتسماً، فقلنا: يا رسول الله! ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: "
أنزلت علىّ آنفاً سورة، فقرأ: ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱠ [الكوثر:
١]،
ثم قال: " أتدرون ما الكوثر؟ " فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "
إنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد
نجوم السماء، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيقال: أما تدري ما
أحدثوا بعدك؟ ".
ويرى بعض المعاصرين: أن الإيمان بما جاء
في القرآن الكريم من أحوال يوم القيامة واجب، ويدخل في ذلك الإيمان بوجود الميزان
وغيره.
أما حقيقة المصطلحات التي وردت عن أحوال
اليوم الآخر، فيجب التوقف فيها عند النص، بمعنى أننا نؤمن بوجود الميزان يوم
القيامة، أما هيئته وكيفية الوزن، فذلك خارج عن قدرة عقولنا، فينبغي ألا نخوض فيه،
ونتبع هذا المنهج في كل ما ذكره الوحي، أو الحديث الصحيح عن أحوال الآخرة، كالصراط،
والحوض، وغيرهما.
* * *
( 33 )
الجنة والنار
أمر الله
أنبياءه ورسله بأن يبلغوا عباده بأنه أعد للمتقين جنات النعيم، وللعصاة نار
الجحيم، وذلك تحقيقاً للعدالة في مجال الثواب والعقاب، فقال تعالى:
ﭐﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱠ [ آل عمران: ١٣٣]
ويقول
مخبراً عما أعده للعصاة:
ﱡﭐ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱠ [
آل عمران: ١٢]
ويقول:
ﭐﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﱠ [
النبأ: ٢١ – ٣٠]
وقد وردت في القرآن
الكريم عدة أسماء للجنة، منها: دار السلام، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱠ [ الأنعام:
١٢٧]
ويقول:
ﭐﱡﭐ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﱠ [
يونس: ٢٥]
وأُطْلِق عليها: دار
الخلد، لأن نعيمها باقٍ لا يفنى، يقول تعالى: ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ [ ص: ٥٤]
ويقول: ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱙ ﱠ [ الرعد: ٣٥]
ويقول: ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﱠ[ الحجر:
٤٨]
كما اشتهرت باسم
الفردوس، أو دار المقامة، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ [ المؤمنون: ١١]
ويقول: ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﱠ [ فاطر: ٣٣ – ٣٥]
كذلك أُطْلِق على النار أسماء عدة، منها: سقر، يقول تعالى: ﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚﱠ القمر: ٤٨]
ويقول: ﱡﭐ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱠ
[لمدثر:
٢٦ – ٣٠ ]
كما أُطْلِق عليها:
السعير، يقول تعالى: ﱡﭐ
ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱠ فاطر: ٦]
ويقول:
ﭐﱡﭐ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﱠ الشورى: ٧ ]
كذلك اشتهرت بالنار، وجهنم، والجحيم،
وغيرها من الأسماء التي لا يتسع المقام لحصرها كلها.
وقد اختلف العلماء في
خلق الجنة والنار قبل يوم القيامة، فأنكره جماعة من المعتزلة، زاعمين أنه لا فائدة
من خلقهما قبل يوم الثواب والعقاب، وحملوا قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱠ[ آل عمران:
١٣٣] على أنه من باب
التعبير عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه .
وذهب أهل السنة إلى
أن الجنة موجودة مخلوقة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﱠ [ آل عمران: ١٦٩]
فقد روى أن ابن
مسعود سأل عن هذه الآية، فقيل له: " إنه لما أصيب إخوانكم في أحد، جعل الله
أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد في أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل
من ذهب في ظل العرش ".
كذلك روى عن
أبى هريرة أن النبي e قال
" إذا جاء رمضان فُتِحَت أبواب الجنة، وأُغلقت أبواب النار، وصُفِّدَت مردة
الشياطين ". فهذه وغيرها من الآيات والأحاديث تثبت
وجود الجنة والنار الآن.
غير أن بعض العلماء سئل عن ذلك، فقال:
" السكوت عن هذا أفضل ". وهذا جواب سديد في هذا المقام، لأن ذلك من
الغيبيات التي لا يستطيع العقل البشرى أن يبحث فيها، يل عليه أن يسلم بالنص كما
هو، دون أن يحاول شرحه، أو التعليق عليه، لأن ذلك فوق طاقته.
* * *
( 24 )
الملائكة
من الغيبيات التي لا يتم إيمان المسلم إلا بها: الإيمان بوجود الملائكة،
لقوله تعالى: ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲥ ﱠ [ البقرة:
٢٨٥]
فمن لم يؤمن بوجود
الملائكة فهو كافر، لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. غير أن بعض
العلماء اختلفوا في طبيعتهم، فذهب الجمهور إلى أنهم مخلوقون من النور، اعتماداً
على حديث ورد في صحيح مسلم، وفى مسند الإمام أحمد بن حنبل. وذهب آخرون إلى أن
النور لا يمكن أن يجسد، لأنه أثر للنار، وعليه فالملائكة مخلوقة من النار،
واعتمدوا في ذلك على قوله تعالى: ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﱠ [ الحجر: ٢٧]
فقالوا: إن الله خلق طبيعتين: الإنسان
من الطين، والجان من النار، وفسروا الجان بأن ما جَنَّ، أي استتر، ولما كانت
الملائكة مستترة، لا ترى بالعين، فهي من الجان.
ولكن لم يلق هذا الرأي
قبولاً بين المسلمين، وظل الرأي السائد هو أن الله خلق الملائكة من نور، كما خلق
الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، والجان هم الجن الذين ذكرهم
الله في كتابه بقوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱠ [ الجن: ١ – ٢]
ولا يعقل أن يكون هؤلاء ملائكة، لأن
الملائكة مفطورون على العبادة، فلا يحتاجون إلى رسالة.
وعليه، فيجب الإيمان
– طبقاً لرأى جمهور العلماء – بالطبيعة الثالثة، الذين خلقهم الله من نور، كما يجب
الإيمان بأن الله فضل بينهم، فمنهم الملائكة المقربون، وهم: جبريل، وهو
الموكل بإبلاغ الوحى إلى الأنبياء والرسل، كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﱠ [ الشعراء: ١٩٣]
وميكائيل،
لأنه ذكر في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﱠ [ البقرة: ٩٨]
وإسرافيل، وهو الموكل بالنفخ في
الصور يوم القيامة.
كما يجب الإيمان بـ
مالك، خازن النار، لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ [الزخرف:
٧٧]
وخازن الجنة،
وقيل: إن اسمه رضوان.
كما يجب الإيمان
بخزنة النار، لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱼ ﲳ ﱠ [ المدثر: ٣٠ – ٣١]
والحفظة، لقوله
تعالى: ﭐﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱫ ﱠ [ الأنعام: ٦١]
وقوله : ﱡﭐ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚﲛ ﲶ ﱠ
[ الرعد: ١١]
والكتبة، لقوله
تعالى: ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱠ
[ الانفطار: ١٠ – ١١]
وجملة القول: أنه يجب الإيمان بمن ورد
اسمهم من الملائكة في القرآن الكريم، كما يجب الإيمان بأن هناك ملائكة آخرين لحمل
العرش، وملائكة لقبض الأرواح، وغيرهم.
والدليل على وجود
الملائكة ووجوب الإيمان بهم، ذكرهم في آيات عديدة في القرآن الكريم، وأمر الله
المؤمنين بأن يصدقوا بوجودهم جملة وتفصيلاً، فمن يكفر بهم، فقد تنكب الطريق
المستقيم، يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ [ النساء: ١٣٦]
كذلك ورد الإخبار بهم في أحاديث رسول
الله e ، منها ما رواه مسلم أن النبي e كان يقول في دعائه، عندما يقوم لصلاة
الليل : " اللهم رب جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ،
عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما
اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم ".
وقوله: " أطت السماء وحق لها أن
تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد ".
أضف إلى ذلك أن العقل لا يحيل وجود
الملائكة، خاصة وأن لهم آثاراً تدل على وجودهم، ومن هذه الآثار:
1.
وصول الوحى إلى الأنبياء والمرسلين، إذ كان
غالباً ما يصلهم بواسطة الروح الأمين، جبريل u
،
وهو الملك الموكل بالوحى .
2.
وفاة الناس بقبض
أرواحهم، فإنه أثر ظاهر، كذلك هو دال على وجود ملك الموت وأعوانه، يقول تعالى: ﱡﭐ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳖ ﱠ [
السجدة: ١١ ]
3. إجماع
الناس على أن عدم رؤية الشيء لضعف البصر، أو لفقد إمكانية الرؤية، لا ينفى وجوده،
فهناك الكثير من الأشياء المادية لم تُرَ إلا بعد
اختراع المنظار، فكذلك عدم رؤية الملائكة، لا ينفى وجودها، لأنه ليس لدينا من
الإمكانات ما يساعدنا على رؤيتها، ومادام قد أخبرنا الوحي بوجودها فيجب الإيمان
بها.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق