إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,243

الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

   O

البداية[1]

أ‌.       د/ محمد شامة

مسقط الرأس:

قرية "أبو الغيط" إحدى قرى محافظة القليوبية (مديرية القليوبية سابقاً) مركز القناطر الخيرية (مركز قليوب سابقاً) تقع في منتصف الطريق بين القاهرة والقناطر الخيرية؛ إذ يفصلها بين بداية شبرا، حيث ترعة الإسماعيلية 9 ك. م. وكذلك المسافة بينها وبين القناطر الخيرية، ويربطها بكلا الطرفين طريق زراعي يبدأ من شبرا الخيمة مارًّا بالشرقاوية ومصنع ياسين وأبو النجا وباسوس وعزبة شرارة حتي يصل إلى "أبو الغيط" ثم يجاوزها مارًّا بعرب "أبو الغيط" حتى التقائه مع الطريق القادم من قليوب فيلتقيا متجهاً غرباً حتى القناطر الخيرية. ويطلق على هذا الطريق: "الطريق الزراعي"؛ لأنه يمر بأرض زراعية، وتقوم على جانبيه أشجار باسقة، يصل بين الواحد والأخرى بضعة مترات. لا تقع القرية على الطريق مباشرة ولكنها تبعد عنه بــــ 800 متر تقريباً، يصلها به طريق يمتد غرباً متخطياً ترعة يطلق عليه ترعة أبو النجا لأن مياهها ترفعها من النيل لري المزروعات طلمبات تسمى: "طلمبات أبو المنجى" وبعد الترعة مصرف ثم شريط زراعي، وبعد هذا تبدأ بيوت القرية، وتقع القرية في حضن جسر النيل يوم أن كان عليها فرع من النيل يتفرع منه عند قرية باسوس ويمر عليه وعلى قرية الخرقانية، ويلتقي بمجرى النيل الرئيسي عند القاطر الخيرية مكوناً جزيرة تبلغ مساحتها الفين من الأفدنة تقريباً.   

قيل لي: إن عدد سكان القرية بتوابعها يبلغ 15 ألف نسمة. لا ترتفع بيوتها لأكثر من دورين، وبنيت معظمها بالطوب الأحمر، وفيها بعض البيوت مبنية على الطراز الحديث، أما بيتنا فيمتاز عما عداه في منطقته ببلكونة معلقة في الهواء على الجدار الخارجي ومثبتة بكتل خشبية في الحائط، وكان يطلق عليها "التراسينة"، فكان سكان القرية يعرفون الشارع بالذي فيه البيت أبو تراسينة، لأنه لم يكن في القرية كلها بيت له هذا المعلم إلا بيتنا.

     يدور حول القرية شارع كان يطلق عليه "داير الناحية"، وفيها شارعان يبدآن من الوسط أحدها يمتد من الشرق إلى الغرب، والآخر من الشمال إلى الجنوب، وهما متعرجان في أجزائهما، وعند نقطة التقائهما توجد ساحة يطلق عليها ميدان الجامع؛ لأن الجامع يقع على أحد طرفيه، ويعتبر هذا الميدان مركز تجارة القرية حيث يقع فيه محلات عديدة (بقالة وجزراة وحلاقة وغيرها)، ويقام فيه كل يوم جمعة سوق لبيع الخضروات والفاكهة وغيرها من البضائع التي يحتاجها أهل القرية في حياتهم.

     يعيش حوالي 90% من أهل القرية على الزراعة، ولا يمتلك الأرض التي يزرعها المرء سوى عدد قليل جدًّا، فأرض الزمام كلها أوقاف، وهي عبارة عن الجزيرة التي ذكرتها آنفاً ويطلق على قسمها الشمالي الذي يقع في حوزة القرية أوقاف أسما هانم حليم وأحياناً يقولون: أوقاف الخاصة الملكية أما الأرض المحيطة بالقرية فهي أيضاً أوقاف ولا أتذكر اسم هذا الوقف؛ إذن فمعظم سكان القرية يفلحون أرضاً ليست ملكهم، وإنما هي مؤجرة من الأوقاف، حيث يتعسف موظفو الأوقاف مع الفلاحين إذا تأخروا في دفع الإيجار.

سكان القرية:

يعيش في قرية "أبو الغيط" وتوابعها العديد من العائلات يصل عدد بعضها الآلاف من الأفراد، والبعض الآخر لا يتجاوز عددها بضعة أفراد، ولم يظهر على سطح أحداث القرية سوى خمس عائلات، وليس هذا راجعاً إلى كثرة عددها، بل إن بعض العائلات يفوق عددها عدد أيٍّ من هذه العائلات الخمسة، وإنما يرجع ظهورها على مسرح أحداث القرية إلى انتمائها للأحزاب السياسية، ذلك أن أحد كبار إحدى هذه العائلات كان متزوجاً من بنت وزير وفدي، ولذا تعصبت هذه العائلة لحزب الوفد، وحاولت السيطرة  -كلما جاء الوفد إلى الحكم- على اقتصاديات القرية  وذلك بالاستيلاء على مساحة كبيرة من أرض وقف المنشاوي، وانتزاعها من أيدي العائلات الأخرى، الأمر الذي جعل العائلات الأربعة تتكاتف وتنضم إلى حزب الأحرار الدستوريين، ومارست نفوذها عندما يُقْصَى الوفد عن الحكم فيستردوا ما أخذ منهم في عهد حكومة الوفد. وقد بلغ النزاع بينها حد استعمال السلاح فوقعت ضحايا عدة من كلا الجانبين واستمر هذا النزاع حنى منتصف خمسينات القرن العشرين.

     كان على باقي العائلات أن تنضب إلى أحد المعسكرين، فانضمت عائلة شامة ( وعددها يفوق عدد أي عائلة من هذه العائلات الخمسة) إلى العائلة الوفدية بحكم المصاهرة بينها وبين هذه العائلة، لكن أبي لم يتحزب بل ظل على علاقة طيبة مع الجميع ، فتزوج من بنات إحدى عائلات المعسكر المعادي للوفد، فكان ولاؤه بحكم وضع عائلته مع الوفديين، ومحتفظاً في الوقت نفسه بوضع المهادنة مع الأحرار الدستوريين.

     كان عائلتي من أكثر العائلات عدداً، لكن كثيراً من فروعها لم يتمتع بوضع اقتصادي متميز وإن كان كل أفرادها يعيشون عيشة طيبة اقتصاديًّا، فلا يعتبر من فروعها غنيًّا إلا فرع مرسي (جدي)، وإن كان كل أفراد فروعها الأخرى يمتلكون دخلاً معقولا يهيئ لهم حياة سعيدة نسبيًّا لكن لا يعدون من الأغنياء. كان جدي مرسي تاجراً متخصصاً في استيراد المواد الغذائية، وخاصة البطاطس، حيث يعتبر هذا النوع المستورد تقاوي للعروة الصيفية، وهيأت له ثروته تبوّء مكاناً وسط كبار عائلات القرية، فكانت له حظوة بينهم، خاصة وأنه (بجانب تجارته) كان يملك محلا للجزارة له المكان الأولى في سلسلة هذا النوع، بالإضافة إلى ذلك فقد كان يستأجر خمسة أفدنة من وقف أسما هانم حليم (الذي كان يطلق عليه: أرض الخاصة الملكية) لتأمين ما تحتاجه عجول الجزارة من أعلاف، وعندما كان يسأل لماذا لا تشتري أرضا تكون ملكاً لك بدلا من التأجير، كان رده دائماً أنه تاجر وليس فلاحاً وما يستأجره من أرض إنما لحاجة مواشي الجزارة فقط. لكن تجارته أصيبت بكارثة كبيرة في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، وطبقاً لما سمعته من أفراد الأسرة أن المراكب التي كانت تحمل بضاعته (حيث كانت تنقل ما يستورده من ميناء الاسكندر إلى القاهرة) غرقت في النيل -ولم أعرف السبب في هذا-مما أفقده معظم ثروته، فتوقف نشاطه في التجارة، وركز فقط في الجزارة، لكن حالته المادية اختلفت كثيراً بعد هذه الحادثة، لكن الناس اعتقدوا أنه سحب ما تبقى من أمواله من السوق ووضعها (تحت البلاطة) كما كانوا يطلقون على هذا التصرف، وبهذا ظل محتفظاً بوضعه الاجتماعي بين كبار رجال القرية.

     مات جدي في عام 1942م ولم يرث والدي كثيراً من ثروته، لكنه ورث الكثير من ثروة أمه، وبذلك ظل محتفظاً بالوضع المعيشي المستقر بما ورثه عن أمه، وكذلك من عمله في الجزارة وزراعة الخمسة أفدنة المؤجرة.

     في ظل هذه الظروف ولدت في 9/5/1932م وكنت رقم 2 في سلسلة أبناء عبد الغني مرسي شامة البالغين 8، أربعة أبناء وأربع بنات ترتيبهم كما يلي: بنت ولدت في 1929م، وأنا الثاني في 1932م، والثالث ولداً في عام 1935م، والرابع ولداً في عام 1938م والخامس ولداً، وهو الذي تخرج في كلية الطب جامعة القاهرة، أما الاثنان الآخران فاكتفيا بحفظ القرآن الكريم وإتمام المرحلة الإلزامية في مدرسة القرية، أما البنات الأخريات فكان تاريخ ولادتهم كما يلي: البنت الثانية 1944م والثالثة 1947م والرابعة 1952م.

     كل ما أتذكره من أول يوم ذهبت فيه إلى الكتاب أن عمتي حملتني على كتفها وأوصلتني إلى كُتًّاب الشيخ حسن أبو زيد وكان من أكبر كتاتيب القرية، فوجدت ساحة البيت مليئة بالأطفال مختلفي الأعمار وعلى مستويات متعددة في حفظ القرآن الكريم، فبعضهم كان في الجزء الأول والبعض الآخر في الثاني أو الثالث حتى من انتهى من حفظه كله فيصير عرِّيفاً. أما نحن الأطفال الصغار المبتدئين فكان مكانهم في غرفة من الطابق المسحور يفتح بابها على بسطة السلم.

     لم أتذكر شيئاً غير هذا من هذا الكُتَّاب، ثم تقفز الذاكرة إلى كُتَّاب الشيخ محمد الضرواني –وكان ضريراً-حيث كنت أتلو آيات القرآن الكريم عليه، فكان يهتم كثيراً بصحة نطق الآيات طبقاً لأحكام التجويد. ولا أنسى موقفاً في هذا الصدد؛ حيث طلب مني تكرار قوله تعالى: "وأرسلنا الرياح لواقح" طالباً مني أن أرقق الراء في قوله تعالى "الرياح"، وأعاد ذلك مراراً حتى استطعت أن أرققها كما يجب. مكثت في هذا الكُتَّاب حتى حفظت القرآن الكريم كله، وكنت صغير السن؛ فقد سمعت حين انصرافنا من الكُتَّاب حديث بعض الناس الذين كانوا جالسين على المصطبة في أول شارع الكُتَّاب، أحدهم يقول للآخر هذا الطفل –مشيراً إليَّ- يحفظ القرآن كله ، وموقف آخر في هذا الصدد: حينما زار جدي مع كبار رجال القرية المدرسة، طلب مني أحد المدرسين أن أقرأ أمامهم بعض آيات القرآن الكريم، هذا ما أتذكره من مواقف خاصة بحفظ القرآن الكريم، غير أني انقطعت عن الكُتَّاب وغادرت المدرسة بعد إتمام الدراسة بها، واستمر هذا ردحاً من الزمن إلى أن جاء موعد تقديم الطلب للالتحاق بمعهد القاهرة الديني، فعدت إلى الشيخ الضرواني كي يطمئن على درجة حفظي للقرآن الكريم لأستعد لدخول امتحان القبول في الأزهر الشريف فمكثت معه مدة حتى اطمأن على قدرتي على اجتياز هذا الامتحان فجزاه الله خير الجزاء وأثابه على ما قدمه لي من معونة لولاها ما كتب لي الوصول إلى هذه الدرجة العلمية.

     لم يكن في القرية سوى مدرسة إلزامية واحدة، وكان مقرها فيللا مؤجرة، بناها أحد الأعيان على الطراز الحديث بسور حديدي، وتشتمل على 6 حجرات + مخزن ومسقط نور علق فيه الجرس. لم أتذكر أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة لكني لا أنسى محمد أفندي البكليش خريج مدرسة المعلمين، وهو من أهل القرية، وكان يدرس لنا كل المواد، فهو كما يطلقون عليه: مدرس فصل. كان هذا المدرس المثل الأعلى لنا -نحن الصغار-فلم يألو جهدا في تعليمنا المواد التي كانت مقررة علينا؛ فلن أنسى أنه كان يعطينا قطعتي إملاء في الأسبوع. والذي ساعد على تذكري ذلك أننا كنا نتسابق في الحصول على أكبر عدد من النهاية الكبرى 10 على 10، فلا زال في ذاكرتي أني حصلت على النهاية الكبرى 49 مرة، ومرة واحدة حصلت على 9 من 10 لخطأ بسيط نزلت بسببه درجة. وكانت قطعة الإملاء مكونة من جزأين الأول نص يصل إلى صفحة ونصف تقريباً + 10 كلمات على الأقل، تحتوي كل كلمة على همزة، فتكون على الواو أو الياء أو الألف أو على السطر مفردة. وعندما أتذكر هذا أتحسر على انخفاض مستوى التلاميذ؛ لأن كثيراً منهم لا يحسن الكتابة البسيطة، فضلاً عن الكلمات ذوات الهمزة.

     فإلى هذا المدرس يرجع الفضل في مستواي الرفيع في الإملاء والمسائل الحسابية؛ فهو الذي راجع معي هاتين المادتين للتأهل لدخول مسابقة القبول في معهد القاهرة الديني، فجزاه الله خير الجزاء وأنعم عليه بفضله ورحمته جزاء ما بذل وأعطى من وقته في سبيل إعدادي لدخول مسابقة الالتحاق بالأزهر الشريف.

     هذه كانت بدايتي لدخول معهد القاهرة الديني لأتبوأ مكاناً لم يرد في خاطري لحظة، إنما هي المقادير كتبها الله لي فكان لابد من السير فيها تنفيذاً لأمر الله I .

 

                                                                         أ.د/ محمد شامة



1) التزمت  في توصيف الحالة بأسلوب سهل وبسيط بعيداً عن التعقيدات البلاغية، وخالياً من التعبيرات الأدبية حتى تصل إلى القارئ بأسهل الطرق، وأقرب المسالك إلى فهمه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...