O
بيت العائلة
محبة وتعاون
أ.
د/ محمد شامة
صدر قرار رئيس
الوزراء رقم 1279 لسنة 2011م بإنشاء هيئة باسم "بيت العائلة المصرية"،
يهدف إلى الحفاظ على النسيج الواحد لأبناء مصر، أي إزالة العوائق التي تحول دون
التكاتف والتعاضد بين أبناء مصر على اختلاف عقائدهم وتباين هوياتهم. وليس من
العوائق التي تحول دون ذلك عناصر الاتفاق؛ فهي بطبيعتها لا تفرق، بل إن ما يدفع
إلى التلاحم والتقارب وجود عناصر فكرية مشتركة؛ ذلك من طبيعة الحياة بين بني
البشر؛ فالأفكار المتشابهة تجذب الأفراد إلى عرينها، وترفع الحواجز بين الطوائف
والجماعات، ولذا فمن الخطأ البين حصر نشاط بيت العائلة في بيان ما تتفق عليه
الطوائف والأديان المختلفة، لأن ذلك يسبب فقدان الهوية عند العامة، وإزالة الحدود
المميزة لكل عقيدة، وضياع معالم العقيدة التي تفصلها عن غيرها؛ فالكل متساوٍ،
وعليه فلا حرج من الانتقال من دين إلى آخر، ومن مذهب إلى ما يقابله؛ لأن كل
الأفكار واحدة، فليس هناك ما يميز واحد عن الآخر، فتكون النتيجة أن يصبح المرء على
عقيدة ويمسي على أخرى، فلا يوجد تمايز بينهما وليس هناك ما يخالف الآخر، فالكل
سواء. فتلك هي النتيجة التي تصل إليها دعوة الاتفاق في كل شيء بين عامة الناس، أما
الخاصة فينظرون إلى هذه الدعوى –أي الاتفاق في كل شيء – نظرة ريبة وشك، فهم
يعتقدون من خلال دراستهم ومعرفتهم بالفكر البشري عدم صحة دعوى الاتفاق الكامل بين
الأفكار والرؤى، سواء كانت اجتماعية أو دينية، بل في أي مجال من مجالات الحياة
الإنسانية.
فالنضج في
المجتمع والتقدم على طريق الحضارة الفكرية والمادية يقوم أساساً على تنوع الأفكار
باختلافاتها المتعددة؛ فلم تنضج حضارة وتزدهر إلا على أساس التنوع الفكري، واختلاف
في الآراء، وتعدد الرؤى في جميع المجالات المادية والروحية؛ فدعوة اتفاق الأديان
في أسسها الفكرية، والتطابق بينها في نظرتها إلى الوجود، ومسيرتها لتقدم الشعوب
ومسيرتها التاريخية لا تقبلها صفوة المفكرين على الإطلاق، فإذا سمعوا نبرات
الاتفاق من الداعين-مهما كان موقعهم في المجتمع- ساورتهم الشكوك في هذه الدعوة، بل
ربما يرمون هؤلاء الداعين بالنفاق والتزلف إلى من بيده العطاء والمنع.
اختلاف الرؤى
وتباين الأفكار من الأسباب الرئيسية لتقدم الشعوب وتطورها؛ فالاختلاف الفكري ضروري
جدًّا، ومفيد سياسيًّا واقتصاديًّا وفلسفيًّا وثقافيًّا، بل ودينيًّا أيضاً.
فالعلماء-في جميع المجالات الفكرية-ليسوا أصحاب فكر واحد، فالاختلاف إذا كان
خالياً من التعصب وبعيداً عن فرض الرأي على الآخر بالقوة فهو إيجابي، وإن خلا من
التسامح وقبول الآخر فهو سلبي، وقد يكون مدمراً للحركة الثقافية؛ فهو لا يقل سلبية
عن الالتزام بالرأي الواحد؛ فهما-أي التعصب للرأي وفرضه بالقوة، وسيادة الرأي
الواحد في المجتمع-من العوامل الأساسية في تخلف المجتمع، وانحداره إلى أسفل سلم
الحياة البشرية، وذلك بتجمده وانغلاقه أمام الآراء المختلفة، ولذا خلق الله
البشرية، وأودع فيهم الاختلاف في الأفكار وتعدد في الاتجاهات الثقافية، فقد اعترف
الإسلام بوجود هذه الظاهرة بين الخلق، فقال تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱑ ﱒ ﱓ
ﱠ [هود: ١١٨-119] ،
أي أعطاهم حرية التفكير لأن ذلك أساس التكليف، أي أن الحرية في التعبير عن الآراء
أصل التكليف، فخلقهم على هذا النحو، أي أعطاهم الحرية في اختيار العقيدة، فضَلَّ
أكثرهم، واختار بعضهم العقيدة الصحيحة برحمة الله وتوفيقه لهم؛ فهم أناس هداهم
الله ولطف بهم فاختاروا دين الحق، ولكن لم يعلن الله الحرب على المخالفين لمجرد
مخالفتهم لأوامر الله، بل لأنهم أرادوا الضغط على الآخرين ليسايروهم في أفكارهم،
بل إن تسامحهم بلغ حدًّا لم يرد في أي اتجاه فكري على مدى تاريخ الإنسانية عبر عنه
القرآن الكريم بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ [سبأ: ٢٤]،
فتعبيره على هذا النحو دليل على عدم احتقار الآراء الأخرى حتى ولو كانت مخالفة
لعقيدتنا، وهذا يبين لنا أننا يجب علينا عدم إجبار الآخرين على اتباع عقيدتنا ، بل
نترك لهم الحرية في اعتقاد ما يرونه صحيحاً، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬﱭ ﲂ ﱠ
[الكهف: ٢٩]
قد يقول قائل: إن الحضارة الحديثة سلكت
هذا المسلك، فأعطت لكل واحد الحرية في التعبير عن آرائه، حتى ولو كان مخالفاً لرأي
الجمهور بل إنه حمى صاحب الرأي المخالف ودافع عنه ليمكنه من الجهر بما يراه؛ فقد
قال فولتير: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك
في التعبير عن رأيك"، أليس هذا مطابقاً لما عبرت عنه الآية رقم 24 من
سورة سبأ؟ لا، بل يوجد اختلاف جوهري بين الآية وبين ما عبر عنه فولتير؛ فاختلاف
الزمن يعطي لما عبرت عنه الآية –بصرف النظر عن الفرق الكبير في وضعية المصدر؛ فهذه
صادراً عن الإله وما قاله فلتير رأي بشر-أفضلية كبيرة؛ فزمن نزول الآية كان خالياً
من معاني التقرب بين المخالفين بل كان السلاح هو الأسلوب السائد بين المخالفين في
الآراء، وخاصة في المجال الديني، أما عصر فولتير فكانت نغمة التعايش السلمي بادية
على الساحة الفكرية. أما الفرق بين التعبيرين فهو كبير جدًّا؛ فتعبير فولتير يعطي
الحق لصاحب الرأي المخالف في التعبير عن رأيه، أما التعبير القرآني فيتجاوز ذلك
بأفق كبير لم يستطع المخالفون في الآراء تجاوزه أو البدء في قطع خطوة واحدة فيه؛
ذلك أنه عبر عن إمكانية صواب رأي من يخالفني في الرأي وخطأ رأيي، وتلك ظاهرة في
عالم تداول الأفكار لم يصل إليها حتى الآن اتجاه فكري، سواء كان اجتماعيًّا أم
دينيًّا، وتلك خطوة يجب على الناشطين في بيت العائلة أن يدركوها ليمارسوا نشاطهم
مع المخالفين على أساسها لتسود المحبة بين أبناء الوطن الواحد، بل بين أبناء
البشرية جمعاء، ليمهدوا طريق التعاون على البر والتقوى بينهم ، وتزول ظاهرة العنف
والتشدد من المجتمعات الإنسانية.
هذا هو المبدأ الذي يجب على القائمين والناشطين
في بيت العائلة أن يتبعوه: اعتراف بالاختلاف، واحترام الرأي الآخر، وعدم إجبار
صاحبه على ترك رأيه واعتناق رأيك، لكي يسود الوئام بين أفراد الأمة، بل بين البشر
قاطبة؛ لأن الاختلاف في الرؤى، والتباين في الأفكار سنة الله في خلقه، أودعها الله
في بني الإنسان لتتقدم البشرية، وتسمو في تصوراتها الفكرية، وإنتاجها المادي
والخلقي. فلو أراد إنسان جمع الشرية، بل جمع أبناء الوطن الواحد، أو حتى أفراد
الطائفة الواحدة على فكر واحد لساد الخمول والسكون جنبات المجتمع، وتدهورت معالم
الحياة، فيسقط المجتمع في مهاوي التجمد والانغلاق، وفي ذلك موت لكل الأحياء. كذلك
الصراع في الأفكار، والتعصب للرؤى يؤدي إلى الانهيار. فافهموا الرأي الآخر،
واحترموه، ولا تتعصبوا لآرائكم، كي تسود المحبة بينكم، وتتآلف القلوب، فتسمو
الحياة، ويرتاح الناس فيأمنوا على حياتهم؛ لأن احترام الرأي الآخر من الأسباب
الرئيسية في منع اشتعال الحروب، فارحموا أنفسكم بالبعد عن التعصب لآرائكم،
فتتقاربوا وتتحابوا فيسود السلام بينكم، وتتمكن الطمأنينة من قلوبكم؛ فتعيشوا إخوة
متحابين رغم اختلافكم في الرؤى، وتباين اتجاهاتكم في الأفكار، بل إن ذلك سيدفعكم
إلى التعاون فيما يعود نفعه عليكم، والتعاضد لدفع أي خطر يقترب من عرينكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق