إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,255

الأربعاء، 2 ديسمبر 2020

 

O

الزكاة حماية للمجتمع 

                                                                             أ. د/ محمد شامة

يحتل المال مركزاً رئيسيًّا في  الحياة البشرية ، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أم في حياة المجتمع ؛ إذ يتوقف عليه النشاط الإنساني في جميع مجالات   الحياة ، وبه تدور عجلة تاريخ الأمم ، فمن لا ثروة له ، فلا تاريخ له ، إذ به تقام الحضارات التي يسجلها تاريخ الأمم والشعوب ، وعليه تشيد المدنيات التي يفخر أصحابها بتدوينها في صفحات تاريخهم ، وفى الوقت نفسه فهو مصدر لمعظم المآسي التي تصيب الإنسان ، ومصدر كثير من الشقاء الذى يعانى منه الأفراد والجماعات ، سواء كان ذلك في مشقة الحصول عليه ، أو في كثرته كثرة تدفع إلى الفساد والطغيان .

فمن يحرم منه، ويعانى في سبيل الحصول على قسط منه يقيم أوده، ويحفظ عليه حياته، فهو معذب في حياته، ومن يحصل على قسط وافر عن طريق غير مشروع فقد ظلم نفسه، وذلك بإماتته الروح الإنسانية في داخله، إذ هو قد سلب الآخرين حقوقهم عن طريق الغش والخداع، وبأسلوب يتنافى مع ما تقتضيه العدالة، وتحتمه الفضيلة على الإنسان، كذلك من ينفقه في وجوه غير مشروعة، فهو يدمر نفسه، ويعمل على انهيار مجتمعه.

ولهذا ركزت الأديان في كثير من تعاليمها على تنظيم التعامل مع المال ، سواء في الحصول  عليه ، أم في إنفاقه، فجاءت الوصية في الإسلام بأن يلتزم الإنسان بالأمانة في التعامل في مجال المال مع الآخرين ، فلا يخدع أحداً ، ولا يظلمه ، سواء كان بائعاً له ، أو مشترياً منه ، فإن لم يفعل ، فسينتظره عقاب أليم في الآخرة ، يقول تعالى : " وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ " [المطففين : 1 - 5]

ويقول: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ..... " [النساء: 29]

و لكى لا يتركز المال في أيدى طبقة محدودة في المجتمع، فرض الله عدة صور من شأنها تفتيت الثروة، وإعادة توزيعها على أكبر عدد ممكن، ليعتدل ميزان الثروة في المجتمع، فلا يميل إلى ناحية دون أخرى، وليحصل كلٌّ على نصيب يساعده على مواجهة مطالب الحياة، كما أن في هذا التوزيع إرضاء للمحرومين، وإطفاء لنار الحقد لدى المحتاجين، وفى ذلك استقرار لحياة المجتمع، وأمن وأمان لمن حُرِم من المال، ونزع لفتيل ما يسمونه " ثورة الجياع ".

ويقوم توزيع الثورة في الإسلام على النقاط الرئيسية التالية :

أ. الميراث ، ففي قوله تعالى : " يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ " [النساء : 11 - 12] ففى هاتين الآيتين والآية رقم 176 من نفس السورة وكثير من الأحاديث النبوية تفتيت للثروة بتوزيعها على عدة أفراد بعد أن كانت مركزة في يد فرد واحد .

ب -الزكاة، فقد ورد الأمر بإخراجها ووصف المؤمنين بأنهم هم الذين يؤدونها في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثين آية. وليست الزكاة فضلاً يتفضل بها الغنى على الفقير ، بل هي حق للفقير في مال الغنى ، يقول تعالى : " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ " [المعارج 24 - 25] ، فهي واجبة يؤديها الغنى للدولة لتقوم بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، فإن امتنع عن أدائها ، فإن الحاكم مطالب بإلزامه بأدائها ، حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة في ذلك ، فما فعله أبو بكر الصديق مع الممتنعين عن أدائها سنة ينبغي الاقتداء به فيها ، بل هو واجب على الدولة الالتزام به تطبيقاً لقول أبي بكر الصديق t " والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله e لقاتلتهم عليه." ([1])

وحُدِّدَت الأصناف التي تجب فيها الزكاة بأربع مجموعات:

          المجموعة الأولى: الذهب والفضة (أو المال المدخر)، وتجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب، وهو بالمقادير الحديثة ما يعادل 85 جراماً في الذهب، ومائتي جرام في الفضة، واتفق الفقهاء على أنه لا تجب الزكاة في غيرهما من المعادن كالماس والزبرجد وما يشابهما. غير أنى أرى أنه قياساً على الذهب والفضة تجب الزكاة في المعادن النفيسة الأخرى إذا بلغ ما يملكه المسلم منها ما يعادل نصاب الذهب أو الفضة، وذلك طبقاً لما يفهم من قوله تعالى: " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ " [المعارج 24- 25] ، فهذه المعادن أموال ، للفقراء والمساكين حق فيها ، يجب على مالكها إعطاءه لهم ، وإلا حق عليه العذاب الذى ورد في الآية 35 من سورة التوبة على رأى كثير من المفسرين .

كذلك تجب الزكاة في كل ما يخرج من باطن الأرض من معادن كالحديد والقصدير وغيرهما، ففيه الخمس، أي يُعْطَى قيمة خمس ما يُسْتَخرَج من الأرض للفقراء والمساكين، ويأخذ البترول حكم ما يستخرج من باطن الأرض من معادن، ففيه الخمس، وعليه فيجب على كل الأنظمة والمؤسسات الإسلامية التي تستخرج البترول إخراج قيمة الخمس منه للفقراء والمساكين، فإن لم يوجد محتاجون في منطقة الاستخراج، يعطى لفقراء القطر الذى يليه ثم الذى يلبه ..... فإن فاض يُسْتَثْمَر في مشروعات يُنْفَق عائدها في سبيل الله.

          المجموعة الثانية: الزروع، كالحنطة، والشعير، والتمر، وهذه هي الأصناف التي حددها الفقهاء في مجال إخراج الزكاة من هذه المجموعة. وأرى أن هذا التحديد أملته ظروف بيئية، حيث لم يكن هناك أصناف من الزروع   غيرها ، أما في العصر الحديث فقد استحدثت أنواع أعلى  قيمة ، وأكثر ربحاً من هذه الأصناف ، كالفواكه بأنواعها المتعددة ، وخضروات عدة ، استحدثت ويربح منها الزراع أضعاف ما يربحون من الحنطة والشعير والتمر ، فمن غير المعقول ألا يُفْرَض فيه نصيب للفقراء والمساكين ، فهذا إجحاف في حق طبقة عريضة في المجتمع ، تحتاج إلى ما يساعدها على مواجهة الحياة والعوز، وعليه فتجب الزكاة أيضاً في كل أنواع الزروع ، إذا بلغ إنتاجها ما يعادل – ماديًّا– نصاب الحنطة .

        المجموع الثالثة : البهائم كالأبقار والأغنام والإبل ، واقتصر الفقهاء على هذه الأنواع الثلاثة ، لأن الثروة الحيوانية في العصور القديمة كانت مركزة في هذه الأصناف ، أما الآن ، فقد ظهرت استثمارات في أنواع أخرى تدر من الربح ما يفوق أضعاف ما يكسبه المرء من الأصناف الثلاثة السابقة ، ولذا تجب الزكاة في هذه الأنواع الجديدة التي ظهرت على ساحة الاستثمار كالدواجن والبط وغيرهما ، إذا بلغ ما يملكه المرء منها نصاباً يعادل قيمة نصاب أي نوع من الأنواع التي حددها الفقهاء في العصور القديمة كأصناف تجب فيها الزكاة .

         ومما تجدر الإشارة إليه أن الخيل ليس فيها زكاة – بنص الأحاديث الواردة في ذلك -، لأنها كانت تستخدم في الحرب، فأعفى صاحبها من الزكاة فيها تشجيعاً للناس على تربيتها وتنميتها لتقوية الجيوش الإسلامية، أما في العصر الحديث فلم يعد لها دور يذكر في المعارك الحربية، ولذا تجب فيها الزكاة، إذا بلغت قيمة ما يملكه المسلم منها ما يعادل قيمة النصاب في أي نوع من الأنواع الثلاثة التي حددها الفقهاء، وهى: الأبقار، والإبل، والأغنام.

المجوعة الرابعة:

أ - الكفارة ، فقد فرض الله إخراج جزء من المال للفقراء تكفيراً عن خطأ وقع فيه المسلم ، والكفارات متعددة ومتنوعة ، نظراً لتعدد الأخطاء وتنوعها ، مثل : كفارة  اليمين ، وكفارة الظهار ، وكفارة الإفطار عمداً في رمضان، وغيرها من الكفارات التي تسهم إلى حد ما في توزيع الثروة ، وسد حاجة الفقراء والمساكين في المجتمع .

ب - الصدقة، ورد الأمر بها والحث عليها في آيات عدة من القرآن الكريم ، منها قوله تعالى "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ..." [التوبة : 103] .. أي تطهرهم من الآثام والأدران، وتزكيهم بالصدقة التي تنقى النفس من الشح والطمع وعبودية المال، وتغرس في المتصدق الميل إلى العطف على المحتاجين، والبر بهم، وتنمى في نفوس الفقراء حب الأغنياء واستعدادهم للدفاع عن أموالهم، لأن لهم فيه نصيب، فيسود التعاطف والتآلف بين طبقات المجتمع. ولا تكون هذه الفوائد في الصدقة إلا إذا أخرجها المتصدق، وهو صحيح، يغالب غواية الشيطان له بالحرص على المال، وتحذيره له من الفقر والعوز، فقد روى أن رجلاً جاء إلى النبي e  فقال: " يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: " أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان." ([2]) ، بل إن الله تعالى سوى بين الأمر بالصدقة والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، مبيناً أن لا فائدة من الدعاء والتقرب إلى الله بالمناجاة إلا إذا كان ذلك مقروناً بالأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ، أي لا يكون هناك فائدة من الدعاء إلا إذا كان ذلك مقروناً بعمل شيء يكون فيه فائدة للمجتمع كالتواصي بإخراج صدقة ، أو الأمر بالمعروف ، أو السعي للإصلاح بين أفراد المجتمع ، يقول تعالى : " لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " [النساء : 114] ، فقد سوى الله بين الأمر  بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والإصلاح بين الناس ، لأن الثلاثة دعائم للمجتمع الصالح ، المتماسك البنيان ، المتآلف الطبقات ، الذى يشيع الحب والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بين أفراده ومؤسساته المختلفة، فلا غل ، ولا حقد ، ولا حسد ، لأن الكل يحصل على ما يحتاج إليه في حياته، ويشعر بأن له مما في أيدى الأغنياء نصيب يحصل عليه ، دون امتهان أو احتقار ، فإن تقاعس من بيد المال ، ولم يؤد للفقير حقه  ، كان هناك من يأمره  بذلك ، لأن الأمر بالمعروف واجب ديني ، كما أن الإصلاح بين الطبقات مفروض أيضاً.

جـ -والإنفاق في سبيل الله، يقول الله تعالى: " وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [البقرة: 195]، فعموم لفظ الآية يفيد أن المؤمن مأمور من الله بأن يخرج جزءاً من ماله في سبيل الله: في تجهيز الجيوش التي تدافع عن المجتمع الإسلامي، في بناء المساجد، في رعاية الأيتام، في تأهيل الأحداث، في تشييد الطرق، وغيرها من المجالات التي يجب دعمها بالمال – والجهد – لكى تؤدى وظيفتها في المجتمع. ومما لاشك فيه أن المجتمعات التي ترعى شعوبها المؤسسات الخيرية ، وتدعم الهيئات التي ترعى مصالح الناس ، وتهيء لهم الخدمات اللازمة للحياة ، ويتساند أفرادها في تعمير الأرض ، والمحافظة على البيئة ، وتنميتها زراعيًّا ، وصناعيًّا ، وحراسة إنجازاتها في جميع  المجالات ، هي مجتمعات متماسكة البنيان، لا يتطرق الضعف إليها في أي جانب من جوانب حياتها ؛ لأن هناك من يقوم على حراستها ، ودعمها بالجهد والمال ، وهذا هو مفهوم هذه الآية : الإنفاق – مالاً وجهداً – في سبيل الله ، ويشمل جميع مجالات الحياة حتى لا ينهار المجتمع ، فيهلك أفراده .

ولا يقتصر مفهوم الإنفاق على الزكاة والصدقة والإحسان ، بل يندرج تحت مفهوم الإنفاق أيضاً : استثمار المال وعدم كنزه ، لأن كنز المال يضعف النشاط الاقتصادي ، بل يصيب الاستثمار بالشلل ، ولو كنز كُلٌّ ماله لانهار المجتمع ، لأن المال يمثل عصب الحياة ، وذلك بحركته في تمويل المشروعات الصناعية والتجارية وغيرهما من فروع الاستثمار ، بل إنه يعتبر قلبه النابض  بالحياة ، حيث يضخ الدم في شرايين المجتمع بالإنتاج الذى يوفر فرص العمل كي يعيش الناس ، فالمال ، وإن كانت ملكيته خاصة ، إلا أن منفعته عامة ، فلا ينبغي لمالكه أن يشل حركته في المجتمع ، بل يجب عليه دفعه في دولاب الاقتصاد المتحرك في التجارة والزراعة والصناعة وغيرها من الأنشطة   الاقتصادية ، فإن لم يفعل ذلك بحبسه في خزائنه ، فسوف يعاقبه الله عقاباً  أليماً ، حتى وإن أخرج زكاته، لأن حق المجتمع في المال أن ينتفع به في مجال الاستثمار، يقول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ " [التوبة : 34 - 35]. 

الإسلام دين ودنيا ، عبادة وعمل ،وتنظيم للحياة للاستمتاع بمحاسنها وللوقاية من شرورها وآثامها ، وليس المفهوم من هذا التنظيم أن يشرح كل دقائقها، ويبين تفصيلاتها وأجزائها ، وإلا كان خاصا بزمن معين ، ولمجتمع  بذاته، لأن حياة المجتمعات تتفق في المبادئ العامة، وتختلف في التفصيلات والفروع، كلٌّ حسب بيئته، وطبقاً لمقتضيات عصره ؛ فالعصور مختلفة ، والبيئات متفاوتة ، وطبيعة عناصر الحياة متطورة ومتجددة ، فلو حدد الإسلام الجزئيات وبين الفروع لكان ذلك منافياً لفلسفة الحياة ، ومناقضاً لمتطلباتها المختلفة ، وآفاقها المتنوعة ، ولصار ذلك حجرا على العقول من أن تمارس قدراتها في شرح المبادئ العامة التي صاغها الإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ، ومن أمثلة ذلك ما جاء في آيتي التوبة 34 ، 35 ، ذلك أن المفسرين القدامى فسروهما على وجهين :

          الأول: أن المقصود بالكنز هو عدم زكاة المال، مستدلين على ذلك بالنصوص التالية:

1.  قوله r : " ما أُدِّى زكاته فليس بكنز، وإن كان باطناً، وما بلغ أن يُزَكَّى ولم يزكَّى، فهو كنز، وإن كان ظاهراً "

2.      قال عمر بن الخطاب t :  ما أُديت زكاته فليس بكنز .

3.      وقال ابن عمر: كل ما أُديت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز، وإن كان فوق الأرض.

4.      وقال جابر: إذا أخرجت الصدقة من مالك، فقد أذهبت عنه شره، وليس بكنز

5.      وقال ابن عباس في قوله تعالى: " وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ... " [التوبة: 34] يريد الذين لا يخرجون زكاة أموالهم.    

خاطب الإسلام جميع الناس على اختلاف قدراتهم العقلية ، وتنوع أفكارهم الاجتماعية ، فكان صالحاً للخلق أجمعين على هذه الأرض ، مهما اختلفت ثقافاتهم ، وتنوعت نظم حياتهم ، وتباينت عاداتهم وتقاليدهم ، لأنه من العليم القدير، العليم بقدرات خلقه الفكرية، القدير على صياغة الوحى بأسلوب يفهمه كل إنسان على وجه البسيطة، فجاءت آيات القرآن الكريم على نحو صالح لكل الثقافات والبيئات ، فيفهمها ويفسرها، ويستنتج منها أحكاماً تلائم عصره ، وتتوافق مع متطلبات بيئته ، وذلك هو قمة الإعجاز ، الذى انفرد به القرآن الكريم ؛ فقد فسر علماء العصر الإسلامي الأول آيتي التوبة 34 ، 35 على نحو يلائم عصرهم ، فذهبوا إلى أن المقصود بالكنز ، هو المال الذى لم تُؤدَّ زكاته ، - كما بينا في الفقرة السابقة - أو المال الزائد عن حاجة مالكه لقول العلماء السابقين :إن الله تعالى خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات ، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ، ثم جمع الأموال الزائدة عليه ، فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته ، ومنعها من الغير الذى يمكنه أن يدفع حاجته بها ، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعاً من ظهور حكمته ، ومانعاً من وصول إحسانه إلى عبيده .

ومما لاشك فيه أن هذا القول مردود بعموم قوله تعالى:" لها ما كسبت " [البقرة: 286]، فإن ذلك يدل على أن ما اكتسبه الإنسان فهو حقه، وكذا قوله تعالى: " وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ " [محمد: 36]، وقوله r: " كل امرئ أحق بكسبه "، بل إنه منع من أراد الوصية بماله كله من ذلك، وأقره على الوصية بثلث ماله قائلا له: " والثلث كثير!!!".

أما علماء العصر الحديث فلهم رأى آخر، ألا وهو: أن الضمير في " ينفقونها "، عائد على جملة الذهب والفضة في قوله تعالى : " والذين يكنزون الذهب والفضة " ، التي يملكها الإنسان ، إذ لا يجوز عود الضمير على بعض الذهب والفضة ، وهو الجزء المستحق للفقراء كـ " زكاة " ، ولم يرد في الكتاب والسنة ما يوجب على المسلم أن ينفق كل ماله ، بل الذى ورد عكس ذلك ، فقد روى عن سعد بن مالك عن أبيه قال : " عادني النبي r عام حجة الوداع من مرض - أشفيت منه – أشرفت منه على الموت ، فقلت : يا رسول الله ! بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا! قال: أفأتصدق بشطره؟   قال: لا!  قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس .... " ([3])  

كذلك لا يتناسب العقاب الذى ورد في الآية: " يوم يحمى عليه في نار جهنم ... الخ " مع الإثم الذى يرتكبه من لم يؤد زكاة ماله ، فلم يرد ذلك صريحاً في القرآن الكريم والسنة النبوية  الشريفة ، ولا فيما استنتجه علماء الفقه الإسلامي منهما من أحكام ، وعليه فالعقاب الوارد في الآية لابد أن يكون عقاباً على إثم يفوق إثم من لم يؤد زكاة ماله ، بل إنه لابد أن يكون إثماً عظيماً يتعدى أثره أسرة ، أو مجموعة صغيرة من الناس يحتاجون إلى ما يسدون به رمقهم ، إثم يترتب عليه انهيار المجتمع ، وموت الحياة فيه كلية ، هذا هو الإثم الذى يستحق من يرتكبه هذا العقاب الأليم ، وهو ما يفهم من الآية ، عندما فسر العلماء في العصر الحديث كلمة " ينفقونها " بـ " يستثمرونها "، إذ حجب المال عن الاستثمار بكنزه ، أي بوضعه في الخزائن دون تركه يعمل في الحركة الاقتصادية ، يشل حركة المجتمع ، ويوقف قلبه النابض ؛ إذ لو تصورنا – على سبيل المثال – أن كل من يملك مالاً وضعه في خزائنه ، لمات الناس جوعاً، بمن فيهم من يملك المال، لأنه – وهم أيضاً – لن يجدوا ما يأكلونه ، إذ لا تكون هناك تجارة ، ولا زراعة ، ولا صناعة ، ولا أي عمل من أي نوع كان ، لأن حياة هذا كله هو المال . ولما كان هذا هو وضع المال وأثره في حياة الأمة، كان جزاء من يمنعه من تأدية هذه الوظيفة: أن تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، لأن ذنبهم لم يقتصر على حرمان واحد أو اثنين مما يحتاجه في حياته، بل هو حرمان أمة بأسرها، بل هو سبب في موتها وهلاكها كلية.

وعليه فيجب على المسلم وجوباً عينيًّا أن يستثمر المال في التنمية ، أو يوكل غيره – كالبنوك مثلاً – إن كان لا يقدر على ذلك ، فلا يمنع الأمة من الانتفاع بهذا المال ، وهذا هو معنى المبدأ العام في الفقه الإسلامي " المال ملكيته خاصة ، ومنفعته عامة " ، أي أنه ملك خاص لصاحبه ، ولكن الأمة كلها تنتفع به ، فالعامل – أيًّا كان عمله – ينتفع به ، لأنه هيّأ له عملاً يعيش منه ، والزارع ينتفع  به ، لأنه أتاح له الأرض الذى يفلحها ، والتاجر يجد ما يسد به حاجته وما يلزم أسرته من التجارة في المنتج : زراعة وصناعة وغيرها من مناحي الإنتاج في المجتمع ، بل إن التقدم العلمي الذى تعود نتائجه بالرخاء وتيسير مناحي الحياة كلها ، يقوم على استثمار المال في البحوث العلمية التي تعمل على اكتشاف ما في ظواهر الكون من عناصر لتسهيل حركة الحياة .

ولكي ينتفع المسلمون بمالهم يجب استثماره في الأقطار الإسلامية، فلا يجوز وضعه في بنوك أجنبية، أو استثماره في بلد غير إسلامي إلا إذا كان في ذلك جانب من جوانب منفعة ، تعود على المسلمين ، لأن الاستثمار في بلاد غير إسلامية هو حرمان المسلمين من حقهم في الانتفاع بمواردهم الاقتصادية ؛ فبلاد المسلمين في حاجة ملحة إلى كل درهم ، للتنمية الاقتصادية ، فنسبة البطالة في العالم الإسلامي مرتفعة جدًّا ، ومستوى المعيشة منخفض جدًّا ، ووسيلة علاج ذلك هو المزيد من الاستثمارات، فإذا استثمر أصحاب الأموال أموالهم في بلاد غير إسلامية، استفحلت مشكلة البطالة في الأقطار الإسلامية، وتدهورت مستويات المعيشة ، مما يؤدى إلى ضعف المسلمين وانهيار حياتهم ، فلا يستطيعون رد غازٍ ، ولا يقوون على حماية بلادهم من الطامعين ، بل إنهم لن يكون في وسعهم حماية عقيدتهم ، وعند ذلك يكون العقاب الذى تحدثت عنه الآية : " يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ   وَظُهُورُهُمْ .." [التوبة: 35] موازياً لما ارتكبه أصحاب الأموال من إثم في حق شعوبهم الإسلامية. بل إن التقدم العلمي الذي تعود نتائجه بالرخاء وتيسير مناحي الحياة كلها، يقوم على استثمار المال في البحوث العلمية التي تعمل على اكتشاف ما في مظاهر الكون من عناصر لتسهيل حركة الحياة.

أ‌.       د/ محمد شامة



([1]) صحيح البخاري جـ 6 رقم 6855

([2]) صحيح البخاري: جـ 2 رقم 1353

([3]) صحيح  البخاري: جـ 3 رقم 3721

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...