O
في الحج صفاء نفوس المسلمين ووحدتهم
أ. د/ محمد شامة
راعى الإسلام في إلزامه المسلم بالتعاليم الدينية قدرة الإنسان واستطاعته، لأنها – أي التعاليم – من لدن الحكيم الخبير، العليم بمن خلقه، الرحيم اللطيف به، فلم يفرض عليه ما تعجز قدرته على القيام به، ولهذا نجد كثيراً من الآيات في القرآن الكريم توضح هذا الجانب أبلغ توضيح، يقول تعالى : ﭐﱡﭐ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﲁ ﱠ [المائدة : 6 ] ، أي ليس في الدين مشقة ، وليس في أداء الواجبات الدينية عسر ، فهي في حدود طاقة الإنسان ، ولذلك سقطت عمن يعجز عن تأديتها ، يقول تعالى في فريضة الصوم : ﭐﱡﭐ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﲆ ﱠ [البقرة:١٨٤ ]، أي الذين لا يطيقون الصيام ، فيجوز لهم الإفطار مع التعويض بإطعام مسكين عن كل يوم يفطرونه ، كما وضح القرآن الكريم عقب الحديث عن إلزام المؤمن بتأدية الفروض ، أن الفرض يلزم تأديته في حال الاستطاعة فقط ، يقول الله تعالى : ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲶ ﱠ [البقرة : 185 ]، ويقول : ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲮ ﱠ [آل عمران : 97 ] ، فأطلق الاستطاعة في الآية ، لتشمل جميع النواح المادية ، والأمنية ، والنفسية ، والأسرية ، فمن استطاع ماديًّا ، ولكن لا يأمن على نفسه ، أو يظن خطراً يلحق بأسرته بسبب غيابه عنهم ، لا يجب عليه الحج حتى يزول الخطر على نحو يكون الأمن مؤكداً له ، ولمن تحت ولايته ورعايته . وكذلك في كل الأمور الشرعية، يسقط الإلزام عند تعسر القيام بالفريضة، أيًّا كان النوع الذى يحول بين المسلم وبين تأديته الفريضة، فعلى سبيل المثال: تسقط صلاة الجمعة عن المسلم -ويؤديها ظهراً – إذا وجدت ظروف لا تمكنه من الذهاب إلى المسجد، مثل:
- المرأة، لا تجب عليها صلاة الجمعة، لانشغالها بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، فلا يجب عليها الذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، وإن كان الذهاب إلى المسجد جائزاً لها، ففرق بين الجواز والوجوب.
- القائمون على الحراسة، لأن غيابهم عما يحرسونه فيه ضرر.
- الطبيب والممرض إذا كانت حالات المرضى تستدعى وجودهما في كل لحظة بجوارهم.
- من يخشى على نفسه أو ماله من أخطار الطريق المؤدية إلى المسجد، ولا توجد طريق آخر آمناً.
وغير ذلك الكثير من الحالات التي تجعل تأدية الفريضة
متعذراً، أو مظنة إلحاق الضرر بالمسلم، أو بمن تحت ولايته ورعايته.
كذلك شُرِعَت التعاليم الإسلامية لخدمة الإنسان، سواء
كان ذلك على مستوى الفرد، أو على صعيد المجتمع؛ فالعبادات – على سبيل المثال –
هدفها الأساسي هو الارتقاء بالإنسان، وذلك بتوجيهه إلى ما يصلح حاله، ويغرس في
نفسه القيم التي تجعله إنساناً سويًّا بتصرفه مع نفسه ومع مجتمعه تصرفاً حسناً، وبتعامله
مع من حوله بأسلوب حضاري، فالوضوء يطهره من الأدناس، ويعوده على نظافة بدنه،
ومسكنه، وشارعه، وكل ما يتصل به، ويحيط بعالمه، فيقي نفسه شر الأمراض والعلل، لأن
النظافة هي أساس الوقاية. والصلاة تهذب نفسه، وترقق مشاعره، وتربطه بالله عز وجل
آناء الليل وأطراف النهار، فيستقيم سلوكه، وتستقر نفسه، ويستيقظ ضميره، فلا يأتي
من الأعمال ما يلحق الأذى بشخصه أو بمجتمعه، ولا يفكر في الاعتداء على الآخرين،
ويرضى بما قسم الله له، فلا يسلب الآخرين حقهم، بل يتساند معهم في حفظ النفس
والأعراض. والزكاة من أرقى النظم-إن لم تكن أرقاها – في مجال التكافل الاجتماعي،
فلا يُتْرَك فقير يموت جوعاً، ولا يُهْمَل مريض تفترسه آلام المرض وقسوة العلل،
كما أن الصدقة تؤدى إلى الهدوء الاجتماعي، فلا يحسد فقير غنيًّا، بل يتمنى له
المزيد، لأن له نصيباً فيه، ولا يسطو على ماله فيدمره أو يغتصبه، لأن في الحفاظ
عليه أمان له من العوز، ودرع يقيه ألم الجوع والحرمان.
أما الحج ، فهو شعيرة إسلامية تجمع شتات المسلمين من
جميع أقطار الأرض ، فتوحدهم في صعيد واحد ، يتدارسون أمورهم ، فيناقشون مشاكلهم ،
ويرسمون الخطط التي توجههم ، وتجمعهم تحت راية واحدة ، لكى يكونوا قادرين على
مواجهة الأزمات الداخلية بمد يد المساعدة لمن يحتاج منهم ، ولكى يتآزروا ويتلاحموا
في مواجهة الأخطار الخارجية ، وقد عبر عن ذلك صاحب كتاب : " الإسلام قوة الغد العالمية "
بقوله : " ... في مكة تلتقى الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي، فيحدث
التعارف بين القادة من كل الأقطار الإسلامية، فيتناولون في أحاديثهم شئوناً سياسية
، ومسائل اقتصادية ، فتتضح لهم معالم الطريق ، وترسم أمامهم الخطط التي تأخذ طريقها
إلى التنفيذ في المقابلات السياسية التي تعقد في مكان آخر غير مكة ، وهكذا تحمل
لقاءات مكة – التي هي في أصلها اجتماع ديني – ثماراً تمد العاملين في مناطق الحكم
والتوجيه بغذاء ديني يطبعهم بالطابع الإسلامي. لقد فقد مركز الإسلام الأول مركزه
كنقطة تجمع سياسي، ومكان لعقد المؤتمرات التي تعنى بشئون الحكم، ولكنه – رغم هذا –
لم يزل مكاناً تتفاعل فيه الأفكار، فتنتج الوعى والإدراك بتبعيتهم جميعاً للإسلام،
فينصرفون إلى أوطانهم عاقدين العزم على مساندة بعضهم في جميع شئون الحياة ......
انصهرت في مكة خطط ومشروعات، ونبعت من الشعائر الدينية التي تقام في حرمها موجات
سرت في كل أرجاء العالم الإسلامي .... "
وبالإضافة إلى هذا فقد فرض الله الحج على المسلمين لحكم
كثيرة، منها اجتماع المسلمين في صعيد واحد، يعبدون إلهاً واحداً، مخلصين له الدين
القيم، الذي هو أساس الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. وإن من قواعد هذا الدين أن
أتباعه إخوة، يجب عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، فيعمل كل منهم لنصرة صاحبه،
وإن بعدت أبدانهم، وتفرقت منازلهم. وعليهم أن يذكروا في هذا الموقف أنهم بين يدى
ربهم العلى القدير الذى خلقهم وفضلهم على كثير من خلقه، وأنهم سيموتون ويقفون بين
يديه في يوم لا ينفع فيه سوى العمل الصالح، والتمسك بما أمر الله به في كل شأن من
الشئون.
وقد
فرضه الله مرة واحدة على كل فرد من ذكر أو أنثى، وقد ثبت بالكتاب والسنة، أما
الكتاب فقوله تعالى: ﱡ ﲝ
ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲮ ﱠ [آل عمران: ٩٧]، وأما السنة فقوله r : "
بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، و إقام
الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا . "
ومما يدل على أنه مفروض في العمر مرة واحدة قوله r
: " ... يا أيها الناس ! قد فرض عليكم الحج، فحجوا، فقال
رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت r حتى قالها ثلاثاً، فقال عليه
الصلاة والسلام: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم .... "
وقد وردت في فضله أحاديث كثيرة، منها ما روي عن أبى
هريرة قال: " سئل رسول الله r : أي
الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله، قيل : ثم ماذا ؟ قال : ثم جهاد في سبيل
الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : جح مبرور "
، وهو الحج الذى لا يخالطه إثم . وذهب الأحناف والمالكية والحنابلة إلى أنه فرض
على الفور؛ فكل من توفرت فيه شروط وجوبه، ثم أخره عن أول عام استطاع فيه يكون
آثماً. وذهب الشافعي والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن إلى أن الحج واجب على
التراخي، فيؤدى في أي وقت من العمر، ولا يأثم من وجب عليه بتأخيره متى أداه قبل
الوفاة، لأن رسول الله r أخر الحج إلى سنة عشر، وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه، مع أن إيجابه
كان سنة ست، فلو كان واجباً على الفور لما أخره r .
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لوجوب الحج: الإسلام،
والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، فمن لم تتحقق فيه هذه الشروط فلا يجب عليه
الحج، وذلك أن الإسلام والبلوغ والعقل شرط التكليف في أي عبادة من العبادات، لقول
رسول الله r
: " رفع القلم
عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبى حتى يشب ، وعن المعتوه حتى يعقل."، والحرية شرط لوجوب الحج ، لأنه
عبادة تقتضى وقتاً ، ويشترط فيها الاستطاعة ، بينما العبد مشغول بحقوق سيده ، فهو
غير مستطيع .
وتتحقق الاستطاعة بتحقيق ما يلي:
- أن
يكون المكلف صحيح البدن، فإن عجز عن الحج لشيخوخته، أو لمرض لا يرجى شفاؤه، لزمه
إحجاج غيره عنه، إن كان له مال، فإن لم يستطع فلا حج عليه.
- أن
تكون الطريق آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله، فلو خاف على نفسه من قطاع
الطريق، أو من وباء يصيبه، أو خاف على ماله من أن يُسْلَب منه، فهو ممن لم يستطع
إليه سبيلاً. وقد اختلف العلماء فيما يؤخذ من الحاج في الطريق من رسوم ومكوس، هل يُعَدُّ
عذراً مسقطاً للحج أم لا؟ فذهب الشافعي إلى اعتباره عذراً مسقطاً للحج، وإن قل
المأخوذ، وعند المالكية لا يعد عذراً، إلا إذا أجحف بصاحبه، أو تكرر أخذه.
- أن يكون
المرء مالكاً للزاد والراحلة، ويقصد بالزاد أن يملك المرء ما يكفيه مما يصح به
بدنه، ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن حوائجه الأصلية من: ملبس، ومسكن، ووسيلة
مواصلة، ومواد وآلات يحتاج إليها في صناعته. والمقصود بالراحلة: هي الوسيلة التي
تمكنه من الذهاب والإياب، سواء عن طريق البر أو البحر أو الجو. وهذا بالنسبة لمن
لا يمكنه المشي لبعده عن مكة، فأما القريب الذي يمكنه المشي، فلا يعتبر وجود
الراحلة في حقه شرطاً في الاستطاعة، لأنها مسافة قريبة يمكنه قطعها سيراً على
الأقدام.
هل يجب على المرء أن يبيع شيئاً مما
يملك للنفقة على رحلة الحج؟
لا يجب عليه بيع المتاع الذي يحتاجه، ولا الدار التي
يسكنها، وإن كانت كبيرة تفضل عنه من أجل الحج. وبالإضافة إلى وجوب وجود الشروط التي
ذكرناها يشترط أيضاً ألا يوجد ما يمنع الناس من الذهاب إلى الحج، كالخوف من سلطان
جائر يمنع الناس من سلوك الطريق المؤدية إلى الأماكن المقدسة.
ذكرت أن الحج لا يجب إلا على البالغ
العاقل الحر، بمعنى أن الصبى والعبد لا يجب عليهما الحج، فما الحكم لو حجَّا؟
إذا حجَّا صح منهما، لكن لا يجزئهما عن حجة الإسلام، لما
روى عن ابن عباس t
قال: قال النبي r : " أيما صبى حج
، ثم بلغ الحنث ( أي مبلغ التكليف ) ، فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما عبد حج ، ثم
أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى " . والمرأة والرجل سواء في هذه الشروط التي
توجب الحج، لكن يزاد عليها بالنسبة للمرأة، أن يصحبها زوج، أو محرم. فإن اجتمعت
الشروط السابقة، ولم تجد زوجاً، أو محرم يسافر معها لم يجب عليها الحج، لما روى عن
ابن عباس رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر
المرأة إلا مع ذي مجرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني
اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك ".
ما الحكم لو أغفلت المرأة هذا الشرط،
فذهبت إلى الحج دون أن يكون معها زوج أو محرم؟
حجها صحيح، و قد أجاز بعض الفقهاء سفر المرأة من غير
محرم ولا زوج، إذا وجدت رفقة مأمونة، أو كان الطريق آمناً، واستدلوا على ذلك بما
رواه البخاري عن عدى بن حاتم قال: " بينما أنا عند رسول الله r إذ أتاه
رجل فشكا إليه فاقة، ثم أتاه رجل آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي! هل رأيت
الحيرة؟ (وهي قرية قريبة من الكوفة) قلت: لم
أرها، وقد أُنْبِئْتُ عنها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (وهي كلمة
تطلق على المرأة وهي في الهودج) ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف إلا
الله ".
وخلاصة القول : أن من لم يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة ( مثل : المريض
، والفقير ، والمقطوع طريقه ، والمرأة بغير محرم وغيرهم ) إذا تغلب على عدم الاستطاعة
وحج ، يصح حجه ، وقد جاء في المغنى : لو تجشم غير
المستطيع ، وسار بغير زاد ولا راحلة فحج ، كان حجه صحيحاً مجزئاً.
أ. د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق