O
فوائد الصيام العلمية والأخلاقية
أ.د/محمد شامة
فرض الله الصيام على المسلمين، وربطه بشهر قمري، هو شهر رمضان، فقال تعالى: " شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .. " [البقرة
: 185] ، وكان ارتباط الصيام بشهر قمري ، وليس بشهر شمسي ،
تحقيقاً للعدالة بين المسلمين في جميع أنحاء الكرة الأرضية ، ذلك أن الإسلام دين
عالمي لكل الناس في جميع أنحاء العالم ، ومعلوم أن فصول السنة لا تتحد إلا في الأقطار
الواقعة على خط عرض واحد ، بمعنى أن ما يقع على خطوط العرض في نصف الكرة الشمالي،
يختلف عما يقع على خطوط العرض في نصفها الجنوبي ، فإذا كان في الشمال صيفاً ، كان
في الجنوب شتاءً ، وإذا كان في الجنوب شتاءً كان في الشمال صيفاً ، وهذا معروف لمن
عنده إلمام بسيط بعلم الجغرافيا ، ومشاهد لمن عنده اهتمامات ثقافية في هذه الناحية
، إذ يعرف أن ذروة فصل الصيف في جنوب القارة الإفريقية يحل في شهر يناير ، بينما
هو ذروة فصل الشتاء في أوربا والعكس بالعكس ، ففي شهر يوليو يحل البرد والصقيع في
جنوب الكرة الأرضية ، بينما يتمتع سكان النصف الشمالي بالطقس الصيفي .
فلو فرضنا أن الصوم فرض في شهر يوليو، لظل سكان نصف
الكرة الشمالي يصومون طول حياتهم صيفاً، وسكان النصف الجنوبي يصومون طول حياتهم
شتاءً.
وهذا أمر يتنافى مع عدل الله في التكليف ، فاقتضت حكمة
الله أن يتغير وقت شهر الصوم بين الفصول كلها، ليؤدي الناس في جميع مناطق الكرة
الأرضية الصيام في جميع فصول السنة ، بل إن الفرد الواحد سوف يصوم في جميع هذه
الفصول ، لأننا إذا عرفنا أن متوسط عمر الإنسان يتراوح بين الخمسين والستين سنة تقريباً
، وتكليفه بالصوم يحين في سن الخامسة عشرة، فسوف يصوم رمضان في كل شهور السنة ،
لأن الدورة تتم في ثلاث وثلاثين سنة
تقريباً ، فإذا أضيف هذا العدد إلى سن التكليف ، وهو خمس عشرة سنة ، لأصبح
عمره ثمان وأربعين سنة ، وهو أدنى مجال متوسط عمر الإنسان .
فالحكمة في اختيار شهر قمري للصوم، هو لتحقيق العدل بين
الناس في التكليف، أي كي لا يصوم سكان منطقة في الصيف طول حياتهم ... وسكان منطقة
أخرى في الشتاء طول حياتهم ...
ولكن ارتباطه بشهر قمري أحدث ارتباكاً بين المسلمين في
بدء الصوم ، لأن منازل القمر تختلف من بلد لآخر، أو لأن رؤيته بالعين المجردة تحدث
اختلافاً بين الأقطار في تحقيق الرؤية ، كذلك يتعذر في بعض مناطق الكرة الأرضية
تطبيق التحديد المشروع للصوم ؛ إذ كيف يصوم المؤمن من الفجر إلى الليل في بلد لا
تغيب عنها الشمس شهراً أو شهرين ، وربما يطول إلى ستة أشهر كما في بعض المناطق
القطبية ، إلا إذا أدركنا أن بدء الصيام بظهور هلال رمضان وانتهاءه بظهور هلال
شوال ، وأن بدء الإمساك بالفجر وانتهاءه بغروب شمس اليوم مبنى على توقيت معظم
مناطق الكرة الأرضية ، والمطلوب منا تقدير الزمن في تلك المناطق التي تغيب فيها
الشمس أو تشرق شهوراً ، أو أياماً بحسب أقرب المناطق التي يتعاقب عليها الليل
والنهار بصورة عادية ، كما أشار إلى ذلك حديث الدجال ، حيث جاء فيه على لسان
الصحابة رضى الله عنهم : " قلنا : يا رسول الله ! .... فذلك اليوم الذى كسنة،
أَوَ تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: " لا .. اقدروا له."، ففيه إشارة
إلى أنه لو حدث أن طال اليوم بصورة غير مألوفة، فيجب علينا أن نقدر منه مقدار
اليوم، ونحدد على أساسه مواقيت الصوم والصلاة، ولا يتأتى ذلك إلا طبقاً لقواعد علم
الفلك، ولا يمكننا القيام بهذا العمل إلا إذا تقدم علماؤنا في مجال هذا العلم،
وأصبحوا قادرين على حساب الزمن الذى تستغرقه الأرض في دورانها حول نفسها وحول
الشمس، ومقدار قربها وبعدها من القمر..
إذن فربط العبادات بالظواهر الفلكية ، كان دافعاً
للعلماء إلى البحث والتنقيب في هذا العلم ، ووضع نظرياته على أسس علمية ، وهذا ما
حدث في الدولة الإسلامية ؛ إذ بعد ما كان الفلك قبل الإسلام قائماً على التنجيم
بأسلوب غير علمي ، اتجه في العصر العباسي وما تلاه من العصور – التي ظهرت فيها
الاكتشافات العلمية الحديثة – إلى وضع النظريات العلمية في هذا المجال ،
فأُنْشِئَت المراصد المجهزة بأحدث الأجهزة في العواصم الإسلامية وغيرها لكشف ما في
الكون من أسرار وظواهر طبيعية ، فتقدم علم الفلك تقدماً كبيراً ، إذ وضع العلماء
قوانين هندسية مبرهنة للكشف عن مقادير الحركات الظاهرة للشمس والقمر وسائر الكواكب
بالتحديد ، فكان هذا إنجازاً حضارياً على هذا الطريق ، وخطوة أولى شجعت الباحثين
من مختلف الجنسيات على السير في هذا الطريق ، حتى وصل اليوم إلى درجة لم يكن من
الممكن أن يتصورها الإنسان في الماضي . فإنجاز علماء الإسلام في عالم الفلك يعتبر
خطوة رائدة، كانت العبادات الإسلامية من أهم الأسباب في اتخاذها.
فلو تتبعنا كل الفرائض ، فسوف نجد في كل فريضة فوائد جمة
، منها ما استطاع عقل الإنسان المحدودة قدرته التوصل إليها ومعرفتها ، ومنها ما
استأثر الله بعلمه ، فقد توصل فهمنا إلى معرفة شيء يسير من فوائد الصوم ، ألا وهو
أنه يهذب النفس ، ويصفى القلب ، ويرقق المشاعر ، ويساعد على التحمل عند الحاجة ،
ويغرس في قلوب المؤمنين الرحمة والعطف على الفقراء والمحتاجين ؛ إذ عندما يحس المسلم بالجوع في
الصيام ، يتذكر ألم المحرومين ، الذين ليس عندهم ما يقتاتون به ، ويتصور تأوهات
الأطفال واليتامى الذين يبيتون على الطوى ، ويصبحون وليس عندهم ما يسدون به رمقهم ، ويسكتون به صياح بطونهم من تقلصات
أمعائهم الخاوية ، وبطونهم المتأوهة من غياب الطعام عنها فترات تلو فترات ، فقد
قيل ليوسف u : لِمَ تجوع وأنت على خزائن الأرض ؟ ، فقال : أخاف أن أشبع فأنسى
الجائع .
هذا هو إحدى فوائد الصيام: شعور بحال الفقير، وإحساس
بألمه، يدفع المسلم إلى مد يد العون له، وإعطائه ما يكفيه. فهو نظام يدفع للتكافل
والتعاون، وأسلوب لمحاربة الفقر والعوز، وحماية لأرواح شريحة واسعة في المجتمع من
الهلاك والضياع، وسد متين – إن أُحْسِن الاستفادة منه – يحد من فتك الفقر بالعديد
من المُعَدمين والمحرومين.
هذا بالنسبة للأغنياء، أما فوائده التي توصل فهمنا إليها
بالنسبة للفقراء، فهو يدربهم على تحمل الحرمان، فلا يدفعهم سعارهم المادي إلى
ارتكاب المحرمات، أو ممارسة التعدي على ما للغير، فهم قنوعون بما قسم الله لهم،
راضون بما في أيديهم. وهذا من أنجع وسائل التربية للفقير والغني، وسيلة تعجز
الاتجاهات الفكرية المتعددة، والنظم والقوانين الوضعية المختلفة عن الوصول إلى ما
يحققه من استقرار، وتعاطف، وتواد بين أبناء الأمة.
أ. د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق