O
الصلاة تهذب الأخلاق وتقوم السلوك
أ. د/ محمد شامة
من الظواهر المألوفة في العلاقات الإنسانية أن القوى
يملى إرادته على الضعيف الذى لا يجد مفرًّا من تنفيذ ما يأمر به صاحب السطوة
والسلطان ، وقد تكون هذه الأوامر – في الغالب الأعم – لا معنى لها ولا هدف سوى
السيطرة والتحكم ، وإشباع هوى النفس التي تميل – غالباً – إلى التسلط على الغير ،
والتلذذ بآلام الناس وأوجاعهم ، ذلك أن الأنانية عند الإنسان تميل إلى حب إصدار
الأوامر إلى الغير ، وعشق امتثال الآخر لأوامرها بصرف النظر عن سهولة تنفيذ هذه
الأوامر ، أو عدم إمكانية الالتزام بها ، وبعيداً عما يترتب على هذا التنفيذ من
نتائج وآثار ، فمحور العلاقة تقوم – غالباً – على أساس إشباع الذات عند القوى ،
والاستمتاع بخضوع الآخر له ، والالتزام بأوامره ، مهما كانت العقبات والنتائج .
هذا في الجانب الإنساني، أما العلاقة بين العابد
والمعبود ، أو بين الله والإنسان ، ففلسفتها تقوم على أساس أن الله عليم بخلقه ،
مدرك لقدراتهم ، لطيف بهم ، حنون عليهم ؛ فلا يلزمهم بما لا يقدرون عليه ، ولا
يكلفهم بما يسبب لهم الآلام والأوجاع ، ولا يلزمهم بشيء لمجرد الإلزام ، بل تدور
كل أوامره ونواهيه حول ما هو مستطاع ، وفى دائرة الممكن ، بالإضافة إلى أن الهدف
الأساسي من إلزام الإنسان بالأوامر و النواهي الدينية هو لصالح الإنسان ، كفرد ،
ولسلامة المجتمع الذى يعيش فيه ، ولخير الناس كلهم الذين يعيشون معه على هذه الكرة
الأرضية ، مهما اختلفت أوطانهم وعقائدهم ، فلا يعود شيء إليه من جراء إلزام
الإنسان بأوامره ، ولا يبغى من وراء طاعة الإنسان وامتثاله له إلا مصلحة الإنسان
في حياته فرداً كان، أو عضواً في أسرة ، أو مواطناً في مجتمع ، أو مشاركاً في
الحياة الإنسانية ، ولذلك يجب على المسلم الامتثال لأوامر الله ، لأن في ذلك صلاحه
في الدنيا و ثوابه في الآخرة ، فكما رأينا فائدة الوضوء وآثاره على الصحة بوجه خاص
، وفى الحياة بوجه عام ، كذلك لو تتبعنا كل الفرائض فسوف نجد في كل فريضة فوائد
جمة ، منها ما استطاع عقل الإنسان المحدودة قدرته التوصل إليها ومعرفتها ، ومنها
ما استأثر الله بعلمه ، ففرضية الصلاة عبادة ، وفى الوقت نفسه لصالح الإنسان
والمجتمع؛ إذ هي الركن الثاني في الإسلام بعد الشهادتين ، وهى أهم ركن في الدين
الإسلامي ، فقد فرضها الله على عباده ليعبدوه وحده، ولا يشركوا معه أحداً من خلقه
في عبادته ، يقول الله تعالى : "......
إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا " [النساء : 103]
أي فرضاً محدداً بأوقات لا يجوز الخروج عنها، قال عليه
الصلاة والسلام: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، ولم يضيع
منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن،
فليس له عند الله عهد.... " ([1])
وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم شأن الصلاة، لأن منزلتها
لا تعدلها منزلة أي عبادة أخرى، فهي عماد الدين، الذى لا يقوم إلا به، قال رسول
الله r: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه
الجهاد في سبيل الله . " ([2])
وهى أول ما أوجبه الله تعالى من العبادات، قال أنس
" فرضت الصلاة على النبي r ليلة أسرى به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً، ثم
نودى يا محمد! إنه لا يبدل القول لدي، وأن لك بهذه الخمس خمسين." !!!!
وهى أول ما يحاسب عليه العبد، نقل عبد الله بن قرط قال:
قال رسول الله r : " أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن
صلحت صلح سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله . " ([3])
وهى آخر وصية يوصى بها رسول الله r أمته عند
مفارقته الدنيا، إذ ظل يقول–وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة:- " الصلاة الصلاة ،
وما ملكت أيمانكم." ([4])
وهى آخر ما تفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله، قال
رسول الله r : " لتنقض عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة
تشبث الناس بالتي تليها ، فأولاهن نقضاً الحكم ، وآخرهن الصلاة " ([5])
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على أدائها ف أوقاتها،
والنهى عن الاستهانة بأمرها، والتكاسل عن إقامتها، فمن ذلك قوله r : مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب يمر بباب أحدكم ، يغتسل فيه
كل يوم خمس مرات ، فما ترون ، أيبقى ذلك
من درنه شيئاً ؟ " قالوا : لا شيء،
قال r : "فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء
الدرن"([6])
والمتتبع لآيات القرآن الكريم يرى أن الله I
يذكر الصلاة ويقرنها
بالذكر تارة، يقول الله تعالى: "....
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ "
[العنكبوت: 45]، ويقول: " قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى" [الاعلى : 14-15]، ويقول تعالى : " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي " [طه
: 14]
وتارة يقرنها بالزكاة، يقول تعالى:
" وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ....
" [البقرة: 43]، ومرة بالصبر، يقول تعالى: " وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ.... " [البقرة: 45]، وطوراً
بالنسك، يقول تعالى: " قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " [الأنعام: 162 – 163]
وأحياناً يفتتح بها أعمال البر، ويختتمها بها، كما في أول سورة
"المؤمنون"، حيث يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱠ إلى قوله : ﱡ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹأوْلَئِكَ هُمُ
الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﱠ [المؤمنون : 1
- 11]
فَقِرَانُ الصلاة بالذكر إشارة إلى أنها صلة بين العبد
وربه، فإذا كانت خالصة لوجه الله تعلق قلب المصلى به، فلا يباشر عملاً نهى الله
عنه، ولا يهمل في شيء فرضه الله عليه، فهو في ذكر دائم. وليس المراد بالذكر هنا هو
التمتمة والتسبيح، ولكن تعلق القلب بأوامر الله، فيحرص على أدائها، ويتذكر ما نهى
الله عنه، فيجتنبه، وبهذا يصير إنساناً ربانيًّا، أي قلبه دائم الصلة بالله. ومما
لاشك فيه أن هذا هو هدف الصلاة، فليست الصلاة إلا وسيلة لربط العبد بربه، حتى يكون إنساناً صالحاً لنفسه، مفيداً
لأهله، ومنتجاً لأمته. ولبيان حقيقة الذكر ومكانته في حياة المسلم عبر عنه الله I
بأنه أكبر من الصلاة في
قوله تعالى: ".... إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ....
" [العنكبوت : 45] ، وليس من المعقول أن يكون الذكر والتسبيح على المسبحة
أكبر من الصلاة ، وإنما المراد عدم نسيان المسلم أوامر الله في كل أنشطة الحياة ،
حتى لا يقترف إثماً ، أو يفرط في واجب ، وهذا هو الهدف الأسمى و الحقيقي للصلاة ؛
إذ هي حماية للمسلم من غواية الشياطين ، فتقوده إلى عمل الخير ، ومساعدة من
يحتاجون إليه ، وتحول بينه وبين ارتكاب المعاصي ، من أي نوع كانت ، سواء المتعلقة
بحق الله ، أو متصلة بمن يعيشون معه في الأسرة والمجتمع ، ولهذا وزعت أوقاتها على
امتداد النهار كله ، من الفجر حتى العشاء ، فهي بمثابة تذكير له بين الحين والآخر –
طول النهار – بما فرضه الله عليه ، وبما
حُرِّمَ عليه ، وبذلك تُؤَدِّى دور الحراس على سلوك الإنسان ، وُزِّعوا على فترات النهار ، حتى لا
يطول الوقت فينسى ذكر الله ، إذ كلما قارب على النسيان في فترة الصباح جاءت صلاة
الظهر لتذكره ، ثم بعد مضىّ وقت تأتى صلاة العصر للتذكير ، ثم المغرب فالعشاء ،
وبعد ذلك يحين وقت النوم فلا يحتاج إلى ما
يُذَكِّرُه .
وقِرَانُ الصلاة بالزكاة في القرآن الكريم دليل على
أنهما متلازمان، فلا ينبغي، بل ولا يُتَصَوَّر من مسلم أن تكون صلاته خالصة لوجه
الله، ويمنع حق الفقراء، فالصلاة الصحيحة تدفعه إلى الإنفاق في سبيل الله، وتحثه
على مد يد المساعدة للفقراء و المحتاجين، وتربى فيه الميل إلى بذل المال في سبيل
الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وتحبب إليه الإسهام بكل ما يملك في بناء وطنه:
اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً و حضارياً، وتغرس في نفسه حب المشاركة في سبيل
تحسين وطنه و بيئته.
كذلك قِرَانُ الصلاة بالصبر بيان للمسلم بأن صلاته تعينه
على تحمل المشقات، وتساعده على الصبر في مواطن الأزمات، وتقويه على الجلد في
الملمات، فيصير إنساناً قوياً، لا تكسره الشدائد، ولا تضعف عزيمته المشاكل التي
تواجهه، بل يقابلها بعزم وإصرار على تجاوزها، بكل ما يملك من علم ومعرفة، وبما
لديه من شجاعة وإقدام.
وقد بلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة
عليها في الحضر والسفر ، والأمن والخوف ، فقال تعالى : " حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ
الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ
رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ
تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ " [ البقرة : 238 - 239] ، وقال مبيناً
كيفيتها في السفر والحرب والأمن : " وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا
مُّبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ
طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ
فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ
فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ .. " [النساء: 101 -102]
أما فوائدها على المصلى فكثيرة، ذكر القرآن الكريم بعضاً
منها في قوله تعالى: " إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ... " [العنكبوت: 45]، أي أنها وسيلة لعلاج الأمراض الاجتماعية، فالكذب منكر، واستغلال الضعفاء
منكر، والتفريط في الواجب منكر، وهتك العرض فحشاء، وكل ما يسيء إلى سمعة الناس
ويزعزع كيان الأسرة ويهدم بنيانها من الفواحش التي تنهى الصلاة عنها .. إلخ .
فالصلاة تنهى عن كل عمل يلحق الضرر بالفرد والجماعة، وتغرس في النفوس حب الإنسان
لأخيه الإنسان، وتنمى فيها الإحساس بآلام الآخرين، فتدفع المصلى إلى مد يد
المساعدة للفقراء والمساكين، وتوجهه إلى حماية المجتمع من كل ضرر يلحق الأذى
بالأرواح والأموال، والحرص على هويته وثقافته، والتمسك بكل ما يعلى شأن الوطن
ويحافظ على بيئته.
فمن لم تظهر عليه هذه الآثار فلا صلاة له، إنما هي ركوع
وسجود بغير روح، ولن يثيبه الله عليها، بل إنها لا وزن لها في عالم الثواب والجزاء،
يقول رسول الله r
: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من
الله إلا بعداً ."
فالصلاة تهذب النفس، وتُقَوِّم السلوك، وتحمى الإنسان من
الوقوع في الفحشاء وتمنعه من الاقتراب من المنكر، فهي وسيلة تربية للفرد، وحماية
للمجتمع من الفحشاء، فلو انتشرت الفحشاء في مجتمع يحافظ على الصلاة، فصلاته لا روح
فيها، ولا أثر لها، لأنها صلاة صورية ليس بينها وبين روح المصلى صلة، اللهم إلا
ركوع وسجود ظاهرهما أجوف. وإذا ساد المنكر في مجتمع يحرص على تأدية الصلاة في
وقتها، فهو أداء مظهري، لا فائدة فيه، ولا أثر له، يقول رسول الله r
في حق هؤلاء: "
من لم تنهه صلاته فلا صلاة له. "
ومن هنا ينبغي ألا يحكم المرء على إنسان بالتقوى والصلاة
لمجرد أنه رآه يرتاد المسجد ويحافظ على تأدية الصلاة؛ فقد طلب عمر بن الخطاب t
من شاهد أن يأتيه بمن
يعرفه حتى يقبل شهادته، فجاءه برجل أقر بأن هذا الشاهد من أهل الصلاح، فاقبلوا
شهادته، فقال عمر لهذا الرجل: أتسكن بجواره؟، فقال: لا! فوجه إليه عمر سؤالا
ثانياً قائلاً له: أرافقته في سفر؟، فأجاب الرجل: لا! فسأله عمر: أكانت بينك وبينه
معاملات مادية؟ فقال الرجل: لا!، فقال له عمر: لعلك رأيته يتمتم بالصلاة في
المسجد! فقال الرجل: نعم! (أي أنه لا يعرف عنه شيئاً سوى أنه رآه محافظاً على
تأدية الصلاة)، فالتفت عمر إلى الشاهد وقال له: اذهب يا رجل! فأتني بمن يعرفك، فإن
هذا لا يعرفك!
هذا الموقف من عمر بن الخطاب t يبين لنا بوضوح أن مقياس التقوى والصلاح هو السلوك الطيب، والخلق الحسن، والبعد عن الفحشاء والمنكر، ولا يتحقق للمرء ذلك إلا إذا أدى الصلاة بإخلاص وتجرّد، وخَوْف من الله I، وعزم على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه في جميع مجالات الحياة خوفاً من عذابه ، ورجاء في ثوابه في الدنيا والآخرة.
أ. د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق