O
لا
للخرافة
أ.
د/ محمد شامة
تتردد كلمة "
التخلف " كثيراً على السنة الناس في المجتمعات الإسلامية، على اختلاف
مستوياتهم الثقافية والفكرية، وتدرج وضعهم الاجتماعي، كما تعقد المؤتمرات
والندوات، حيث تلقى المحاضرات العلمية لمعالجة هذه الظاهرة، ولم يقتصر هذا
الاهتمام على النشاط الفردي واهتمامات الجماعات والهيئات المدنية، بل أصبح الحديث
عن جوانب التخلف مدار السياسات الدولية، والموضوع الرئيسي لواضعي الخطط التنموية
على جميع مستوياتها وتشعب مجالاتها. بل إن العديد من الكتب والإصدارات العلمية
تركز على بيان آفة التخلف في المجتمع ، وتأثيرها على التفكير العلمي في المجتمع
المعاصر – وخاصة في المجتمعات الإسلامية - ؛ إذ يري كثير من المفكرين أن تراجع
التفكير العلمي، و بالتالي سقوط المجتمع – أفراداً ومؤسسات – في بؤرة التخلف، يرجع
أساساً إلى هيمنة "الخرافة" على العقل العربي و الإسلامي،
المستمدة والمستندة إلى ما يوجد في بعض كتب التراث من أساطير وخرافات ، وإلى ما
نراه في المجتمع من ممارسات الشعوذة والدجل والتنجيم ، وإلى الاعتقاد في السحر
والطير ، والإيمان بالأشباح ، والاعتقاد في الأموات والأولياء ، ودعاوى امتلاك
وتسخير الجن ، وقصص تلبس الجن بالبشر ، وزواجهم منهم ، واستيلائهم على مساكنهم
...وغير ذلك من الاعتقادات والممارسات التي تُغَيِّب العقل ، وتشل حركة الإنسان في
هذا الكون ، وتروج للكسل و التمادي في غياهب الظلمات ، والركون إلى من – وما –
يقضى على النشاط الإنساني في هذا الوجود ، الأمر الذى يدعو المسلم إلى الدعة
والراحة المميتة ، تاركاً العمل والإنتاج لغيره ، حتى وصل حال المجتمعات الإسلامية
إلى تسول ما تحتاج إليه من أولئك الذين حرروا أنفسهم من الأساطير ، وصانوا حياتهم
من الشعوذة وأباطيل السحر ، فانطلقوا في آفاق الأرض ، ينتجون ، ويخترعون ، ويبدعون
، فتخلصوا من التخلف ، وركبوا قطار التقدم ، تاركين المُغَيَّبَة عقولهم ،
والمُخَدَّرَة أعصابهم بالخرافات يلهثون وراءهم ليلتقطوا ما يسقط من فضلاتهم ،
ويستجدوا منهم ما يسدون به رمقهم ، وتلك حالة معظم الأفراد والمجتمعات الإسلامية :
-
كسل، وركون للخرافة، فلا ينتجون طعامهم،
-
استجداء الأقوياء – وهم غير المسلمين – ليرموا إليهم ما يحتاجون إليه في
حياتهم،
-
استعطافهم حتى يرضوا عنهم، فلا يمنعون عنهم رحيق الحياة،
-
الطاعة المطلقة لمن بيده منتجات الحضارة التي تقوم عليها الحياة المعاصرة،
-
التنازل التدريجي عن قيمهم ومبتدئهم حتى لا يغضبوا أسيادهم الذين يمدونهم
بمتطلبات الحياة.
تتخلل الخرافة –
بأسبابها ودوافعها – إلى العقل، فتشل حركته، فيركن إلى التفاسير غير العلمية لما
يواجه الإنسان من مشكلات، ويستكين إلى ما يمليه الدجالون من أسباب لتعليل الظواهر،
مما يصرفه عن البحث والتفكير العلمي لاكتشاف ما تنبثق منه تلك الظواهر، ومعرفة
أسباب ما يواجهه من مشكلات، الأمر الذى يُغَيِّب العقل كلية عن التفكير فيما حوله.
ومما يؤكد له هذا لتصرف ما يردده المشعوذون والدجالون من التفسير الديني أو
الأخلاقي لبعض الظواهر والكوارث الطبيعية كالزلازل وكسوف الشمس وخسوف القمر ، أو
أسباب الأوبئة القاتلة والحوادث المفجعة ، وكذلك ما تقدمه الخرافة لضحاياها ، أو
تعدهم بحلول ومعالجات مغرية لمشكلاتهم وتحقيق رغباتهم ، ومن ذلك اللجوء لأعمال
السحر والشعوذة والتنجيم ، ليس فقط لمحاولة علاج الأمراض العضوية بالقرآن والتمائم
، أو حل المشكلات الزوجية بالسحر والأعمال " السفلية " ، وإنما
أيضاً لأغراض أخرى عديدة من قبيل محاولة استكشاف المستقبل السياسي، والمهني،
وتكوين الثروة ( وذلك – كما شاع ولا زال يردده بعض البلهاء في بعض المجتمعات
الإسلامية – باستكثار أو استنساخ الدولارات باستخدام الزئبق الأحمر ) ، بل وحتى في
الألعاب الرياضية ، حيث تلجأ بعض الفرق إلى تعويذات تضعها في شباكها كي تصد – هكذا
يعتقدون – هجمات الفريق المنافس .
ومن الواضح أنه
كلما انتشرت الخرافة في المجتمع، وتغلغلت في عقول وأفئدة الأفراد، ابتعدوا عن
التفكير العلمي في مجالات الحياة المختلفة، وازدادت تبعاً لذلك تلك " العلوم
" التي تروج لكل ما هو ضد العقل من أعمال الدجل والشعوذة.
ومما يزيد من
استفحال هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية ما تدره على ما يمارسون الشعوذة من
مكاسب مادية كبيرة:[1]
ما يدفع البعض إلى ممارسة هذه المهنة وإهمال بذل الجهد لتعلم المهن التي تحتاج إلى
دراسة جادة وتحصيل الكثير من المعلومات:
-
سهولة الإلمام بقواعد وأساليب المهن المرتبطة بالخرافة،
-
ما يشاع عن بعض الإنجازات والنجاحات للمهن التي توظف الخرافة، وخاصة في بعض
المجالات والحالات التي تعجز فيها المهن التعليمية،
-
شيوع الأمية الأبجدية في العالم الإسلامي، وكذلك انتشار الأمية الدينية
بدرجة تفوق انتشار الأمية الأبجدية، وهذا يساعد – إلى حد كبير – على ترسيخ ظواهر
التخلف، عندما يلبس الدجال ما يمارسه ثوب الدين.
لا تظهر
الخرافة إلا في مجتمع لا يدرك أن للكون سنناً، فلا تبدو ظاهرة من ظواهره إلا بناءً
على سبب مادي، ولا نرى حدثاً في الطبيعة بدون مقدمات تؤثر في تكوينه، كذلك لا تحدث
المشكلات بدون أسباب، فلكل شيء سبب، ولكل ظاهرة كونية مقدمات طبيعية. هذا القانون
العلمي لا يؤمن به الجاهل؛ إذ يلجأ إلى الدجالين ليفسروا له أسباب الكوارث
الطبيعية، ويسأل المشعوذين عن حل لمشكلاته الاجتماعية، وعن وصفات سحرية ليعالج به
أمراضه، ويُطَبِّب بها ما يعتريه من أزمات نفسية، وعلل عاطفية. فهذا الاعتقاد غير
العلمي، والإيمان بما يقوله السحرة ، ويوحى به المشعوذون ، ويروجه الدجالون قائم على
أساس عدم المعرفة بسنن الله في الكون ، ويرتكز على جذور الخواء الفكري، المتعمقة في
عقول الشعوب التي لم تنل حظاً وافراً من المعلم والمعرفة ، تلك الشعوب التي لم
تعرف دينها كما يجب ، ولا تفهم قيمه إلا من خلال أنصاف المتعلمين ، فزادوهم جهلاً
، وطمسوا عقولهم بالخرافات ، فلم تتحرك لفهم الحياة الإنسانية بالصورة التي رسمتها
الأديان السماوية ، وأعموا أبصارهم بخزعبلات وطلاسم هوت بهم إلى وادٍ سحيق من
الجهل ، وقذفت بهم إلى حيث لا يتصرفون إلا بتوجيهات من الجهلاء والمُغَيَّبين عن
روح الدين وفلسفته ، وهى توجيهات وتعليمات قائمة على الخرافة ، ومنبثقة من عالم
الكهان والشياطين.
كانت هذه هي
الصورة الحاكمة في مجتمعات القرون الوسطى، وبين الشعوب التي انحدر فيها الفكر،
فغاب العقل عن القيام بواجبه في فهم الحياة وما حولها ومن حولها ومن يعيشها، كما
أنها – أي الإيمان بالخرافة – هي الغالبة على عادات وتقاليد التجمعات البدائية،
سواء كان موقعها في الريف أو في الصحراء والبادية. ومن المؤسف حقاً أنها لا زالت هي
المسيطرة على عقول كثير من الناس في القرن الواحد والعشرين ، ليس فقط في الأوساط
التي لم تنل حظاً وافراً من التعليم في المجتمعات الإسلامية ، بل لازالت الحاكمة في
كثير من الممارسات الاجتماعية في الأوساط المتعلمة ، بل واصلت الصعود في طبقات
المجتمع حتى وصلت إلى النخبة الثقافية العليا ، التي تتبوأ القمة في مجالات
التوجيه والإرشاد؛ إذ نرى كثيراً من هؤلاء المثقفين يبررون الاعتقادات في هذه
الخرافات ، وخاصة في التأثير المادي للعين الشريرة؛ " إذ يكاد يكون الاعتقاد
في تأثير العين الشريرة على المعيون عاماً وشاملاً لجميع المجتمعات الإنسانية ، إذ
لا يخلو تراث من قصص وأساطير ، تتحدث عن ضحايا الحاسدين، وعن مآسي المحسودين من
جراء ما لحق بهم من ضرر ، نتيجة وقوعهم تحت لحظة من عين حسود ، أو نظرة خاطفة من
عين شريرة ، بل إن من النادر – وخاصة في المجتمعات النامية– أن يتخلص فرد من هذا
الموروث الاعتقادي ، مهما كانت درجة ثقافته وعلمه ، وعلى أي شكل حضاري كانت حياته
ومعيشته ، إذ يقع العالم والجاهل ، والمثقف وغير المثقف ، والبدائي والحضاري تحت
تأثير هذا الاتجاه ، حيث يرى نفسه أمام الظواهر التي لا يستطيع لها تفسيراً ،
أسيراً لهذا الاعتقاد ، وخاصة عندما تعجز قدرته عن معرفة أسباب ما يصيبه ، أو يصيب
أحداً من أقاربه ، أو ممن يتصلون به ، ويحتك بهم في حياته ، ولذلك نراه يميل إلى
تصديق ما يروى له من أساطير ، تُبَرِّر اعتقاده في هذا المجهول ، وتؤكد له وقوع
مثل هذه الظواهر في قديم الزمان وحديثه ، فترتاح نفسه ويستقر في قلبه ما يطمئنه
على أن ما يعتقده في هذا المجال ليس بعيداً عن الواقع بل هو حقيقة مؤكدة ، وإن لم
يتوصل الإنسان بعدُ إلى سبب مادى يؤكدها . وكأن تلك المرويات الخرافية هي الدليل
الذي لا يُنْقَض – على الأقل في وجدانه – على ما يعتقده معظم الناس – إن لم يكن
كلهم تقريباً – في تأثير عين العائن على المعيون، فيطمئن قلبه، وترتاح نفسه، بل
تراه ينبري للدفاع عنه، إذا ووجه بما يشكك في صحته، أو يزعزع الإيمان به، فيظلل
يردد ما سمعه من أساطير العصور الماضية حول هذا الموضوع بأسلوب يوحى للسامع بأنه
قد عاشها، ورأى هذه الأحداث بأم عينه. وهذا يؤكد ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن
أساطير المجتمعات البدائية لم تختف كلية من المجتمعات المعاصرة، وخاصة إذا كانت أسباب
ما تدور حوله لازالت مجهولة، لم يكتشفها العلم بعد. " [2]
وهنا يتبادر
إلى الذهن سؤال، ألا وهو: هل شاع الجهل بين الناس في المجتمع نتيجة اعتقادهم في
الخرافة، أم أن هذا الاعتقاد نتج عن الجهل؟
يبدو أن هناك
تأثيراً وتأثّراً بينهما؛ فلا تنتشر الخرافة إلا في مجتمع غير متعلم، كما أن
الخرافة تضيف إلى من يعتقد فيها جهلاً، حيث يركن إليها، عازفاً عن البحث عن الأسباب
الطبيعية للظواهر الكونية، أو للمشكلات التي تواجهه في حياته، أو يراها في مجتمعه،
فيزداد جهلاً، ويكمل بذلك
الثالوث الذي يفتك بالمجتمعات، فيعوق تقدمها، ويشل حركتها، فتصاب الأفراد بالعجز
عن اكتشاف ما يجهلونه، واستحداث ما يحتاجون إليه في حياتهم. هذا الثالوث هو: الجهل
والفقر والمرض، إذ باعتقاده في الخرافة يخيم الكسل على حياته، فلا ينشط في مجال
الحصول على الرزق، فيهوى في عالم الفقر، وإذا أصيب بمرض فلا تسعفه قدرته الفكرية –
حيث هي مشلولة بالخرافة – على الذهاب لطبيب ليعالجه، فيتجه إلى من يغرقه في خرافة
العلاج بالسحر، أو التعاويذ، أو غيرها من أساليب الدجالين العقيمة، فتزداد علته،
وقد يؤدى به الأمر إلى الهلاك، وبذلك يسيطر هذه الثالوث على المجتمعات المتخلفة
فيزيدها تخلفاً وانحداراً في قاع السلم الحضاري في هذه الحياة.