إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 26 نوفمبر 2020

 

O

                                                          لا للخرافة

أ‌.       د/ محمد شامة

تتردد كلمة " التخلف " كثيراً على السنة الناس في المجتمعات الإسلامية، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية، وتدرج وضعهم الاجتماعي، كما تعقد المؤتمرات والندوات، حيث تلقى المحاضرات العلمية لمعالجة هذه الظاهرة، ولم يقتصر هذا الاهتمام على النشاط الفردي واهتمامات الجماعات والهيئات المدنية، بل أصبح الحديث عن جوانب التخلف مدار السياسات الدولية، والموضوع الرئيسي لواضعي الخطط التنموية على جميع مستوياتها وتشعب مجالاتها. بل إن العديد من الكتب والإصدارات العلمية تركز على بيان آفة التخلف في المجتمع ، وتأثيرها على التفكير العلمي في المجتمع المعاصر – وخاصة في المجتمعات الإسلامية - ؛ إذ يري كثير من المفكرين أن تراجع التفكير العلمي، و بالتالي سقوط المجتمع – أفراداً ومؤسسات – في بؤرة التخلف، يرجع أساساً إلى هيمنة "الخرافة" على العقل العربي و الإسلامي، المستمدة والمستندة إلى ما يوجد في بعض كتب التراث من أساطير وخرافات ، وإلى ما نراه في المجتمع من ممارسات الشعوذة والدجل والتنجيم ، وإلى الاعتقاد في السحر والطير ، والإيمان بالأشباح ، والاعتقاد في الأموات والأولياء ، ودعاوى امتلاك وتسخير الجن ، وقصص تلبس الجن بالبشر ، وزواجهم منهم ، واستيلائهم على مساكنهم ...وغير ذلك من الاعتقادات والممارسات التي تُغَيِّب العقل ، وتشل حركة الإنسان في هذا الكون ، وتروج للكسل و التمادي في غياهب الظلمات ، والركون إلى من – وما – يقضى على النشاط الإنساني في هذا الوجود ، الأمر الذى يدعو المسلم إلى الدعة والراحة المميتة ، تاركاً العمل والإنتاج لغيره ، حتى وصل حال المجتمعات الإسلامية إلى تسول ما تحتاج إليه من أولئك الذين حرروا أنفسهم من الأساطير ، وصانوا حياتهم من الشعوذة وأباطيل السحر ، فانطلقوا في آفاق الأرض ، ينتجون ، ويخترعون ، ويبدعون ، فتخلصوا من التخلف ، وركبوا قطار التقدم ، تاركين المُغَيَّبَة عقولهم ، والمُخَدَّرَة أعصابهم بالخرافات يلهثون وراءهم ليلتقطوا ما يسقط من فضلاتهم ، ويستجدوا منهم ما يسدون به رمقهم ، وتلك حالة معظم الأفراد والمجتمعات الإسلامية :

-       كسل، وركون للخرافة، فلا ينتجون طعامهم،

-       استجداء الأقوياء – وهم غير المسلمين – ليرموا إليهم ما يحتاجون إليه في حياتهم،

-       استعطافهم حتى يرضوا عنهم، فلا يمنعون عنهم رحيق الحياة،

-       الطاعة المطلقة لمن بيده منتجات الحضارة التي تقوم عليها الحياة المعاصرة،

-       التنازل التدريجي عن قيمهم ومبتدئهم حتى لا يغضبوا أسيادهم الذين يمدونهم بمتطلبات الحياة.     

تتخلل الخرافة – بأسبابها ودوافعها – إلى العقل، فتشل حركته، فيركن إلى التفاسير غير العلمية لما يواجه الإنسان من مشكلات، ويستكين إلى ما يمليه الدجالون من أسباب لتعليل الظواهر، مما يصرفه عن البحث والتفكير العلمي لاكتشاف ما تنبثق منه تلك الظواهر، ومعرفة أسباب ما يواجهه من مشكلات، الأمر الذى يُغَيِّب العقل كلية عن التفكير فيما حوله. ومما يؤكد له هذا لتصرف ما يردده المشعوذون والدجالون من التفسير الديني أو الأخلاقي لبعض الظواهر والكوارث الطبيعية كالزلازل وكسوف الشمس وخسوف القمر ، أو أسباب الأوبئة القاتلة والحوادث المفجعة ، وكذلك ما تقدمه الخرافة لضحاياها ، أو تعدهم بحلول ومعالجات مغرية لمشكلاتهم وتحقيق رغباتهم ، ومن ذلك اللجوء لأعمال السحر والشعوذة والتنجيم ، ليس فقط لمحاولة علاج الأمراض العضوية بالقرآن والتمائم ، أو حل المشكلات الزوجية بالسحر والأعمال         " السفلية " ، وإنما أيضاً لأغراض أخرى عديدة من قبيل محاولة استكشاف المستقبل السياسي، والمهني، وتكوين الثروة       ( وذلك – كما شاع ولا زال يردده بعض البلهاء في بعض المجتمعات الإسلامية – باستكثار أو استنساخ الدولارات باستخدام الزئبق الأحمر ) ، بل وحتى في الألعاب الرياضية ، حيث تلجأ بعض الفرق إلى تعويذات تضعها في شباكها كي تصد – هكذا يعتقدون – هجمات الفريق المنافس .

ومن الواضح أنه كلما انتشرت الخرافة في المجتمع، وتغلغلت في عقول وأفئدة الأفراد، ابتعدوا عن التفكير العلمي في مجالات الحياة المختلفة، وازدادت تبعاً لذلك تلك " العلوم " التي تروج لكل ما هو ضد العقل من أعمال الدجل والشعوذة.

ومما يزيد من استفحال هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية ما تدره على ما يمارسون الشعوذة من مكاسب مادية كبيرة:[1] ما يدفع البعض إلى ممارسة هذه المهنة وإهمال بذل الجهد لتعلم المهن التي تحتاج إلى دراسة جادة وتحصيل الكثير من المعلومات:

-       سهولة الإلمام بقواعد وأساليب المهن المرتبطة بالخرافة،

-       ما يشاع عن بعض الإنجازات والنجاحات للمهن التي توظف الخرافة، وخاصة في بعض المجالات والحالات التي تعجز فيها المهن التعليمية،

-       شيوع الأمية الأبجدية في العالم الإسلامي، وكذلك انتشار الأمية الدينية بدرجة تفوق انتشار الأمية الأبجدية، وهذا يساعد – إلى حد كبير – على ترسيخ ظواهر التخلف، عندما يلبس الدجال ما يمارسه ثوب الدين.

لا تظهر الخرافة إلا في مجتمع لا يدرك أن للكون سنناً، فلا تبدو ظاهرة من ظواهره إلا بناءً على سبب مادي، ولا نرى حدثاً في الطبيعة بدون مقدمات تؤثر في تكوينه، كذلك لا تحدث المشكلات بدون أسباب، فلكل شيء سبب، ولكل ظاهرة كونية مقدمات طبيعية. هذا القانون العلمي لا يؤمن به الجاهل؛ إذ يلجأ إلى الدجالين ليفسروا له أسباب الكوارث الطبيعية، ويسأل المشعوذين عن حل لمشكلاته الاجتماعية، وعن وصفات سحرية ليعالج به أمراضه، ويُطَبِّب بها ما يعتريه من أزمات نفسية، وعلل عاطفية. فهذا الاعتقاد غير العلمي، والإيمان بما يقوله السحرة ، ويوحى به المشعوذون ، ويروجه الدجالون قائم على أساس عدم المعرفة بسنن الله في الكون ، ويرتكز على جذور الخواء الفكري، المتعمقة في عقول الشعوب التي لم تنل حظاً وافراً من المعلم والمعرفة ، تلك الشعوب التي لم تعرف دينها كما يجب ، ولا تفهم قيمه إلا من خلال أنصاف المتعلمين ، فزادوهم جهلاً ، وطمسوا عقولهم بالخرافات ، فلم تتحرك لفهم الحياة الإنسانية بالصورة التي رسمتها الأديان السماوية ، وأعموا أبصارهم بخزعبلات وطلاسم هوت بهم إلى وادٍ سحيق من الجهل ، وقذفت بهم إلى حيث لا يتصرفون إلا بتوجيهات من الجهلاء والمُغَيَّبين عن روح الدين وفلسفته ، وهى توجيهات وتعليمات قائمة على الخرافة ، ومنبثقة من عالم الكهان والشياطين.

كانت هذه هي الصورة الحاكمة في مجتمعات القرون الوسطى، وبين الشعوب التي انحدر فيها الفكر، فغاب العقل عن القيام بواجبه في فهم الحياة وما حولها ومن حولها ومن يعيشها، كما أنها – أي الإيمان بالخرافة – هي الغالبة على عادات وتقاليد التجمعات البدائية، سواء كان موقعها في الريف أو في الصحراء والبادية. ومن المؤسف حقاً أنها لا زالت هي المسيطرة على عقول كثير من الناس في القرن الواحد والعشرين ، ليس فقط في الأوساط التي لم تنل حظاً وافراً من التعليم في المجتمعات الإسلامية ، بل لازالت الحاكمة في كثير من الممارسات الاجتماعية في الأوساط المتعلمة ، بل واصلت الصعود في طبقات المجتمع حتى وصلت إلى النخبة الثقافية العليا ، التي تتبوأ القمة في مجالات التوجيه والإرشاد؛ إذ نرى كثيراً من هؤلاء المثقفين يبررون الاعتقادات في هذه الخرافات ، وخاصة في التأثير المادي للعين الشريرة؛ " إذ يكاد يكون الاعتقاد في تأثير العين الشريرة على المعيون عاماً وشاملاً لجميع المجتمعات الإنسانية ، إذ لا يخلو تراث من قصص وأساطير ، تتحدث عن ضحايا الحاسدين، وعن مآسي المحسودين من جراء ما لحق بهم من ضرر ، نتيجة وقوعهم تحت لحظة من عين حسود ، أو نظرة خاطفة من عين شريرة ، بل إن من النادر – وخاصة في المجتمعات النامية– أن يتخلص فرد من هذا الموروث الاعتقادي ، مهما كانت درجة ثقافته وعلمه ، وعلى أي شكل حضاري كانت حياته ومعيشته ، إذ يقع العالم والجاهل ، والمثقف وغير المثقف ، والبدائي والحضاري تحت تأثير هذا الاتجاه ، حيث يرى نفسه أمام الظواهر التي لا يستطيع لها تفسيراً ، أسيراً لهذا الاعتقاد ، وخاصة عندما تعجز قدرته عن معرفة أسباب ما يصيبه ، أو يصيب أحداً من أقاربه ، أو ممن يتصلون به ، ويحتك بهم في حياته ، ولذلك نراه يميل إلى تصديق ما يروى له من أساطير ، تُبَرِّر اعتقاده في هذا المجهول ، وتؤكد له وقوع مثل هذه الظواهر في قديم الزمان وحديثه ، فترتاح نفسه ويستقر في قلبه ما يطمئنه على أن ما يعتقده في هذا المجال ليس بعيداً عن الواقع بل هو حقيقة مؤكدة ، وإن لم يتوصل الإنسان بعدُ إلى سبب مادى يؤكدها . وكأن تلك المرويات الخرافية هي الدليل الذي لا يُنْقَض – على الأقل في وجدانه – على ما يعتقده معظم الناس – إن لم يكن كلهم تقريباً – في تأثير عين العائن على المعيون، فيطمئن قلبه، وترتاح نفسه، بل تراه ينبري للدفاع عنه، إذا ووجه بما يشكك في صحته، أو يزعزع الإيمان به، فيظلل يردد ما سمعه من أساطير العصور الماضية حول هذا الموضوع بأسلوب يوحى للسامع بأنه قد عاشها، ورأى هذه الأحداث بأم عينه. وهذا يؤكد ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن أساطير المجتمعات البدائية لم تختف كلية من المجتمعات المعاصرة، وخاصة إذا كانت أسباب ما تدور حوله لازالت مجهولة، لم يكتشفها العلم بعد. " [2]

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال، ألا وهو: هل شاع الجهل بين الناس في المجتمع نتيجة اعتقادهم في الخرافة، أم أن هذا الاعتقاد نتج عن الجهل؟

يبدو أن هناك تأثيراً وتأثّراً بينهما؛ فلا تنتشر الخرافة إلا في مجتمع غير متعلم، كما أن الخرافة تضيف إلى من يعتقد فيها جهلاً، حيث يركن إليها، عازفاً عن البحث عن الأسباب الطبيعية للظواهر الكونية، أو للمشكلات التي تواجهه في حياته، أو يراها في مجتمعه، فيزداد جهلاً، ويكمل بذلك الثالوث الذي يفتك بالمجتمعات، فيعوق تقدمها، ويشل حركتها، فتصاب الأفراد بالعجز عن اكتشاف ما يجهلونه، واستحداث ما يحتاجون إليه في حياتهم. هذا الثالوث هو: الجهل والفقر والمرض، إذ باعتقاده في الخرافة يخيم الكسل على حياته، فلا ينشط في مجال الحصول على الرزق، فيهوى في عالم الفقر، وإذا أصيب بمرض فلا تسعفه قدرته الفكرية – حيث هي مشلولة بالخرافة – على الذهاب لطبيب ليعالجه، فيتجه إلى من يغرقه في خرافة العلاج بالسحر، أو التعاويذ، أو غيرها من أساليب الدجالين العقيمة، فتزداد علته، وقد يؤدى به الأمر إلى الهلاك، وبذلك يسيطر هذه الثالوث على المجتمعات المتخلفة فيزيدها تخلفاً وانحداراً في قاع السلم الحضاري في هذه الحياة.

                                                                                            أ. د/ محمد شامة


[1]  ) نشر مركز البحوث الجنائية في القاهرة تقريراً يفيد أن العرب ينفقون سنوياً زهاء خمسة مليارات دولاراً أمريكياً على الشعوذة ، وأن هناك 250 ألفاً ، أى ربع مليون ، يمارسون مهمة الشعوذة في العالم العربي.

[2]  ) شامة: صـ 103 – 104

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

 

O

 

الوضوء مظهر حضاري

أ‌.       د/ محمد شامة

استقر في ذهن كل ذي عقل وبصيرة أن الصانع خبير بما يصن، فهو يعلم دقائق أسراره، لأنه هو الذي أنشأه وركبه، ويدرك مدى قدرة الآلة التي صممها، ولذلك يعطى لمن يستعملها بيعاناً بأجزائها، وتفصيلاً بكيفية تشغيلها، حتى لا يحملها فوق طاقتها فيفسدها، أو يستعملها في غير ما صممت له فيدمرها. هذه أمور لا يختلف عليها اثنان، ولا ينازع فيها أصحاب الإدراكات السليمة: عقل واعٍ، وفهم سليم، ومنطق مستقيم، ونظرة لا يشوبها ضعف، ولا يعتريها سقم، ولا يتسرب إليها ضلال.

إذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بما يبدعه المخلوق، فأولى أن نسلم تسليماً جازماً بأن خالق الكون عليم بأسراره ومكوناته، خبير بتوظيف كلٍّ لما خُلِق له، فلا يضع مخلوقاً في بيئة لا تناسبه، ولا يطلب مما – وممن – خلق ما لا يستطيع إنجازه، فلا يكلفه بما لا يطيق، ولا يفرض عليه ما تعجز قدرته عن القيام به، ومن هنا كانت التعاليم الدينية ووجوب الالتزام بها في حدود طاقة الإنسان، والأوامر الإلهية مناسبة لقدرته واستطاعته، يقول تعالى " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا.... " [البقرة: 286]، حتى عند التكليف بأمر يستثنى من الالتزام به الضعفاء الذين لا يستطيعون تأديته، أو الذين تضطرهم ظروفهم إلى عدم الالتزام به فيعفى المضطر من تناول المحرمات، يقول تعالى:  " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ..... " [البقرة: 173]، وغير ذلك من الآيات التي ترفع الحرج عن المسلم إذا اضطرته ظروفه إلى عدم الالتزام بما نهى الله عنه.([1])

فلو تتبعنا التعاليم الإسلامية التي نزل بها الوحى على رسول r ليبلغها للناس كتكليف يجب اتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه لوجدناها مشتملة على هذين العنصرين الأساسيين: لا تكليف إلا على المستطيع ، وإعفاء المضطر من الإثم ، إذا ارتكب محرماً أو ترك واجباً دينيًّا ، بالإضافة إلى أن الفرائض ، سواء كانت أمراً أو نهياً لم تفرض إلا لحاجة الإنسان إليها في حياته ، ولفائدة تعود عليه فرداً أو جماعة ، فإذا استعرضنا فريضة الوضوء ، نجد أن الله فرضه بقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ.... " [المائدة: 6]

فتعقيبه على بيان هذه الفريضة بقوله: " مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ .... " يوضح الغاية من الوضوء، وهي الطهارة، أي تخليص البدن من الأوساخ والنجاسات، وتطهيره من الشوائب والأدران التي تتسبب في الأمراض التي تصيب جسم الإنسان. ومما لاشك فيه أن وقاية الأفراد والمجتمعات من الأمراض تبدأ من النظافة، ولهذا تعنى المؤسسات الصحية عناية فائقة بالإرشادات الصحية التي تقوم أساساً على تعليم الناس وتعويدهم على استخدام الماء في تنظيف أبدانهم، والمحافظة على تخليص بيئتهم من الأوساخ والقاذورات، كي يحافظوا على صحتهم وسلامة أبدانهم.

قد يتساءل المرء عن علاقة غسل هذه الأعضاء الأربعة التي وردت
في الآية السابقة بالحرص على نظافة الجسم كله، وما يتعلق به، وما يحيط به !!!!

ولبيان هذا اللبس نشير إلى أن الإسلام لم يقتصر في إلزام المسلم بنظافة هذه الأعضاء الأربعة، بل أمره – فرضاً وسنة -بغسل جميع البدن في حالات عدة: عند الجنابة، وقبل الذهاب إلى المسجد في يوم الجمعة وفى العيدين ...و.... و....الخ، كما أمره بالتزين عند كل مسجد – أي عند كل لقاء مع الناس -، يقول تعالى " يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ....... " [الأعراف: 31 ]، فقد روى عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول
الله
r : " لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ، فقال رجل : يا رسول لله ! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً (وذكر أشياء، حتى ذكر علاقة سوطه)، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال: لا! ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفَّه الحق، وازدرى الناس." ([2])

ومن يقرأ كتب الفقه الإسلامي يجد الكثير من الأوامر و النواهي التي تدور حول المحافظة على النظافة والتخلص من كل الآفات التي تضر بصحة الإنسان ، سواء كان ذلك فيما يتعلق باشتراط طهارة الثوب والمكان عند الصلاة ، أو وجوب الاستنجاء ، أو فرائض الغسل – والوضوء – وسننه العديدة ، وغيرها من الأمور التي لو التزم بها المسلمون لصاروا من أكثر شعوب الأرض نظافة ، وأشدهم حرصاً على حماية الصحة العامة بالتزامهم تعاليم الإسلام فيما يتعلق بالنظافة ؛ وأذكر أنني كتبت كتاباً عن العبادات في الإسلام باللغة الألمانية ، وأعطيته لصديق ألماني، يعيش في القاهرة ، ليراجعه لغويًّا ، فجاءني بعد أيام مندهشاً ، وقال لي : لو أن إنساناً قرأ تعاليم الإسلام فيما يتعلق بالطهارة ، ولم ير المجتمعات الإسلامية لظن أنها  من أرقى المجتمعات نظافة ، لكن الواقع خلاف ذلك .

وهذا ينقلنا إلى بيان فلسفة الإسلام في هذا الجانب ، ذلك أن تركيز فروض الوضوء على غسل الأطراف فقط، ليس لأنها أكثر من غيرها تعرضاً لما يعلق في الهواء من شوائب وملوثات فحسب ، بل لتعويد المسلم أيضاً على طهارة كل ما يتصل به ، فمن ينظف هذه الأعضاء الأربعة خمس مرات كل يوم ، لن يهمل في نظافة غيرها من ملبس ، ومكان وبيئة ، بمنازلها وشوارعها وطرقاتها ، وغير ذلك مما تقع عليه عينه ، أو يتصل به اتصالاً مباشراً أو غير مباشر ، إذ يحافظ على نظافة البيئة ، بل إنه لا يصبر على وجود ما يلوثها من قاذورات ونفايات ، لأنه تعود على الطهارة ، وألف النظافة ، وارتاحت نفسه للمناظر الجميلة ، ونفرت من كل ما يشوب هذا الجمال من كل قبح يشع من جنبات الملوثات ذات الروائح الكريهة .

ومما لاشك فيه أن الإحساس الذي انبثق من الالتزام بفرائض الوضوء وتعاليم الإسلام فيما يتعلق بالنظافة والطهارة يحمى المجتمع من الأمراض، ويطبعه بطابع حضاري، يساعد على العمل والإنتاج، فتنهض الأمة، وتزدهر الحياة فيها بما يسهم في بناء دولة تتبوأ مكانة سامية بين الأمم.

قد يقال: إذا فهم هذا من غسل الأعضاء التي فرض الله طهارتها للصلاة، فكيف نفهم هذا من التيمم، وهو وضع التراب على الوجه واليدين إلى المرفقين ؟؟؟

علل الفقهاء فرضية التيمم، بأنه بديل الوضوء عند تعذر استعمال الماء، كأن يكون مفقوداً، أو ينتج ضرر لا يمكن تحمله عند استعماله، أو يحول بينه وبين الحصول عليه حائل لا يمكن التغلب عليه، لأن الفرض – وخاصة إذا كان يتعلق بالصلاة -إذا تعذر القيام به فلا بد أن يكون له بديل، أيًّا كان نوع هذا البديل، حتى لا يسقط الفرض دون تأدية عوض عنه.

وقد قيل أيضاً: إنه أمر تعبدي، ولا يسأل عن علة الواجبات التعبدية، مهما كانت هيئتها وأشكالها، وعلى أي وضع كان تنفيذها والالتزام بتأديتها؛ فقد يكون لها أسرار وفوائد، لم يتمكن الإنسان بوسائله المحدودة من الوقوف عليها ومعرفتها. يردد المعلمون والمتعلمون – وأنا منهم – هذا التفسير للتيمم في المدرجات العلمية وفى الدروس الدينية، ويسجلونه في كتبهم وأبحاثهم، ويجيبون به من يسألهم من غير المسلمين، ويفندون به مطاعن المستشرقين على هذه الفريضة، وإن كان بعضهم – أي بعض المستشرقين -لا يقتنع بهذا التعليل، ويظل على موقفه بأن التيمم لا معنى له، ولا فائدة فيه في مجال النظافة والتطهر. وكنت دائم البحث والتفكير عن صيغة منطقية أشرح بها هذا الفرض لغير المسلمين ، فهداني تفكيري إلى أن أطلق في كتابي: " العبادات في الإسلام " باللغة الألمانية على التيمم مصطلح: " الطهارة الرمزية "، وظننت أنه اصطلاح يحد من هجوم المشتغلين بالدراسات الإسلامية من غير المسلمين... إلى أن ساق لي القدر – بتوفيق من الله – حلاً شافياً لهذه المشكلة ؛ فقد شاهدت برنامجاً حواريًّا في التلفزيون مع إحدى الباحثات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وكان موضوع بحثها لنيل درجة الدكتوراه عن عادات وتقاليد البدو الذين يعيشون في أعماق الصحراء . ذكرت الباحثة أنها عاشت بينهم تسع سنوات، ولم يكن عندهم من الماء إلا ما يكفى للشرب وللطهى فقط، فلما استفسرت منها المذيعة عن كيفية الحياة بدون ماء للاستحمام والنظافة، ردت عليها بأن وسيلة النظافة في تلك المناطق هي الرمل، فلو أخذت حفنة من الرمل ودلكت بها جسمك لزال كل ما علق به من ذرات الجو وشوائبه، بل إن الجلد يصير ناعماً براقاً، ونظيفاً نظافة تفوق ما يحدثه الماء في جسم الإنسان! لا  تعليق !!!! فالقصة أبلغ دليل على حكمة مشروعية التيمم، وفيها الإجابة على كل ما يوجهه المستشرقون إلى الإسلام من طعن في هذه الفريضة.

                                      أ.د/ محمد شامة


([1]) اقرأ ذلك في: المائدة، الأنعام، والأعراف، والنحل، والمؤمنون.

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ 1 صـ 399

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

 

O

الأمية بشعبها الثلاثة

من منظور إسلامي

                                                أ. د/ محمد شامة  

 للأميَّة مجالات متعددة، وأنواع مختلفة، تنطلق كلها وتتمحور حول الأمية الهجائية، فهي الأساس الذي تقوم عليه كل أنواع الأمية، سواء كانت تتعلق بالأمية الوظيفية أو المعلوماتية، أو الأمية العلمية والثقافية، وكذلك الأمية الدينية. فكل أنواعها تنطلق من ثلاث: الأمية الهجائية، والأمية الثقافية، والأمية الدينية. فكل أنواع الأميَّات الأخرى متفرعة عنها، بل إن الأمية الأبجدية هي أساس كل ما يطلق عليه أميَّة، ولهذا كانت أول آية نزلت من القرآن الكريم تشير إلى أنه يجب على الإنسان أن يزيل أميَّته الأبجدية حتى تتفتح أمامه كل أبواب محو الأميَّة أيًّا كان نوعها وفي أي درجة كان وضعها في حياة البشر، فضلاً عن أنها هي أساس بناء الحضارات؛ إذ لم تزدهر أي حضارة إلا على أساس القراءة والكتابة، فالعنصر الأساسي لبناء الحضارة وازدهارها هو تسجيل ما ينتجه الإنسان في جميع مجالات حياته، سواء كان ذلك بالكتابة أو النقش، أو التعبير عنه بالآثار؛ فلم تقم حضارة –أيًّا كان نوعها وموضوعها-على أساس السرد الشفهي، بل إن تسجيلها، بأي نوع من أنواع التعبير، يعتبر لبنة في بنائها، بل إن البناء عليها يحدد بارتفاع معين؛ إذ كلما كان الإنسان قادراً على استيعاب ما تركه له السابقون، ومدركاً لدوره في سلسلة البناء الحضاري، اندفع بكل قوة إلى إضافة حلقة جديدة في سلسلة الحضارة الممتدة عبر التاريخ الإنساني.

  اهتم المصلحون عبر التاريخ الإنساني بمعالجة ما يظهر في المجتمع من نواحي سلبية؛ إذ يدعون في برامجهم الإصلاحية إلى توجيه مواطنيهم إلى التصدي للسلبيات في سلوكهم، ومحاربة ما يظهر في حياتهم من أمور تعيق مسيرة حياتهم، أو تطغى على الجوانب الإيجابية في معيشتهم، فهم ينادون في برامجهم إلى نبذ كل ما من شأنه أن يضرهم صحيًّا في أبدانهم، أو يشوه أفكارهم بأمور تهوي بهم إلى المهالك في معيشتهم من جراء ما تحمل في طياتها من مبادئ تشوه وجه الحياة من كلا جانبيها: المادية والروحانية.

ذلك هو الطابع العام لمناهج المصلحين على اختلاف دعواتهم وتنوع أساليب مناهجهم الإصلاحية، ولم يختلف هذا المضمون العام باختلاف القرون والأزمان، ولا بتنوع سبل الحياة على امتداد القرى والنجوع، وأساليب الحكم في الدول والمقاطعات.

  لم يسلك الإسلام هذا السبيل؛ فلم يوجه محمد e في بدء دعوته سكان مكة إلى نبذ ما هم عليه من مظاهر سلبية من ناحية العقيدة أو من ناحية السلوك؛ إذ جاءت الآيات الأولى من الوحي بعيدة كل البعد عن هذا المنهج المعروف  والمتبع في التاريخ الإنساني، بل اتجه إلى أسلوب لم تعرفه البشرية من قبل؛ لأنه من العليم الحكيم، اتجه إلى الإشارة إلى محو الأميَّة الأبجدية، فنزلت الآيات الأولى تعالج هذه الأمية، لأنها هي الأساس لمحو الأميَّات المتعددة، فقال تعالى: ﱡﭐ   [العلق: ١ – ٥]

العلم والثقافة

كانت كلمة "العلم" فيما مضى تطلق ويراد بها جميع أنواع المعارف الإنسانية سواء كانت نظرية، أو تطبيقية: تجريبية، أو استقرائية. فالفيزياء علم، والنحو عِلْم. كذلك الطبيعة والتاريخ والجغرافيا وغيرها. فقد شاع بين الناس: علم النحو، وعلم الفلك، وعلم البلاغة، وعلم الطب... إلخ. فكانت كلمة العلم شائعاً استعمالها في كل مجالات البحث والمعرفة، فإذا أريد تحديدها أضيفت إلى فرع العلوم الذي يراد تمييزه عن غيره. كذلك أطلقت كلمة "عالم" على كل من اشتغل بالبحث الفكري واتخذ مجالاً من مجالات العلوم والمعارف مهنة له، فإن احتاج الأمر إلى تحديد مجاله فإنه يعرف باشتقاق من نوع الفكر الذي يشتغل به، فيقال: فقيه، أو محدث، أو نحوي، أو كيميائي وغير ذلك من الأوصاف التي تبين اختصاصه، ولم يمنع ذلك من وصفه بكلمة "عالم" مع بيان تخصصه، فيقال: العالم الفقيه، أو العالم المحدث، ومن هنا كانت كلمة "علم" عامة تطلق على كل فروع المعرفة.

غير أننا وجدنا في العصر الحديث من يحصر كلمة "العلم" في مجال التجربة والتطبيق، فأطلقوها على المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنتاج كعلم الفيزياء، والكمياء، وسائر العلوم التجريبية. وكان ذلك ترجمة لكلمة "Science"، ثم استعملوا كلمة "الثقافة" فيما عدا ذلك، كعلم الإنسان "الإنثروبولوجيا" وعلم الأقوام "الإنثولوجيا"، وعلم النفس "السيكولوجيا"، ووضعوا لها مصطلحاً عامًّا، وهو: "علوم الإنسانيات"، كما أنشأوا كليات تعرف بهذا الاسم.

 وكان ذلك نتيجة لدخول مصطلح "الثقافة" واستعماله في مجال المعرفة؛ لأنهم أرادوا التمييز بين العلم والثقافة، فأطلقوا كلمة "العلم" على المعارف التجريبية والتطبيقية، وأطلقوا كلمة "الثقافة" على المعرفة النظرية. ومن هنا جاء تعريف الثقافة مختلفاً باختلاف فروع العلوم الإنسانية، فعرفها علماء "الإنثروبولوجيا" بأنها: طرز ونظم من العادات التي يمارسها الراشدون بدرجات متفاوتة، والتي تساعدهم على التكيف والتوافق مع البيئة المحيطة بهم، فضلاً عن التكيف والتوافق مع بعضهم البعض، وهذه العادات يتلقاها من الآباء، كما يكتسبونها من علاقاتهم واحتكاكهم بالمجتمع الذي يعيشون في ظله. وعرفها بعض الباحثين بأنها: "مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أوَّلي في الوسط الذي ولد فيه" فإذا قارنا بين هذا التصور للثقافة مضافاً إليه ما ذكرناه فيما سبق من تصور التربوي لها بأنها "مجموعة من الأفكار والتقاليد والعادات" وبين ما يفهم من كلمة " العلم" بالمفهوم الحديث، وهو ما يتعلق بالمعرفة التجريبية والتطبيقية لخرجنا من هذه المقارنة بما يأتي:

1.   مجال العلم: الطبيعة وما يتعلق بها، ومجال الثقافة: الإنسان، وبالتحديد عقيدته، وتقاليده، وعاداته، وما يتعلق بها من أفكار وتصورات.

2.   العلم لا وطن له؛ لأن مجاله الطبيعة، وهو حقل مشترك بين الناس جميعاً. وبناء عليه فما يتوصل الإنسان إليه من بحثه فيها لا يحمل طابع أي شعب؛ إذ ليس له صفة الإقليمية أو سمات العرقية، بل هو عالمي، ومباح لكل الناس. ولهذا فلا خوف منه على عقيدة فلن يمسها، ولا خطر منه على تقاليد أو عادات فلا يحمل عناصر تهديدها. وعليه فلا حرج على المسلم أن يأخذ نتائج أبحاث الآخرين في هذا المجال، مهما كانت عقائدهم واتجاهاتهم الفكرية؛ فهي أبحاث مجردة لا تأثير لها على عقيدة المسلم، ولا ضرر منها على تقاليده وعاداته.

3.   تختص الثقافة بالمعتقدات والتقاليد والعادات، وأساليب الحياة، والنظام الأسري، وهذه كلها أمور تختلف فيها الشعوب نظراً لاختلاف العقائد التي هي مصدر كل الموضوعات الثقافية؛ ولهذا تختلف من شعب لآخر، وتتوقف عليها كيان الأمة وهويتها، فإذا تهاونت الأمة في ثقافتها فتجاهلتها، أو استعاضت عنها بثقافة أجنبية، تصدع كيانها وضاعت هويتها، وذابت في سحابة من استعارات ثقافته، وذلك هو ما يسعى إليه كل مستعمر؛ إذ يجدّ في استبدال ثقافته بثقافة المحتلين كي يذوبوا في كيانه، وتنمحي شخصيتهم فيما أعده لهم من ثياب مستعارة، كي يظل مسيطراً على مقاديرهم، موجهاً لأفكارهم، فيضمن ذلك له استمرار السيطرة عليهم.

أما إذا أحست الأمة بأن ثقافتها تختلف عن ثقافة الآخرين، وأنها تتميز عنهم بتمسكها بهذه الثقافة، فإن هذا الإحساس يؤدي بها إلى:

1.   الالتفاف حول مفهوم وجودها وحول ثقافتها التي تحس بكيانها في ظلها.

2.   حماية الأمة من الذوبان والتآكل والاحتواء من قِبَل الآخرين.

3.   بذل الجهد في سبيل نشر هذه الثقافة، واستعذاب ما يحل بالناس في سبيلها من تضحيات.

   فيجب على كل مسلم أن يفرق في مجال المعرفة بين علوم تجريبية وتطبيقية، وبين ما يطلق عليه في العصر الحديث كلمة " الثقافة" ليدرك أن الأولى عالمية لا حرج عليه من أخذها دون أن يفكر في هوية مصدرها ومنبعها، فليس لها تأثير سلبي على كيانه وذاته، وأن الثانية محلية، تحمل طابع عقيدة شعبها وتقاليده وعاداته، فلا يسمح بأخذ شيء في هذا المجال إلا إذا كان متأكداً من أنه لا يتعلق بعقيدة، ولا يحدث تأثيراً في مجال السلوك يهدد كيان الأمة أو يمسخ هويتها ويبدد معالمها بين الأمم.[1]

 

 الثقافة الدينية

   للثقافة الدينية مستويات عدة، فالمستوى الأول ينحصر في معرفة المسلم فروض العبادات من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج. ومصدر معرفته بهذه الفروض: الأسرة والمجتمع. وتكاد الأمية في هذا المستوى تكون معدومة؛ لأن من لا يعرف هذه الفروض نسبة ضئيلة جدًّا، تعيش في أماكن بعيدة عن العمران، أو في مجتمعات غير إسلامية. ومحو أمية هذه الفئة (المستوى الأول) في هذا المجال يقع على عاتق من يتخرجون في مؤسسات تعليمية، فيقومون بعقد جلسات علمية في المساجد، أو يلقون دروساً دينية في المدارس الابتدائية. وثقافة نسبة كبيرة من هؤلاء لا تتعدى الإلمام بمذهب فقهي واحد دون معرفة آراء المذاهب الأخرى المخالفة لهذه المدرسة الفقهية، ولهذا فتأثيرهم على العامة محدود؛ إذ لا يتعدى رأياً واحداً قد لا يناسب بعض حالات من يحضر هذه الدروس، ولهذا فهم أميُّون (إن جاز هذا التعبير) بالنسبة لآراء المذاهب المخالفة لرأى مذهبه. ومحو أميَّة هؤلاء في هذا المجال ملقى على عاتق من يؤهلونهم لهذه المهمة؛ إذ يجب عليهم أن يعدوهم للفتوى في جميع المذاهب، حتى يستطيعوا تلبية الحالات المختلفة للسائلين عن حكم يناسب وضعهم في الحياة. ولهذا يجب على واضعي المناهج لهذه المؤسسات الدينية مراعاة هذه الحالة حتى يتمكن المتخرج منه من اختيار الآراء التي تناسب حالة طالبي الفتوى متعددي الأحوال والاتجاهات الفكرية.  

   يلي هذا مستوى أولئك الذين يواجهون موجات التطور في حياة المجتمعات والأفراد، ويتلاطمون مع ظواهر جديدة لم يعرفها علماؤنا في العصور السابقة، ولم يدركها المسلمون الذين تجمدت آراؤهم على ما تركه لهم السابقون، ولم يفهمها من لم تسعفهم قدرتهم الفكرية على إدراك المستجدات في حياة المجتمعات الإنسانية؛ إذ وقف تفكيرهم عند المستويات السابقة في عالم الفكر الإسلامي، فحفظوا ما تركه لهم السابقون، وحاولوا إنزال أحكامهم على أحداث لا صلة لها بالحياة المعاصرة، فصاروا أشبه بأهل الكهف، غردوا وحدهم، فانصرف كثير من المسلمين عن عالمهم، واتجهوا إلى طريق بعيد عن تعاليم الإسلام ، وفلسفة تشريعاته.    

  وكان من الواجب على من يتحدث باسم الإسلام، ويشرح تعاليمه أن يفهم أن الإسلام صاح لكل زمان ومكان، وما ذاك إلا لأن نصوصه المقدسة تحمل من المعاني ما يلائم كل عصر، وينسجم مع كل ما يجد من ظواهر تثبت أنها ضرورية للحياة الإنسانية مهما اختلفت الظروف، وتعددت صور الحياة في المجتمعات الإنسانية. فنسبة الأمية في هذا المجال كبيرة؛ إذ لا يدرك ضرورة فهم التشريعات الإسلامية وملاءمتها لكل العصور، مهما اختلفت درجة تحضرها إلا من اتسعت ثقافتهم الدينية، بحيث يدركون أن القرآن الكريم قطعي النص ظني الدلالة؛ بمعنى أنه يحمل من المعاني ما يلائم كل عصر، وينسجم مع كل بيئة، وأن آراء السابقين –في معظمها-صيغت لتلائم حياة المسلمين آنذاك، فلا يجوز لنا أن نطبقها في بيئة مخالفة، إذ لو عاش علماؤنا القدامى في عصرنا لغيروا آراءهم حتى يمكن تطبيقها على مجتمعنا المعاصر، ولنا فيما قاله الشافعي دليل على ذلك؛ فقد غير آراءه في مصر عما كان له من الآراء في العراق، ولما سئل عن هذا التغيير أجاب بأن الحياة في مصر تختلف عنها في العراق. فعلى علمائنا المعاصرين فهم هذه الفلسفة وتطبيقها فيما يصدرون من فتاوى، حتى لا ينفصلوا عن العصر ويغردوا وحدهم بعيداً عن أحوال مجتمعهم والظروف الحياتية المعاصرة.

أ‌.       د/ محمد شامة  



) شامة: الشباب مرآة المجتمع صـــ 41-44ـ[1]

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2020

 

O

بين العلمانيين ورجال الدين

                                                            أ. د/ محمد شامة

تدور معارك في كثير من الأقطار الإسلامية بين العلمانيين وبين رجال الدين حول الأخذ بمبدأ الديمقراطية، إذ يرى العلمانيون أن هذا النظام هو النموذج المثالي لحكم الشعوب في العصر الحديث، ذلك أنه يتيح لكل فرد فرصة اختيار نوابه عن طريق تعدد الاتجاهات، وتنوع البرامج الحزبية، فهو مخير بين عدة خيارات يختار منها ما يلائم حياته، وما يحقق مصلحته، وما يتفق مع نظرته للحياة، وموقفه من الوجود كله. فإذا ما فاز اتجاه برأي الأغلبية، فعلى الجميع أن يسلموا بأحقيته في تسيير دفة الحكم ، مع إعطاء الاتجاه المعارض حق مناقشة القوانين واللوائح التي يتقدم الحاكمون بها إلى المجلس المنتخب لإقرارها كأساس لتطبيق النظام في المجتمع ، وبهذا لا ينفرد شخص بتقرير مصير الأمة ، ولا يكون لمجموعة ، او هيئة ، أو حزب حق الاستيلاء على السلطة بدون تفويض من الشعب ، كما لا يجوز للسلطة التنفيذية اتخاذ أى إجراء يتعلق بمصالح الناس ، إلا إذا أجازه من اختارهم الشعب ليمثله في توجيه أمور الدولة ، فالتوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية يحفظ نظام الدولة من التداعي والانهيار ، والاعتراف بحق نواب الشعب في مساءلة رجال الإدارة والحكم فيما يمارسونه بحكم وضعهم الوظيفي ، يحمى المواطنين من قسوة الحكام وظلمهم ، ويحافظ على مصالحهم ، ويؤمن حياتهم ، ويرسى قواعد الاستقرار في الأمة .

بينما يرى بعض رجال الدين أن هذا من النظم التي أقرتها العلمانية ، وما دامت العلمانية لا تعترف بوجود الدين – كما هو الحال في العلمانية المتطرفة – أو لا ترى باساً من  وجوده - كما هو الحال في العلمانية المعتدلة - ، غاية الأمر أنه ينحصر في ظلها في مجال العبادات – والأحوال الشخصية ( الزواج والطلاق والميراث) - ، فليس له سلطان على التشريعات واللوائح التي تضبط مسيرة الحياة ، وإنما مركز التشريع ومصدره هو البرلمان المنتخب من الشعب ، ولا مصدر غيره ، فلا يجو لشعب مسلم أن يقر هذا النظام كنموذج له في الحكم ، لأن المشرع هو الله ، وليس البرلمان . ثم يتطرق المتطرفون من رجال الدين إلى مظاهر هذا النظام المتعددة، فيحرمونها كلها إذ يرون أن نظام تعدد الأحزاب ليس إسلامياً، لأنه يفرق الأمة شيعاً وأحزاباً، ولذلك فهو غير جائز، كما أن تسمية البرلمان بالهيئة التشريعية حرام، لأن المشرع هو الله.

ربط العلمانيون – على غير أساس علمي تاريخي – هذا الموقف بما كان عليه الحال في أوربا إبان العصور الوسطى، إذ تصوروا وضع السلطة البابوية آنذاك، يوم أن كان البابا والمطارنة والقسس يحللون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، ويدخلون الجنة من يردون، ويقذفون في النار من يكرهون. وتراءت في أذهانهم صور صكوك الغفران والحرمان، حيث قاسى منها الحكام والأمراء الكثير من المتاعب والآلام، بل إن الشعوب نفسها اكتوت بنارها، وذاقت جحيم أوارها وسعيرها، فتصوروا – أي العلمانيين – أن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال الحكم والإدارة سيخلق مثل هذا الوضع في المجتمع الإسلامي، حيث يتحكم رجال الدين في كل شيء، دون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض أو المناقشة، لأنهم محصنون بسياج قدسي، لا يجرؤ أحد على تخطيه، اللهم إلا من خلع رداء الإيمان.

فأي مسلم يستطيع أن يضع نفسه في هذا الموقف؟

لا أحد!

وتكون النتيجة القضاء على كل صوت معارض، فتترعرع الديكتاتورية الدينية، وتضيع حقوق الناس بين فكيها، وتهدر كرامة الإنسان تحت أقدامها، كما حدث في القرون الوسطى، حيث كانت الكنيسة تبسط سلطانها على جميع مجالات الحياة.

   إن هذه الصورة لا وجود لها في الإسلام على الإطلاق، إذ لا يعرف في تعاليمه هذا المصطلح المسيحي: رجل دين ، وغير رجل دين ، لأن الكل في ظل الإسلام مسلمون ، لا فرق في الحقوق والواجبات بين رجل وآخر ، وليس فى الإسلام عصمة لأحد من الخطأ كما هو الحال في المسيحية بالنسبة للبابا ، فكل مسلم خطاء ، ومادام الأمر كذلك فلكل أحد الحق في المعارضة ، لأنه لا يوجد رأى لا يجوز معارضته ، وبهذا تنتفى شبهة العلمانيين في إمكان قيام ديكتاتورية دينية ، إذ مادام الإسلام قد أعطى كل مسلم الحق في المعارضة ، فلن تقوم في ظله ديكتاتورية .

أما بالنسبة لما يراه بعض " رجال الدين " من تحريم النظام البرلماني، لأنه يدعى لنفسه حق التشريع، بينما المشرع هو الله، فلا ينبغي أن يفهم وضع البرلمان على هذا النحو، ذلك أن تعاليم الإسلام ومبادئه العامة لا يجوز المساس بها، فهي بمثابة الدستور الذي لا يجوز للبرلمان أن يوافق على تشريع قانون يتعارض مع مبادئه، فالتشريع يدور في أمور فرعية تندرج تحت ظل مبادئ الدستور العامة. فإذا أردنا أن نبين طبيعة عمل البرلمان في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية، فإننا نرى أنها لا تخرج عن إقرار تفسير لنصوص القرآن الكريم دون آخر، وما أكثر آراء العلماء في التفسير والتأويل. فنصوص القرآن لا يجوز الخروج عليها صراحة، كما هو الوضع بالنسبة لعدم الخروج عن الدستور، وإنما يجوز لأعضاء البرلمان إقرار قانون يتفق مع رأى عالم يرون فيه مصلحة المجتمع، دون رأى عالم آخر لا يحقق هذه المصلحة، وبهذا يكون دور البرلمان هو الاختيار والانتقاء من آراء العلماء بما يناسب طبيعة الحياة وظروف العصر.

أ‌.       د/ محمد شامة

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...