O
الأمية بشعبها الثلاثة
من منظور إسلامي
أ. د/ محمد شامة
للأميَّة مجالات متعددة، وأنواع مختلفة، تنطلق كلها
وتتمحور حول الأمية الهجائية، فهي الأساس الذي تقوم عليه كل أنواع الأمية، سواء
كانت تتعلق بالأمية الوظيفية أو المعلوماتية، أو الأمية العلمية والثقافية، وكذلك
الأمية الدينية. فكل أنواعها تنطلق من ثلاث: الأمية الهجائية، والأمية الثقافية،
والأمية الدينية. فكل أنواع الأميَّات الأخرى متفرعة عنها، بل إن الأمية الأبجدية
هي أساس كل ما يطلق عليه أميَّة، ولهذا كانت أول آية نزلت من القرآن الكريم تشير
إلى أنه يجب على الإنسان أن يزيل أميَّته الأبجدية حتى تتفتح أمامه كل أبواب محو
الأميَّة أيًّا كان نوعها وفي أي درجة كان وضعها في حياة البشر، فضلاً عن أنها هي
أساس بناء الحضارات؛ إذ لم تزدهر أي حضارة إلا على أساس القراءة والكتابة، فالعنصر
الأساسي لبناء الحضارة وازدهارها هو تسجيل ما ينتجه الإنسان في جميع مجالات حياته،
سواء كان ذلك بالكتابة أو النقش، أو التعبير عنه بالآثار؛ فلم تقم حضارة –أيًّا
كان نوعها وموضوعها-على أساس السرد الشفهي، بل إن تسجيلها، بأي نوع من أنواع
التعبير، يعتبر لبنة في بنائها، بل إن البناء عليها يحدد بارتفاع معين؛ إذ كلما
كان الإنسان قادراً على استيعاب ما تركه له السابقون، ومدركاً لدوره في سلسلة
البناء الحضاري، اندفع بكل قوة إلى إضافة حلقة جديدة في سلسلة الحضارة الممتدة عبر
التاريخ الإنساني.
اهتم المصلحون
عبر التاريخ الإنساني بمعالجة ما يظهر في المجتمع من نواحي سلبية؛ إذ يدعون في
برامجهم الإصلاحية إلى توجيه مواطنيهم إلى التصدي للسلبيات في سلوكهم، ومحاربة ما
يظهر في حياتهم من أمور تعيق مسيرة حياتهم، أو تطغى على الجوانب الإيجابية في
معيشتهم، فهم ينادون في برامجهم إلى نبذ كل ما من شأنه أن يضرهم صحيًّا في
أبدانهم، أو يشوه أفكارهم بأمور تهوي بهم إلى المهالك في معيشتهم من جراء ما تحمل
في طياتها من مبادئ تشوه وجه الحياة من كلا جانبيها: المادية والروحانية.
ذلك هو الطابع العام لمناهج المصلحين على اختلاف دعواتهم
وتنوع أساليب مناهجهم الإصلاحية، ولم يختلف هذا المضمون العام باختلاف القرون
والأزمان، ولا بتنوع سبل الحياة على امتداد القرى والنجوع، وأساليب الحكم في الدول
والمقاطعات.
لم يسلك الإسلام هذا السبيل؛ فلم يوجه محمد e في بدء دعوته سكان مكة إلى نبذ ما هم عليه من مظاهر سلبية من ناحية العقيدة أو من ناحية السلوك؛ إذ جاءت الآيات الأولى من الوحي بعيدة كل البعد عن هذا المنهج المعروف والمتبع في التاريخ الإنساني، بل اتجه إلى أسلوب لم تعرفه البشرية من قبل؛ لأنه من العليم الحكيم، اتجه إلى الإشارة إلى محو الأميَّة الأبجدية، فنزلت الآيات الأولى تعالج هذه الأمية، لأنها هي الأساس لمحو الأميَّات المتعددة، فقال تعالى: ﱡﭐ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﱠ [العلق: ١ – ٥]
العلم والثقافة
كانت كلمة "العلم" فيما مضى تطلق ويراد بها
جميع أنواع المعارف الإنسانية سواء كانت نظرية، أو تطبيقية: تجريبية، أو استقرائية.
فالفيزياء علم، والنحو عِلْم. كذلك الطبيعة والتاريخ والجغرافيا وغيرها. فقد شاع
بين الناس: علم النحو، وعلم الفلك، وعلم البلاغة، وعلم الطب... إلخ. فكانت كلمة
العلم شائعاً استعمالها في كل مجالات البحث والمعرفة، فإذا أريد تحديدها أضيفت إلى
فرع العلوم الذي يراد تمييزه عن غيره. كذلك أطلقت كلمة "عالم" على كل من
اشتغل بالبحث الفكري واتخذ مجالاً من مجالات العلوم والمعارف مهنة له، فإن احتاج
الأمر إلى تحديد مجاله فإنه يعرف باشتقاق من نوع الفكر الذي يشتغل به، فيقال:
فقيه، أو محدث، أو نحوي، أو كيميائي وغير ذلك من الأوصاف التي تبين اختصاصه، ولم
يمنع ذلك من وصفه بكلمة "عالم" مع بيان تخصصه، فيقال: العالم الفقيه، أو
العالم المحدث، ومن هنا كانت كلمة "علم" عامة تطلق على كل فروع المعرفة.
غير أننا وجدنا في العصر الحديث من يحصر كلمة
"العلم" في مجال التجربة والتطبيق، فأطلقوها على المعرفة التي تؤخذ عن
طريق الملاحظة والتجربة والاستنتاج كعلم الفيزياء، والكمياء، وسائر العلوم
التجريبية. وكان ذلك ترجمة لكلمة "Science"، ثم استعملوا كلمة "الثقافة" فيما عدا ذلك،
كعلم الإنسان "الإنثروبولوجيا" وعلم الأقوام "الإنثولوجيا"،
وعلم النفس "السيكولوجيا"، ووضعوا لها مصطلحاً عامًّا، وهو: "علوم
الإنسانيات"، كما أنشأوا كليات تعرف بهذا الاسم.
وكان ذلك نتيجة
لدخول مصطلح "الثقافة" واستعماله في مجال المعرفة؛ لأنهم أرادوا التمييز
بين العلم والثقافة، فأطلقوا كلمة "العلم" على المعارف التجريبية
والتطبيقية، وأطلقوا كلمة "الثقافة" على المعرفة النظرية. ومن هنا جاء
تعريف الثقافة مختلفاً باختلاف فروع العلوم الإنسانية، فعرفها علماء
"الإنثروبولوجيا" بأنها: طرز ونظم من العادات التي يمارسها الراشدون
بدرجات متفاوتة، والتي تساعدهم على التكيف والتوافق مع البيئة المحيطة بهم، فضلاً
عن التكيف والتوافق مع بعضهم البعض، وهذه العادات يتلقاها من الآباء، كما
يكتسبونها من علاقاتهم واحتكاكهم بالمجتمع الذي يعيشون في ظله. وعرفها بعض
الباحثين بأنها: "مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها
الفرد منذ ولادته كرأسمال أوَّلي في الوسط الذي ولد فيه" فإذا قارنا بين هذا
التصور للثقافة مضافاً إليه ما ذكرناه فيما سبق من تصور التربوي لها بأنها
"مجموعة من الأفكار والتقاليد والعادات" وبين ما يفهم من كلمة "
العلم" بالمفهوم الحديث، وهو ما يتعلق بالمعرفة التجريبية والتطبيقية لخرجنا
من هذه المقارنة بما يأتي:
1. مجال العلم: الطبيعة وما يتعلق بها، ومجال الثقافة:
الإنسان، وبالتحديد عقيدته، وتقاليده، وعاداته، وما يتعلق بها من أفكار وتصورات.
2. العلم لا وطن له؛ لأن مجاله الطبيعة، وهو حقل مشترك بين
الناس جميعاً. وبناء عليه فما يتوصل الإنسان إليه من بحثه فيها لا يحمل طابع أي
شعب؛ إذ ليس له صفة الإقليمية أو سمات العرقية، بل هو عالمي، ومباح لكل الناس.
ولهذا فلا خوف منه على عقيدة فلن يمسها، ولا خطر منه على تقاليد أو عادات فلا يحمل
عناصر تهديدها. وعليه فلا حرج على المسلم أن يأخذ نتائج أبحاث الآخرين في هذا
المجال، مهما كانت عقائدهم واتجاهاتهم الفكرية؛ فهي أبحاث مجردة لا تأثير لها على
عقيدة المسلم، ولا ضرر منها على تقاليده وعاداته.
3. تختص الثقافة بالمعتقدات والتقاليد والعادات، وأساليب
الحياة، والنظام الأسري، وهذه كلها أمور تختلف فيها الشعوب نظراً لاختلاف العقائد
التي هي مصدر كل الموضوعات الثقافية؛ ولهذا تختلف من شعب لآخر، وتتوقف عليها كيان
الأمة وهويتها، فإذا تهاونت الأمة في ثقافتها فتجاهلتها، أو استعاضت عنها بثقافة
أجنبية، تصدع كيانها وضاعت هويتها، وذابت في سحابة من استعارات ثقافته، وذلك هو ما
يسعى إليه كل مستعمر؛ إذ يجدّ في استبدال ثقافته بثقافة المحتلين كي يذوبوا في
كيانه، وتنمحي شخصيتهم فيما أعده لهم من ثياب مستعارة، كي يظل مسيطراً على
مقاديرهم، موجهاً لأفكارهم، فيضمن ذلك له استمرار السيطرة عليهم.
أما إذا أحست الأمة بأن ثقافتها تختلف عن ثقافة الآخرين،
وأنها تتميز عنهم بتمسكها بهذه الثقافة، فإن هذا الإحساس يؤدي بها إلى:
1. الالتفاف حول مفهوم وجودها وحول ثقافتها التي تحس
بكيانها في ظلها.
2. حماية الأمة من الذوبان والتآكل والاحتواء من قِبَل
الآخرين.
3. بذل الجهد في سبيل نشر هذه الثقافة، واستعذاب ما يحل
بالناس في سبيلها من تضحيات.
فيجب على كل مسلم أن يفرق في مجال المعرفة بين علوم
تجريبية وتطبيقية، وبين ما يطلق عليه في العصر الحديث كلمة " الثقافة" ليدرك
أن الأولى عالمية لا حرج عليه من أخذها دون أن يفكر في هوية مصدرها ومنبعها، فليس
لها تأثير سلبي على كيانه وذاته، وأن الثانية محلية، تحمل طابع عقيدة شعبها
وتقاليده وعاداته، فلا يسمح بأخذ شيء في هذا المجال إلا إذا كان متأكداً من أنه لا
يتعلق بعقيدة، ولا يحدث تأثيراً في مجال السلوك يهدد كيان الأمة أو يمسخ هويتها
ويبدد معالمها بين الأمم.[1]
الثقافة الدينية
للثقافة الدينية مستويات عدة، فالمستوى الأول ينحصر في
معرفة المسلم فروض العبادات من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج. ومصدر معرفته بهذه
الفروض: الأسرة والمجتمع. وتكاد الأمية في هذا المستوى تكون معدومة؛ لأن من لا
يعرف هذه الفروض نسبة ضئيلة جدًّا، تعيش في أماكن بعيدة عن العمران، أو في مجتمعات
غير إسلامية. ومحو أمية هذه الفئة (المستوى الأول) في هذا المجال يقع على عاتق من
يتخرجون في مؤسسات تعليمية، فيقومون بعقد جلسات علمية في المساجد، أو يلقون دروساً
دينية في المدارس الابتدائية. وثقافة نسبة كبيرة من هؤلاء لا تتعدى الإلمام بمذهب
فقهي واحد دون معرفة آراء المذاهب الأخرى المخالفة لهذه المدرسة الفقهية، ولهذا
فتأثيرهم على العامة محدود؛ إذ لا يتعدى رأياً واحداً قد لا يناسب بعض حالات من
يحضر هذه الدروس، ولهذا فهم أميُّون (إن جاز هذا التعبير) بالنسبة لآراء المذاهب
المخالفة لرأى مذهبه. ومحو أميَّة هؤلاء في هذا المجال ملقى على عاتق من يؤهلونهم
لهذه المهمة؛ إذ يجب عليهم أن يعدوهم للفتوى في جميع المذاهب، حتى يستطيعوا تلبية
الحالات المختلفة للسائلين عن حكم يناسب وضعهم في الحياة. ولهذا يجب على واضعي
المناهج لهذه المؤسسات الدينية مراعاة هذه الحالة حتى يتمكن المتخرج منه من اختيار
الآراء التي تناسب حالة طالبي الفتوى متعددي الأحوال والاتجاهات الفكرية.
يلي هذا مستوى أولئك الذين يواجهون موجات التطور في حياة
المجتمعات والأفراد، ويتلاطمون مع ظواهر جديدة لم يعرفها علماؤنا في العصور
السابقة، ولم يدركها المسلمون الذين تجمدت آراؤهم على ما تركه لهم السابقون، ولم
يفهمها من لم تسعفهم قدرتهم الفكرية على إدراك المستجدات في حياة المجتمعات
الإنسانية؛ إذ وقف تفكيرهم عند المستويات السابقة في عالم الفكر الإسلامي، فحفظوا
ما تركه لهم السابقون، وحاولوا إنزال أحكامهم على أحداث لا صلة لها بالحياة
المعاصرة، فصاروا أشبه بأهل الكهف، غردوا وحدهم، فانصرف كثير من المسلمين عن
عالمهم، واتجهوا إلى طريق بعيد عن تعاليم الإسلام ، وفلسفة تشريعاته.
وكان من الواجب على من يتحدث باسم الإسلام، ويشرح
تعاليمه أن يفهم أن الإسلام صاح لكل زمان ومكان، وما ذاك إلا لأن نصوصه المقدسة
تحمل من المعاني ما يلائم كل عصر، وينسجم مع كل ما يجد من ظواهر تثبت أنها ضرورية
للحياة الإنسانية مهما اختلفت الظروف، وتعددت صور الحياة في المجتمعات الإنسانية.
فنسبة الأمية في هذا المجال كبيرة؛ إذ لا يدرك ضرورة فهم التشريعات الإسلامية
وملاءمتها لكل العصور، مهما اختلفت درجة تحضرها إلا من اتسعت ثقافتهم الدينية،
بحيث يدركون أن القرآن الكريم قطعي النص ظني الدلالة؛ بمعنى أنه يحمل من المعاني
ما يلائم كل عصر، وينسجم مع كل بيئة، وأن آراء السابقين –في معظمها-صيغت لتلائم
حياة المسلمين آنذاك، فلا يجوز لنا أن نطبقها في بيئة مخالفة، إذ لو عاش علماؤنا
القدامى في عصرنا لغيروا آراءهم حتى يمكن تطبيقها على مجتمعنا المعاصر، ولنا فيما
قاله الشافعي دليل على ذلك؛ فقد غير آراءه في مصر عما كان له من الآراء في العراق،
ولما سئل عن هذا التغيير أجاب بأن الحياة في مصر تختلف عنها في العراق. فعلى علمائنا
المعاصرين فهم هذه الفلسفة وتطبيقها فيما يصدرون من فتاوى، حتى لا ينفصلوا عن
العصر ويغردوا وحدهم بعيداً عن أحوال مجتمعهم والظروف الحياتية المعاصرة.
أ.
د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق