O
بين العلمانيين ورجال الدين
أ. د/ محمد شامة
تدور معارك في كثير من الأقطار الإسلامية بين العلمانيين وبين رجال الدين حول الأخذ بمبدأ الديمقراطية، إذ يرى العلمانيون أن هذا النظام هو النموذج المثالي لحكم الشعوب في العصر الحديث، ذلك أنه يتيح لكل فرد فرصة اختيار نوابه عن طريق تعدد الاتجاهات، وتنوع البرامج الحزبية، فهو مخير بين عدة خيارات يختار منها ما يلائم حياته، وما يحقق مصلحته، وما يتفق مع نظرته للحياة، وموقفه من الوجود كله. فإذا ما فاز اتجاه برأي الأغلبية، فعلى الجميع أن يسلموا بأحقيته في تسيير دفة الحكم ، مع إعطاء الاتجاه المعارض حق مناقشة القوانين واللوائح التي يتقدم الحاكمون بها إلى المجلس المنتخب لإقرارها كأساس لتطبيق النظام في المجتمع ، وبهذا لا ينفرد شخص بتقرير مصير الأمة ، ولا يكون لمجموعة ، او هيئة ، أو حزب حق الاستيلاء على السلطة بدون تفويض من الشعب ، كما لا يجوز للسلطة التنفيذية اتخاذ أى إجراء يتعلق بمصالح الناس ، إلا إذا أجازه من اختارهم الشعب ليمثله في توجيه أمور الدولة ، فالتوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية يحفظ نظام الدولة من التداعي والانهيار ، والاعتراف بحق نواب الشعب في مساءلة رجال الإدارة والحكم فيما يمارسونه بحكم وضعهم الوظيفي ، يحمى المواطنين من قسوة الحكام وظلمهم ، ويحافظ على مصالحهم ، ويؤمن حياتهم ، ويرسى قواعد الاستقرار في الأمة .
بينما يرى بعض رجال الدين أن هذا من
النظم التي أقرتها العلمانية ، وما دامت العلمانية لا تعترف بوجود الدين – كما هو
الحال في العلمانية المتطرفة – أو لا ترى باساً من وجوده - كما هو الحال في العلمانية المعتدلة -
، غاية الأمر أنه ينحصر في ظلها في مجال العبادات – والأحوال الشخصية ( الزواج
والطلاق والميراث) - ، فليس له سلطان على التشريعات واللوائح التي تضبط مسيرة
الحياة ، وإنما مركز التشريع ومصدره هو البرلمان المنتخب من الشعب ، ولا مصدر غيره
، فلا يجو لشعب مسلم أن يقر هذا النظام كنموذج له في الحكم ، لأن المشرع هو الله ،
وليس البرلمان . ثم يتطرق المتطرفون من رجال الدين إلى مظاهر هذا النظام المتعددة،
فيحرمونها كلها إذ يرون أن نظام تعدد الأحزاب ليس إسلامياً، لأنه يفرق الأمة شيعاً
وأحزاباً، ولذلك فهو غير جائز، كما أن تسمية البرلمان بالهيئة التشريعية حرام، لأن
المشرع هو الله.
ربط العلمانيون – على غير أساس علمي تاريخي – هذا الموقف بما كان عليه الحال في أوربا إبان العصور الوسطى، إذ تصوروا وضع السلطة البابوية آنذاك، يوم أن كان البابا والمطارنة والقسس يحللون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، ويدخلون الجنة من يردون، ويقذفون في النار من يكرهون. وتراءت في أذهانهم صور صكوك الغفران والحرمان، حيث قاسى منها الحكام والأمراء الكثير من المتاعب والآلام، بل إن الشعوب نفسها اكتوت بنارها، وذاقت جحيم أوارها وسعيرها، فتصوروا – أي العلمانيين – أن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال الحكم والإدارة سيخلق مثل هذا الوضع في المجتمع الإسلامي، حيث يتحكم رجال الدين في كل شيء، دون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض أو المناقشة، لأنهم محصنون بسياج قدسي، لا يجرؤ أحد على تخطيه، اللهم إلا من خلع رداء الإيمان.
فأي مسلم يستطيع أن يضع نفسه في هذا
الموقف؟
لا أحد!
وتكون النتيجة القضاء على كل صوت معارض، فتترعرع الديكتاتورية الدينية، وتضيع حقوق الناس بين فكيها، وتهدر كرامة الإنسان تحت أقدامها، كما حدث في القرون الوسطى، حيث كانت الكنيسة تبسط سلطانها على جميع مجالات الحياة.
إن هذه الصورة لا وجود لها في الإسلام على الإطلاق، إذ لا يعرف في تعاليمه هذا المصطلح المسيحي: رجل دين ، وغير رجل دين ، لأن الكل في ظل الإسلام مسلمون ، لا فرق في الحقوق والواجبات بين رجل وآخر ، وليس فى الإسلام عصمة لأحد من الخطأ كما هو الحال في المسيحية بالنسبة للبابا ، فكل مسلم خطاء ، ومادام الأمر كذلك فلكل أحد الحق في المعارضة ، لأنه لا يوجد رأى لا يجوز معارضته ، وبهذا تنتفى شبهة العلمانيين في إمكان قيام ديكتاتورية دينية ، إذ مادام الإسلام قد أعطى كل مسلم الحق في المعارضة ، فلن تقوم في ظله ديكتاتورية .
أما بالنسبة لما يراه بعض " رجال الدين " من تحريم النظام البرلماني، لأنه يدعى لنفسه حق التشريع، بينما المشرع هو الله، فلا ينبغي أن يفهم وضع البرلمان على هذا النحو، ذلك أن تعاليم الإسلام ومبادئه العامة لا يجوز المساس بها، فهي بمثابة الدستور الذي لا يجوز للبرلمان أن يوافق على تشريع قانون يتعارض مع مبادئه، فالتشريع يدور في أمور فرعية تندرج تحت ظل مبادئ الدستور العامة. فإذا أردنا أن نبين طبيعة عمل البرلمان في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية، فإننا نرى أنها لا تخرج عن إقرار تفسير لنصوص القرآن الكريم دون آخر، وما أكثر آراء العلماء في التفسير والتأويل. فنصوص القرآن لا يجوز الخروج عليها صراحة، كما هو الوضع بالنسبة لعدم الخروج عن الدستور، وإنما يجوز لأعضاء البرلمان إقرار قانون يتفق مع رأى عالم يرون فيه مصلحة المجتمع، دون رأى عالم آخر لا يحقق هذه المصلحة، وبهذا يكون دور البرلمان هو الاختيار والانتقاء من آراء العلماء بما يناسب طبيعة الحياة وظروف العصر.
أ.
د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق