إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,255

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

 

O

 

الوضوء مظهر حضاري

أ‌.       د/ محمد شامة

استقر في ذهن كل ذي عقل وبصيرة أن الصانع خبير بما يصن، فهو يعلم دقائق أسراره، لأنه هو الذي أنشأه وركبه، ويدرك مدى قدرة الآلة التي صممها، ولذلك يعطى لمن يستعملها بيعاناً بأجزائها، وتفصيلاً بكيفية تشغيلها، حتى لا يحملها فوق طاقتها فيفسدها، أو يستعملها في غير ما صممت له فيدمرها. هذه أمور لا يختلف عليها اثنان، ولا ينازع فيها أصحاب الإدراكات السليمة: عقل واعٍ، وفهم سليم، ومنطق مستقيم، ونظرة لا يشوبها ضعف، ولا يعتريها سقم، ولا يتسرب إليها ضلال.

إذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بما يبدعه المخلوق، فأولى أن نسلم تسليماً جازماً بأن خالق الكون عليم بأسراره ومكوناته، خبير بتوظيف كلٍّ لما خُلِق له، فلا يضع مخلوقاً في بيئة لا تناسبه، ولا يطلب مما – وممن – خلق ما لا يستطيع إنجازه، فلا يكلفه بما لا يطيق، ولا يفرض عليه ما تعجز قدرته عن القيام به، ومن هنا كانت التعاليم الدينية ووجوب الالتزام بها في حدود طاقة الإنسان، والأوامر الإلهية مناسبة لقدرته واستطاعته، يقول تعالى " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا.... " [البقرة: 286]، حتى عند التكليف بأمر يستثنى من الالتزام به الضعفاء الذين لا يستطيعون تأديته، أو الذين تضطرهم ظروفهم إلى عدم الالتزام به فيعفى المضطر من تناول المحرمات، يقول تعالى:  " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ..... " [البقرة: 173]، وغير ذلك من الآيات التي ترفع الحرج عن المسلم إذا اضطرته ظروفه إلى عدم الالتزام بما نهى الله عنه.([1])

فلو تتبعنا التعاليم الإسلامية التي نزل بها الوحى على رسول r ليبلغها للناس كتكليف يجب اتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه لوجدناها مشتملة على هذين العنصرين الأساسيين: لا تكليف إلا على المستطيع ، وإعفاء المضطر من الإثم ، إذا ارتكب محرماً أو ترك واجباً دينيًّا ، بالإضافة إلى أن الفرائض ، سواء كانت أمراً أو نهياً لم تفرض إلا لحاجة الإنسان إليها في حياته ، ولفائدة تعود عليه فرداً أو جماعة ، فإذا استعرضنا فريضة الوضوء ، نجد أن الله فرضه بقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ.... " [المائدة: 6]

فتعقيبه على بيان هذه الفريضة بقوله: " مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ .... " يوضح الغاية من الوضوء، وهي الطهارة، أي تخليص البدن من الأوساخ والنجاسات، وتطهيره من الشوائب والأدران التي تتسبب في الأمراض التي تصيب جسم الإنسان. ومما لاشك فيه أن وقاية الأفراد والمجتمعات من الأمراض تبدأ من النظافة، ولهذا تعنى المؤسسات الصحية عناية فائقة بالإرشادات الصحية التي تقوم أساساً على تعليم الناس وتعويدهم على استخدام الماء في تنظيف أبدانهم، والمحافظة على تخليص بيئتهم من الأوساخ والقاذورات، كي يحافظوا على صحتهم وسلامة أبدانهم.

قد يتساءل المرء عن علاقة غسل هذه الأعضاء الأربعة التي وردت
في الآية السابقة بالحرص على نظافة الجسم كله، وما يتعلق به، وما يحيط به !!!!

ولبيان هذا اللبس نشير إلى أن الإسلام لم يقتصر في إلزام المسلم بنظافة هذه الأعضاء الأربعة، بل أمره – فرضاً وسنة -بغسل جميع البدن في حالات عدة: عند الجنابة، وقبل الذهاب إلى المسجد في يوم الجمعة وفى العيدين ...و.... و....الخ، كما أمره بالتزين عند كل مسجد – أي عند كل لقاء مع الناس -، يقول تعالى " يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ....... " [الأعراف: 31 ]، فقد روى عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول
الله
r : " لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ، فقال رجل : يا رسول لله ! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً (وذكر أشياء، حتى ذكر علاقة سوطه)، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال: لا! ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفَّه الحق، وازدرى الناس." ([2])

ومن يقرأ كتب الفقه الإسلامي يجد الكثير من الأوامر و النواهي التي تدور حول المحافظة على النظافة والتخلص من كل الآفات التي تضر بصحة الإنسان ، سواء كان ذلك فيما يتعلق باشتراط طهارة الثوب والمكان عند الصلاة ، أو وجوب الاستنجاء ، أو فرائض الغسل – والوضوء – وسننه العديدة ، وغيرها من الأمور التي لو التزم بها المسلمون لصاروا من أكثر شعوب الأرض نظافة ، وأشدهم حرصاً على حماية الصحة العامة بالتزامهم تعاليم الإسلام فيما يتعلق بالنظافة ؛ وأذكر أنني كتبت كتاباً عن العبادات في الإسلام باللغة الألمانية ، وأعطيته لصديق ألماني، يعيش في القاهرة ، ليراجعه لغويًّا ، فجاءني بعد أيام مندهشاً ، وقال لي : لو أن إنساناً قرأ تعاليم الإسلام فيما يتعلق بالطهارة ، ولم ير المجتمعات الإسلامية لظن أنها  من أرقى المجتمعات نظافة ، لكن الواقع خلاف ذلك .

وهذا ينقلنا إلى بيان فلسفة الإسلام في هذا الجانب ، ذلك أن تركيز فروض الوضوء على غسل الأطراف فقط، ليس لأنها أكثر من غيرها تعرضاً لما يعلق في الهواء من شوائب وملوثات فحسب ، بل لتعويد المسلم أيضاً على طهارة كل ما يتصل به ، فمن ينظف هذه الأعضاء الأربعة خمس مرات كل يوم ، لن يهمل في نظافة غيرها من ملبس ، ومكان وبيئة ، بمنازلها وشوارعها وطرقاتها ، وغير ذلك مما تقع عليه عينه ، أو يتصل به اتصالاً مباشراً أو غير مباشر ، إذ يحافظ على نظافة البيئة ، بل إنه لا يصبر على وجود ما يلوثها من قاذورات ونفايات ، لأنه تعود على الطهارة ، وألف النظافة ، وارتاحت نفسه للمناظر الجميلة ، ونفرت من كل ما يشوب هذا الجمال من كل قبح يشع من جنبات الملوثات ذات الروائح الكريهة .

ومما لاشك فيه أن الإحساس الذي انبثق من الالتزام بفرائض الوضوء وتعاليم الإسلام فيما يتعلق بالنظافة والطهارة يحمى المجتمع من الأمراض، ويطبعه بطابع حضاري، يساعد على العمل والإنتاج، فتنهض الأمة، وتزدهر الحياة فيها بما يسهم في بناء دولة تتبوأ مكانة سامية بين الأمم.

قد يقال: إذا فهم هذا من غسل الأعضاء التي فرض الله طهارتها للصلاة، فكيف نفهم هذا من التيمم، وهو وضع التراب على الوجه واليدين إلى المرفقين ؟؟؟

علل الفقهاء فرضية التيمم، بأنه بديل الوضوء عند تعذر استعمال الماء، كأن يكون مفقوداً، أو ينتج ضرر لا يمكن تحمله عند استعماله، أو يحول بينه وبين الحصول عليه حائل لا يمكن التغلب عليه، لأن الفرض – وخاصة إذا كان يتعلق بالصلاة -إذا تعذر القيام به فلا بد أن يكون له بديل، أيًّا كان نوع هذا البديل، حتى لا يسقط الفرض دون تأدية عوض عنه.

وقد قيل أيضاً: إنه أمر تعبدي، ولا يسأل عن علة الواجبات التعبدية، مهما كانت هيئتها وأشكالها، وعلى أي وضع كان تنفيذها والالتزام بتأديتها؛ فقد يكون لها أسرار وفوائد، لم يتمكن الإنسان بوسائله المحدودة من الوقوف عليها ومعرفتها. يردد المعلمون والمتعلمون – وأنا منهم – هذا التفسير للتيمم في المدرجات العلمية وفى الدروس الدينية، ويسجلونه في كتبهم وأبحاثهم، ويجيبون به من يسألهم من غير المسلمين، ويفندون به مطاعن المستشرقين على هذه الفريضة، وإن كان بعضهم – أي بعض المستشرقين -لا يقتنع بهذا التعليل، ويظل على موقفه بأن التيمم لا معنى له، ولا فائدة فيه في مجال النظافة والتطهر. وكنت دائم البحث والتفكير عن صيغة منطقية أشرح بها هذا الفرض لغير المسلمين ، فهداني تفكيري إلى أن أطلق في كتابي: " العبادات في الإسلام " باللغة الألمانية على التيمم مصطلح: " الطهارة الرمزية "، وظننت أنه اصطلاح يحد من هجوم المشتغلين بالدراسات الإسلامية من غير المسلمين... إلى أن ساق لي القدر – بتوفيق من الله – حلاً شافياً لهذه المشكلة ؛ فقد شاهدت برنامجاً حواريًّا في التلفزيون مع إحدى الباحثات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وكان موضوع بحثها لنيل درجة الدكتوراه عن عادات وتقاليد البدو الذين يعيشون في أعماق الصحراء . ذكرت الباحثة أنها عاشت بينهم تسع سنوات، ولم يكن عندهم من الماء إلا ما يكفى للشرب وللطهى فقط، فلما استفسرت منها المذيعة عن كيفية الحياة بدون ماء للاستحمام والنظافة، ردت عليها بأن وسيلة النظافة في تلك المناطق هي الرمل، فلو أخذت حفنة من الرمل ودلكت بها جسمك لزال كل ما علق به من ذرات الجو وشوائبه، بل إن الجلد يصير ناعماً براقاً، ونظيفاً نظافة تفوق ما يحدثه الماء في جسم الإنسان! لا  تعليق !!!! فالقصة أبلغ دليل على حكمة مشروعية التيمم، وفيها الإجابة على كل ما يوجهه المستشرقون إلى الإسلام من طعن في هذه الفريضة.

                                      أ.د/ محمد شامة


([1]) اقرأ ذلك في: المائدة، الأنعام، والأعراف، والنحل، والمؤمنون.

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ 1 صـ 399

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...