إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 15 مايو 2023

 

O

أبناء الأرحام المستأجرة

لمن ينتسبون؟

                                                             أ. د/ محمد شامة

استقر في الفقه الإسلامي-استناداً إلى نصوص قرآنية وأحاديث نبوية-أن المرضعة تأخذ مكان الأم في معظم الأحكام؛ فهي بمثابة الأم في الأحكام الأخلاقية، إذ يجب على ابنها من الرضاعة أن يحسن معاملتها كالأم سواء بسواء؛ لأنها أسهمت بجزء منها في تكوين جسمه، وتطوير خلاياه، فهو مدين لها بحياته بدرجة تكاد تكون متساوية مع إدانته لمن ولدته.

وتتطابق صلته بها مع صلته بأمه سواء بسواء في التشريعات المتعلقة بالزواج، فيحرم عليه الزواج بها، وبكل من يتصل بها من المحرمات عليه كما لو كانت هي التي ولدته، غير أن البحث العلمي في مجال التخصيب توصل إلى وسيلة لحل مشكلة عدم الإنجاب عند المرأة بسبب عجز الرحم عن الاحتفاظ بالبويضة المخصبة. تلك هي عملية إخصاب بويضة المرأة بماء زوجها، وزرعها في رحم امرأة أخرى، يستأجره الزوجان لاحتضان البويضة المخصبة، حتى يتحلق الجنين فيه، ويخرج بعد المدة المقررة وليداً قادراً على التكيف مع البيئة الخارجية.

وقد انتشرت هذه العملية في الغرب، وحلت مشكلة أولئك الأزواج الذين يطمعون في الحصول على ذرية، ولم يتمكنوا من ذلك؛ نظراً لعيب في رحم الزوجة. وأعتقد أن هذه العملية لا تتعارض مع حكم من أحكام الإسلام، وليس فيها ارتكاب لمحرم؛ إذ لا يحدث اتصال جنسي بين الزوج والمرأة صاحبة الرحم المستأجر، بل قد يحدث أنه لا يراها على الإطلاق؛ لأن ماءه يؤخذ بواسطة الطبيب مثل ما تؤخذ البويضة من زوجته الشرعية بواسطة طبيبة، وتخصب البويضة بماء الرجل في المعمل، ثم تضعها الطبيبة في رحم المرأة المستأجر، وتظل ترعاها حتى يولد ولادة طبيعية. وليس في هذا ارتكاب لمحرم، غير أن المشكلة التي نشأت عن هذه العملية هي أن إحدى السيدات التي احتضت البويضة المخصبة في رحمها ادعت أن الجنين ابنها، وتمسكت به، ورفضت تسليمه للزوجين صاحبي المني والبويضة، فثارت-في الغرب-مشكلة قانونية حول تبعية الجنين، أهو ابن الزوجين صاحبي المني والبويضة، وليس للمرأة التي احتضت هذه البويضة في رحمها، فتطور فيه من علقة إلى مضغة، إلى كائن حي بكل أجهزته البيولوجية والعصبية، حق الاحتفاظ به، أم أن لها هذا الحق؛ لأنه جزء منها؛ تكونت عظامه من عصارة جسدها، وتشكلت هيئته من دمها ولحمها؟

وإذا احتفظت به، فما علاقة الزوجين به؟ وما هي حقوقهما فيه وهما أصل وجوده؟ فالحيوان المني، الذي هو بذرة الحياة من الزوج، والبويضة التي خصبت هذا الحيوان المنوي، ومنحته استمرارية الحياة هي بويضة الزوجة؟

وإذا ردته إلى الزوجين على اعتبار أنهما مصدره، ومنشأ حياته، فهل صلته بمن احتواه رحمها مدة الحمل، وتكون لحمه ودمه منها؟ ألا يترتب على صلتها البيولوجية به حقوق واجبات يجب الالتزام بها ومراعاتها؟ وكيف يتحقق ذلك؟

درج كثر من المهتمين بالدراسات الإسلامية على رفض كل ما هو جديد باعتباره بدعة؛ استناداً إلى ما روي من أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، غافلين عن ظاهرة واضحة لمن له أدنى فهم؛ ألا وهي أن الحياة ليست جامدة، ولم تكن في يوم من الأيام ثابتة على حالة واحدة، بل متغيرة متطورة، وخاصة في القرن العشرين-وما بعدها-، فقد قفزت قفزات هائلة في مجال البحث العلمي بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تراكمت الاكتشافات تراكماً لم تشهد الإنسانية له مثيلاً على طول مسيرة وجودها على هذه الكرة الأرضية، سواء كان ذلك في مجال الطبيعة وباطن الأرض، أو في مجال ما يزرع فيها وينبت منها، أو في مجال الإنسان نفسه. ومن الإنجازات العلمية غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية ما توصل إليه الإنسان في علم الوراثة ووظائف الخلايا الدقيقة في خلق وتكوين الإنسان وتعديل سلوكياته، الأمر الذي يحتم على رجال الدين أن يجتهدوا في ضوء ما لديهم من نصوص مقدسة لاستحداث أحكام لهذه المستجدات، حتى تنسجم حياة الإنسان المتدين مع عقيدته، ويتناغم وقع الحياة مع الحقائق التي تكتشفها الأبحاث العلمية كل يوم، لأن النصوص المقدسة لا تحتوي على كل ما في الكون، بل يستحيل-من الناحية المنطقية و الواقعية-أن يُنَصَّ على كل ما يمكن أن يستحدث في الكون عبر عملية تطور الحياة الإنسانية، أو تكتشفه عقول البشر في معامل الأبحاث وساحات التنقيب في خبايا الكون وباطن الإنسان، فإذا جمد الفكر الديني عل ما عنده، ضارباً الصفح عن فحص الجديد وتقييمه دينيًّا أصيب المتدين بالتخبط والارتباك في حياته؛ فيصبح حائراً بين قوتين تتنازعانه؛ بين التمسك بآراء تحجرت عند مستوى معين من الحياة، تجذبه على العيش في إطار فات زمانه، وانتهى أوانه، وبين متطلبات تفرض عليه مواكبتها والسير في معها، وإلا داسته الأقدام، وقذفته أمواج الحياة خارج إطار التعامل مع من يعيشون معه. ومن هنا كان على رجال الدين واجب مقدس، لا يقل أهمية عن الدفاع عن الدين والجهاد في سبيل نشره بين الناس، بل أصبح من أهم واجبات رجال الدين في العصر الحاضر، ألا وهو العمل الدائب والمستمر ليلاً ونهاراً على فهم المستحدثات، والاجتهاد في بحث كل علاقاتها بالحياة، ومدى أهميتها للإنسان للوصول إلى صيغة تجعلها تنسجم مع روح الدين وتعاليمه، لـتأخذ طريقها في حياة المتدين وسلوكياته، وبذلك يرفع التناقض من حياته الوجدانية. ونشاطه في مجال الحياة الدنيوية وآفاقها.

ومن بين المستحدثات في حياتنا المعاصرة، مسألة الأرحام المستأجرة؛ فهل يجوز لمن حُرِمَ من الإنجاب لأسباب تتعلق بعدم قدرة الرحم على حضانة البويضة المخصبة من ماء الرجل أن يستأجر-أو يستعين بدون أجر-رحم امرأة أخرى، لتوضع فيه بويضة الزوجة المخصبة من ماء زوجها، وتستقر فيه حتى يتخلق الكائن الحي ويولد إنساناً في الموعد الطبيعي؟

يرى رجال الدين-دون فهم دراسة لجوانب الموضوع-أن هذا العمل حرام، لا يجوز للمسلم أن يباشره أو يسمح به، حتى إن بعض المتشددين ذهب إلى أن ذلك يعتبر "زنا" يعاقب فاعله بعقوبة من ارتكب الزنا، ونسي هؤلاء أن أركان الزنا لا تتوافر في هذا العمل على الإطلاق؛ إذ أن الرجل لم يباشر المرأة صاحبة الرحم المستأجر، بل قد يحدث ألا يراها على الإطلاق، فالطبيب هو الذي يقوم بعملية أخذ مني الرجل وبويضة المرأة وتلقيحها، ووضعها في رحم المرأة الثانية، وقد يأخذ مني الرجل طبيب ذكر، وتستخرج البويضة طبيبة، وهي التي تضعها في رحم المرأة الثانية، وبذلك تنتفي أية شبهة قد يثيرها هؤلاء المتشددون، أما مسألة اختلاط الأنساب فيمكن معالجتها بما يلي:

1.    يشترط أن تكون المرآة صاحبة الرحم المستأجر غير متزوجة.

2.    أن يكتب في سجل المولود أن له أمَّيْن: أمٌّ هي أصل ومنشأ حياته، وهي صاحبة البويضة، والأمُّ الثانية، هي أمٌّ احتضته في رحمها، وأمدته بكل ما يلزم لتكوينه حتى صار خلقاً سويًّا، وتكون علاقتهما به متساوية من ناحية الأحكام والالتزامات الشرعية، فعلاقته بها علاقة نسب؛ يحكمها ويضبطها كل ما يتعلق بالنسب من زواج وميراث؛ لأنهما-الأم صاحبة البويضة والأم صاحبة الرحم المستأجر-مشتركان في تكوينه، بل إن تربيته والإنفاق عليه صغيراً يكون من مسئوليتهما مع صاحب المني. فإذا اعترض بأن هذا يسبب نزاعاً بينهما، فيمكن تلافي ذلك بوضع قوانين تحدد مسئولية كل منهم في تربيته وتنشئته والإنفاق عليه حتى سن البلوغ، ثم ترفع وصايتهم جميعاً-الأب والأم نسباً، والأم رحماً-وتنقل الواجبات والالتزامات إليه، حيث ينبغي عليه أن يقدم لهم من الرعاية والعناية مثل ما يقدم الولد من النسب لأبويه، ولاشك أن ذلك ينبع من الوجدان، وتتحكم فيه عاطفته إزاء كل طرف منهم، فإذا كان وجدانه ميتاً وعاطفته متحجرة، فلا بأس من تدخل القانون بإلزامه تقديم ما يحتاجه الثلاثة منه في حياتهم، حيث رعوه ابتداءً من رحلة النطفة حتى صار إنساناً سويًّا.     

وللتفريق بين المرأتين يمكن أن يطلق على الأم صاحبة البويضة: الأم نسباً، والأم الثانية يطلق عليها: رحماً، مثلها في ذلك مثل: الأم من الرضاعة.

هذا رأيي، فإن كنت قد أخطأت، فإن لي أجراً واحداً عند الله، كما قال رسول الله e : "من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن أصاب فله أجران."

أرجو من الله أن يكون نصيبي أجرين، لأن هذا هوا الصواب كما أعتقد.

                                                والله أعلم.

أ‌.       د/ محمد شامة

الخميس، 4 مايو 2023

 

O

الدين والفن[1]

تعتبر حواس الإنسان قنوات موصلة للصور الفكرية، التي تحدث في محيطه إلى صفحة الذهن، حيث تتفاعل مع بعضها البعض، فتربي ملكة التفكير عنده، تلك الملكة، التي تلعب دوراً كبيراً وهامًّا، بل يكاد يكون رئيسيًّا في ضبط السلوك، وتوجيه النشاط في جميع مجالات الحياة، وأحياناً يصل تفاعل الصور الفكرية الواردة من خارج الإنسان مع قوى التفكير عنده، فتتحول إلى قوى إبداعية في استحداث صور جديدة في مجال الفكر بجميع فروعه، وقد يصل هذا الإبداع إلى حد الخيال المطلق الذي يحلق في سماء اللامعقول، مما يضفي على النفس شعوراً بكينونة الذات، وقدرتها على المشاركة في تكوين الصور التي تشرئب إليها النفس، وتهفو إليها الأفئدة، وتسعى إلى تحقيقها الجوارح، وتتبع مظانها النفس، فيرتاح القلب، وتهدأ الأعصاب، فيحس المرء بلذة تضفي عليه سكرة الاستمتاع بما أبدع من صور لم يسبق إليها، وتغشاه نشوة الفرح والسرور لما قدم للمجتمع في مجال الإبداع والابتكار.

ولا يقتصر الشعور بالنشوة والفرح على من أبدع وأخرج من الصور الفكرية ما يبعث الحياة في الأمم والأفراد، بل إن من يشاهد هذه الصور، أو تصل إلى وعيه وإدراكه عن طريق قنوات الاتصال يستمتع بها استمتاعاً لا يقل عن استمتاع من أنشأها وابتكرها. ومن هنا كان دور الفنانين والمبدعين في أي مجال من مجالات الحياة حيويًّا في حياة الأمم والشعوب، بل إنه ضروري؛ إذ تقوم عليه استمرارية التقدم، وتبنى عليه أسس الحضارة؛ لأن الأمة إذا نضب تفكيرها، وتوقف إبداع أبنائها، فعجزت عقولهم عن الابتكار، وتخلفت عن ركب الحضارة، وتوقفت عن الإسهام في مجالات الرقي والتقدم، فعند ذلك تفقد مكانتها بين الأمم، ويضيع وجودها في مجاهل التاريخ.

ولا ينبغي أن يقتصر التجديد والابتكار على جانب دون آخر من جوانب النشاط الإنساني، بل يجب أن يشمل كل مناحي الحياة، سواء كانت مادية أو معنوية، لأن استمرار التقدم المادي في المجتمعات المعاصرة يحتاج إلى دعم من الجانب المعنوي والروحي حتى يكون قادراً على العطاء، فلا يتوقف بسبب الملل أو الضجر الذي يصيب الإنسان عندما يغوص في أعماق المادة، و تتقاذفه تياراتها.

وأعني بالجانب المعنوي أو الروحي ذلك النشاط الذي يجدد الروح، ويجلو الصدأ عن سطح النفس، ويذيب تراكمات الملل التي خلفها الانغماس في محيط الأمواج المادية من على صور الإنسان، ولا يوجد شيء له هذه الفعالية إلا الفن بجميع أنواعه، فالإبداع في مجال الأدب راحة نفسية للمبدع، واستمتاع روحي للقارئ، والخيال في مجال القصة والرواية والتمثيل من وسائل تحقيق الذات لمن يكتب أو يمثل، وهي أسلوب ترفيهي-وتعليمي أيضاً-لمن يتلقى صورها الفكرية، سواء عن طريق العين قراءة ومشاهدة، أو عن طريق الأذن سماعاً. والرسم تعبير عن إحساس الفنان، يرتاح نفسيًّا عندما يراه مرئيًّا أمامه على اللوحات، ويستمتع به المشاهد عندما يتأمله، ويسرح بخياله في خطوطه وألوانه. وكذلك الغناء والموسيقى، يرتب النغم فيها من أعطاه الله قدرة على تنسيق الأصوات، فيجد فيهما ذاته، ويرهف أحاسيس الآخرين بسماعها، فتزداد أذواقهم رقة، وقلوبهم صفاءً ونقاءً.

ولهذا لم يحرم الإسلام الابتكار في مجال الفن، بل حث عليه إذا كان وسيلة من وسائل خدمة العقيدة؛ فقد رُوِيَ أن رسول الله e كان يشجع حسان بن ثابت على الاستمرار في الإبداع في مجال الشعر، فكان يقول له: "إيه يا حسان!" ، أي هات ما عندك من شعر، وأبدع فيه ليكون سلاحاً من الأسلحة التي توجه إلى الأعداء، وفي الوقت نفسه يضفي نوعاً من الارتياح النفسي على من يسمعه أو يقرأه. وقد فهم المسلمون الأوائل هذه القاعدة، فأسهموا في مجالات فنية مختلفة، ترجموا عن طريقها بأسلوب فني ما يدعو إليه الإسلام من مبادئ وتعاليم، فكان الفن لديهم مرآة للدين، تعمق العقيدة الإسلامية في وجدان المجتمع، وتثبت معانيها في أحاسيس المؤمنين. ومن هذا المنطلق تكونت في كل مجالات الفن الإسلامي وحدة جمعت بين المبادئ الدينية وبين ما يستعمله المؤمن في حياته، وحدة لم تُعْرَف في أي دين من الأديان؛ إذ لا يوجد في الإسلام ما يفصل بين الفن الديني والدنيوي، فهما متعانقان؛ لأن الهدف من كل منهما هو المحافظة على اتزان حياة المؤمن، حتى يستطيع أن يؤدي ما عليه من تعاليم دينية، وواجبات دنيوية في ظروف نفسية ملائمة.



[1] . من كتابنا "الشباب مرآة المجتمع" الذي نُشِرَ في عام 2005م.

الاثنين، 1 مايو 2023

 

O

الإسلام والحياة المعاصرة[1]

يدور حوار حاد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة بين من يدعو إلى تطبيق التعاليم الإسلامية في جميع مجالات الحياة، وبين اتجاهات متعددة؛ يرى كل اتجاه منها أنه يجب الفصل بين الإسلام وبين شئون الحياة الدنيوية؛ إذ ينبغي أن تقتصر سيادته على مجال العبادة؛ أما الشئون السياسية، والاقتصادية، وكذلك ما يتعلق بتسيير دفة الحياة في المجتمع فلا شأن له به، ومن هنا فلا يجوز لأحد أن يقحم الدين في شُعَب الحياة المختلفة.   

ولا تتخذ هذ الاتجاهات موقفاً واحداً ومتطابقاً بالنسبة لعلاقة الإسلام بما هو خارج عن نطاق العبادات الفردية؛ بل هناك مواقف مختلفة؛ فبعضها يسمح بسيادة الدين في مجالات دون أخرى، وبعضها الآخر يتخذ موقف المعارضة لتدخل الدين في أي شأن من شئون الحياة خارج نطاق العبادة الفردية، ولا ينبغي أن يُفْهَم من هذا أن علاقة كل المعارضين بالإسلام واهية أو مقطوعة؛ فإن لدى كثير منهم عقيدة راسخة، وإيماناً عميقاً، وحرصاً على تأدية الفرائض لدرجة أن بعضهم يمكث ساعات في محراب الصلاة، ويشارك بقلبه ووجدانه في جلسات روحية، ولا يبخل ساعة في تقديم العون والمساعدة للآخرين، انطلاقاً من الواجب الديني الملقى على عاتقه، فهو لا يفرط في فرض من الفرائض الدينية، ولا يهمل عملاً صالحاً نُصَّ عليه في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، أو ورد في أثر من آثار الصحابة رضوان الله عليهم. وقد يبدو أن هذا متناقضاً مع موقفه من سيادة الدين في جميع مجالات الحياة، لكن من يبحث الأمر بجدية، يتبين له أنه ليس هناك تناقضاً، بل لبس وعدم فهم طبيعة الإسلام وتعاليمه.

ومن أين جاء هذا اللبس وعدم الفهم؟

جاء من مصدرين:

ألأول: القوى الاستعمارية؛ ذلك أن الاستعمار اصطدم بصخرة عاتية في المجتمعات الإسلامية؛ إذ قابلته معارضة عنيفة في كل مكان-حاول أن يفرض سلطانه فيه-انطلاقاً من عقيدة المسلمين التي علمتهم أن لا سلطان للكافرين على المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: ﱡﭐ     [النساء: ١٤١] ، فشن المسلمون على الاستعمار حرباً شعواء حتى لا يمكنوه من أن يتسلط عليهم.

كما دفعهم إلى الجهاد ضد المحتلين ما ورد في القرآن الكريم من آيات عدة، تحث المسلمين على الجهاد ضد أعداء الله، وتحرم عليهم اتخاذهم أولياء، لأنهم أعداء الله، يقول تعالى: ﱡﭐ     [التوبة: ١٢٣] ، ويقول: ﭐﱡﭐ             ﱿ [الممتحنة: ١ – ٢]

ولهذا لم تهدأ المناطق الإسلامية التي دخلها الاستعمار أبداً، فلم يخضع المسلمون لسلطان المستعمرين، ولم يستكينوا لسطوتهم، وعندما تبين للمستعمرين أن السلاح لن يحقق هدفهم لجأوا إلى السلاح الفكري، فوضعوا برنامجاً ثقافيًّا يهدف إلى نشر الفكر الأجنبي بين أبناء المسلمين، ودسوا في خططهم من النظريات والقضايا التي تتعلق بالحياة في ثوب يؤدي إلى إضعاف العلاقة بين الشباب وبين الإسلام، وذلك بإقناعهم-عن طريق هذا البرنامج-بأن الإسلام لا يناسب الحياة العصرية، ولذلك ينبغي الفصل بينه كعبادة، وبين الحياة كنظام، وإلا تخلف المجتمع، وعجز عن مواكبة التقدم، وطفقوا يضربون على هذا الوتر حتى اقتنع بهذه الدعوى كثير من المسلمين، وخاصة أولئك الذين لم يحصلوا على قدر من الثقافة يمكنهم من حقيقة الإسلام وعلاقته بالحياة، ومن هنا رأينا مسلمين يعتقدون أن الإسلام دين عبادة فقط ، فلا شأن له بالحياة، ولذا يجب أن تُتْرَك للناس يصرفونها وينظمونها بعيداً عن تسلط الدين ورجاله.

الثاني: كان من الممكن أن تفشل هذه الحركة الاستعمارية، لو لم يقف رجال الدين من الحضارة الحديثة موقف المعارضة المطلقة؛ إذ عندما اتصل الشرق الإسلامي بالغرب بعد طول انقطاع، قطع فيه الغرب شوطاً كبيراً في طريق الحضارة، وجد المسلمون أنفسهم أمام صور جديدة، ومظاهر لم يعرفوها من قبل، وكان عليهم إزاء هذا الوضع أن يدرسوها ويأخذوا منها ما يساعدهم على دفع عجلة التقدم دون المساس بأصول العقيدة، أو إهمال التقاليد والعادات المنبثقة من التعاليم الإسلامية، ويرفضوا ماعدا ذلك، إن كان فيه تهديد للهوية الإسلامية، أو تشويه للطابع الإسلامي. فلو فعل المسلمون ذلك لحالوا بين المستعمر وبين الوصول إلى هدفه؛ وهو إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة في المجتمع، ولكن ما حدث: أن رجال الدين رفضوا كل ما لا يعرفونه، حتى وإن كان ضروريًّا للحياة، رفضوه لمجرد أنه لم ينبت في المجتمع الإسلامي، حتى وإن لم يكن له تأثير على العقيدة؛ فعلى سبيل المثال: عارض رجال الأزهر تدريس المواد التطبيقية والتجريبية في الأزهر-وقد حدث ذلك أيام أن كان الأزهر هو المؤسسة التعليمية الوحيدة في المجتمع- بحجة أن ذلك سيكون على حساب العلوم الشرعية، وغاب عنهم أن الإسلام يدعو إلى الحث والنظر في كل مظاهر الحياة، لأن في ذلك قوة للمسلمين ومنعة لهم من أن يكونوا فريسة لأولئك الذين يسبقونهم في هذه المجالات، وفي ذلك خدمة للإسلام لا تقل عن التوسع في دراسة العلوم الإسلامية.

كان موقف رجال الدين الرافض لتعليم العلوم الحديثة دليلاً قويًّا استخدمه الاستعمار في إقناع الشباب بعدم صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة، فهو للعبادة فقط-هكذا لقنهم-وليس لتصريف شئون الحياة الدنيوية؛ وبذلك قدم رجال الدين للاستعمار أقوى سلاح حقق به هدفه؛ حيث أقنع كثراً من الشباب المسلم بوجهة نظره، ألا وهي إبعاد الإسلام عن مجال السياسة، والحكم، والاقتصاد، وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بالسيادة والحكم، فتكونت بذلك طبقة تحافظ على تأدية الفرائض في مجال العبادات، وتحرص عليها بشدة، ومع ذلك تعمل على إبعاد الإسلام عن أن تكون له السيادة في أي مجال من مجالات الحياة.

أدرك بعض رجال الدين هذا الوضع مؤخراً، فحاولوا توضيح العلاقة بين الإسلام والحياة، على أساس من كتاب الله وسنة رسوله؛ فهم يبينون للمسلمين خطأ ما قاله أسلافهم في معارضتهم للحضارة الحديثة، إلا أننا لا زلنا نسمع بين الحين والآخر-وخاصة من بعض الجماعات المتطرفة-من يصر على رفض كل مظاهر الحياة المعاصرة باسم الإسلام، وهو بهذا الموقف يدعمون موقف أعداء الإسلام كما فعل أسلافهم.

أ‌.       د/ محمد شامة   

 



[1] . من كتابنا: "الشباب مرآة المجتمع" الذي نًشِرَ في عام 2005م

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...