O
أبناء
الأرحام المستأجرة
لمن
ينتسبون؟
أ. د/ محمد شامة
استقر في الفقه الإسلامي-استناداً إلى نصوص قرآنية وأحاديث نبوية-أن
المرضعة تأخذ مكان الأم في معظم الأحكام؛ فهي بمثابة الأم في الأحكام الأخلاقية،
إذ يجب على ابنها من الرضاعة أن يحسن معاملتها كالأم سواء بسواء؛ لأنها أسهمت بجزء
منها في تكوين جسمه، وتطوير خلاياه، فهو مدين لها بحياته بدرجة تكاد تكون متساوية
مع إدانته لمن ولدته.
وتتطابق صلته بها مع صلته بأمه سواء بسواء في التشريعات المتعلقة بالزواج،
فيحرم عليه الزواج بها، وبكل من يتصل بها من المحرمات عليه كما لو كانت هي التي
ولدته، غير أن البحث العلمي في مجال التخصيب توصل إلى وسيلة لحل مشكلة عدم الإنجاب
عند المرأة بسبب عجز الرحم عن الاحتفاظ بالبويضة المخصبة. تلك هي عملية إخصاب
بويضة المرأة بماء زوجها، وزرعها في رحم امرأة أخرى، يستأجره الزوجان لاحتضان
البويضة المخصبة، حتى يتحلق الجنين فيه، ويخرج بعد المدة المقررة وليداً قادراً
على التكيف مع البيئة الخارجية.
وقد انتشرت هذه العملية في الغرب، وحلت مشكلة أولئك الأزواج الذين يطمعون
في الحصول على ذرية، ولم يتمكنوا من ذلك؛ نظراً لعيب في رحم الزوجة. وأعتقد أن هذه
العملية لا تتعارض مع حكم من أحكام الإسلام، وليس فيها ارتكاب لمحرم؛ إذ لا يحدث
اتصال جنسي بين الزوج والمرأة صاحبة الرحم المستأجر، بل قد يحدث أنه لا يراها على
الإطلاق؛ لأن ماءه يؤخذ بواسطة الطبيب مثل ما تؤخذ البويضة من زوجته الشرعية
بواسطة طبيبة، وتخصب البويضة بماء الرجل في المعمل، ثم تضعها الطبيبة في رحم
المرأة المستأجر، وتظل ترعاها حتى يولد ولادة طبيعية. وليس في هذا ارتكاب لمحرم،
غير أن المشكلة التي نشأت عن هذه العملية هي أن إحدى السيدات التي احتضت البويضة
المخصبة في رحمها ادعت أن الجنين ابنها، وتمسكت به، ورفضت تسليمه للزوجين صاحبي
المني والبويضة، فثارت-في الغرب-مشكلة قانونية حول تبعية الجنين، أهو ابن الزوجين
صاحبي المني والبويضة، وليس للمرأة التي احتضت هذه البويضة في رحمها، فتطور فيه من
علقة إلى مضغة، إلى كائن حي بكل أجهزته البيولوجية والعصبية، حق الاحتفاظ به، أم
أن لها هذا الحق؛ لأنه جزء منها؛ تكونت عظامه من عصارة جسدها، وتشكلت هيئته من
دمها ولحمها؟
وإذا احتفظت به، فما علاقة الزوجين به؟ وما هي حقوقهما فيه وهما أصل
وجوده؟ فالحيوان المني، الذي هو بذرة الحياة من الزوج، والبويضة التي خصبت هذا
الحيوان المنوي، ومنحته استمرارية الحياة هي بويضة الزوجة؟
وإذا ردته إلى الزوجين على اعتبار أنهما مصدره، ومنشأ حياته، فهل صلته
بمن احتواه رحمها مدة الحمل، وتكون لحمه ودمه منها؟ ألا يترتب على صلتها
البيولوجية به حقوق واجبات يجب الالتزام بها ومراعاتها؟ وكيف يتحقق ذلك؟
درج كثر من المهتمين بالدراسات الإسلامية على رفض كل ما هو جديد باعتباره
بدعة؛ استناداً إلى ما روي من أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، غافلين عن
ظاهرة واضحة لمن له أدنى فهم؛ ألا وهي أن الحياة ليست جامدة، ولم تكن في يوم من
الأيام ثابتة على حالة واحدة، بل متغيرة متطورة، وخاصة في القرن العشرين-وما
بعدها-، فقد قفزت قفزات هائلة في مجال البحث العلمي بعد الحرب العالمية الثانية؛
حيث تراكمت الاكتشافات تراكماً لم تشهد الإنسانية له مثيلاً على طول مسيرة وجودها
على هذه الكرة الأرضية، سواء كان ذلك في مجال الطبيعة وباطن الأرض، أو في مجال ما
يزرع فيها وينبت منها، أو في مجال الإنسان نفسه. ومن الإنجازات العلمية غير
المسبوقة في تاريخ الإنسانية ما توصل إليه الإنسان في علم الوراثة ووظائف الخلايا
الدقيقة في خلق وتكوين الإنسان وتعديل سلوكياته، الأمر الذي يحتم على رجال الدين
أن يجتهدوا في ضوء ما لديهم من نصوص مقدسة لاستحداث أحكام لهذه المستجدات، حتى
تنسجم حياة الإنسان المتدين مع عقيدته، ويتناغم وقع الحياة مع الحقائق التي
تكتشفها الأبحاث العلمية كل يوم، لأن النصوص المقدسة لا تحتوي على كل ما في الكون،
بل يستحيل-من الناحية المنطقية و الواقعية-أن يُنَصَّ على كل ما يمكن أن يستحدث في
الكون عبر عملية تطور الحياة الإنسانية، أو تكتشفه عقول البشر في معامل الأبحاث
وساحات التنقيب في خبايا الكون وباطن الإنسان، فإذا جمد الفكر الديني عل ما عنده،
ضارباً الصفح عن فحص الجديد وتقييمه دينيًّا أصيب المتدين بالتخبط والارتباك في
حياته؛ فيصبح حائراً بين قوتين تتنازعانه؛ بين التمسك بآراء تحجرت عند مستوى معين
من الحياة، تجذبه على العيش في إطار فات زمانه، وانتهى أوانه، وبين متطلبات تفرض
عليه مواكبتها والسير في معها، وإلا داسته الأقدام، وقذفته أمواج الحياة خارج إطار
التعامل مع من يعيشون معه. ومن هنا كان على رجال الدين واجب مقدس، لا يقل أهمية عن
الدفاع عن الدين والجهاد في سبيل نشره بين الناس، بل أصبح من أهم واجبات رجال
الدين في العصر الحاضر، ألا وهو العمل الدائب والمستمر ليلاً ونهاراً على فهم
المستحدثات، والاجتهاد في بحث كل علاقاتها بالحياة، ومدى أهميتها للإنسان للوصول
إلى صيغة تجعلها تنسجم مع روح الدين وتعاليمه، لـتأخذ طريقها في حياة المتدين
وسلوكياته، وبذلك يرفع التناقض من حياته الوجدانية. ونشاطه في مجال الحياة
الدنيوية وآفاقها.
ومن بين المستحدثات في حياتنا المعاصرة، مسألة الأرحام المستأجرة؛ فهل
يجوز لمن حُرِمَ من الإنجاب لأسباب تتعلق بعدم قدرة الرحم على حضانة البويضة
المخصبة من ماء الرجل أن يستأجر-أو يستعين بدون أجر-رحم امرأة أخرى، لتوضع فيه
بويضة الزوجة المخصبة من ماء زوجها، وتستقر فيه حتى يتخلق الكائن الحي ويولد
إنساناً في الموعد الطبيعي؟
يرى رجال الدين-دون فهم دراسة لجوانب الموضوع-أن هذا العمل حرام، لا يجوز
للمسلم أن يباشره أو يسمح به، حتى إن بعض المتشددين ذهب إلى أن ذلك يعتبر
"زنا" يعاقب فاعله بعقوبة من ارتكب الزنا، ونسي هؤلاء أن أركان الزنا لا
تتوافر في هذا العمل على الإطلاق؛ إذ أن الرجل لم يباشر المرأة صاحبة الرحم المستأجر،
بل قد يحدث ألا يراها على الإطلاق، فالطبيب هو الذي يقوم بعملية أخذ مني الرجل
وبويضة المرأة وتلقيحها، ووضعها في رحم المرأة الثانية، وقد يأخذ مني الرجل طبيب
ذكر، وتستخرج البويضة طبيبة، وهي التي تضعها في رحم المرأة الثانية، وبذلك تنتفي
أية شبهة قد يثيرها هؤلاء المتشددون، أما مسألة اختلاط الأنساب فيمكن معالجتها بما
يلي:
1.
يشترط أن تكون المرآة صاحبة الرحم المستأجر غير متزوجة.
2.
أن يكتب في سجل المولود أن له أمَّيْن: أمٌّ هي أصل
ومنشأ حياته، وهي صاحبة البويضة، والأمُّ الثانية، هي أمٌّ احتضته في رحمها،
وأمدته بكل ما يلزم لتكوينه حتى صار خلقاً سويًّا، وتكون علاقتهما به متساوية من
ناحية الأحكام والالتزامات الشرعية، فعلاقته بها علاقة نسب؛ يحكمها ويضبطها كل ما
يتعلق بالنسب من زواج وميراث؛ لأنهما-الأم صاحبة البويضة والأم صاحبة الرحم
المستأجر-مشتركان في تكوينه، بل إن تربيته والإنفاق عليه صغيراً يكون من
مسئوليتهما مع صاحب المني. فإذا اعترض بأن هذا يسبب نزاعاً بينهما، فيمكن تلافي
ذلك بوضع قوانين تحدد مسئولية كل منهم في تربيته وتنشئته والإنفاق عليه حتى سن
البلوغ، ثم ترفع وصايتهم جميعاً-الأب والأم نسباً، والأم رحماً-وتنقل الواجبات
والالتزامات إليه، حيث ينبغي عليه أن يقدم لهم من الرعاية والعناية مثل ما يقدم
الولد من النسب لأبويه، ولاشك أن ذلك ينبع من الوجدان، وتتحكم فيه عاطفته إزاء كل
طرف منهم، فإذا كان وجدانه ميتاً وعاطفته متحجرة، فلا بأس من تدخل القانون بإلزامه
تقديم ما يحتاجه الثلاثة منه في حياتهم، حيث رعوه ابتداءً من رحلة النطفة حتى صار
إنساناً سويًّا.
وللتفريق بين المرأتين يمكن أن يطلق على الأم صاحبة البويضة: الأم نسباً،
والأم الثانية يطلق عليها: رحماً، مثلها في ذلك مثل: الأم من الرضاعة.
هذا رأيي، فإن كنت قد أخطأت، فإن لي أجراً واحداً عند الله، كما قال رسول
الله e : "من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن أصاب فله أجران."
أرجو من الله أن يكون نصيبي أجرين، لأن هذا هوا الصواب كما أعتقد.
والله أعلم.
أ.
د/ محمد شامة