O
الإسلام
والحياة المعاصرة[1]
يدور حوار حاد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة بين من
يدعو إلى تطبيق التعاليم الإسلامية في جميع مجالات الحياة، وبين اتجاهات متعددة؛
يرى كل اتجاه منها أنه يجب الفصل بين الإسلام وبين شئون الحياة الدنيوية؛ إذ ينبغي
أن تقتصر سيادته على مجال العبادة؛ أما الشئون السياسية، والاقتصادية، وكذلك ما
يتعلق بتسيير دفة الحياة في المجتمع فلا شأن له به، ومن هنا فلا يجوز لأحد أن يقحم
الدين في شُعَب الحياة المختلفة.
ولا تتخذ هذ الاتجاهات موقفاً واحداً ومتطابقاً بالنسبة
لعلاقة الإسلام بما هو خارج عن نطاق العبادات الفردية؛ بل هناك مواقف مختلفة؛
فبعضها يسمح بسيادة الدين في مجالات دون أخرى، وبعضها الآخر يتخذ موقف المعارضة
لتدخل الدين في أي شأن من شئون الحياة خارج نطاق العبادة الفردية، ولا ينبغي أن
يُفْهَم من هذا أن علاقة كل المعارضين بالإسلام واهية أو مقطوعة؛ فإن لدى كثير
منهم عقيدة راسخة، وإيماناً عميقاً، وحرصاً على تأدية الفرائض لدرجة أن بعضهم يمكث
ساعات في محراب الصلاة، ويشارك بقلبه ووجدانه في جلسات روحية، ولا يبخل ساعة في
تقديم العون والمساعدة للآخرين، انطلاقاً من الواجب الديني الملقى على عاتقه، فهو
لا يفرط في فرض من الفرائض الدينية، ولا يهمل عملاً صالحاً نُصَّ عليه في القرآن
الكريم أو في الحديث الشريف، أو ورد في أثر من آثار الصحابة رضوان الله عليهم. وقد
يبدو أن هذا متناقضاً مع موقفه من سيادة الدين في جميع مجالات الحياة، لكن من يبحث
الأمر بجدية، يتبين له أنه ليس هناك تناقضاً، بل لبس وعدم فهم طبيعة الإسلام
وتعاليمه.
ومن أين جاء هذا اللبس وعدم الفهم؟
جاء من مصدرين:
ألأول: القوى الاستعمارية؛ ذلك أن الاستعمار اصطدم بصخرة عاتية
في المجتمعات الإسلامية؛ إذ قابلته معارضة عنيفة في كل مكان-حاول أن يفرض سلطانه
فيه-انطلاقاً من عقيدة المسلمين التي علمتهم أن لا سلطان للكافرين على المؤمنين،
وذلك في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱠ [النساء: ١٤١]
، فشن المسلمون على الاستعمار حرباً شعواء حتى لا يمكنوه من أن يتسلط عليهم.
كما دفعهم إلى الجهاد ضد المحتلين ما ورد في القرآن الكريم
من آيات عدة، تحث المسلمين على الجهاد ضد أعداء الله، وتحرم عليهم اتخاذهم أولياء،
لأنهم أعداء الله، يقول تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱠ [التوبة: ١٢٣] ،
ويقول: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ [الممتحنة: ١ – ٢]
ولهذا لم تهدأ المناطق الإسلامية التي دخلها الاستعمار أبداً،
فلم يخضع المسلمون لسلطان المستعمرين، ولم يستكينوا لسطوتهم، وعندما تبين
للمستعمرين أن السلاح لن يحقق هدفهم لجأوا إلى السلاح الفكري، فوضعوا برنامجاً ثقافيًّا
يهدف إلى نشر الفكر الأجنبي بين أبناء المسلمين، ودسوا في خططهم من النظريات
والقضايا التي تتعلق بالحياة في ثوب يؤدي إلى إضعاف العلاقة بين الشباب وبين الإسلام،
وذلك بإقناعهم-عن طريق هذا البرنامج-بأن الإسلام لا يناسب الحياة العصرية، ولذلك
ينبغي الفصل بينه كعبادة، وبين الحياة كنظام، وإلا تخلف المجتمع، وعجز عن مواكبة
التقدم، وطفقوا يضربون على هذا الوتر حتى اقتنع بهذه الدعوى كثير من المسلمين،
وخاصة أولئك الذين لم يحصلوا على قدر من الثقافة يمكنهم من حقيقة الإسلام وعلاقته
بالحياة، ومن هنا رأينا مسلمين يعتقدون أن الإسلام دين عبادة فقط ، فلا شأن له بالحياة،
ولذا يجب أن تُتْرَك للناس يصرفونها وينظمونها بعيداً عن تسلط الدين ورجاله.
الثاني: كان
من الممكن أن تفشل هذه الحركة الاستعمارية، لو لم يقف رجال الدين من الحضارة
الحديثة موقف المعارضة المطلقة؛ إذ عندما اتصل الشرق الإسلامي بالغرب بعد طول
انقطاع، قطع فيه الغرب شوطاً كبيراً في طريق الحضارة، وجد المسلمون أنفسهم أمام
صور جديدة، ومظاهر لم يعرفوها من قبل، وكان عليهم إزاء هذا الوضع أن يدرسوها
ويأخذوا منها ما يساعدهم على دفع عجلة التقدم دون المساس بأصول العقيدة، أو إهمال
التقاليد والعادات المنبثقة من التعاليم الإسلامية، ويرفضوا ماعدا ذلك، إن كان فيه
تهديد للهوية الإسلامية، أو تشويه للطابع الإسلامي. فلو فعل المسلمون ذلك لحالوا
بين المستعمر وبين الوصول إلى هدفه؛ وهو إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة في المجتمع،
ولكن ما حدث: أن رجال الدين رفضوا كل ما لا يعرفونه، حتى وإن كان ضروريًّا للحياة،
رفضوه لمجرد أنه لم ينبت في المجتمع الإسلامي، حتى وإن لم يكن له تأثير على
العقيدة؛ فعلى سبيل المثال: عارض رجال الأزهر تدريس المواد التطبيقية والتجريبية
في الأزهر-وقد حدث ذلك أيام أن كان الأزهر هو المؤسسة التعليمية الوحيدة في المجتمع-
بحجة أن ذلك سيكون على حساب العلوم الشرعية، وغاب عنهم أن الإسلام يدعو إلى الحث
والنظر في كل مظاهر الحياة، لأن في ذلك قوة للمسلمين ومنعة لهم من أن يكونوا فريسة
لأولئك الذين يسبقونهم في هذه المجالات، وفي ذلك خدمة للإسلام لا تقل عن التوسع في
دراسة العلوم الإسلامية.
كان موقف رجال الدين الرافض لتعليم العلوم الحديثة دليلاً
قويًّا استخدمه الاستعمار في إقناع الشباب بعدم صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة،
فهو للعبادة فقط-هكذا لقنهم-وليس لتصريف شئون الحياة الدنيوية؛ وبذلك قدم رجال
الدين للاستعمار أقوى سلاح حقق به هدفه؛ حيث أقنع كثراً من الشباب المسلم بوجهة
نظره، ألا وهي إبعاد الإسلام عن مجال السياسة، والحكم، والاقتصاد، وغير ذلك من
الأمور التي تتعلق بالسيادة والحكم، فتكونت بذلك طبقة تحافظ على تأدية الفرائض في
مجال العبادات، وتحرص عليها بشدة، ومع ذلك تعمل على إبعاد الإسلام عن أن تكون له
السيادة في أي مجال من مجالات الحياة.
أدرك بعض رجال الدين هذا الوضع مؤخراً، فحاولوا توضيح
العلاقة بين الإسلام والحياة، على أساس من كتاب الله وسنة رسوله؛ فهم يبينون
للمسلمين خطأ ما قاله أسلافهم في معارضتهم للحضارة الحديثة، إلا أننا لا زلنا نسمع
بين الحين والآخر-وخاصة من بعض الجماعات المتطرفة-من يصر على رفض كل مظاهر الحياة
المعاصرة باسم الإسلام، وهو بهذا الموقف يدعمون موقف أعداء الإسلام كما فعل
أسلافهم.
أ. د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق