O
الدين والفن[1]
تعتبر حواس الإنسان قنوات موصلة للصور الفكرية، التي
تحدث في محيطه إلى صفحة الذهن، حيث تتفاعل مع بعضها البعض، فتربي ملكة التفكير
عنده، تلك الملكة، التي تلعب دوراً كبيراً وهامًّا، بل يكاد يكون رئيسيًّا في ضبط
السلوك، وتوجيه النشاط في جميع مجالات الحياة، وأحياناً يصل تفاعل الصور الفكرية
الواردة من خارج الإنسان مع قوى التفكير عنده، فتتحول إلى قوى إبداعية في استحداث
صور جديدة في مجال الفكر بجميع فروعه، وقد يصل هذا الإبداع إلى حد الخيال المطلق
الذي يحلق في سماء اللامعقول، مما يضفي على النفس شعوراً بكينونة الذات، وقدرتها
على المشاركة في تكوين الصور التي تشرئب إليها النفس، وتهفو إليها الأفئدة، وتسعى
إلى تحقيقها الجوارح، وتتبع مظانها النفس، فيرتاح القلب، وتهدأ الأعصاب، فيحس
المرء بلذة تضفي عليه سكرة الاستمتاع بما أبدع من صور لم يسبق إليها، وتغشاه نشوة
الفرح والسرور لما قدم للمجتمع في مجال الإبداع والابتكار.
ولا يقتصر الشعور بالنشوة والفرح على من أبدع وأخرج من
الصور الفكرية ما يبعث الحياة في الأمم والأفراد، بل إن من يشاهد هذه الصور، أو
تصل إلى وعيه وإدراكه عن طريق قنوات الاتصال يستمتع بها استمتاعاً لا يقل عن
استمتاع من أنشأها وابتكرها. ومن هنا كان دور الفنانين والمبدعين في أي مجال من
مجالات الحياة حيويًّا في حياة الأمم والشعوب، بل إنه ضروري؛ إذ تقوم عليه
استمرارية التقدم، وتبنى عليه أسس الحضارة؛ لأن الأمة إذا نضب تفكيرها، وتوقف
إبداع أبنائها، فعجزت عقولهم عن الابتكار، وتخلفت عن ركب الحضارة، وتوقفت عن
الإسهام في مجالات الرقي والتقدم، فعند ذلك تفقد مكانتها بين الأمم، ويضيع وجودها
في مجاهل التاريخ.
ولا ينبغي أن يقتصر التجديد والابتكار على جانب دون آخر
من جوانب النشاط الإنساني، بل يجب أن يشمل كل مناحي الحياة، سواء كانت مادية أو
معنوية، لأن استمرار التقدم المادي في المجتمعات المعاصرة يحتاج إلى دعم من الجانب
المعنوي والروحي حتى يكون قادراً على العطاء، فلا يتوقف بسبب الملل أو الضجر الذي
يصيب الإنسان عندما يغوص في أعماق المادة، و تتقاذفه تياراتها.
وأعني بالجانب المعنوي أو الروحي ذلك النشاط الذي يجدد
الروح، ويجلو الصدأ عن سطح النفس، ويذيب تراكمات الملل التي خلفها الانغماس في
محيط الأمواج المادية من على صور الإنسان، ولا يوجد شيء له هذه الفعالية إلا الفن
بجميع أنواعه، فالإبداع في مجال الأدب راحة نفسية للمبدع، واستمتاع روحي للقارئ، والخيال
في مجال القصة والرواية والتمثيل من وسائل تحقيق الذات لمن يكتب أو يمثل، وهي
أسلوب ترفيهي-وتعليمي أيضاً-لمن يتلقى صورها الفكرية، سواء عن طريق العين قراءة
ومشاهدة، أو عن طريق الأذن سماعاً. والرسم تعبير عن إحساس الفنان، يرتاح نفسيًّا
عندما يراه مرئيًّا أمامه على اللوحات، ويستمتع به المشاهد عندما يتأمله، ويسرح
بخياله في خطوطه وألوانه. وكذلك الغناء والموسيقى، يرتب النغم فيها من أعطاه الله
قدرة على تنسيق الأصوات، فيجد فيهما ذاته، ويرهف أحاسيس الآخرين بسماعها، فتزداد
أذواقهم رقة، وقلوبهم صفاءً ونقاءً.
ولهذا لم يحرم الإسلام الابتكار في مجال الفن، بل حث
عليه إذا كان وسيلة من وسائل خدمة العقيدة؛ فقد رُوِيَ أن رسول الله e كان يشجع حسان بن ثابت على
الاستمرار في الإبداع في مجال الشعر، فكان يقول له: "إيه يا حسان!" ، أي
هات ما عندك من شعر، وأبدع فيه ليكون سلاحاً من الأسلحة التي توجه إلى الأعداء،
وفي الوقت نفسه يضفي نوعاً من الارتياح النفسي على من يسمعه أو يقرأه. وقد فهم
المسلمون الأوائل هذه القاعدة، فأسهموا في مجالات فنية مختلفة، ترجموا عن طريقها
بأسلوب فني ما يدعو إليه الإسلام من مبادئ وتعاليم، فكان الفن لديهم مرآة للدين،
تعمق العقيدة الإسلامية في وجدان المجتمع، وتثبت معانيها في أحاسيس المؤمنين. ومن هذا
المنطلق تكونت في كل مجالات الفن الإسلامي وحدة جمعت بين المبادئ الدينية وبين ما
يستعمله المؤمن في حياته، وحدة لم تُعْرَف في أي دين من الأديان؛ إذ لا يوجد في
الإسلام ما يفصل بين الفن الديني والدنيوي، فهما متعانقان؛ لأن الهدف من كل منهما
هو المحافظة على اتزان حياة المؤمن، حتى يستطيع أن يؤدي ما عليه من تعاليم دينية،
وواجبات دنيوية في ظروف نفسية ملائمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق