إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 28 أبريل 2023

 

O

خاتمة

(كتابنا: "الخطر الشيوعي في بلاد الإسلام"

الذي نُشِرَ في عام 1979م)

يقف المجتمع الإسلامي اليوم-في جميع أقاليمه-على مفترق الطرق، يلتقط أنفاسه من هول الطريق، الذي قطعه على مدى المائة سنة الماضية، حيث تجاذبته تيارات أقضت مضاجعه، فلم تترك له فرصة البناء والتعمير، وأهلكت أعصابه، فلم يعد يقوي على التفكير بموضوعية فيما يعرض عليه من "أيديولوجيات"، ولم يستطع الاحتفاظ بما عنده من عقائد وعبادات، فتهاون فيها وأهملها، أو أوَّلَها فألغاها، أو أداها عادة وتقليداً، فصارت:

1.    صورة لا حياة فيها.

2.    ومصدراً للرزق والتكسب، لا عقيدة يدافع عنها بالروح والمال.

3.    ووسيلة يخدع الحكام شعوبهم بالتظاهر بها، لا منارة يسير على هديها رجال السلطة.

4.    وأسلوباً يختفي وراءه الدجالون والمنافقون.

5.    ولباساً يرتديه "الماركسيون" [1] ليدنسوه، كي يمزق الحكام ما بقي من خيوطه، فتقتلع الجذور الباقية، فلا يجرؤ أحد على الجهر بالدعوة إلى الله.

يقف المجتمع الإسلامي اليوم مذهولا من كثرة الأصوات التي تناديه، فيحاول:

·       تحديد المعالم فيعجز فكره.

·       وتمييز الأصوات فيكل سمعه.

·       ورؤية ملامح حاملي أعلام "الأيديولوجيات"، فينقلب إليه بصره خاسئاً وهو حسير. وفي لحظة يأس يبحث عن الداعين إلى المبادئ التي جربها في الماضي، فأسعدته وأعزته فيراهم، ولكن نفسه تنفر من كثير منهم؛ لأنهم:

·       يتحدثون بلغة لا يفهمها، وأسلوب لا يتفق وطبيعة العصر.

·       ويرفضون استعمال أساليب الإعلام الحديثة-كالمسرحيات والأفلام وغيرهما من أنواع الفن الأخرى[2]-في الدعوة إلى الله، فتركوا هذا المجال-وهو مجال خصب، بل إنه إحدى وسائل العصر الحديث الأساسية لتعميق العقائد في المجتمع-لأصحاب التيارات والمذاهب المناهضة للدين.

·       لم يدرسوا المذاهب الإلحادية المعاصرة للرد عليها، فجاء حديثهم عنها-إن استطاعوا الحديث-منفراً للشباب المثقف، بل سلاحاً في يد الداعين إلى الإلحاد.

·       وأهملوا دراسات التيارات السياسية العالمية، ومعطيات العصر على الصعيد الدولي، فأُبْعِدوا عن ساحة اتخاذ القرارات، التي تحدد مصير الأمة، فاهتز مركزهم كمصدر للتوجيه في المجتمع.

·       يعيشون عيشة لا تليق بكرامة الداعية؛ فإهمالهم في ملابسهم ومسكنهم كان-ولازال-سبباً في اتخاذهم أضحوكة في المجالس والمنتديات، وشخصية فكاهية لإضحاك المشاهدين في الأفلام والتمثيليات.

وإزاء هذه الظروف التي يمر بها المجتمع الإسلامي، يجب على المعاهد التي تُخَرِّج الدعاة، أن تعيد النظر  في اختيار دعاة المستقبل، فتأخذ في الاعتبار-بجانب الناحية الروحية-حسن المظهر، ورتابة الملبس، ودبلوماسية السلوك، وأن تعدل مناهجها ، فتدخل فيها من المواد:

·       ما يهيئ الداعية لمواجهة "الأيديولوجيات" الحديثة، ولن يكون ذلك إلا بدراسة جوانبها الفلسفية والتطبيقية.

·       وما يجعله قادراً على شرح الإسلام بلغة العصر في جميع المحافل، سواء كانت طولية أم محلية.

·       وأخيراً أن تكفل له مستوى مدي يساعده على الظهور في المجتمع بمظهر لائق.

                                          والله الهادي إلى سواء السبيل...

                                                      ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

                                             

 

أ‌.        د/ محمد شامة

  

  



[1] .  دفع الماركسيون-ومازالوا-ببعض أعوانهم المجهولة هويتهم الماركسية إلى التظاهر بالإصلاح الديني، فالتف حولهم بعض الشباب المخلص الساذج. وسرعان ما استغلوا سذاجتهم وحميتهم الإسلامية، فدفعوهم إلى ارتكاب حماقات لا يقرها الإسلام.... فانتكست الدعوة المرة تلو الأخرى، وذلك أسلوب يتبعه الماركسيون للقضاء على خصومهم.

[2] . بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتمخضها عن انقسام العالم إلى معسكرين متقابلين: أحدهما شيوعي والآخر رأسمالي، رأى المسئولون في المجتمع الغربي أن من أنجح الوسائل في صد التيار الشيوعي عن الشباب توجيه أهل الفن إلى إخراج سلسلة من الأفلام الدينية، التي توجه الشباب إلى ناحية الدين-بطريق غير مباشر-فأخرج أهل الفن أفلاماً دينية يضرب بها المثل في عالم الفن، سواء من ناحية الفكرة، أو من ناحية الإخراج، أو من حيث التكلفة. وكانت الكنيسة تدعم هذا الاتجاه؛ لأنها رأت فيه وسيلة عصرية ناجحة لتعميق الروح الدينية في المجتمع.

الاثنين، 10 أبريل 2023

O

 

بين العلمانيين ورجال الدين

                                                                   

أ‌.        د/ محمد شامة  

تدور معارك في كثير من الأقطار الإسلامية بين العلمانيين وبين رجال الدين حول الأخذ بمبدأ الديمقراطية، إذ يرى العلمانيون أن هذا النظام هو النموذج المثالي لحكم الشعوب في العصر الحديث، ذلك أنه يتيح لكل فرد فرصة اختيار نوابه عن طريق تعدد الاتجاهات، وتنوع البرامج الحزبية، فهو مخير بين عدة خيارات يختار منها ما يلائم حياته، وما يحقق مصلحته، وما يتفق مع نظرته للحياة، وموقفه من الوجود كله. فإذا ما فاز اتجاه برأي الأغلبية ، فعلى الجميع أن يسلموا بأحقيته في تسيير دفة الحكم ، مع إعطاء الاتجاه المعارض حق مناقشة القوانين واللوائح التي يتقدم الحاكمون بها إلى المجلس المنتخب لإقرارها كأساس لتطبيق النظام في المجتمع ، وبهذا لا ينفرد شخص بتقرير مصير الأمة، ولا يكون لمجموعة، أو هيئة، أو حزب حق الاستيلاء على السلطة بدون تفويض من الشعب، كما لا يجوز للسلطة التنفيذية اتخاذ أي إجراء يتعلق بمصالح الناس، إلا إذا أجازه من اختارهم الشعب ليمثله في توجيه أمور الدولة، فالتوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية يحفظ نظام الدولة من التداعي والانهيار، والاعتراف بحق نواب الشعب في مساءلة رجال الإدارة والحكم فيما يمارسونه بحكم وضعهم الوظيفي، يحمى المواطنين من قسوة الحكام وظلمهم، ويحافظ على مصالحهم، ويؤمن حياتهم، ويرسى قواعد الاستقرار في الأمة.

بينما يرى بعض رجال الدين أن هذا من النظم التي أقرتها العلمانية، وما دامت العلمانية لا تعترف بوجود الدين – كما هو الحال في العلمانية المتطرفة – أو لا ترى بأساً من  وجوده - كما هو الحال في العلمانية المعتدلة -، غاية الأمر أنه ينحصر في ظلها في مجال العبادات – والأحوال الشخصية ( الزواج والطلاق والميراث) -، فليس له سلطان على التشريعات واللوائح التي تضبط مسيرة الحياة، وإنما مركز التشريع ومصدره هو البرلمان المنتخب من الشعب، ولا مصدر غيره، فلا يجو لشعب مسلم أن يقر هذا النظام كنموذج له فى الحكم، لأن المشرع هو الله، وليس البرلمان. ثم يتطرق المتطرفون من رجال الدين إلى مظاهر هذا النظام المتعددة، فيحرمونها كلها إذ يرون أن نظام تعدد الأحزاب ليس إسلامياً، لأنه يفرق الأمة شيعاً وأحزاباً، ولذلك فهو غير جائز، كما أن تسمية البرلمان بالهيئة التشريعية حرام، لأن المشرع هو الله.

ربط العلمانيون – على غير أساس علمي تاريخي– هذا الموقف بما كان عليه الحال في أوربا إبَّان العصور الوسطى، إذ تصوروا وضع السلطة البابوية آنذاك، يوم أن كان البابا والمطارنة والقسس يحللون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، ويدخلون الجنة من يردون، ويقذفون في النار من يكرهون. وتراءت في أذهانهم صور صكوك الغفران والحرمان، حيث قاسى منها الحكام والأمراء الكثير من المتاعب والآلام، بل إن الشعوب نفسها اكتوت بنارها، وذاقت جحيم أوارها وسعيرها، فتصوروا – أي العلمانيين – أن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال الحكم والإدارة سيخلق مثل هذا الوضع في المجتمع الإسلامي، حيث يتحكم رجال الدين في كل شيء، دون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض أو المناقشة، لأنهم محصنون بسياج قدسي، لا يجرؤ أحد على تخطيه، اللهم إلا من خلع رداء الإيمان.

 

فأي مسلم يستطيع أن يضع نفسه في هذا الموقف؟

لا أحد!

وتكون النتيجة القضاء على كل صوت معارض، فتترعرع الديكتاتورية الدينية، وتضيع حقوق الناس بين فكيها، وتهدر كرامة الإنسان تحت أقدامها، كما حدث في القرون الوسطى، حيث كانت الكنيسة تبسط سلطانها على جميع مجالات الحياة.

   إن هذه الصورة لا وجود لها في الإسلام على الإطلاق، إذ لا يعرف في تعاليمه هذا المصطلح المسيحي: رجل دين، وغير رجل دين، لأن الكل في ظل الإسلام مسلمون، لا فرق في الحقوق والواجبات بين رجل وآخر، وليس في الإسلام عصمة لأحد من الخطأ كما هو الحال في المسيحية بالنسبة للبابا، فكل مسلم خطاء، ومادام الأمر كذلك فلكل أحد الحق في المعارضة، لأنه لا يوجد رأي لا يجوز معارضته، وبهذا تنتفي شبهة العلمانيين في إمكان قيام ديكتاتورية دينية، إذ مادام الإسلام قد أعطى كل مسلم الحق في المعارضة، فلن تقوم في ظله ديكتاتورية.

أما بالنسبة لما يراه بعض " رجال الدين " من تحريم النظام البرلماني، لأنه يدعى لنفسه حق التشريع، بينما المشرع هو الله، فلا ينبغي أن يفهم وضع البرلمان على هذا النحو، ذلك أن تعاليم الإسلام ومبادئه العامة لا يجوز المساس بها، فهي بمثابة الدستور الذي لا يجوز للبرلمان أن يوافق على تشريع قانون يتعارض مع مبادئه، فالتشريع يدور في أمور فرعية تندرج تحت ظل مبادئ الدستور العامة. فإذا أردنا أن نبين طبيعة عمل البرلمان في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية، فإننا نرى أنها لا تخرج عن إقرار تفسير لنصوص القرآن الكريم دون آخر، وما أكثر آراء العلماء في التفسير والتأويل. فنصوص القرآن لا يجوز الخروج عليها صراحة، كما هو الوضع بالنسبة لعدم الخروج عن الدستور، وإنما يجوز لأعضاء البرلمان إقرار قانون يتفق مع رأى عالم يرون فيه مصلحة المجتمع، دون رأى عالم آخر لا يحقق هذه المصلحة، وبهذا يكون دور البرلمان هو الاختيار والانتقاء من آراء العلماء بما يناسب طبيعة الحياة وظروف العصر.

أ‌.       د/ محمد شامة


السبت، 8 أبريل 2023

 

O

الإسلام والحياة المعاصرة[1]

يدور حوار حاد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة بين من يدعو إلى تطبيق التعاليم الإسلامية في جميع مجالات الحياة، وبين اتجاهات متعددة، يرى كل اتجاه منها أنه يجب الفصل بين الإسلام وبين شئون الحياة الدنيوية؛ إذ ينبغي أن تقتصر سيادته على مجال العبادة، أما الشئون السياسية والاقتصادية، وكذلك ما يتعلق بتسيير دفة الحياة في المجتمع، فلا شأن له بها، ومن هنا فلا يجوز لأحد أن يقحم الدين في شعب الحياة المختلفة.

ولا تتخذ هذه الاتجاهات موقفاً واحداً، ومتطابقاً بالنسبة لعلاقة الإسلام بما هو خارج عن نطاق العبادات الفردية، بل هناك مواقف مختلفة؛ فبعضها يسمح بسيادة الدين في مجالات دون أخرى، وبعضها الآخر يتخذ موقف المعارضة لتدخل الدين في أي شأن من شئون الحياة خارج نطاق العبادة الفردية، ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن علاقة كل المعارضين بالإسلام واهية أو مقطوعة؛ فإنً لدى كثير منهم عقيدة راسخة، وإيماناً عميقاً، وحرصاً على تأدية الفرائض لدرجة أن بعضهم يمكث ساعات في محراب الصلاة، ويشارك بقلبه ووجدانه في جلسات روحية، ولا يبخل ساعة في تقديم العون والمساعدة للآخرين انطلاقاً من الواجب الديني الملقى على عاتقه؛ فهو لا يفرط في فرض من الفرائض الدينية، ولا يهمل عملاً صالحاً نُصَّ عليه في القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، أو وَرَدَ في أثر من آثار الصحابة رضوان الله عليهم. وقد يبدو أن هذا مناقضاً مع موقفه من سيادة الدين في جميع مجالات الحياة، لكن من يبحث الأمر بجدية يتبين له أنه ليس هناك تناقض، بل لَبْس، وعدم فهم لطبيعة الإسلام وتعاليمه.

ومن أين جاء هذا اللبس وعدم الفهم؟

 

جاء من مصدرين:

الأول: القوى الاستعمارية؛ ذلك أن الاستعمار اصطدم بصخرة عاتية في المجتمعات الإسلامية؛ إذ قابلته معارضة عنيفة في كل مكان–حاول أن يفرض سلطانه فيه-انطلاقاً من عقيدة المسلمين التي علمتهم أن لا سلطان للكافرين على المؤمنين، يقول الله تعالى: ﱡﭐ     [النساء: ٤١ ]، فشن المسلمون على الاستعمار حرباً شعواء حتى لا يمكنوه من أن يتسلط عليهم.

كما دفعهم إلى الجهاد ضد المحتلين ما ورد في القرآن الكريم من آيات عدة، تحث المسلمين على الجهاد ضد أعداء الله، وتحرم عليهم اتخاذهم أولياء؛ لأنهم أعداء الله، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ             ﱿ [لممتحنة: ١ – ٢]

ولهذا لم تهدأ المناطق الإسلامية التي دخلها الاستعمار أبداً، فلم يخضع المسلمون لسلطان المستعمرين، ولم يستكينوا لسطوتهم. وعندما تبين للمستعمرين أن السلاح لن يحقق هدفهم لجأوا إلى السلاح الفكري؛ فوضعوا برنامجاً ثقافيًّا يهدف إلى نشر الفكر الأجنبي بين أبناء المسلمين، ودسوا في خطتهم من النظريات والقضايا التي تتعلق بالحياة في ثوب يؤدي إلى إضعاف العلاقة بين الشباب وبين الإسلام؛ وذلك بإقناعهم-عن طريق هذا البرنامج-بأن الإسلام لا يناسب الحياة العصرية، ولذلك ينبغي الفصل بينه كعبادة وبين الحياة كنظام، وإلا تخلف المجتمع، وعجز عن مواكبة التقدم. وطفقوا يضربون على هذا الوتر حتى اقتنع بهذه الدعوى كثير من المسلمين، وخاصة أولئك الذين لم يحصلوا على قدر من الثقافة يمكنهم من فهم حقيقة الإسلام وعلاقته بالحياة. ومن هنا رأينا مسلمين يعتقدون أن الإسلام دين عبادة فقط؛ فلا شأن له بالحياة، ولذا يجب أن تترك للناس يصرفونها وينظمونها بعيداً عن تسلط الدين ورجاله.

الثاني: كان من الممكن أن تفشل هذه الحركة الاستعمارية، لو لم يقف رجال الدين من الحضارة الحديثة موقف المعارضة المطلقة؛ إذ عندما اتصل الشرق الإسلامي بالغرب بعد طول انقطاع، قطع فيه الغرب شوطاً كبيراً في طريق الحضارة، وجد المسلمون أنفسهم أمام صور جديدة، ومظاهر لم يعرفوها من قبل. وكان عليهم إزاء هذا الوضع أن يدرسوها ويأخذوا منها ما يساعدهم على دفع عجلة التقدم دون المساس بأصول العقيدة، أو إهمال التقاليد والعادات المنبثقة من التعاليم الإسلامية، ويرفضوا ماعدا ذلك إن كان فيه تهديد للهوية الإسلامية، أو تشويه للطابع الإسلامي. فلو فعل المسلمون ذلك لحالوا بين المستعمر وبين الوصول إلى هدفه؛ وهو إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة في المجتمع.

ولن ما حدث: أن رجال الدين رفضوا كل ما لا يعرفونه، حتى وإن كان ضروريًّا للحياة، رفضوه لمجرد أنه لم ينبت في المجتمع الإسلامي، وإن لم يكن له تأثير على العقيدة، فعلى سبيل المثال: عارض رجال الأزهر تدريس المواد التطبيقية والتجريبية في الأزهر-وقد حدث ذلك أيام أن كان الأزهر هو المؤسسة التعليمية الوحيدة في المجتمع-بحجة أن ذلك سيكون على حساب العلوم الشرعية، وغاب عنهم أن الإسلام يدعو إلى البحث والنظر في كل مظاهر الحياة، لأن في ذلك قوة المسلمين، ومنعة لهم من أن يكونوا فريسة لأولئك الذين يسبقونهم في هذه المجالات، وفي ذلك خدمة للإسلام لا تقل عن التوسع في دراسة العلوم الإسلامية.

كان موقف رجال الدين الرافض لتعلم العلوم الحديثة دليلاً قويًّا استخدمه الاستعمار في إقناع الشباب بعدم صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة، فهو للعبادة فقط-هكذا لقنهم-وليس لتصريف شئون الحياة الدنيوية، وبذلك قدم رجال الدين للاستعمار أقوي سلاح حقق يه هدفه، حيث أقنع كثيراً من الشباب المسلم بوجهة نظره؛ ألا وهي إبعاد الإسلام عن مجال السياسة، والحكم ، والاقتصاد، وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بالسياسة والحكم، فتكونت بذلك طبقة تحافظ على تأدية الفرائض في مجال العبادات وتحرص عليها بشدة، ومع ذلك تعمل على إبعاد الإسلام عن أن تكون له السيادة في أي مجال من مجالات الحياة.

أدرك بعض رجال الدين هذا الوضع مؤخراً، فحاولوا توضيح العلاقة بين الإسلام والحياة على أساس من كتاب الله وسنة رسوله؛ فهم يبينون للمسلمين خطأ ما قاله أسلافهم في معارضتهم للحضارة الحديثة، إلا أننا لا زلنا نسمع بين الحين والآخر-وخاصة من بعض الجماعات المتطرفة-من يصر على رفض كل وظاهر الحياة المعاصرة باسم الإسلام، وهم بهذا الموقف يدعمون موقف أعداء الإسلام كما فعل أسلافهم.

الخلاصة

تلعب الحياة في المجتمع الإسلامي دوراً كبيراً في مجال الدعوة إلى الله في المجتمعات غير الإسلامية في العصر الحديث؛ ذلك أن الاستشهاد بالنظريات والتركيز على المبادئ السامية في الإسلام لا يكون لهما أثر في هذا المجال إلا على الدارسين والمهتمين بالثقافة العالمية، وهؤلاء لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة جدًّا في المجتمعات الإنسانية، أما سواد الناس فوسائل التأثير عليهم في هذا المجال تختلف عن هذا المنهج؛ إذ أننا لو اعتبرناه وسيلة من وسائل الدعوة في المجتمع الإسلامي، أو أسلوباً من أساليب الإقناع مع المهتمين بالثقافات العالمية من أبناء الأديان الأخرى، فإنه لا يصلح وسيلة للدعوة مع عامة الناس؛ لأنهم لا يعيرون اهتماماً   كبيراً لما يحتويه التراث من مبادئ وتعاليم، بل يُرَكَّز اهتمامهم على صورة الحياة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فإن كانت قائمة على أسس تتناسب مع طبيعة الحياة البشرية، وتلبي حاجات الفرد والمجتمع، وتحافظ على كل ما من شانه أن يرفع قدر الإنسان في إطار حياة اجتماعية قائمة على أساس العدل والمساواة، وتكافؤ الفرص في كل ما هو متاح للإنسان في الطبيعة المحيطة به، سواء تعلق ذلك بالاقتصاد، أو بالحكم، أو اتصل بالسلم الطبقي وسلوك الشباب في المجتمع.....إلخ، فإنه يميل إلى التعرف عليها، والبحث عما وراءها من أفكار، ومحاولة معرفة المبادئ والتعاليم الدينية التي تحكم هذا الإطار السليم للحياة البشرية، أما إذا رأى صورة المجتمع الإسلامي تتنافى مع طبيعة الحياة البشرية، وتتصادم مع المبادئ الأولى لكيان الإنسان، فإنه سوف ينفر من هذه الصورة، ويحتقر أهلها، بل ويربط بين ما فيها من سلبيات وبين العقيدة، وبالتالي سوف يرمي هذه العقيدة بكل ما عنده من نقائص، وينسب إليها كل ما في المجتمع من انحرافات وانهيارات في الهيكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويرجع أسباب التخلف في المجتمع إليها.     

ومن هنا نرى أن صورة المجتمع الإسلامي، بما فيه من أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية تنعكس على سلوك الشباب وتصرفاته في مجالات الحياة المختلفة، وبالتالي فهي تلعب دوراً كبيراً في مجال الدعوة إلى الإسلام في المجتمعات الدولية، بل نكاد نجزم أنها الوسيلة الوحيدة في العصر الحديث للدعوة إلى الله.

 

أ‌.       د/ محمد شامة




 1. الصفحات الأخيرة من كتاب: " الشباب مرآة المجتمع" وقد نشر في عام 2005م. 

الخميس، 6 أبريل 2023

  O

ولاء الماركسيين 1

يدين "الماركسيون" في العالم بالولاء التام للاتحاد السوفييتي – أو للصين-، لأنه عنصر من عناصر دراستهم للماركسية؛ ففي روسيا مدارس خاصة يتعلم فيها الشباب من جميع أنحاء العالم مواد عامة وهي:

- تاريخ الحزب الشيوعي الروسي.

- المادية التاريخية الجدلية.

- تاريخ الشيوعية العالمية.

- النظريات الاقتصادية. 

ومواد خاصة، حيث ينفرد طلبة كل إقليم بدراستها:

- تاريخ الحركة الوطنية في بلادهم.

- المشكلات الاقتصادية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية

- المشكلات الاقتصادية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، أو.... أو ..... إلخ.

هذا من الناحية النظرية، ثم يشترك جميع الدارسين للتدريب على:

تشكيل الجمعيات السرية، وأوجه نشاطها: من طبع منشورات وتوزيعها ... حتى استعمال القوة المسلحة للاستيلاء على السلطة.

وبعد أن يتخرج الطالب، يُرسَل إلى بلده، لينضم إلى التنظيم الشيوعي السري. ولكنه –مثله في ذلك مثل غيره ممن سبقوه على هذا الدرب-يظل دائماً مرتبطاً بالاتحاد السوفييتي في جميع تصرفاته، ويبرر مواقفه الدولية، ويتحرك طبقاً لتعليمات موسكو. يقول شيوعي سابق معقباً على مناهج تلك المدرسة:

وهكذا أنتج الاتصال بين النظري والعملي هدفاً مزدوجاً؛ ففي الناحية الأولى وُجِّهْنا لاستعمال معلوماتنا النظرية في البلد الذي سنعمل فيه فيما بعد. وفي الناحية الأخرى تحولنا بطريق الإلزام-ليس فقط نتيجة لدراسة التاريخ السوفييتي، بل أيضاً نتيجة لمناقشة الأحداث الهامة في الاتحاد السوفييتي-إلى مداومة تتبع الأحداث في الاتحاد السوفييتي، وإلى تفسير موقفه من الأحداث العالمية، والدعوة له، والدفاع عنه.

إن الشيوعي لا يتحرك من بلده وفيها من تلقاء نفسه، بل تحركه موسكو، فهو قطعة شطرنج، يحركها اللاعب، وهو هنا زعماء الحزب في موسكو-أو الصين-، وقد صرح بهذا الوصف أحد زعماء الشيوعيين في ألمانيا الشرقية لـــــــ "ليونهارد" [مؤلف كتاب: "الثورة تطرد أبناءها" وقد ترجمته تحت عنوان" "حقائق عن نظام الحكم الشيوعي" ونشر في عام 1981م]    أثناء حوار دار بينهما حول ربط ألمانيا الشرقية بعجلة الاتحاد السوفييتي، وكان "ليونهارد" يرى أن العلاقة يجب أن تقوم على أساس المساواة بين الدولتين، لا على أساس تحكم الاتحاد السوفييتي في مصير ألمانيا الشرقية، واتخاذه موقف الآمر، وألمانيا الشرقية موقف المنفذ دون اعتراض:

".... فلنقف على أرض الحقيقة العارية! ما معنى المساواة هنا؟ أعرني انتباهك! فالنضال الذي انتشر في العالم هو بكل أبعاده لعبة شطرنج كبيرة ... وأشار بيده إلى لوحة الشطرنج، يوجد أبيض وأسود على هذه اللوحة، ويواجه اللاعبان أحدهما الآخر بأشكال مختلفة من قطع الشطرنج، تختلف فيه كل قطعة باختلاف شكلها، وطريقة حركتها على اللوحة، ولكن تحرك هذه القطع لا يمكن أن يكون إلا من المركز، وهذا المركز هو موسكو فقط .... يجب أن نقترب من الموضوع مجردين من أي اتجاه ... هل لاحظت مرة شيئاً خاصًّا في سمات الاتحاد السوفييتي، واتحاد الجمهوريات السوفييتية؟

لم أفهم بسرعة، ماذا يريد بهذا السؤال!، ثم استطرد الزعيم الشيوعي يقول: لا يُظهِر مفهوم روسيا هذه السمات، وليس هذا من باب المصادفة. وبهذا مُهِّد الطريق للبلاد البتي تتحول فيما بعد إلى الاشتراكية للانضمام لهذا الاتحاد. هل تعتقد-إذا وصلت البلاد الديمقراطية الشعبية، وفيما بعد المنطقة الألمانية أيضاً إلى أسس الاشتراكية-نستطيع أن نعيش كدولة مستقلة، لا تُربَط بالاتحاد السوفييتي."

 هذا هو هدف الماركسيين، تسليم البلاد-بعد الاستيلاء على السلطة-إلى موسكو، لتكون إحدى الجمهوريات السوفييتية، فليس هذا التصريح من ماركسي صغير، بل من زعيم أصبح رئيساً لجمهورية ألمانيا الديمقراطية فيما بعد. أيمكن بعد هذا أن ينخدع بالدعاية الماركسية إنسان له عقل يفكر به.     

*    *     *

خاتمة

يقف المجتمع الإسلامي اليوم-في جميع أقاليمه-على مفترق الطرق، يلتقط أنفاسه من هول الطريق، الذي قطعه على مدى المائة سنة الماضية؛ حيث تجاذبته تيارات أقضت مضاجعه، فلم تترك له فرصة البناء والتعمير، وأهلكت أعصابه، فلم يعد يقوى على التفكير بموضوعية فيما يعرض عليه من "أيديولوجيات"، ولم يستطع الاحتفاظ بما عنده من عقائد وعبادات، فتهاون فيها وأهملها، أو أوَّلها فألغاها، أو أداها عادة وتقليداً، فصارت:

- صورة لا حياة فيها.

- ومصدراً للرزق والتكسب، لا عقيدة يدافع عنها بالروح والمال.

- ووسيلة يخدع الحكام شعوبهم بالتظاهر بها، لا منارة يسير على هديها رجال السلطة.

وإزاء هذه الظروف التي يمر بها المجتمع الإسلامي يجب على المعاهد التي تخرج الدعاة أن تعيد النظر في اختيار دعاة المستقبل فتأخذ في الاعتبار –بجانب الناحية الروحية-حسن المظهر، ورتابة الملبس، ودبلوماسية السلوك، وأن تعدل مناهجها فتدخل فيها من المواد:

ما يهيئ الداعية لمواجهة الأيديولوجيات الحديثة، ولن يكون ذلك إلا بدراسة جوانبها الفلسفية والتطبيقية.

وما يجعله قادراً على شرح الإسلام بلغة العصر في جميع المحافل، سواء كانت دولية أو محلية.

وأخيراً أن تكفل له مستوى مادي يساعده على الظهور في المجتمع بمظهر لائق.

         والله الهادي إلى سواء السبيل. 

ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. 

أ‌. د/ محمد شامة

1. الصفحات الأخيرة من كتاب "الخطر الشيوعي في بلاد الإسلام" وقد نشر في عام 1979م

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...