بسم الله الرحمن الرحيم
الأساطير الدينية
أ. د/ محمد شامة
العلاقة بين الدين والأسطورة علاقة تلازم ، فلا يوجد دين
على وجه الأرض –أيًّا كان مصدره، سماويًّا أو بشريًّا– يخلو من الأسطورة ؛ ذلك أنه
- أي الدين – يخاطب جميع طبقات المجتمع ، وهى مختلفة في ثقافتها ، ومتفاوتة في
قدرتها الذهنية ، ومتباعدة في تقبلها للنصوص الدينية ، فما يروق لطبقة الفلاسفة
والمثقفين لا يدركه – بل لا يفهمه – من هم في الطبقة الثقافية الدنيا ، أو
المتوسطة في سلم العلم والإدراك ، وهم الذين تستهويهم الأسطورة فينجذبون إلى
سماعها ، ويصغون إلى ما تدعو إليه من مبادئ وقيم ، فيلتزمون بها ، إن فعلاً أو
اجتناباً .
فلو خلا الدين من الأسطورة ، وركز على الحقائق العلمية ،
والنظريات الفلسفية ، لاستغلق فهمها على معظم أفراد المجتمع ، حتى على كثير ممن هم
في الطبقة العليا من السلم الثقافي والعلمي ، لأن الإنسان ، مهما كانت درجته
العلمية، ومكانته بين الفلاسفة ينجذب – أحياناً – إلى بريق وغرائب الأحداث الأسطورية
؛ ذلك أن من النادر – وخاصة في المجتمعات النامية – أن يتخلص إنسان من الموروث
الأسطوري ، مهما كانت درجة ثقافته ومركزه العلمي ، وعلى أي شكل حضاري كانت حياته
ومعيشته ، إذ يقع العالم والجاهل ، والمثقف وغير المثقف ، والبدائي والحضاري تحت
تأثير هذا الاتجاه ، حيث يرى نفسه أمام الظواهر التي لا يستطيع لها تفسيراً ،
أسيراً لهذا الاعتقاد ، وخاصة عندما تعجز قدرته عن معرفة أسباب ما يصيبه ، أو يصيب
أحداً من أقاربه ، أو ممن يتصلون به ، ويحتك بهم في حياته . ولذلك نراه يميل إلى
تصديق ما يروى له من أساطير، تبرر اعتقاده في هذا المجهول، وتؤكد له وقوع مثل هذه
الظواهر في قديم الزمان وحديثه، فترتاح نفسه، ويستقر في قلبه ما يطمئنه على أن ما يعتقده
في هذا المجال ليس بعيداً عن الواقع، بل هو حقيقة مؤكدة، وإن لم يتوصل الإنسان بعد
إلى سبب مادي يؤكدها. وكأن تلك المرويات الخرافية هي الدليل الذي لا ينقض – على
الأقل في وجدانه – على صحة ما يعتقده معظم الناس – إن لم يكن كلهم – في أسباب
الظواهر من أساطير وخرافات، فيطمئن قلبه، وترتاح نفسه، بل تراه ينبري للدفاع عنه،
إذا ووجه بما يشكك في صحته، أو يزعزع الإيمان به، فيظل يردد ما سمعه من أساطير
العصور الماضية حول هذا الموضوع بأسلوب يوحى للسامع بأنه قد عاشها، ورأى هذه
الأحداث بأم عينه. وهذا يؤكد ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن أساطير المجتمعات
البدائية لم تختف كلية من المجتمعات المعاصرة، وخاصة إذا كانت أسباب ما تدور حوله
لازالت مجهولة لم يكتشفها العلم بعد.
ولهذا وردت الأساطير في النصوص المقدسة لجميع الأديان،
لا فرق في ذلك بين السماوية والبشرية؛ وانتشرت في المجتمعات، إذ ينتمي كثير من
القصص التي تروى في العهد القديم وفى آثار سامية أخرى إلى ظاهرة الأساطير التي
صيغت في قديم الزمان، ومن أشهر الأساطير العربية: الغول، والعنقاء. وقد أكثر الشعراء
من ذكرهما وضربوهما مثلاً في القلة والندرة، كما سيطرة فكرة الهامة في الشعر العربي
زماناً، كما اشتهرت أسطورة الطائر أو الدابة التي تخرج من رأس القتيل ونظل هائمة
تطلب القصاص، وتردد: " اسقوني اسقوني "، ولا تهدا حتى يؤخذ بالثأر من
القاتل، فتروى من دمه فتسكن. وقد وظف كثير من الشعراء والأدباء في العصر الحديث
الأسطورة، واتخذوها قناعاً رمزياً لكثير من المعاني والأفكار.
أما اليهود، فقد تغلغلت الأسطورة في كتابهم المقدس، ففي
نص التوراة تشابه مريب مع الأساطير الوثنية، بل إن ملحمة الخلق البابلية تتفق مع
التوراة بشكل مثير للدهشة، كما اعتقدوا بأن سبب لون السماء بالأزرق هو وجود مياه
فوقها، وغير ذلك من الأساطير التي كثرت في الاتجاه الغنوصي، وهي كلمة
يونانية:"جنوصيص gnosis " ومعناها: "علم"، أو "
معرفة " أو " حكمة " أو " عرفان ". وتستخدم الكلمة
الأخيرة في المعجم العربي للإشارة للغنوصية. والغنوصية حركة فلسفية وتعاليم دينية
متنافرة، أخذت شكل أنساق أسطورية جميلة في غاية التنوع وعدم التجانس، انتشرت في
الشرق الأدنى القديم في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. ورغم عدم تجانس
أساطيرها وتعاليمها وأفكارها، بل تنافرها، فيمكن القول بأن كل الأنساق الغنوصية
تدور في إطار الحلولية الكمونية. وتنطلق الحلولية الغنوصية عادة من رؤية اثنية
ازدواجية صارمة، ترى أن هناك إلهين، وليس إلهاً واحداً خفيًّا خيِّراً (إله العهد
الجديد)، وإلهاً ظاهراً شريراً (إله العهد القديم). وإله الظاهر هو أيضاً الإله الصانع
الذي خلق هذا العالم المادي.[1]
مفهوم الأسطورة
في
القرآن الكريم
القرآن حمال أوجه
روى عن علىّ بن أبى طالب –
كرم الله وجهه -أنه قال لابن عباس t - حين أرسله
لمناظرة الخوارج - : " لا تجادلهم بالقرآن ، فإنه حمال أوجه ، وجادلهم بالسنة
" ، وعلى الرغم من شهرة هذه الرواية لورودها في أكثر من مرجع ، إلا أن بعض
الباحثين جعله من كلام ابن عباس لعلي ، وليس من كلام على لابن عباس ، والبعض الآخر
شكك في هذه الرواية ، بحجة أنه " لم يقف على سند يوثق به في نسبة العبارة
المذكورة .... إلى علي بن أبى طالب، فقال: تمسك بعض الناس بالكلمة التي رويت عن
الإمام على – كرم الله وجهه – حين وجه ابن عباس – رضى الله عنهما – لمحاجة
الخوارج، فقال له: لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمال أوجه، وخذهم بالسنن، ولا أدرى مدى
صحة هذه الكلمة إلى علي، فقد بحثت عنها في مظان كثيرة فلم أجدها [2]رغم
اشتهارها، لكن الشهرة ليست دليل الصحة. ولقد اتخذ بعض الناس من كلمة أمير المؤمنين
على تكأة، يعتمدون عليها في دعوى عريضة: أن القرآن يحتمل تفسيرات مختلفة، وأفهاماً
متباينة، بحيث يمكن أن يحتج به على الشيء وضده، ولو صح ما ادعوه على القرآن الكريم،
لم يكن هناك معنى لاجتماع الأمة[3]
بكل طوائفها على أن القرآن هو المصدر الأول للإسلام، عقيدة وشريعة، ولم يكن هناك
معنى لوصف الله تعالى القرآن بأنه نور وكتاب مبين [4]
.....
وأرى أن هذا الكلام فيه نظر ، ذلك أن القرآن الكريم هو
المرجع الأساسي لتنظيم حياة الناس في جميع مناطق الكرة الأرضية ، وهو صالح لكل
الأقطار والعصور ، فلو فرضنا أن له معنى واحداً لكان ذلك موافقاً لنظام معين من
أنظمة الحياة ، ولم يكن صالحاً لكل العصور ، فنظم الحياة على الكرة الأرضية مختلفة
ومتباينة ، فنظام الحياة في أوربا وأمريكا يختلف عنه في القارة الإفريقية ، وأسلوب
الناس في حياتهم في آسيا يختلف عن مثيله في القارات الأخرى ، كما أن الحياة بكل
أشكالها تتطور وتتجدد باستمرار ، فأنى لنص معين المعنى يمكن أن يطبق على كل هذه
الأشكال المختلفة مكاناً وزماناً ، كذلك لو كان المعنى واحداً لما كان هناك هذا
الكم الهائل من الآراء الفقهية المختلفة ، ولهذا لا ينبغي أن يفهم من أن اختلاف
معنى كثير من نصوص القرآن الكريم يقدح فيه ، بل بالعكس ، هو ميزة تميزت بها عن كل
النصوص الدينية السابقة – واللاحقة أيضاً،
لو فرض أن هناك نص مستجد في المجال الديني في أي بقعة من بقاع الأرض -، فقد جاءت
النصوص الدينية الأخرى قاطعة في معنى واحد ، ولهذا فقدت صلاحيتها لكل الناس ، وعجزت
عن تلبية مطالب الحياة المتجددة والمتطورة في كل بقاع الأرض .
أما الإسلام ، فهو بمعانيه المختلفة لكثير من نصوصه
المقدسة – الواردة في القرآن الكريمة – صالح لكل المجتمعات الإنسانية ، إذ يطبق كل
مجتمع المعنى الذى يناسبه ، ويطبق من الآراء - المعتمدة على اختلاف المعنى – ما
يصلح ، ويناسب ظروفه ، فلو رجعنا إلى ما بيناه سابقاً من اختلاف المعنى في النصوص
التي تحدثت عن أحداث وقعت في سابق العصور ، لتبين لنا أن النص الذى يحتمل معاني
متعددة تصلح لمخاطبة العامة ، وتقنع الفلاسفة والمفكرين ، وتلبى الاحتياجات
المختلفة والمتعددة في المجتمعات الإنسانية ، على اختلاف مناطقها الجغرافية ،
وتنوع ثقافاتها ، وتعدد درجات حضاراتها ، لا يقدر على صياغته أحد من البشر ، مهما
بلفت درجة ثقافته وفكره ، إذ لا يقدر على ذلك إلا العليم بأحوال البشر جميعاً ،
والملم بما سيحدث لها من التطور والتجديد ، وهو الله I .
وسوف نبين جانباً من ذلك في الأمثلة الآتية.
هدف الأسطورة
في
القرآن الكريم
وردت الأساطير في النصوص الدينية المقدسة لجميع الأديان
...حتى الإسلام ، إلا أن ما يفهمه عامة الناس ومتوسطي الثقافة مما ورد في القرآن
الكريم على أنه أسطورة – وهذا عنصر حتمت وجوده توجيه الرسالة لجميع الطوائف
المختلفة في الفكر والثقافة كما بينا ذلك في نص كتابنا: "مفهوم الأسطورة في
القرآن الكريم" – يستطيع الفيلسوف وأرباب الفكر والمعرفة أن يستخرجوا منه
قواعد منهجية على أعلى درجة من الجانب العلمي والفلسفي؛ فبعض نصوص القرآن الكريم
التي يفهم من ظاهرها أنها أسطورة ، حتمتها طبيعة الشعوب لجذبهم إلى التعاليم
الدينية ، هي في الوقت نفسه تعطى للفلاسفة والعلماء إشارة إلى ما يجب عليهم أن
يلتزموه في بحوثهم العلمية ، فهي تعتبر كنوزاً علمية أعلى درجة من البحث العلمي ،
يستخرجها ويستنبطها العلماء على مر العصور والأزمان ، فعلى سبيل المثال :
الخضر
يقول الله تعالى:
ﱡﭐ
ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﱠ [
الكهف: ٦٠ - ٨٢ ]
نسج الفكر الإسلامي حول هذه القصة خيوطاً من خيالات لا
أصل لها، وأضاف إليها أساطير لم يشر إليها القرآن الكريم أدنى إشارة، نلخصها فيما
يلي:
1. اختلفوا في اسم هذا العبد الصالح، واسم أبيه، فقالوا: إن
اسمه: بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، وذكروا له
كنيتان، الأولى: أبو محمد، والثانية: أبو العباس، أما لقب: الخضر، واختلفوا
في سبب إطلاق هذا اللقب عليه، فقيل: إنه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء، وقيل:
إنه مَرَّ بأرض بيضاء، فإذا هي تهتز خضراء من خلفه، وقيل: سمى خضراً لحسنه
وإشراق وجهه. واختلفوا في اسم أبيه فقيل: إنه ابن آدم لصلبه، وقيل: إنه ابن فرعون،
وقيل: ابن العيص، وقيل: ابن كلبان.
2. ذكروا روايات عدة حول نشأته، من أشهرها: أنه كان من
أبناء الملوك، وقد كان رافضاً لفكرة الزواج، التي ألح عليها أبوه فيها، فاضطر
للموافقة، فكان زواجه صورياً، ولما أصر والده على زواج فعلي، ترك القصر وولى
بعيداً. وقد ظهر في أماكن مختلفة، وقام بعجائب كثيرة، وظهرت نبوته على الملأ في
مواقع مختلفة. لكن المفسرين والعلماء يختلفون في مصيره، فمنهم من يقول: إنه مات من
زمن طويل. ومنهم – وهم غالبية علماء الأمة وكثير من مشايخ الصوفية – من يذهب إلى
أنه لايزال على قيد الحياة إلى يومنا هذا، وأنه لم يمت فما زال يعيش بيننا، وقد
شاهده الكثير من علماء وأبناء الأمة الإسلامية، ولهم في هذا الأمر روايات، بأنه
قابل فلاناً، وألبس فلاناً خرقة، وأعطى فلاناً عهداً .... إلى آخر ما يقصون
وينسجون من أقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.[5]
3. ذكر ابن كثير أسطورة أخرى حول هذه القصة تتعلق بالحوت: "
.... فرجع موسى حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر و يتبعه
موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس
شيئاً من البحر إلا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة، فجعل نبي الله يعجب من ذلك حتى
انتهى به الحوت جزيرة من جزائر البحر فلقى به الخضر ....." [6]
بل إن الثعالبي روى لنا في هذا الصدد قصة لا يقبلها
العقل، ولا تستقيم مع المنطق السليم، لم أسردها في النص تخفيفاً على القارئ،
وذكرتها كاملة في الهامش، لأعطى لمن يقرأها صورة واضحة عن مدى تغلغل الأسطورة في
الفكر الإسلامي مستنداً إلى إشارات في القرآن الكريم لا تمت إلى الأسطورة بصلة. [7]
وهذا كلام يستهوي العامة من الناس، لكن لا يقبله
المفكرون، ولا يؤمن بصحته ذووا العقول السليمة، ولهذا لم يرد مثل هذا الكلام في
القرآن الكريم، لأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا الكلام في
حقيقته باطل، لا أصل له، إنما هو خرافات نسجها الفكر الإسلامي ليستولي به على عقول
العامة.
4. هوية الحوت العجيبة، فقد ذكروا أنه كان حوتاً ميتاً، إذ
يزعمون أنه قيل لموسى u : خذ حوتاً
ميتاً ، فحيث ينفخ فيه الروح من مسه ماء عين يبعث الحياة في الأموات ، تجد رجلاً
من عبادنا ، وهو – كما يزعمون اسمه الخضر-.
5. ثم تحدثوا عن كفر الغلام وأسهموا في الحديث عن كل ما ورد
في القصة، سواء كان شخصاً أم مكان.
لم يذكر القرآن الكريم شيئاً عن كل ما نسجوه من أساطير
حول هذه القصة، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا لم يكن القصد من سرد هذه الرواية نسج
أسطورة، أو الإيحاء بخرافة، فما هو الهدف من ورودها في كتاب مقدس أوحى به إلى
رسول ليعلمه لمن أرسل إليهم؟
لو استعرضنا عناصر التقدم والرقي في المجتمعات الإنسانية،
لوجدنا أن من أهم العناصر – إن لم يكن أهمها – التي ترتكز الحضارة عليها، بل تعتبر
عمودها الفقري الذى لا يستقيم بناء المجتمع إلا بها، ولم تنتج البشرية ما نراه
اليوم من مظاهر الحياة على جميع المستويات إلا بواسطتها، ولم يتمتع الإنسان بحياة
الرفاهية وسهولة الاتصالات إلا بالاعتماد عليها، واتخاذها أساساً لكل ما أنتجته من
وسائل قربت المسافات، واختصرت الزمن، وذللت كل العقبات التي تواجهه.
لم يقم ذلك كله إلا على البحث العلمي القائم على أساس
كشف المستور في آفاق الأرض وفجاج الكون ، وذلك بالسؤال عن أسباب الظواهر المحيطة
بالإنسان ، ومحاولة ما يكتنفها من غموض ، ويكمن وراءها من دوافع ، فقد استقر في
ذهن الباحثين أن الإجابة عن هذه الأسئلة
: لِمَ ؟ ، وكيف ؟ ، ولماذا ؟ ، وأين ؟ ، و ما هي الأسباب ؟ ، وما العلة ؟ ، وما
العلاقة بين الظواهر ؟ ، وما كنه هذه الظواهر ؟.......إلخ ، هي مقدمة التقدم ،
وأساس اكتشاف ما خفى عنا ، وبالتالي هي نقطة انطلاق الاكتشافات في جميع مظاهر
الحياة ، سواء ما يتعلق منها بالإنسان أم الطبيعة ، أم الفضاء الكوني ، وما يحيط
به من عناصر وأفلاك ، وما هو كائن في باطن الأرض من ثروات : معادن وكنوز مختلفة
التكوين والاستخدامات .
ومن هنا فإن التسليم بما يراه الإنسان ويسمعه دون السؤال
عما وراءه، وعن أسبابه، هو علامة على الانكماش والتقوقع في المكان، مما يجعل
المجتمع غير قادر على التقدم خطوة واحدة، ولهذا كان الحكم على ظواهر الأشياء دون
البحث – أو السؤال – عما يكمن وراءها، أو محاولة الكشف عن أسبابها خطأً فاحشاً في
مجال البحث العلمي، بل لا يمكن أن يسمى بحثاً إلا بالسؤال عن الأسباب. فالبحث عن
أسباب الحوادث والظواهر هو أولى خطوات العلم، وبداية الطريق إلى التقدم في جميع
مجالات الحياة.
ولما كان هذا هو العنصر الأساسي في بناء الحضارة، والإسلام
يحث المسلم على الإسهام في هذا البناء، فقد نصح المسلم بألا يسلم بظواهر الأشياء
ويبنى عليها حكماً، لأنه سوف يكون – في الغالب – حكماً غير صحيح، وبالتالي يكون
عقبة في سبيل التقدم والرقي؛ فقصة موسى u مع العبد الصالح تشير إلى هذا
إشارة واضحة، حيث أن موسى u حكم بخطأ العبد الصالح من ظاهر
العمل، فلم يسأل عن السبب، بل اعترض – بناءً على الظاهر – على ما فعله العبد
الصالح من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.
وعليه فقد فهم العامة ومتوسطو الثقافة القصة على وجه أوحى
إليهم بنسج أخبار وحكايات – هي في جوهرها خرافات وأساطير – حول: اسم العبد الصالح،
ومن أين جاء، وإلى أين ذهب، كما خاض الخيال في وصف الحوت والماء الذي يحيى الموتى،
وكفر الغلام ... وغير ذلك -كما بينا ذلك سابقاً – من أخبار لم يشر القرآن الكريم
إلى شيء منه، فهي محض خيال تُسَلِّى شريحة من المجتمع تميل إلى مثل هذه الخرافات
والأساطير، وقد تنمى فيهم نوعاً من الإيمان الذي يربطهم بالنصوص المقدسة.
لكن المفكرين والفلاسفة يرون في هذه القصة جانباً سامياً،
وإشارة واضحة إلى ما ينبغي على الإنسان الالتزام به، ألا وهو عدم الحكم على ظواهر
الأشياء، بل لابد من معرفة أسبابها، والوقوف على كنهها وعللها حتى يكون ذلك أساساً
للتقدم العلمي، وقاعدة متينة للازدهار الحضاري.
[1] ) والغنوصية ذات أصول يهودية، وأصبحت بعداً أساسياً في
اليهودية الحاخامية، وفى تراث القَبَّالاه. وهي في واقع الأمر النموذج المتكرر
والكامن وراء معظم (إن لم يكن كل) الفلسفات والأنساق الحلولية الكمونية الواحدية
(الروحية والمادية) عبر التاريخ، ومن ذلك العلمانية الشاملة، وهي أهم تعبير عن
الواحدية الكمونية، وعن النزعة الطبيعية المادية وأكثرها تبلوراً، ولذا أصبحت كلمة:
" غنوصية " في اللغات الغربية علماً على المذاهب الباطنية، وعلى
الهرطقات الجوهرية التي تقف على الطرف النقيض من العقائد السماوية التوحيدية. [ www.elmessiri
.com ]
[2] ) بل وجدت في أكثر من مرجع، فقد عزاها السيوطي لابن سعد في
الطبقات، حيث قال: أخرج ابن سعد عن عكرمة، قال: سمعت ابن عباس يحدث عن الخوارج
الذين أنكروا الحكومة، فاعتزلوا على بن أبى طالب، قال: فاعتزل منهم اثنا عشر
ألفاً، فدعاني علي، فقال: اذهب إليهم فخاصمهم، وادعهم إلى الكتاب والسنة، ولا
تحاجهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. وأخرج ابن سعد، عن عمران بن
مناح قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! أنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا
نزل، فقال: صدقت، ولكن القرآن ذو وجوه، يقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة ......
[4] ) فاختلاف التفاسير
نور وهداية لكل البشر في جميع الأقطار والعصور، أما التفسير الواحد فهو نور وهداية
لقوم بعينهم وزمان محدد.
[5] ) يقول ابن القيم في كتابه " المنار المنيف في
الحديث الصحيح والضعيف ": إن كل " الأحاديث الذى يذكر فيها الخضر وحياته
.. كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد، فحديث أن رسول الله كان في المسجد، فسمع
كلاماً من ورائه، فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر. وحديث: يلتقي الخضر وإلياس كل عام.
وحديث: يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر. وسئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر،
وأنه باقِ، فقال: ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان. وسئل الإمام البخاري عن الخضر
وإلياس، هل هما أحياء؟ فقال: كيف يكون هذا؟ وقد قال النبي e : "
لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " ( رواه الشيخان ) ، وسئل عن ذلك كثير غيرهما من الأئمة
، فقالوا – مستدلين بالقرآن - : ﭐﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﱠ [ الأنبياء: ٣٤] ، وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال : لو كان
الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي النبي e ، ويجاهد بين يديه ، ويتعلم منه ،
وقد قال النبي e يوم بدر : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض
" ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم
وقبائلهم ، فأين كان الخضر حينئذ ؟
فالقرآن، والسنة، وكلام المحققين من علماء الأمة ينفى حياة الخضر كما
يقولون:
فالقرآن يقول: ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﱠ،
فالخضر إن كان بشراً فلن يكون خالداً، حيث ينفى ذللك القرآن الكريم والسنة المطهرة؛
فإنه لو كان موجوداً لجاء إلى النبي e ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : : والله لو أن موسى حياً ما وسعه إلا
أن يتبعني " ( رواه أحمد عن جابر بن عبد الله ) ، فإن كان الخضر نبياً ، فليس
هو بأفضل من موسى ، وإن كان ولياً ، فليس أفضل من أبى بكر . وما الحكمة في أن يبقى
طيلة هذه المدة – كما يزعم الزاعمون – في الفلوات والقفار والجبال؟ ما الفائدة من
هذا؟ ليس هناك فائدة شرعية، ولا عقلية من وراء هذا. إنما يميل الناس دائماً إلى
الغرائب والعجائب والقصص والأساطير، ويصورونها تصويراً من عند أنفسهم ومن صنع
خيالهم، ثم يضفون عليها ثوباً دينياً، ويروج هذا بين بعض السذج، ويزعمون أن هذا من
دينهم، ولكن ليس هذا من الدين في شيء ...فالحكايات التي تحكى عن الخضر إنما هي من
مخترعات ما أنزل الله بها من سلطان.
[7] )
جاءت هذه الأسطورة تحت عنوان: " فصل في بدء أمر الخضر u " : يروى أن رسول الله e لما أسرى به إلى السماء ، بينما هو على البراق ، وجبريل يمر به،
إذ وجد رائحة طيبة ، فقال : يا جبريل ! ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال : إنه كان ملك
في الزمان الأول ، له سيرة حسنة في أهل مملكته ، وكان له ابن ، ولم يكن له ولد
غيره . قال أصحاب الأخبار : وكان= =أبوه ملكاً عظيماً ، فسلمه إلى المؤدب ليؤدبه ،
وكان يختلف إليه ، وكان بين منزله ومؤدبه رجل عابد كان يمر به ، فأعجبه حاله فألفه
، وكان يجلس عنده والمعلم يظن أنه في المنزل ، وأبوه يظن أنه عند المعلم ، حتى شب
ونشأ وأخذ من العابد شمائله وعبادته ، فقالوا لأبيه : ليس لك ولد غيره يرث ملكك ،
فلو زوَّجته لعله يرزق أولاداً ، فعرض عليه التزويج فأبى، ثم عاوده فرضى ، فزوَّجه
جارية من بنات الملوك فزفت إليه . فلما بقيت عنده قال لها: إني مخبرك بأمر، إن أنت
سمعتيه صرف الله عنك شر الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أفشيت سرى عذبك الله في الدنيا
والآخرة. قالت: وما ذاك؟ قال: إني رجل مسلم لست على دين أبي، وليست
النساء من حاجتي، فإن رضيت أن تقيمي معي على ذلك، وتتابعيني على ديني فذاك إليك،
وإن أبيت لحقت بأهلك، فقالت المرأة: بل أقيم معك. فلما أتت عليها مدة ، قالوا
لأبيه : ما نظن إلا ابنك عاقراً لا يولد له ولد ، فسأله أبوه ، فقال: ما ذلك بيدي،
وإنما ذلك بيد الله يؤتيه من يشاء ، فدعا المرأة وسألها فردت عليه مثل ما رد عليه
الخضر ، فمكث أبوه زماناً ، ثم دعا ابنه إليه ، فقال له : أحب أن تطلق امرأتك هذه
، وأزوجك امرأة غيرها ولوداً ، ربما ترزق منها ولداً ، فكره ذلك الخضر ، وألح عليه
أبوه حتى فرق بينهما وزوَّجه امرأة غيرها ولوداً ثيباً ، فعرض عليها الخضر مقالته
الأولى ، فرضيت ، وقالت : أقيم معك ، فلبث زماناً، ثم إن أباه استبطأ الولد منه ،
فدعاه وقال له : ليس يولد لك ؟ فقال : ليس ذلك يبدى ، ولكنه بيد الله ، ثم إنه دعا امرأته وقال لها : أنت امرأة شابة ولود ، وقد كنت ولدت عند غير ابنى ،
ولست تلدين عند ابنى ، فقالت : ما مسنى
منذ صحبته ، وكذلك المرأة الأولى ، فدعاها وسألها ، فقالت : مثل ذلك ، فدعا ابنه
وعيره وعنفه ، ففزع من أبيه ولم يأمن على نفسه منه ، فخرج من عنده ، فهام على وجهه
، ولم يدر أحد من خلق الله تعالى ، أين
توجه ، فندم أبوه على ما فعل ، فأرسل في طلبه مائة رجل من طرق شتى مختلفة ،
فانطلقوا في طلبه ، فأدركه منهم عشرة في جزيرة من جزائر البحر ، فقال لهم : إني
أقول لكم شيئاً واحداً فاكتموه عنى ، فإن كتمتموه صرف الله عليكم شر الدنيا وعذاب
الآخرة ، وإن أبيتم ذلك وأفشيتم سرى عذبكم الله في الدنيا والآخرة ، قالوا له : قل
ما شئت ، قال : هل بعث أبي في طلبي أحداً
غيركم ؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : إذاً فاكتموا أمرى ولا تخبروا أبي أنكم رأيتموني
، وقولوا مثل قول نظائركم الذين أرسلهم في طلبي فلم يروني ، لأنكم إن أخبرتموه بي
أو ذهبتم بي إليه قتلني وصرتم أنتم مؤاخذين بدمى . قال : فخلَّوْا عنه وانصرفوا .
فلما دخلوا على أبيه قال تسعة منهم: قد وجدناه وقال لنا كيت وكيت فخلينا عنه. وقال
العاشر : ما لنا به علم ومالي به خبر ، والتسعة قالوا : بل ظفرنا به وإن شئت أتيناك
به ، فقال لهم : ارجعوا في طلبه وأتوني به ، وإن الخضر خاف أن يظفروا يه ، فانحاز
من ذلك الموضع إلى موضع آخر ، فأتوا إليه فلم يجدوه ، فرجعوا وقالوا : لم نره ،
فقتلهم أبوه . قال : وإن أباه دعا بالمرأة الثيب وقال لها : أنت صنعت هذا بابني
حتى هرب فقتلها ، وسمعت المرأة الأولى بذلك فهربت مخافة القتل ، وقال العاشر الذى
أنكر رؤيا الخضر : ما يؤمني أن يقتلني كما قتل التسعة ، فهرب حتى أتى قرية ، فإذا المرأة الهاربة أيضاً في تلك
القرية فكانت تحتطب ، فقالت يوماً : باسم الله ، فسمعها الرجل الهارب ، فقال لها :
من أنت ؟ فأخبرته خبرها، فقال: يا هذه أنا العاشر، خرجت خوف القتل، فهل لك أن
أتزوجك ونعبد الله حتى نموت؟ فقالت : نعم ، ثم إنهما انطلقا حتى أتيا قرية فيها
بعض من الفراعنة ، فاتخذا بيتاً من قصب ، ومكثا فيه ، ورزقا فيه بثلاثة أولاد ،
فقال لها الرجل : إذا أنا مت فادفنيني في هذا البيت ، وكذلك كل من مات منكم ، فإني
لا أحب أن تكون قبورنا مع هؤلاء ، فإذا كان آخرنا موتاً يوصى أن يهدم البيت ، فمات
الرجل فدفنته امرأته ، ثم إنه بلغ فرعون زمانهم أنهم يوحدون الله ويعبدونه ، فجيء
بالمرأة إلى حضرته ، فأمرها أن ترجع عن دينها فأبت ، فأمر بقدر من نحاس فملئت ماء
وأغلى غلياناً شديداً ، وأمر بالمرأة وولدها ، فلما أحضروا قال لها : ارجعي عن دينك
، وإلا ألقيتك أنت وأولادك في هذا القدر ، فأبت عليه ، فأمر بولدها الأكبر فألقى
فيه ، فتفسخ فيه ، وكذلك الثاني ، وكان في حجرها ابن رضيع فأرادوا إلقاءه ، فرقت
المرأة ونازعتهم في شأنه ، فتكلم الغلام الرضيع وقال لها : اصبري فإنا جميعاً في الجنة
، فلما أرادوا أن يلقوها في القدر قالت لهم : لي إليكم حاجة يسيرة ، قالوا : وما هي
؟ قالت : إذا رميتموني في القدر فادفنوها بما فيها من عظامنا في بيتنا واهدموه
علينا ، ففعلوا ذلك ، فلما أُسْرِى برسول الله e وجد
رائحة طيبة ، فقال : ما هذا يا جبريل ؟ فأخبره بقصتهم وقال: هذه رائحتهم. ويروى أن
جبريل u قال
لرسول الله e :
إن قوماً من أهل تلك المدينة ركبوا البحر في تجارتهم ، فضربتهم الأمواج فتكسرت بهم
سفينتهم ، فانفلت منهم رجلان على ألواح من ألواحها ، فضربتهما الأمواج حتى
أسندتهما إلى جزيرة من جزائر البحر ، فخرجا يجولان في الجزيرة ، فإذا هما بالخضر u وعليه ثياب بيض وهو قائم يصلى ،
فجلسا حتى فرغ من صلاته ، فالتفت إليهما وقال لهما : من أنتما ؟ قالا : نحن من
مدينة كذا وكذا ، خرجن في البحر لطلب التجارة ، فانكسرت بنا هذه السفينة ودفعنا
إلى هذه الجزيرة ، قال : اختارا ! إن شئتما أن تقيما في هذا الموضع تعبدان الله
وتأتيكما أرزاقكما ، وإن شئتما أردكما إلى منازلكما ؛ قالا : بل تردنا إلى منازلنا
، فقال لهما : على أن تعطياني عهد الله
وميثاقه على أنكما لا تخبران بشيء مما تريانه ، فأعطياه العهد والميثاق على
الكتمان ، فنظر فإذا سحائب تمر ، فدعاهن وسألهن ، فقالت كل واحدة منهن : أريد بلد
كذا وكذا ، فدعا التي تريد بلادهما فقال لها : احملي هذين حتى تضعيهما على سطحيهما
، فعزم أحدهما على الكتمان ونزل إلى منزله ، وعزم الآخر على إذاعته فنزل من سطحه
وخرج من بابه وانطلق إلى باب المدينة ، ونادى : النصيحة ، فأدخل على الملك ، فقال
له : ما نصيحتك ؟ فقال : رأيت ابنك في موضع كذا وكذا وصنع بي كذا وكذا ، فقال له :
من يعلم ذلك ؟ قال: فلان كان رفيقي ، فبعث إليه وسأله عما قال ، فقال : أما ركوب
البحر فقد ركبنا جميعاً ، وقد انكسرت بنا السفينة ، وصرنا على لوح من ألواحها ،
فلم تزل الأمواج تضربنا حتى صرنا إلى الساحل ، فخرجنا من البحر ، فلم نزل نعيش من
الشجر ونبات الأرض والثمر ، ترفعنا أرض وتضعنا أخرى حتى انتهينا إلى منازلنا ،
فقال له الغادر : ابعث معي رسلك حتى أدفعه إليك وتعلم أن هذا قد كذب ، فأمر بالرجل الكاتم فحبس ، وتوعده بالصلب
إن وفى صاحبه بما قال ، وأوعد الغادر بالصلب إن كذب ولم يأت به ، فبعث معه رسلاً
فركبوا البحر حتى انتهوا إلى الجزيرة ، فطلبوا الخضر فلم يجدوا شيئاً ، فرجعوا
بالرجل إلى الملك وقالوا له: هذا أكذب خلق الله ، ما رأينا مما قال شيئاً ، فصلبه
وخلى عن الآخر ، ثم إن أهل تلك المدينة لم يزالوا يعملون المعاصي حتى غضب الله
عليهم . قال جبريل u : فبعثني الله تعالى إليهم
، فأدخلت جناحي تحتها واقتلعتها ، فرفعتها حتى سمع أهل سماء الدنيا نباح الكلاب
وصياح الديوك ، ثم أمرني فألقيتها ، فجاءت تهوى بمن فيها حتى انتهيت إلى وجه الأرض
، فبقى بيت الرجل الكاتم والمرأة الكاتمة من جانب سالمين ، ثم انطبقت الأرض بمن
فيها ، فلم ينج منهم غيرهما ، فجعلا يدوران في حدود المدينة فلا يلقى كل واحد
منهما غير صاحبه ، فلما أن كثر ذلك ، قال الرجل : أيتها المرأة ! قد رأيت ما أصاب
القوم، وإنه لم يفلت غيرى وغيرك، فبأي شيء نجونا؟ فأخبريني وأنا أخبرك، فعاهد كل
واحد منهما صاحبه على الكتمان فتصادقا، فإذا قصتهما واحدة وإنما نجاهما الكتمان،
فقال لها: هل لك أن تزوجيني نفسك ونخرج إلى مدينة من هذه المدائن فأكتسب عليك
وتكتسبين علىَّ حتى يقضى الله من أمرنا ما يشاء؟ ففعلت، فذهبا إلى مدينة فرعون من
الفراعنة، فاتخذا لهما بيتاً وولدا لهما أولاداً، وتلطفت المرأة لآل فرعون وصارت
ماشطة لهم فحظيت عندهم، فبينما هي ذات يوم قاعدة تُسرِّح رأس بنت الملك إذ سقط
المشط من يدها، فقالت: باسم الله، تعس من كفر بالله، ففزعت الجارية من ذلك وقالت
لها: مَن الله؟ قالت: ربي، فقالت لها:
أوَ إن لك لرباً غير أبي؟ فقالت: نعم، هو ربى ورب أبيك ورب كل شيء، فهبطت الجارية
ودخلت على أبيها وقالت: تعلم أن فلانة تقول قولاً عجيباً، تقول كذا وكذا، فأرسل
إليها فحضرت، فقال= =لها: ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقالت : هو ما بلغك ، فهل أحد
يقول بقولك ؟ قالت : بعلى وصبيتي ، فبعث إليهم وامتحنهم ، فإذا هم يقولون قولاً
واحداً ، فقال لهم : إنا لا نقركم على ما أنتم عليه حتى ترجعوا إلى ديننا ، فقالوا
له : اصنع ما أنت صانع ، فأمر بقدر من نحاس عظيمة ، فملئت ماء ، ثم أشعل تحتها حتى
اضطرب الماء ، ثم دعا بالصبية فعرض عليهم واحداً واحداَ ليكفروا ، فأبوا أن يكفروا ، فأخذهم وطرحهم في القدر ،
ثم إنه دعا بالزوج وعرض عليه الكفر فأبى ، فألقاه في القدر ، ثم دعا بالمرأة وقال
لها : إن لك علينا حقاً، فإن أنت رجعت إلى ديننا وإلا ألقيناك في القدر ، فقالت له
: اصنع ما أنت صانع ، ثم إنها قالت له : لي إليك حاجة ، قال : وما هي ؟ قالت : إذا
صنعت ما أنت صانع ، فمر ببيتنا أن يحفر فيه حفرة ، ثم تأمر بالقدر فتحمل بما فيه ،
ثم يأتون به منزلنا ، فيسكب ما في القدر في الحفرة ، ثم يعاد علينا التراب ، ثم
يهدم علينا البيت ففعل ذلك ، فهذه الرائحة رائحة المسك تسطع من بيتهم إلى يوم
القيامة ، فهذه قصة الخضر مع أبيه وبدء أمره " [ الثعالبي صـ 220 -223
]
[8] ) إقرأ في كتابنا: " مفهوم الأسطورة في القرآن
الكريم" عدداً من الأمثلة التي وردت في القرآن الكريم ، ولها جانبان : أحدهما
يفهم منه العامة على أنه أسطورة ، وآخر يدرك المفكرون ما فيه من قضايا فكرية لا
يفهمها إلا الراسخون في العلم ، وهذا جانب من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم.
أ. د/ محمد شامة