بسم الله الرحمن الرحيم
الدين والأسطورة
أ. د/ محمد شامة
يرى علماء
الأديان أن الأساطير ظاهرة ضرورية في المجتمعات الدينية؛ إذ لا يوجد مجتمع متدين،
دون أن يعتقد كثير من أفراده في سلسلة من الأساطير، التي تغطى جميع مناحي الحياة،
لأن الكثرة الغالبة من المتدينين هم من متوسطي الثقافة، أو أقل، فليس لديهم من قوة
العقل، وارتقاء الفكر ما يمكنهم من فهم مبادئ الدين وتعاليمه بصورة مجردة، فهم
يحتاجون إلى ما يفسر لهم النصوص الدينية على نحو يقربها من عقولهم، ويبسطها بصورة
تتناسب مع درجة ذكائهم ومستوى فكرهم.
ومن هنا قامت
التعاليم الدينية لدى الشعوب البدائية على أساطير، إذ لا يوجد مبدأ من المبادئ إلا
وقد جُسِّمَ في أسطورة، تحكى ما ينبغي على المرء عمله طبقاً لهذه المبادئ، أو تحذر
من ارتكاب عمل ما، وإلا أصاب مقترف هذا العمل مأ أصاب بطل الأسطورة، من كوارث
ومصائب قد تصل إلى حد الموت، أو تحويله إلى شكل من أشكال الحيوانات، كالقردة،
والخنازير، وغيرها مما ينفر المتدين من هذه الصورة، فيمتثل للأوامر الدينية، حتى
لا يلقى مثل هذا المصير.
ومن النادر أن
تجد لدى الشعوب البدائية توجيهاً نحو الخير، أو تنفيراً من الشر قائماً على مخاطبة
العقل، وبيان ما يترتب على العمل من آثار صالحة للفرد والمجتمع، أو يشرح السلبيات
التي قد تصيب الحياة بالدمار والهلاك، لو سلك الناس هذا المسلك، أو اندفعوا وراء
هذا العمل أو ذاك، لأن طبيعة المجتمع البدائي تستلزم وجود الأساطير لتقريب
التعاليم إلى الأذهان، وتوضيحها على نحو يحقق الهدف من وجود الدين، ألا وهو
استقامة الأفراد، وصلاح المجتمع، يقول " ول ديورانت ":
" ...
وأدرك أنه – أي يوليان، الإمبراطور الروماني المتفلسف – ما من دين يأمل أن يستميل
إليه النفس البشرية العادية، ويحركها، إلا إذا خلع على مبادئه الأخلاقية غلالة من
خوارق العادات، والقصص، والطقوس التي تبهر العقول، ولشد ما تأثر بقدم الأساطير،
وبانتشارها بين أمم العالم أجمع ". [1]
نعم ، لقد
انتشرت الأساطير بين كل الأمم والشعوب ، وسيطرت على التوجيه في كل أنحاء المعمورة
، بل إنها من أقدم الظواهر – إن لم تكن أقدمها على الإطلاق – انتشاراً في
المجتمعات الإنسانية ، على اختلاف ثقافتها ، وتنوع حضارتها ، وتباين عقائدها ، فلا
يوجد شعب بدون أساطير ، تعبر عن ثقافته ، وتجسم مبادئ عقيدته وأحكام دينه، ولهذا
سيطرت الأساطير على العقول والأفهام ، بحيث لم تستطع التخلص منها على الإطلاق ، إذ
على الرغم من التقدم في مجال العقائد والأديان ، من ناحية وضوح النصوص المقدسة ،
وتخلصها من كثير من التعبيرات التي توهم بالأوهام والخرافات ، وبعدها عن كل ما من
شأنه أن يمد هذه الظاهرة بما يساعدها على الانتشار ، أو التمكين في المجتمع ، فقد
ظلت الأساطير منتشرة بين الجنس البشرى ، بل ازداد انتشارها ، وتنوعت أساليب
مروجيها ، وخاصة في عصور الأزمات والكوارث ، وبين الطبقات التي غُيِّبَت عقول
أفرادها بأي شكل من الأشكال، تحت تأثير اتجاهات فكرية، متعددة الأهداف ، ومختلفة
المصادر والاتجاهات .
فلو تتبعنا
تاريخ الجنس البشرى ، لوجدنا أن الإنسان ظل خاضعاً في جميع مراحل تطوره لِما تمليه
عليه الأساطير، بل إنها من أقوى المؤثرات على نفسية الإنسان في جميع العصور ، فلم
تفقد شيئاً من جوانب تأثيرها ، ولم تضعف سيطرتها على توجيه السلوك في المجتمعات ،
إلا في فترات بداية الدعوات الدينية ، إذ كان الرسل والدعاة يركزون على توجيه
الناس إلى الإيمان بعيداً – إلى حد ما – عن الاستغراق في سرد الأساطير ، بل كانت
الجهود موجهة إلى إصلاح المجتمع عن طريق ربط أفراده بالمعبود ، دون الدخول كلية في
عالم الأساطير ، حتى لا تضيع معالم العقيدة في مجال الأوهام ، ومتاهات التخيلات ،
وسراديب التصورات البعيدة عن أرض الواقع الذى تعيشه المجتمعات ... إلى أرسل الله
محمداً e ، فخلصت
دعوته كلية من كل ما يمت إلى الأسطورة بصلة ، إذ جاء القرآن الكريم – على عكس
الكتب السابقة – خالياً من الأساطير ، بل إنه رد على من اتهمه بذلك بأنه من لدن العزيز
الحكيم :
ﱡﭐ
ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ[ الفرقان: ٥ – ٦]
غير أن تأثير
الثقافات المنحدرة من العصور البدائية على الشعوب التي انتشر الإسلام فيها كان
قوياً، لدرجة أنها لم تستطع التخلص منه كلية، فبرزت في الفكر الإسلامي بصور شتى،
ونماذج مختلفة، تحت مظلة إسلامية، فبدت وكأنها إسلامية بحتة، أو حصلت على جواز سفر
إسلامي للدخول إلى قلوب المتدينين وعقولهم، والسيطرة على سلوكهم في جميع مناحي
الحياة.
ومن هنا نجد
كثيراً من المسلمين يعتقدون في العديد من الظواهر البدائية كـ: تصديق ألاعيب
السحرة، وقراءة الطالع، وقدرة عين العائن على إلحاق الضرر بالمعيون .. وغير ذلك
مما حوته أساطير الشعوب البدائية من خرافات وأوهام، أثبتت التجارب العلمية كنهها،
وكشفت عن أسبابها، سواء كانت تلك الأسباب مادية أو معنوية.
ومن العجيب أن
المؤمنين بهذه الظواهر أجهدوا أنفسهم في البحث عن آية قرآنية تؤيد اتجاههم، وذلك
بتفسيرها على نحو، بدا مقنعاً لمن لم يرزقه الله الفقه في الدين، وعلم التأويل
السليم، فإذا لم يجدوا في القرآن الكريم، وضعوا أحاديث نسبوها إلى النبي e ، لتبرير
اعتقادهم في تلك الأساطير .
لم يكن هذا الاتجاه ظاهرة استثنائية، اختصت بها الشعوب الإسلامية، بل هي من
القواعد العامة في مجال المعتقدات على امتداد التاريخ الإنساني في جميع العصور،
وبين مختلف الأجناس والأعراق؛ إذ ما من دين ظهر على وجه الأرض، إلا وتسرب إليه عدد
من الأساطير والخرافات، عن طريق بعض ممن حملوا تعاليمه، وتصدروا قافلة الدعوة إليه،
فتطرق التشويه إلى مبادئه، وتغلغل في سلوكيات المتدينين، على اختلاف طبقاتهم،
وتنوع ثقافتهم. ولم يكن رجال الدين هم الذين أفسدوا الشعب في هذه الأمور، بل إن
الشعب هو الذي أقنع رجال الدين بما يريد، ذلك أن روح الرجل الساذج لا تتأثر إلا عن
طريق الحواس والخيال، والحفلات، والمعجزات، والأساطير، والخوف، والأمل. فإذا خلا
الدين من هذا كله، رفضه، أو عدَّله حتى يُدْخله فيه. ولقد كان من الطبيعي أن يلجأ الشعب
الخائف الذي تحيط به الحرب، والخراب، والفقر، والمرض .... إلى الأضرحة، والكنائس
الصغرى والكبرى، وإلى الأضواء الخفية، ونغمات الأجراس المطربة، وإلى المواكب،
والأعياد والطقوس الممتعة، ليجد فيها سلواه.[2]
هذه هي طبيعة الشعوب، لا تهدأ نفوس أفرادها، ولا تستقر عواطفهم، إلا عن
طريق سماع القصص الغامضة في أحداثها بما فيها من إغراق في الخيال، يبعدهم عن
واقعهم المؤلم، فيستسلمون لِما يُغَيِّب عقولهم في البحث عن حل لمشاكل حياتهم،
ويركنون إلى الأوهام والخرافات، لأنها تريحهم بحلول واهية لهذه المشاكل، فيستكينون
لها بغية الراحة من آلام البحث والتنقيب، واستشرافاً لحلول سحرية، تقضى على مصادر
آلامهم، وتُقَدِّم لهم كل ما يساعدهم على العيش في أمن واطمئنان، وسعادة ورخاء.[3]
إذا كانت هذه هي طبيعة الشعوب التي استجاب لها رجال الدين، فشوهوا التعاليم
الدينية بما يرضى العامة،
فهل يسلم المرء بوجود هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي؟
وإذا حدث هذا اعتماداً على عدم إمكانية التخلص من ظاهرة تكاد يكون وجودها في
المجتمعات الإنسانية ضربة لازب،
فهل يكون من الطبيعي أن تظهر في المجتمعات الإسلامية بنفس الصورة والهيئة
التي ظهرت بها في المجتمعات غير الإسلامية؟
إذا قارنا النصوص الدينية في الإسلام (وهي القرآن الكريم) بما يقابلها في
الأديان الأخرى في هذا المجال، لتبين لنا أن للقرآن الكريم خصائص لا تُحْصَى، تمنع
ظهور مثل هذه الخرافات بين المسلمين، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- خلوه من الأساطير على النحو الذي ظهر في
الكتب المقدسة الأخرى.
-
تركيزه على الجانب العقلي.
-
حثه المسلمين على البحث عن أسباب الظواهر المادية.
-
استنكاره الركون إلى معلوم يرتكز على الظن والتخمين، وهوى النفس:
ﭐﱡ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱠ [ الأنعام: ١٤٨]
ﱡﭐ
ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﳄ ﳊ ﱠ [
النجم: ٢٣]
ﱡﭐ
ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ[
النجم: ٢٨]
-
طلبه الدليل
المنطقي، والبرهان الواضح على صحة الدعاوى والقضايا الفكرية في أي مجال من مجالات
الحياة، وإلا أصبحت الدعوى فرضاً هلامياً، وتصوراً نفسياً، لا يسندها دليل، ولا
يدعمها منطق:
ﱡﭐ
ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ [ البقرة: ١١١]
ولهذا رفض المسلمون الأوائل أساطير الشعوب ، واستنكروا كل ما يتنافى مع العقل
والمنطق ، فكان إنتاجهم الفكري – في معظمه – متمشياً مع روح القرآن الكريم ،
وخاضعاً لتوجهات المبادئ التي عالجت النفس الإنسانية ، فطهرتها من شوائب الأساطير
التي تُغَيِّب العقول ، وتفت في عضد النشاط الإنساني ، فتجعله يركن إلى أماني
هلامية، وتصورات خيالية ، بعيدة عن الواقع ، وخارجة عن إطار معطيات الحياة ،
ومقتضيات سنن الكون الطبيعية والإنسانية، كما أبعدتها عن الخرافات التي تخدر
الشعوب ، بما توحيه إلى الأفراد من مسلمات تحولهم إلى هياكل بشرية، لا تملك القدرة
على الإسهام في الحياة ، فضلاً عن التأثير في توجيهها ، ودفع عجلة التقدم في
مجتمعاتها لتلحق بركب الحضارة ، وتسير في موكب التطور ، مما جعل المسلم – بفضل هذه
المبادئ الإسلامية الصافية الخالية من شوائب الخرافات – يلحق بالحضارة ، التي كانت
بعيدة عنه فكرياً ونفسياً قبل ظهور الإسلام ، ومتوارية عنه زماناً ومكاناً ، إذ
كان سلبياً قبل الإسلام اعتماداً على ما صورته له الأساطير من معجزات ، تهبط عليه
من السماء . وكان متواكلاً استناداً إلى اتجاه فكرى آسن من طول ركوده، أخافه من
الاعتماد على النفس، وألقى في قلبه الرعب من البحث عن أسباب ما يحيط به من ظواهر
مادية وغير مادية.
غير أن النفس الإنسانية المولعة بالخرافات والأساطير لم تتحرر كلية من
طبيعتها ، ولم تبعد كثيرا عن هذا العالم المليء بالغموض والألغاز ، فرجعت رويداً
رويداً إلى ما كان عليه الآباء والأجداد من تصديق لأحداث متخيلة ، وأشكال لا علاقة
لها بالواقع ، واعتقاد في مقولات لا تمت إلى العقل بصلة ، وليس بينها وبين المنطق
رباط ، ولا تعتمد على دليل قاطع من القرآن الكريم ، اللهم إلا ما قام به علماء
الدين – تحت ضغط اتجاه العامة – من محاولة الربط بين هذه الظواهر ، وبين بعض نصوص
القرآن الكريم التي تؤيد في ظاهرها هذا الاتجاه ، إذا فسرت تفسيراً سطحياً .
ومما لاشك فيه أن هذه هي طبيعة الفكر الديني في جميع الأديان ؛ إذ أنها – أي
الأديان – مهما يكن من نبل أصولها ، لا تلبث أن تحشر فيها طائفة من الخرافات ، لا
صلة بينها وبين مبادئها الأولى ، وأنها – أي الخرافات – تنشأ بطبيعتها من العقول
التي خيم عليها ، وأنهكها تعب الجسم ، ورهبة الروح في كفاحها للخلود ، فتركن إلى
الإيمان بالسحر إيماناً مطلقاً ، بحيث لا يتطرق إليها الشك في قدرة السحرة على
التنبؤ بالغيب ، والكشف عن الكنوز المخبوءة، وغرس الحب في النفوس ، وتعذيب الأعداء
، واتقاء الحسد وغير ذلك من الأمور التي تتنافى مع العقل والمنطق . لكن لم تتطور
هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي إلى الحد الذي تطورت إليه في المجتمعات الدينية
الأخرى من: اعتداء على النصوص المقدسة:
-
بمحوها،
-
أو تحريفها
بل ظلت في
دائرة تفسير القرآن الكريم ، ووضع بعض الأحاديث النبوية ، التي تؤيد هذا الاتجاه ،
أو ذاك ، مما جعل إمكانية تصحيح مسار الفكر الإسلامي متاحة ، إذ مادام النص سليماً
، لم يُحَرَّف ، ولم يدخله تغيير بالحذف أو الإضافة ، فإن التخلص من الخرافات
والأساطير يصبح ممكناً لو رزق الله المجتمع أناساً يتمتعون بالفهم السليم ، والفكر
الناضج ، والنظرة الثاقبة ، ويتخلصون من
غريزة التطلع إلى الجاه والسلطان التي تجبرهم على إرضاء العامة ، واستقطاب
الجماهير ، لأن طبيعة المجتمعات البشرية ، وتركيب أفرادها النفسية والروحية ، تحول
– في الغلب الأعم – دون اجتماع ظاهرتين في شخص واحد ، وهما :
-
الإسهام جدياً في تصحيح ما اعوج من المبادئ التي تقوم عليها حياة الإنسان،
وتقويم ما انحرف من سلوكهم، مع الحصول على تأييد العامة له، والتفافهم حوله.
لأن حمله لواء
الإصلاح، ونشاطه في مجال توضيح ما هم عليه من أخطاء، يجعله بمثابة الوالد الذي
يؤدب ابنه العاق بعقاب أليم، لا يرى منه بُدًّا، لتقويمه وإصلاحه.
أو يصبح كطبيب
يجبر مريضه الرافض للعلاج على تجرع الدواء المر، وقديماً قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً *
فليقس أحياناً على من يرحم
فمن يريد
الإصلاح في أي مجال من مجالات الحياة في المجتمع، فلا ينبغي أن يترك زمام الأمور
للعامة، لأنه لو فعل ذلك لتحول عمله إلى:
-
تثبيت للانحراف بدل تقويمه،
-
وإضفاء الشرعية على ما يضعف المجتمع، بدل أن يسهم في إرساء دعائم تقويمه،
-
وتبرير للظواهر السلبية، التي تتسبب في التخلف فكرياً واجتماعياً، فتتضاعف
بذلك عوامل التجهيل والتعمية، وتنتشر دعاوى تغييب العقل على اختلاف أشكالها
وألوانها، وتعدد مصادرها وأهدافها،
فأحياناً تأخذ
ثوب الاستغراق في الروحانيات، مع رفض عالم المادة بجميع جوانبه، وهذا هو ما ساد في
المجتمع الإسلامي منذ تَدَهْور الفكر، وانحطاط الثقافة بعد القرن الرابع الهجري.
وأحياناً أخرى
تتلفع بدعاوى براقة:
-
تبهر العامة، وتضحك الخاصة من فرط ما يعتصرهم من الحزن والألم على ما آلت
إليه أحوال كثير من حملة الفكر، وانحدرت إليه أوضاع الدعاة، ومن يتصدرون ركب
الإصلاح.
-
تؤجج المشاعر الدينية، وتقلق عقول المفكرين الجادين، لأنهم يرون أنها
سلبيات مدمرة على المدى البعيد.
-
تلهب مشاعر المؤمنين، وتخدر عقول الباحثين.
-
توقظ الأفئدة، وتُغَيِّب العقول!
وهذا هو
السائد الآن في المجتمع الإسلامي:
دعاوى براقة،
دون مضمون سليم، ينير العقول، ويرسم منهجاً سليماً يدفع المسلم إلى التفكير فيما
حوله من ظواهر، للبحث عن أسبابها، حتى يقضى على ما ينسج حولها من أساطير وخرافات،
لازالت تفت في عضد المسلمين .... فقضت على حيويتهم باستكانتهم لأوهام، وركونهم إلى
أماني، تاركين مجال العمل لغيرهم، فسقطوا في قاع سحيق، حيث التخلف والتبعية.
وهذا ما دفعنا
إلى البحث في نصوص القرآن الكريم التي يوحى ظاهرها بأنها أساطير، بينما البحث
المتعمق فيها يبين أنها تدعو المسلم إلى البحث العلمي الذي يؤسس لحضارة الأمم
وتقدم الشعوب، غير ناسين مغزى ما صيغت به على نحو يفهم منه العامة أنها أسطورة،[4]
وهذا من معالم الإعجاز القرآني الذي يخفى كنوزاً علمية، تكشف عنها عقول الباحثين
عبر القرون والعصور، فكلما تقدمت البشرية في علومها واستكشافاتها، وُجِدَ من يكشف
المزيد من أسرار القرآن الكريم وكنوزه.
[1] ) جـ 12 صـ 36
[2] ) ول ديورانت جـ 12 صـ 36
[3] ) صور ابن طفيل هذه الظاهرة الاجتماعية في قصة " حي
بن يقظان "، وخلاصتها: أن حي بن يقظان – الذي سميت القصة باسمه – أُلْقِى وهو
طفل في جزيرة خالية من السكان، فأرضعته عنزة، وشب الفتى متوقد الذكاء، عظيم
المهارة، فكان يصنع حذاءه وأثوابه بنفسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم، وشرَّح
الحيوانات حية وميتة، حتى وصل في هذا النوع من المعرفة إلى أرقى ما وصل إليه أعظم
المشتغلين بعلم الأحياء. ثم انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين،
وأثبت لنفسه وجود خالق، قادر على كل شيء، ثم عاش معيشة الزهاد، وحرَّم على نفسه
أكل اللحوم، واستطاع أن يتصل اتصالاً روحياً بالعقل الفعال. وأصبح حَيّ بعد أن بلغ
التاسعة والأربعين من العمر متأهباً لتعليم غيره من الناس، وكان من حسن الحظ أن
متصوفاً يدعى " أسال " استطاع في سعيه إلى الوحدة أن يلقى بنفسه على
الجزيرة ، فالتقى بحيّ، وكان هذا أول معرفة له بوجود بنى الإنسان ، وعلمه
"أسال" لغة الكلام ، وسره أن يجد : أن حيًّا قد وصل دون معونة أحد إلى معرفة
الله ، وأقر لِحَىّ بما في عقائد الناس
الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة ، وأظهر له أسفه على أن الناس لم
يصلوا إلى قليل من الأخلاق الطيبة ، إلا بما وُعِدوا به من نعيم الجنة، وما
أُنْذِروا به من عقاب النار ، واعتزم حيّ أن يغادر جزيرته ، ليهدي ذلك الشعب
الجاهل إلى دين أرقى من دينهم ، وأكثر منه فلسفة ، فلما وصل إليهم أخذ يدعوهم في
السوق العامة إلى دينه الجديد ، لكن الناس انصرفوا عنه ، أو لم يفهموا أقواله ،
وأدرك أن الناس لا يتعلمون النظام الاجتماعي ، إلا إذا مزج الدين بالأساطير
والمعجزات ، والمراسيم ، والعقاب والثواب الإلهين . ثم ندم على إقحام نفسه
فيما لا يعنيه، وغادر إلى جزيرته، وعاش مع " أسال " يرافق الحيوانات
الوديعة، والعقل الفعال. وظلا على هذه الحال يعبدان الله حتى الممات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق