إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

24,262

السبت، 4 يوليو 2020

الحرية قيمة أخلاقية في الإسلام

P

 الحرية قيمة أخلاقية فى الإسلام

أ‌.       د/ محمد شـامــة

تشغل قضية الحرية حيزاً كبيراً فى الفكر الإنساني، إذ مازالت تتصدر قائمة مبادئ كل مذهب فكري، على أساس أن حرية الإنسان يجب أن يكفلها كل نظام يريد لنفسه البقاء، وتحافظ عليها كل " أيديولوجية " تنشد الانتشار بين الناس، ويدعو إليها كل المفكرين من المشتغلين بقضايا الإنسان والمجتمع؛ ذلك أن الحرية هى إحدى الدعائم الرئيسية، التى يقوم عليها بناء الإنسان، بوصفه عضواً صالحاً فى مجتمع قوى متماسك. فإن لم توجد فى المجتمع البشري، ضعف أفراده، وانحلت عقدة التماسك فيما بينهم، فتناثروا فى مهب الريح، لا يجمعهم هدف، ولا يمسكهم مبدأ يرون فيه كيانهم ووجودهم.
ولهذا قدس الإسلام الحرية، فدعا إلى كفالتها، ولو أدى ذلك إلى عدم الاعتراف به ديناً، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ       [ البقرة : ٢٥٦] ، ويقول : ﱡﭐ      [ الكهف : ٢٩] ، ويقول : ﱡﭐ   [ يونس : ٩٩]
فيبين الله لرسوله e فى هذه الآيات أن الإيمان متروك لحرية الإنسان ، فلا ينبغى أن يمارس الإكراه لحمل الناس عليه ، لأنه لو شاء الله لأكرههم على الإيمان ، ولكنه تركهم بحريتهم ، ليكون الإيمان نابعاً من ذات الشخص نفسه ، حتى يثمر إيمانه، لأن العمل لا يكون نافعاً إلا إذا فعله الإنسان وهو فى كامل حريته .
ولهذا نظر الإسلام إلى المجتمع نظرة شمولية ، فهو لا يفرق بين الناس على أساس معتقداتهم ، بحيث يسلبهم حريتهم بسبب هذه المعتقدات ، بل كفل لهم أسس العيش فى سلام واطمئنان داخل المجتمع الإسلامي ، وأعطاهم حريتهم كاملة فى ممارسة بناء المجتمع ، فلا زال قول عمر بن الخطاب t : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " ناقوساً يرن فى آذان كل المجتمعات البشرية، معلناً أن المسلمين طبقوا قواعد الحرية ، كما أمرهم الإسلام ، واستنكروا كل ما من شأنه أن يسلبها من المجتمع ، لأنها أساس كيان الإنسانية ، ودعامة استقرار المجتمع على قواعد ثابتة ، لا تتزعزع أمام عواصف الدهر ، وتقلبات الأيام .
ومما يدل على سماحة الإسلام، أن الرسول e  عقد مع نصارى نجران عقداً يبيح لهم بقاءهم فى أماكنهم وإقامتهم فى ديارهم، دون أن يكون معهم أحد من المسلمين، وقد تضمن هذا العهد حمايتهم، والحفاظ على حرياتهم الشخصية والدينية، وإقامة العدل بينهم، والانتصاف من الظالم. وقام الخلفاء من بعده على تنفيذه حتى عهد هارون الرشيد، فأراد أن ينقضه، فمنعه محمد بن الحسن، صاحب الإمام أبى حنيفة. وفى هذا دلالة واضحة على روح التسامح فى معاملة غير المسلمين، إذ حافظ على حرياتهم فى العبادة، وفى إقامة شعائرهم الدينية، من غير تضييق عليهم، ولا تعكير لصفو الجو الروحى لطقوسهم الدينية، لأنه احترمها، واتخذ من الإجراءات ما يحمى قداستها.
فتقديس الإسلام للحرية من أهم معالمه الأخلاقية التى تفتح باب التعايش السلمى لكل البشر، فهو بذلك قد فتح بذلك الباب على مصراعيه لكل الناس، لينضووا تحت لوائه دون خوف أو وجل، ويستظلوا بظله، من غير أن يشعروا بالغربة، أو يحسوا بأن مبادئه تصطدم مع طبيعتهم، فكل إنسان يجد مبتغاه، مادام ملتزماً بالقواعد الاجتماعية، ومنفذاً للقوانين التى تحافظ على الفرد والمجتمع، لا فرق فى ذلك بين من آمن به، ومن ارتضى العيش في ظل دولته، إذ لا يضار أحد فى نفسه أو أهله، أو ما يملك. ولا يحجر على أحد فى إبداء رأيه، أو فى التعبير عن فكره، مادام فى إطار المصلحة العامة، أو فى المجال الخاص الذي لا يؤثر على الدولة، أو الذى لا يلحق ضررا ً واضحاً بالمواطنين.
فكان هذا من أهم مبادئه الأخلاقية التى تدعو إلى التسامح والتعاون، إذ أظل بظله كل أصحاب الكتب السماوية السابقة، فضمن لهم حريتهم فى العقيدة والعبادة، وفى كل ما يتعلق بشئون الحياة. وقد فهم المسلمون هذه الروح الإسلامية، فعاملوا غير المسلمين معاملة طيبة فى جميع العصور، من بدء ظهور الإسلام حتى اليوم. وكتب التاريخ مليئة بالأحداث التى تظهر هذا الجانب من معاملة المسلمين لغيرهم ممن بقوا على عقائدهم القديمة، فقد روى أن عمر بن الخطاب t  مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً ضرير البصر، فضرب عمر عضده، (هذا العمل رمز لإظهار المودة والمحبة) وقال له: من أى أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الحاجة والسن. فأخذ عمر بيده وذهب إلى منزله وأعطاه مما وجده، ثم أرسل به إلى خازن بيت المال، وقال له: انظر هذا وضرباءه، فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين. والفقراء هم فقراء المسلمين، وهذا من المساكين من أهل الكتاب.
وقد سار أمراء المسلمين على هذا الدرب فى معاملة أرباب الأديان الأخرى ، الذين كانوا يعيشون فى الدولة الإسلامية، أحاطوهم بالرعاية والعناية ، وحافظوا على حقوقهم وأموالهم ، وكرموهم واستعانوا بهم فى مجالات الدولة المختلفة ، حتى وصل الأكفاء منهم إلى مرتبة الوزارة ، وتلك ظاهرة لم تحدث مع غيره من الأديان ، وما ذاك إلا لأنه دين يدعو إلى الحب والتسامح بين البشر ، فقد فتح صدره لكل الناس ، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ، فأعطى الحرية للجميع فى التفكير ، وسمح لهم بممارسة طقوس عبادتهم فى ظل دولته ، وتركهم وما يعتقدون ، ماداموا ملتزمين بالخط العام الذى رسمه الإسلام للدولة .
وأكبر دليل على سماحة الإسلام مع أهل الأديان الأخرى قوله تعالى: ﭐﱡﭐ        [ آل عمران : ٦٤ ]
فلم يجبرهم على اعتناق مبادئه بالقوة، كما فعل أرباب الأديان الأخرى فى حمل مخالفيهم على الإيمان بعقائدهم، بل تركهم، واكتفى بأن يدركوا أن المسلمين قد أسلموا الوجه لله لا لغيره، أى أنهم أطاعوه فنفذوا أوامره واجتنبوا نواهيه، لعل فى هذا ما يوقظ فى أنفسهم جانب الخير، فيتبينوا أن المسلمين على صواب فى دعوتهم لهذا الدين، وذلك أقصى درجات الحرية فى أن يختار الإنسان بنفسه ما يريد، وما يراه صواباً بعد أن تظهر أمامه الحقيقة واضحة.
هذا جانب ضئيل من جوانب القيم الأخلاقية فى الإسلام، أردت عرضه كمثال فقط على أن الإسلام دين قيم وأخلاق، ورسالة سلام مع البشر الذين يمدون أيديهم للتعايش السلمى على هذه الكرة، كي نعمرها لانخربها، ونصلح آفاق الحياة فيها لا نفسدها، فمدوا أيدكم إلى المسلمين لننقذ هذا الكون من الخطر المحيط به من كل جانب، فإن فعلتم ذلك نجونا جميعاً وعشنا فى أمن وأمان، وإلا فلا نلومن إلا أنفسنا.

                                                               أ. د/ محمد شـامــة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...