O
تجديد الخطاب
الديني
أ.د/ محمد شامة
يمر العالم
الإسلامي اليوم بمرحلة تعتبر من أحلك المراحل في تاريخه ، إن لم تكن أشد إظلاماً ؛ فساحته مباحة في جميع المجالات :
الثقافية ، والاجتماعية ، والعسكرية ، إذ دخل إلى ميدان التحدث باسم الإسلام كل
ناعق وناهق ، فصدَّر من الفتاوى ما لا يتفق وتعاليم الإسلام السمحة ، فهو يحلل
ويحرم حسب ثقافته الإسلامية الضحلة ، وطبقاً لتوجهات جماعته المنحرفة عن منطوق
النصوص الإسلامية الموحى بها من السماء ،
فصرنا نصبح ونمسى على أصوات زاعقة ، وحناجر متحشرجة بضلالات لا يقرها العارفون
بتعاليم الإسلام ، وبفتاوى ينكرها كل من له قدم راسخة في الثقافة الإسلامية ، حتى
أصبح العامة حيارى بين التيارات الفكرية الضالة، والراسخون في العلم منكرين هذه
الأصوات ، لكن إنكارهم لا يصل إلى جماهير الناس ، لأن وسائل الإعلام دفعت بهؤلاء
النكرات إلى الساحة ، فطغت أصواتهم على فكر المعتدلين، فأزاحته إلى زاوية لا يراها
من يبحث عن الحقيقة ، ولا يسمع بها الراغبون في معرفة الأحكام الإسلامية الصحيحة ،
فهو طوفان المادة التي سيطر على أصحاب القنوات الإعلامية ، فدفعتهم إلى إظهار من
يجلب لهم مزيداً من الإعلانات ، وفيضاً من الدخل المادي ، فأعماهم ذلك عن سلوك
الأسلوب الذى يسهم في تثقيف الأمة . وقد بلغ هذا الاتجاه سقفاً عالياً لدرجة
استضافة بعض من هو بعيد كل البعد عن المجال الروحي للدين الإسلامي ليقدم برنامجاً
دينيًّا.
لقد طفح
الكيل، وبلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، حتى لم يعد في الإمكان وجود فضاء
أبعد من ذلك في الانحراف عن مسار الدين، والبعد عن تعاليم الإسلام السمحة، والتخلص
من مبادئ الدين وقيمه التي تُصْلِح الفرد، وتُقَوِّم الجماعة، وتبعث في الأمة روح
النهضة حتى تتصالح مع معطيات العصر، فتلحق بالركب الحضاري، وتسير في مواكب التقدم
والازدهار.
ونتج عن هذا عدة ظواهر عمت العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، ومن شماله
إلى جنوبه:
الظاهرة الأولى: الاستغراق في
الروحانيات؛ إذ لم يعد بين هذه الفئة -التي اختارت هذا المجال-من يهتم بالماديات
التي هي أساس الحياة، فعاشوا عالة على من أنتج وصنَّع ما يلزم الإنسان من أمور
تساعده على الحياة. وسواء كان ذلك من صنع إخوانهم في المجتمع أو من صنع الأجانب،
مما جعل المنتَج أو المُصنَّع من إخوانهم لا يكفي إعالة جميع أفراد المجتمع، فمدوا
يدهم إلى الأجانب ليتسولوا منهم ما يسدون به رمقهم، فعاشوا تحت رحمة من يعطيهم
طعامهم ولوازم حياتهم فاستُذِلُّوا واستُعْبِدوا حتى صار أمرهم بينهم شديداً نتيجة
للشروط القاسية التي يشترطها عليهم من يمنحهم قوتهم وما يحتاجونه لاستمرار وجودهم
على قيد الحياة. وقد يصل الأمر إلى ركوعهم – بل وسجودهم – أمام رغبات أعدائهم كي
لا يموتون جوعاً، أو يسقطون قتلى أمام من تفوق عليهم في سلم الحضارة المادية،
فأخضعهم بقوة سلاحه الذي غفلوا عن تصنيع مثيله بانشغالهم بروحانيتهم.
الظاهرة الثانية : فريق فَهِمَ –
بتأثير ما تبثه القنوات من فتاوى بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام الصحيحة – أن
الدين الإسلامي طقوس فقط، فانخرط في الصلوات والدعوات والاعتكاف في المساجد ،
فإذا انخرطوا في الحياة ، وباشروا السلوك الإنساني ، انحرفوا في طريق بعيد كل
البعد عن روح الإسلام وتعاليمه، فهم يصلون الفرائض والنوافل، وأحياناً يعتكفون في
المساجد مصلين ومسبحين ، ولكنهم في تعاملهم مع الناس وسلوكهم في المجتمع لا ترى
لتدينهم أثراً ، فهم يكذبون ، ويهملون في
واجباتهم الدنيوية على كل المستويات ، ويرتكبون من الآثام ما يعف اللسان عن ذكرها
، فتدينهم صوري لا أثر له في سلوكهم ، فهو إيمان في الظاهر وفسق في الباطن ، فلا
فائدة من هذا التدين ولا أثر في السلوك لهذه الصلوات والتسبيحات ، وصدق رسول الله e إذ يقول : " من لم تنهه صلاته فلا
صلاة له "
ومن الانحراف في الحكم على الأشياء أن الناس ينخدعون في
هذا الفريق، فيحكمون على أفراده بالصلاح والتقوى، وهم أبعد ما يكونون عن هذا الوصف؛
فقد روى أن عمر بن الخطاب t طلب من شاهد في قضية أن يأتيه بمن يشهد له بأنه
عدل حتى يقبل شهادته، فجاء رجل وقال لعمر: اقبل شهادة هذا الرجل فإنه عدل. فوجه
إليه عمر هذه الأسئلة: أتسكن بجواره؟ قال: لا! قال له: أرافقته في سفر؟ قال: لا! قال
له: هل كانت بينك وبينه معاملات مادية؟ قال: لا! قال له عمر: لعلك رأيته يتمتم
بالصلاة في المسجد! قال: نعم! فالتفت عمر إلى الشاهد وقال له: اذهب يا رجل فأتني
بمن يعرفك فإن هذا لا يعرفك! ألست ترى أن عمر تصرف بما يعلمنا أن التدين الظاهري
ليس دليلاً على التقوى، بل المدار في الحكم على المرء بالصلاح والتقوى راجع إلى
سلوكه الطيب وتعامله مع الآخرين بالحسنى، والبعد عن الرذائل والانحرافات! يقول
الله تعالى: ﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷﲸ ﳁ ﱠ [العنكبوت:
٤٥]
الظاهرة الثالثة : الغلو والتشدد ، ويمارسه فريق من المسلمين يرون أنه كلما شدد الإنسان على
نفسه بالاستمتاع بطيبات الحياة كلما كان أقرب إلى الله ، لأن ذلك الغلو – في نظرهم
– يؤدى إلى رضاء الله فيكون ثوابه الجنة ، فطفقوا يحرمون كل ما من شأنه تسهيل
الحياة على الناس: حرموا الغناء والموسيقى ، حتى وإن كانت ترهف الوجدان وتغذى
الروح ، وكانوا من قبل قد حرموا المذياع والتليفزيون وغير ذلك من أدوات اللهو
البريء ونسَوْا قول الله تعالى : ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ [ الأعراف: ٣٢] ، فإطلاق
الزينة هنا تشمل كل ما في الحياة من طيبات لم يرد في القرآن الكريم نص قطعي
الدلالة يحرمها ، ولا يترتب عليها ضرر للفرد أو
الجماعة ، كما لا يترب على الاستمتاع بها الانشغال عن تأدية فرائض العبادات
، أو تعطيل العمل وقلة الإنتاج ؛ فالإسلام لا يعرف هذا الغلو في العبادة ، ولا يقر
التشدد فيما فرضه الله ، فهو يعلن في القرآن الكريم أنه لا يبغي من وراء ما فرضه
على الناس أن يوقعهم في حرج ، فقال تعالى: ﱡﭐ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﲁ ﱠ [ المائدة: ٦ ] ، وقال رسول الله e: "
إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا."[ رواه البخاري ومسلم ] ، كما روى عن حميد الطويل أنه سمع مالك بن أنس t يقول :
" جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي e يسألون عن
عبادة النبي e فلما أُخْبِروا كأنهم تقالوها ، فقالوا :
أين نحن من النبي e ، قد غُفِرَ
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلى الليل أبداً، وقال
آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول
الله e إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا
وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ،
وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس
منى." [رواه البخاري].
فهذه النصوص تدل على أن الغلو في الدين والتشدد في البعد
عن طيبات الحياة ليس من الإسلام ؛ لأنه دين الحياة ، جاء ملائماً لطبيعة الإنسان ،
فلم يفرض عليه ما يعكر عليه صفو حياته ، أو يحرمه من الملذات الطيبة، بل إنه
عندما فرض عليه فروضاً راعى قدرته على القيام
بها ، فقال تعالى : ﭐﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﳝ ﱠ [ البقرة: ٢٨٦] ، فظهور هذا التيار
في المجتمعات الإسلامية انعكاس للأمية الدينية، وتلبية لما ينشره من يتصدرون
الدعوة في وسائل الإعلام المختلفة، الذين لا تؤهلهم ثقافتهم للحديث عن تعاليم
الإسلام الصحيح ، ولا تمكنهم من معرفة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم في المجتمع
المعاصر.
الظاهرة الرابعة: التطرف والعنف،
وليست هذه الظاهرة جديدة على المجتمع الإسلامي، بل ظهرت جماعات متطرفة عبر التاريخ
الإسلامي، ولكنها لم تكن بهذا الانتشار وهذا الشيوع، بل كانت محصورة في جماعات
قليلة العدد، فحوصرت آنذاك بعامة المسلمين الذين أنكروا عليهم اتجاه العنف والقتل.
قد يكون السبب في الانتشار الواسع اليوم عوامل أخرى
خارجة عن المجتمعات الإسلامية، وذلك بتدبير مخابرات أجنبية تريد إضعاف العالم
الإسلامي وزيادة تركيعه أمام متطلبات " الاستعمار الجديد "، وإلا فمن
أين يأتي تمويل هذه الجماعات، وهو بالملايين، بل بالمليارات! ومن يمدهم بهذا
السلاح المتطور الذي لا تملك مثيله بعض دول المنطقة! إنه الهجوم الأجنبي غير
المباشر على العالم الإسلامي مستغلا فريقاً من أبنائه الذين ليست لهم من الثقافة
الإسلامية ما يمكنهم من معرفة تعاليم الإسلام، التي تحرم إزهاق الأنفس البريئة
بغير ذنب وتدمير ممتلكات الشعوب الإسلامية التي أقامتها بعرق أبنائها ، فهؤلاء
الشباب المُغَرَّر بهم لا يعرفون من تعاليم الإسلام إلا قشوراً، وليس عندهم من
قيم الإسلام شروى نقير ، وإلا لعرفوا أن الإسلام حرم قتل المؤمن ، وأنذر من يقدم
على ذلك بخمس عقوبات ، فقال تعالى : ﭐﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﱠ [
النساء: ٩٣ ] ، كما حرم قتل
النفس بصرف النظر عن عقيدته ، أو جنسه ، أو هويته ، فقال تعالى : ﭐﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱪ ﱠ
[المائدة: ٣٢]، أي أن قتل النفس والفساد هو اعتداء على المجتمع كله،
فهو تدمير للمجتمع الإنساني، ويجب على الجميع التصدي لهم، فهم بغاة إن لم يسمعوا
لنداء الله وينخرطوا في الجماعة الإسلامية المسالمة فعلى الجميع محاربتهم حتى يرتدعوا
ويتركوا العنف والفساد في الأرض، فقال تعالى: ﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﱠ [الحجرات: ٩ ]
فقد رسم القرآن الكريم أسلوب التعامل مع هؤلاء الذين رفعوا السلاح في وجوه
الناس، وقتلوا الأبرياء وأفسدوا في الأرض، وذلك بدعوتهم إلى الجلوس على مائدة
المفاوضات للصلح بينهم وبين الآخرين المختلفين معهم، فإن أبوا وبغوا فعلى المسلمين
قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله فيتصالحوا ويعيشوا مع الآخرين في سلم واطمئنان.
انتشرت هذه الظواهر الأربعة في المجتمعات الإسلامية ، ولحقتها توابع أخرى
لا تقل بشاعة عنها ، مثل: فساد أخلاقي بصوره المتعددة: كذب وافتراء ، وإهمال في
العمل ، وغش في المعاملات ، وكسب حرام بمستويات شتى كالرشوة ، واستحلال المال
العام ، وجشع في المعاملات التجارية ، واستغلال الضعفاء، واللامبالاة إزاء ما
يرتكب من آثام ، واعتداء على الغير، ومثاله الفاضح انتشار ظاهرة التحرش بصورة
صارخة لم تحدث في أي مجتمع ؛ إذ لم نسمع عن تحرش جماعي في أقل البلاد تخلفاً كما
ظهر في الآونة الأخيرة في إحدى مدن الدلتا ، فضلاً عن القبح النوعي الذى عم الشارع
الإسلامي، فيصدم المشاهد ، وخاصة الأجنبي الذى يزور مجتمعاتنا مقنعاً إياه بدرجة
تخلفنا عن ركب الحضارة .
إن هذه الصور بعيدة كل البعد عن قيم الإسلام وتعاليمه، فهي تنفر غير المسلم
من التفكير في اعتناق الإسلام. فهي صور طاردة لمن يفكر في الاقتراب من الدين
الإسلامي، ورحم الله الإمام محمد عبده، فقد صور هذه الصورة أبلغ تصوير حين قال:
هناك إسلام بلا مسلمين وهنا مسلمون بلا إسلام. أي أن سلوك غير المسلمين الذين عاش
بينهم فترة من الوقت مطابق لتعاليم الإسلام ، أما المسلمون فليس بين سلوكهم ما
ينبئ عن تعاليم إسلامية ، ويعبر عن هذا المعنى ما قاله لي أحد الألمان بعد ما قرأ
كتابي عن الطهارة باللغة الألمانية: من يقرأ هذا الكتاب ولم ير المجتمع الإسلامي
يعتقد أنه من أنظف المجتمعات الإنسانية ، لكن
الواقع خلاف ذلك ، ويؤكد هذا ما رواه لي أحد الأصدقاء : كان له صديق أمريكي
اعتنق الإسلام عن طريق قراءته للقرآن الكريم وبعض الكتب ، ثم جاء لزيارة بعض
البلاد الإسلامية التي بدأ فيها الإسلام –
حسب تعبيره – فلما عاد سأله أصدقاؤه عما وجده في موطن دينه الجديد ، فقال لهم : لو
رأيت هؤلاء القوم قبل أن أسلم ما أسلمت.
وسط هذا الركام من تدني الأخلاق في المجتمعات الإسلامية، وظهور التيارات
الفكرية التي شوهت صورة الإسلام السمحة، فلطختها بما ينفر المجتمعات غير الإسلامية
بكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، تارة برفض عناصر الحضارة، حتى وإن كانت في صالح حياة
الفرد وتقدم الأمم، وتارة بالانعزال عن الأنشطة اللازمة لحياة الإنسان، وأخرى
بإشاعة الرعب في جنبات المجتمعات الإنسانية بصوره المتعددة من قتل وتشريد وتدمير
الممتلكات، وتحطيم الآثار حتى أصيب الناس بالرعب، فرددوا القول المأثور: انج عمرو
فقد هلك عمير ....
مسئولية مَنْ؟
وسط هذا كله انطلقت دعوة تجديد الخطاب الديني، فرددها كثير من الناس على
اختلاف مستوياتهم: من إعلاميين، وكُتَّاب، ومفكرين، وغيرهم من شرائح المجتمع من
أعلى قمته حتى قاع طبقاته الاجتماعية.
تجاوبت بعض المؤسسات مع هذه الدعوة فعقدت
مؤتمرات ، وانعقدت ندوات وورش عمل باختلاف مستوياتها وتخصصاتها حتى أصبحنا
نمسى ونصبح على سماع خطب ، ونقرأ مقالات ، ونشاهد تجمعات يدور الكلام فيها عن
تجديد الخطاب الديني ، حتى ظن كثير من الناس - ومن بينهم مثقفون وأصحاب قرارات في
الدولة – أن التجديد المنشود ينحصر في الخطب المنبرية والكتب الدينية والمناهج
الدراسية في الأزهر فقط ، فطفقوا يركزون في تناولهم للموضوع على هذه العناصر
الثلاثة فقط ، ناسين ، أو متجاهلين عناصر أخرى لها تأثير كبير في تجديد هذا الخطاب
، فإذا كنا جادين في دعوة تجديد هذا الخطاب فينبغي أن نركز على العناصر التالية :
1. المناهج
الدراسية ليس في الأزهر فقط ، بل في جميع المدارس ، ولنبدأ بالمرحلتين: الابتدائية
والإعدادية، إذ ينبغي أن تهدف المناهج الدينية في هاتين المرحلتين إلى غرس القيم
والمبادئ في وجدان النشء ، بحيث تتكون شخصيتهم على أساس تربوي سليم ، فيتعود
الدارس على الصدق في كل سلوكه مع نفسه ومع الآخرين ، وعلى الجد والاجتهاد فيما
يطلب منه ، وعلى الإتقان فيما يقوم به ، وعلى الالتزام فيما يسند إليه ، وعلى
احترام الآخرين والدفاع عن حريتهم ... وغير ذلك من القيم التي تُكَوِّن إنساناً
صالحاً لنفسه ومعطاءً لمن حوله ، وقادراً على الابداع والابتكار للإسهام في بناء
حضارة تواكب العصر ، فلا يتخلف عن ركب الحضارة الحديثة ، ولا يقف عاجزاً أمام ما
يعتريه من مشكلات وأزمات ؛ لأن المنهج الديني زوده بكل ما يحتاجه في حياته ، وغرس
فيه كل ما يؤدى إلى الإيمان بقيم العدالة ، والتكافل ، ومساعدة الآخرين أيًّا كان
دينهم ومذهبهم ، والأخذ بيد الضعفاء ، فضلاً عن غرس بذور الحرية في وجدانه، فلا
يرضى بالضيم لنفسه ولا لغيره ، ولا يستكين لظلم حاكم ، ولا يخضع لجبروت متكبر
...وغير ذلك الكثير من المبادئ التي يحتاج إليها الإنسان في هذا العصر – وفى كل
عصر – كي يحيا حياة سعيدة ، ويعيش عيشة كريمة .
إن من عناصر تصحيح الخطاب الديني في المجتمع أن تكون صورة الدين لدى الشباب
بعيدة عن الأوهام والخرافات، ومتسقة مع متطلبات حياته، ولا يكون ذلك إلا بتصوره
لمبادئ الإسلام الصحيحة، التي تجعله يتجاوب مع عصره، مع عدم البعد عن الدين. ومما
لا شك فيه أن تدريس مادة الثقافة الإسلامية لجميع طلاب كليات الجامعات في العالم
الإسلامي يسهم إلى حد كبير في هذا الصدد – لأن عدداً كبيراً من المنتمين للجماعات
المتطرفة من خريجي الكليات العملية -بشرط أن يراعى في وضع منهجها ما يلي:
-
تنمية الروح الدينية عند الطالب، سواء أكان ذلك
من جانب الاعتقاد بخالق الكون، أو من ناحية أن الدين – وخاصة الدين الإسلامي – يحث
على البحث في الكون، واستكشاف أسراره، وتسخير ما فيه لمصلحة الحياة الإنسانية.
-
تقويم السلوك، وذلك بالنص في
المنهج على القيم والمبادئ التي تدعو إلى التحلي بالأخلاق الحميدة، والالتزام بكل ما يحقق للإنسان
سلاماً وأمناً واطمئناناً.
-
من أهم ما يحتوي عليه منهج الدراسة للثقافة
الإسلامية أن يقوم على أساس القرآن الكريم، وعلى ما أجمعت الأمة على صحته من السنة
النبوية الشريفة، مبتعداً عن الخلافات المذهبية أو البيئية، أو التي ارتبطت بأحداث
وقعت في العصور السابقة، ولم يعد لها وجود الآن، فالمنهج السليم لابد أن يقوم على
المبادئ الأساسية في الإسلام، مع مراعاة مناقشة مشاكل العصر، وطرح حلول دينية لها،
تناسب ظروف البيئة، مع الالتزام بوضعها في إطار الممكن بالنسبة لجمهور المسلمين.
-
التركيز على أن اختلاف العلماء في الأحكام
الدينية أمر طبيعي، ينبغي أن يتقبله المسلم بارتياح؛ لأن فلسفة الحياة تقوم على
هذه الظاهرة، ولأن ذلك من طبيعة الإسلام من ناحية كونه عالميًّا لكل البشر في كل
أقطار الأرض. ومما لا شك فيه أن ظروف الحياة على هذه الكرة الأرضية متباينة، بل
ومتباعدة أحياناً، فكان لابد أن يكون هناك في مسائل التشريع الحياتية – والعبادية
أحياناً – تنوع، حتى تتاح الفرصة ليطبق كل مجتمع ما يلائم ظروف حياته الزمانية
والمكانية، فإذا فهم الطالب ذلك خفت حدة التعصب، وتوارى التطرف، وبذلك تختفي الصراعات
المذهبية، ويتوارى العنف الطائفي، فيطمئن الفرد، وتنتظم نغمات الحياة، ويعم الأمن
والاطمئنان في المجتمع.
-
ومن العناصر المهمة – إن لم يكن أهم عنصر – في مقرر الثقافة الإسلامية:
الاعتراف بالآخر، وأقصد به: احترام عقيدة الآخرين وشريعتهم، حتى لو كانوا كفاراً
ووثنيين، لأن ذلك منصوص عليه في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ [ الكافرون: ٦ ] . فمن
باب أولى أصحاب الرسالات السماوية، كاليهود والنصارى، الذين سماهم القرآن الكريم:
أهل الكتاب؛ لأن من أركان الإسلام الأساسية: الاعتراف بمن أرسله الله قبل محمد e، كما جاء في قوله تعالى : ﭐﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ [ البقرة: ٢٨٥] . فالإيمان الصحيح، والإسلام المقبول هو الذي يتضمن
الاعتراف برسالة موسى وعيسى عليهما السلام، فإذا استقر ذلك في وعي الطالب نظر إلى
أتباع هذين الرسولين -وإن اختلف فهمهم لما أُنْزِل عليهما مع ما أخبر به القرآن
الكريم – بأنهم إخوان له في العقيدة؛ إذ يجمعهم قاسم مشترك، ألا وهو: أن رسالتهم
سماوية، فهي من المنبع الذي نزل منه القرآن الكريم، والجميع يتوجهون بالعبادة إلى
إله واحد، وإن اختلفت تصوراتهم له، وتباينت طرق التوجه إليه. وبذلك تسود روح الأخوة
بينهم ، ويساند بعضهم بعضاً في نشر المبادئ المشتركة، ومواجهة العدو المشترك ، ألا
وهو: الماديون الملحدون ، الذين يناصبون الدين العداء ؛ فهم ينشرون الرذيلة في
المجتمع، ويغرسون روح العداوة والبغضاء بين الشعوب ، ليدمروا العالم ، فأولى بنا
أن نبنى مقرراتنا الدراسية على التسامح والود مع أبناء الأديان السماوية لإعداد
شباب يضع يده مع أيدى شباب هذه الأديان ليواجهوا سويًّا هذه الفوضى العارمة التي
يبثها أعداء الأديان في المجتمع ، وبذلك نبنى بيئة حياتنا على أساس سليم، ونُؤَمِّن
مستقبلنا بِسياج يستعصى على الاختراق ، لنصد كيد من يريد للمجتمع سوءًا أو يضمر له
حقداً .
-
بيان أن الإسلام ليبس صلاة وصياماً فقط، وإنما
هو دين يحث على العمل الدنيوي لإعمار الأرض، جنباً إلى جنب مع أداء العبادات
المفروضة، بل إنه يعتبر إعمار الأرض عبادة لله، ويفضل طلب العلم على الاعتكاف في
المساجد، يقول رسول الله e : " .... وإن فضل العالم على العابد كفضل
القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ...."،
كذلك يفضل نشر العلم على تأدية النوافل من صلاة
وصيام؛ فقد سئل رسول الله e عن رجلين في
بنى إسرائيل ، أحدهما كان عالماً يصلى المكتوبة ، ثم يجلس فيعلم الناس الخير ،
والآخر يصوم النهار ويقوم الليل ، أيهما أفضل ؟ فقال رسول الله e : " فضل هذا العالم الذى يصلى
المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذى يصوم النهار ويقوم الليل
كفضلى على أدناكم رجلاً ." وعليه فينبغي أن يحتوي مقرر الثقافة الإسلامية
على هذا المعنى، كي لا تغرق الشباب في
العبادة، مهملاً واجبه إزاء أمته، ذلك الواجب الذي يحتم عليه دينيًّا أن يبذل
قصارى جهده في سبيل التنمية، حتى تستطيع الأمة الإسلامية أن تحتل موقعاً ملائماً في
سلم الحضارة الإنسانية، ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على النظر والبحث في
الكون والطبيعة والإنسان وغيره من الكائنات الحية. يجب أن يعرف الطالب هذه الآيات
ويفهمها في دراسته لمقرر الثقافة الإسلامية، كي يدرك أن الإسلام دين ودنيا، عبادة
وعمل، روحانية ومادية.
-
لا ينبغي أن يقوم منهج الثقافي الإسلامية على
حفظ آيات من القرآن الكريم ، وتلقين أحاديث من السنة النبوية فقط ، بل ينبغي أن
يكون له من المقومات ما يساعد الطالب على فهم روح الإسلام ، واستكشاف أسلوب
معاملته في تقويم الإنسان ، ذلك الأسلوب الذى من أهم معالمه : التيسير لا التشدد، تنفيذاً لأمر رسول
الله e فيما روى عنه أنه قال : " يسروا ولا
تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ."
، كما من أهم معالمه أن الأصل في الأحكام الإباحة ، ما لم يرد نص قطعي الدلالة
بتحريمه ، أما ما يحتمل أكثر من وجه فروح التعاليم الإسلامية تقضي أن يأخذ المسلم
من هذه الآراء ما يسهل له سبل الحياة ، ويتلاءم مع ظروفه ومعطيات عصره ، فقد روى
عن عائشة أنها قالت : " ما خُيِّر رسول الله e بين أمرين
إلا أخذ أيسرهما ، ما لم يكن إثماً ، فإن
كان إثماً كان أبعد الناس منه ."
-
بيان أن التراث الفكري للمسلمين لا يقبل كله؛
لأن ذلك يوقعنا في تناقض؛ لأن فيه من الآراء ما يناقض بعضه بعضاً، ولذا ينبغي أن
ننقيه، فنقبل منه ما وافق القرآن الكريم، فإن لم يكن له مثيل في القرآن، احتكمنا
إلى العقل، فنقبل ما يقره العقل، ونرفض ما يرفضه، وبذلك ننقى التراث من الخرافات
والأساطير التي ليس لها أصل في القرآن الكريم، فننقذ الشباب من الأوهام التي عطلت
قدراته العقلية، ونحميه من التصورات الهلامية التي أعجزته عن اللحاق بركب الحضارة
الحديثة.
-
غرس المبادئ والقيم الاجتماعية والإنسانية في
نفس الطالب، مثل: الصدق، والأمانة، والالتزام، والشرف، وحقوق الجار، وبر الوالدين،
وغيرها من الأخلاق التي تميز الهوية العربية والإسلامية عن غيرها، وكذلك العدل،
والسلام، والأخوة الإنسانية، وكيفية التعامل مع الشعوب، والأعراق، والجنسيات
الأخرى.
-
ينبغي أن يشتمل منهج الثقافة الإسلامية على
تعويد الطالب على السلوك الحضاري، مثل: النظافة، والنظام، والمحافظة على البيئة،
واحترام المواعيد، وتنمية التذوق الجمالي عنده والحرص عليه، سواء فيما يتعلق به
شخصيًّا، أو يرتبط بما يحيط به مما يتخذه في شئون الحياة العامة. كذلك الالتزام
بما تعارف عليه المجتمع من تقاليد وعادات، وتجنب ما يستقبحه المجتمع وينبذه من
سلبيات، وبذلك ينسجم سلوكه مع الذوق العام، ويلتحم أسلوب حياته مع عادات أمته
وتقاليدها.
ومما لاشك فيه أنه إذا روعي في وضع منهج الثقافة الدينية لطالب الجامعة ما
بيناه سابقاً ، فلسوف نُخَرِّج طالباً سويًّا في تفكيره؛ ينظر إلى ما يحيط به من
تيارات فكرية نظرة فاحصة، ينتقى منها ما يعود عليه بالنفع والاطمئنان ، ويرفض ما
فيه ضرر له ولأمته ، الأمر الذى لا يحتاج معه إلى وصاية فكرية ، أيًّا كان نوع هذه
الوصاية ؛ فهو قد حُصِّن بالمبادئ الدينية التي تغذى الجانب الروحي عنده ، تلك
المبادئ التي لا تفصله عن متطلبات عصره ، فهي تدعوه إلى استعمال العقل ، والنظر إلى
اختلاف الآراء وتعددها بارتياح، فلا ينزعج من كثرتها ، ولا يعتريه القلق من غلو
بعضها ، وإهمال البعض الآخر للمبادئ
والقيم ؛ لأنه تعلم في مدرج الدراسة أن هذا هو طبيعة الفكر الإنساني، وتلك
هي فلسفة الحياة في المجتمعات الإنسانية، فعليه – بتكوينه الفكري على منهج من هذا
النوع – أن يناقش كل ما هو مطروح على الساحة بنفسه، وأن يرد بالأدلة الواضحة
والحجج والبراهين الساطعة ما يراه منحرفاً ، وأن يؤيد ما يراه تدعيماً لهويته ،
وتمكيناً لثقافته ، وترسيخاً لتقاليد وعادات أمته .
ومن الجدير بالذكر أن الأنشطة الثقافية والفنية المختلفة تؤثر تأثيراً
كبيراً على سلوك الفرد، ولذا ينبغي تعميمها في جميع مراحل التعليم حتى يستقيم
السلوك، فينشأ الطلاب مسالمين متحابين، بعيدين كل البعد عن العنف، ومتحصنين ضد كل
ما من شأنه زعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع.
2. وسائل الإعلام، وخاصة المرئي منها؛ إذ يؤثر المعروض على الشاشة على
سلوك الناس بصورة كبيرة، لأن الصورة تستولى على الوعي، وتتجذر في وجدان المشاهد
ومشاعره، لذا ينبغي أن يراعى في عرض البرامج – أيًّا كان نوعها – هذا الجانب السحري
الذي يدخل في سلوك الناس، ويحدد اتجاه وعيهم، ويصيغ تعاملهم مع أنفسهم ومع الآخرين.
فلو ظهر على الشاشة من يتحدث باسم الإسلام ويخوض في المسائل الفقهية دون أن يكون عنده
خلفية ثقافية تؤهله للخوض في هذه المسائل ، فسوف يكون لكلامه تأثيرات عدة : إما أن
يغيب عقول الجماهير، فيغرقهم في خرافات وأساطير لا تمت إلى قيم الإسلام وتعاليمه
بأية صلة ، وإما أن يدفعهم إلى الغلو في تأدية العبادات دون نظر إلى الإنتاج
والعمل في المجالات التي تسهل عليه حياته ، وتمكنه من الإسهام في تقدم الأمة
وازدهار حضارتها ، أو يقوده إلى الانخراط في سلك الجماعات المتطرفة ، فيعلن الحرب
على المجتمع فيعتدى على الأنفس والممتلكات
، فيكون مصدر زعزعة الاستقرار وهلاك المجتمع في الداخل الإسلامي، وفزاعة تروع الآخرين ، فيحولهم إلى عداوة الإسلام بدلاً من
الاقتراب من تعاليمه ، فيرفضون كل ما يمت إلى الإسلام بصلة ، ويدفعون أقوامهم إلى
محاربة الإسلام ورفض سماع كل صوت إسلامي، حتى ولو كان معتدلاً .
ولا يقتصر التأثير العكسي لبرامج التليفزيون على الحديث
في المسائل الدينية بغير علم ، بل يتعداه إلى البرامج الأخرى من مسلسلات وحوارات
وغيرهما مما يعرض على الشاشة ، فإن لهذا تأثيراً كبيراً في تكوين وعي الأمة وتوجيه
سلوك أفرادها ، إن خيراً فخير وإن شرًّا
فشر ، ولذا ينبغي مراعاة هذا التأثير فتوجه البرامج الوجهة التي تؤدى إلى الإصلاح
لا إلى الإفساد ، فكثير من الأخلاق السيئة التي انتشرت في المجتمع يعود في معظمه
إلى التأثير مما تبثه هذه القنوات ، فإذا أردنا تجديد الخطاب الديني، فينبغي ألا
نهمل إصلاح هذا الجانب، حتى لا يُدَمَّر ما يبثه الآخرون في الصرح الأخلاقي. وهنا
أيضاَ لا يقتصر الأمر على الشاشة بل يشمل كل وسائل الإعلام، مقروءاً ومسموعاً بأي
شكل من أشكال الاتصال بالجماهير.
لا يقتصر
الأمر في مجال تجديد الخطاب الديني على الإعلام فقط، بل تشترك في ذلك أيضاً وزارة
الشباب والرياضة، ووزارة الثقافة، وكذلك وزارة الداخلية، قد يرد هذا السؤال في
الأذهان:
3. ما علاقة وزارة الداخلية بتجديد الخطاب الديني؟
إذا كان الأمر يتعلق بالثقافة وما يرتبط بها فليس لوزارة
الداخلية دور في هذا، ولا يوجه إليها أي لوم في هذا الاتجاه، أو يطلب منها أن تقوم
بأي دور في هذا المجال إلا فيما يتعلق بتثقيف من هم تحت ولايتها، ولكن قيامها
بالأمن والانضباط في الشارع له صلة وثيقة بتجديد الخطاب الديني؛ ذلك أن عملها
يتفرع إلى ثلاثة فروع:
الأول: محاربة
الإرهاب واستئصال شأفة الخارجين على القانون ممن يحملون السلاح ضد المجتمع، وينشرون
الرعب والفزع بين أفراد الأمة، وتقوم وزارة الداخلية بواجبها في هذا المجال على
أكمل وجه، فتضحى بشبابها في سبيل إخضاع هذا الفريق الذي أعلن الحرب على المجتمع،
وإن اقتضى الأمر تصفيته. وعلى المجتمع أن يشكرها على هذا المجهود ويساعد أفرادها
بكل وسيلة لتأدية هذه المهمة الضرورية لسلامة المجتمع وأمنه.
الثاني: محاربة
الجريمة لحفظ أمن المواطن في الشارع والمسكن وتأمين ممتلكاته، وجهود الوزارة لا بأس
بها، وإن كنا نطلب المزيد من الجهد في هذا المجال حتى يشعر المواطن بأنه آمن على
نفسه وعلى ممتلكاته.
الثالث: تقديم
الخدمات للمواطنين، ويشمل ذلك تسهيل تحرك الناس في الشارع بحيث يجدوا سهولة في
تحركهم لا تعوقهم مركبات من أي نوع، ولا تتعدى على حقهم وسائل المواصلات
الميكانيكية، فتسلبهم حقهم في استخدام منطقة عبور المشاة. فإن لم يجد الشباب سهولة
في تحركه في الشوارع والطرق أصيب بالإحباط، واعتراه شك في الحصول على حقه في
الحياة، ويصيبه اليأس في استمتاعه بما له من حقوق في حياته، فيثور ضد النظام، وقد
تدفعه ثورته إلى الانخراط في سلك جماعات معارضة تؤهله لاستعمال العنف ضد نفسه وضد
بنى وطنه، فيغرق في دوامة التطرف، ويمارس ما يمليه عليه أباطرة الإرهاب، ودعاة
التخريب والتدمير.
كذلك من واجبات وزارة الداخلية إغاثة من يطلب العون إذا
اعترته مشكلة، أو ألم به خطر يستدعى حضور قوات الأمن، ومن الطبيعي أنه إذا اتصل
بالمسئول الأمني مواطن تليفونيًّا واستغاث به لأي أمر مهما صغر، يجب عليه أن يجيبه
وبسرعة، ولكن الواقع يتسم بالبطء الشديد – إذا كانت هناك إجابة أصلاً – إذ لا
يتحرك المسئول إلا في حالات الكوارث الكبرى،
وحتى تحركه في هذه الحالات يكون بطيئاً بحيث تتضاعف الآثار السلبية لهذه الكوارث.
ولا شك أن أسلوب تجاوب المسئول – المشاهد في مجتمعنا -للاستغاثة
يبعث الأسى عند الشباب، ويصيبهم باليأس من النظام، وهي ظاهرة حاضنة لأسباب اندفاع
الشباب إلى دعاة التخريب في المجتمع والقيام بالعمليات الإرهابية.
ويندرج تحت هذا العوار في تعامل أجهزة الدولة مع
المواطنين أسلوب كل الإدارات التي تتعامل مع أفراد الشعب؛ إذ يجد المواطن صعوبة في
قضاء حاجاته المتعلقة بهذه الإدارات التي تتعامل مع جمهور المواطنين، مما يؤدى إلى
خلق بيئة حاضنة لبذور التطرف الذي يؤدى إلى دفع الشباب إلى الغلو والتشدد في
مواجهة نظام الدولة، فيلجأ إلى من يخيل إليه أنه سوف يقتص له، ويأخذ له حقه المسلوب
عن طريق ممارسة القوة ضد من سلب منه حقه في الحياة.
ومما لا شك فيه أن هذه الظواهر السلبية لها صلة بتجديد
الخطاب الديني، لأن آثارها تقضى على ما تبنيه المؤسسات سالفة الذكر في تكوين
المواطن الصالح، فتهدم كل التعاليم الإيجابية التي غرستها وزارة التربية والتعليم
ووزارة التعليم العالي في مناهجها لتقويم التلاميذ والطلاب.
كما تطمس معالم جهود وزارة الشباب والرياضة في مجال
تقويم أخلاق الشباب المتصلين بها، وتقضى على آثار وزارة الثقافة عن طريق القوى
الناعمة من غرس قيم ومبادئ أخلاقية في جمهور المشاهدين لما تنتجه بصور متعددة.
أما ما تقوم به وزارة الأوقاف والأزهر من نشاط في مجال
تجديد الخطاب الديني فلن يكون له أثر يذكر، لأن الآثار السلبية التي أحدثها جهاز
الخدمات في وزارة الداخلية، وتسببت في جزء كبير منها أجهزة الدولة في تعاملها مع
المواطنين توحى للشباب بأن ما يقوله علماء الدين ليس إلا شقشقات لفظية وجعجعة
صوتية لا يجدون لها مردوداً إيجابيًّا في حياتهم ، فيفقدون الثقة في علماء الدين
وينصرفون عنهم إلى دعاة الغلو والتطرف ، فيسمعون لما يقولون – وهو بعيد عن تعاليم
الإسلام الصحيحة وروحه السمحة – وينفذون ما يأمرونهم به ، حتى ولو كان تفجير
أنفسهم للقضاء على حياتهم وحياة أناس لا ذنب لهم ولا جريرة .
هذا بيان أرسله
إلى كل من يتحدث عن تجديد الخطاب الديني، من أعلى القمة إلى قاعدتها، ليدركوا أن
الأزهر ليس وحده المسئول عن التجديد؛ فكلنا مسئولون، وقد بينت واجبات المؤسسات
الهامة التي ينبغي أن تعمل في هذا المضمار، ولا ينفى هذا أن هناك جهات أخرى يجب
عليها الإسهام في تجديد هذا الخطاب كــــــــ: جمعيات المجتمع المدني بكل أطيافها،
والنقابات بكل أنواعها، والهيئات الخيرية، وكل تجمع له صلة بالتربية والتثقيف والتوجيه.
أردت بهذا
البيان تصحيح البوصلة، حتى لا يصبح الكلام شقشقات لفظية لا معنى لها، وجعجعة لا
نرى لها طحناً، ولا أثر من ترديدها، مما يجعل المشاهد حيران لا يعرف مضمون ما يسمع،
ولا يتبين وجهة هذا التيار الفكري الذي يصم آذانه بكلام رنان ليل نهار، ولا يرى له
واقعاً في المجتمع.
ألا
هل بلغت، اللهم فاشهد.
محمد عبد الغنى شامة
أستاذ
متفرغ للدراسات الإسلامية باللغة الألمانية
كلية اللغات والترجمة – جامعة
الأزهر