O
ترتيب
القَدَر
أ.
د/ محمد شامة
القدر بمعنى: ما قدره الله بعلمه وقدرته، وأن الله قدر كل
الأشياء في سابق علمه، وعلم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل أن يوجدها، ثم أوجد
منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه. فلا يحدث حدث إلا بعلمه
وقدرته وإرادته. والمخلوق لا يقدر على شيء إلا بعلم الله وقدرته وإرادته، فلا حول
له ولا قوة إلا بالله. قال تعالى: ﴿والله خلقكم وما
تعملون﴾. أي: أن الله هو الذي خلق العباد وخلق أفعالهم،
ولا أحد سواه يخلق ذلك، وقد كلف الله الإنسان وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ووعد
الطائعين بالثواب والعصاة بالعقاب، وكل ما يفعله الإنسان أو يقوله: كل ذلك لا يكون
إلا بعلم الله وقدرته وإرادته، فالإنسان ليس مجبرا على كل شيء؛ لأن الله لا يظلم
أحدا، كما أن الإنسان لا يفعل الأشياء بقدرته بل بقدرة الله، أي: أن الله خلق
الإنسان وخلق له قدرة وإرادة محدودتان؛ ليتمكن من فعل الأشياء ويتحمل مسؤولية ما
يفعل، وليتحقق العدل في الجزاء، فالإنسان يقدر بقدرة الله على البطش بيده والسعي
برجله وغير ذلك من الأفعال الاختيارية، لكن الإنسان لا يحدث ذلك من تلقاء نفسه،
قال تعالى: ﴿ولو شاء ربك ما
فعلوه﴾ أي: أن الله هو الذي خلق لهم قدرة على
الفعل ولوشاء الله لسلبهم القدرة فلم يقدروا على فعل شيء. [1]
وعليه فيجب على الإنسان أن يرضى بما قدره الله
وقضى به له؛ لأنه لا يعلم حكمة الله في ذلك؛ فقد يكون ما حدث سبباً في حدوث أشياء
تعود عليه بالخير، أو قد يكون ذلك مقدمة لتوجيه حياته وجهة فيها خير له، أو دفع
ضرر عنه، يقول تعالى: ﱡ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ [البقرة: ٢١٦].
وقد تأكدت من ذلك عن طريق ما حدث
لي من طفولتي حتى الآن (بلغت التسعين)، وسأبين ذلك عن طريق سرد بعض ما حدث لي، فهي
أحداث كان لها تأثير بالغ في رسم هذا الطريق الذي سرت فيه حتى قارب النهاية، ،
وسأترك القارئ يسير معها حتى النهاية ليتبين تأثير كل حدث في توجيه حياتي الوجهة
التي وصلت إليها:
1.
أصبت بمرض شديد في بداية طفولتي حتى أن أهلي كانوا ينتظرون
وفاتي بين لحظة وأخرى؛ لدرجة أنهم أحضروا الكفن وتهيؤوا نفسيًّا لرحيلي عن هذه
الحياة، ولكن الله خيب ظنهم وأزاح عني هذا المرض بدون تدخل طبيب أو تناول أي
علاج!!!!!
2.
كان أقصى ما يتمناه الوالدين بعد شفائي أن أحفظ القرآن
الكريم، أو أتولى الإنشاد في حلقات ذكر الصوفية مثل الشيخ أ. ط.، وقد حاولت أن
أجود في قراءة القرآن لأصير قارئاً في سرادقات العزاء وفي التجمعات الشعبية فلم
أفلح، ولو استطعت ذلك لتغيرت مسيرة حياتي فصرت قارئاً مثل الشيخ عبد الباسط
عبدالصمد أو مثل أي واحد من زملائه القراء، ولكن الله لم يعطني الصوت الجميل
لتتغير حياتي بعيداً عن هذا المجال.
3.
كانت أمنيات أهلي تقف عند حفظي للقرآن الكريم ، فكان هذا أقصى ما
يتصورونه، ولكن القدر كتب لي مسلكاً آخر؛ فقد تزوجت أختي الكبيرة طالباً في كلية
اللغة العربية، فتحركت طموحات أهلي إلى أعلى من حفظي للقرآن الكريم، إذ توجهوا إلى
العمل على إلحاقي بالأزهر كي أكون مثل زوج أختي، فقدموا أوراق الالتحاق بمعهد
القاهرة الديني في صيف عام 1945، وكان عمري 13 سنة،[2]
لكن الله لم يكتب لي الالتحاق بالأزهر في هذا العام، فجاء خطاب تحديد موعد
الامتحان بعد فوات وقت انعقاده، وذلك قدر سوف أبين نتيجته فيما بعد، وكان عليَّ أن
أحاول اتخاذ إجراءات الالتحاق بالمعهد الديني في العام التالي، لكن
الله لم يسمح بذلك، إذ قرر والدي في هذا العام أن يؤدي فريضة الحج، وكان وقتها في
هذا العام 1946م في بداية الفصل الدراسي، فرفض والدي أن أقدم في هذا العام بحجة
أنني أكبر إخوتي، ولا يصح أن يذهب هو إلى الحجاز وأنا إلى القاهرة حيث الدراسة في
المعهد ونترك الإخوة الصغار بدون رعاية، فمضى هذا العام أيضاً كما رسمه القدر،
بعدم الالتحاق بالأزهر، وحل عام 1947م وهو آخر فرصة لي للالتحاق بالأزهر ، فقدمت
الأوراق اللازمة، وعكفت –خلافاً للمرة السابقة- على تجويد القرآن ألكريم أكثر
وأكثر على يد الشيخ الدرواني (كان كفيفاً
له كُتَّاب يعلم فيه الصبية حفظ القرآن الكريم) ، كما تولى محمد أفندي البكليش (
وكان مدرساً في المدرسة الإلزامية بالبلدة وإليه يرجع تفوقي في كتابة الإملاء حيث
كان يعطينا في العام 52 قطعة إملاء) مهمة تفوقي في الحساب حتى كانت مسائل القبول
بالنسبة لي أقل بكثير مما تعلمته على يديه، فإليهما (الشيخ الدرواني ومحمد أفندي
البكليش) يرجع نجاحي في امتحان القبول في الأزهر، رحمهما الله وأثابهما على ما
قدماه لي من فضل لولاه ما استطعت بداية مسيرة حياتي. كما حرصت على ألا يفوتني
ميعاد امتحان القبول كما حدث لي في عام 1945م، فكتب الله لي النجاح في هذا
الامتحان والتحقت بمعهد القاهرة الديني، وسوف يتبين للقارئ سر هذا التأخير الذي
أراده الله ليكتب لي مساراً آخر لم يكن على البال، ولم يكن في مقدور أحد مهما بلغ
من الذكاء أن يصل إليه؛ فذلك من قدرة الله فقط، وسوف أشير إلى ذلك عند بلوغي هذا
التحول الهام.
4.
بدأت الدراسة في معهد القاهرة الديني في سنة أولى ابتدائي
في نوفمبر عام 1947م وكان سبب تأخير الدراسة ظهور الكوليرا في مصر. كان عمري في
ذلك الوقت خمسة عشر عاماً ونصف، وكنت أكبر الطلاب سنًّا في الفصل، وصاحب ذلك ظهور
اثنان من قريتي أصغر مني سنًّا بكثير وكانا في الصف الثالث الابتدائي في مدارس
وزارة المعارف (نظام قديم) فكانا يُذَكِّراني دائماً أنهما أصغر مني سنًّا وأنهما
في السنة الثالثة وأنا في السنة الأولى
وظلت هذه النغمة ملازمة لهما في كل وقت يسمح لهما بذكرها، إلى
أن حان وقت قلت لهما: إني قادر على الحصول على الشهادة الابتدائية من مدارس
الوزارة بأقل جهد ممكن، فتحدياني فصممت على مواجهة هذا التحدي وصممت على دخول
امتحان الشهادة الابتدائية في الوزارة؛ إذ لم يكن مقرراتها العربية صعبة بالنسبة
لي، لكن المشكلة كانت تكمن في اللغة الإنجليزية إذ كانت مقررة في السنتين الثالثة
والرابعة في المرحلة الابتدائية (نظام قديم). فماذا كان الحل؟ قررت أن ألتحق بإحدى
المدارس الليلية التي كانت منتشرة آنذاك (في الخمسينات من القرن العشرين)، وكانت
تعد من فاته التعليم للحصول على الشهادات بتأدية الامتحان من منازلهم كما كانوا
يطلقون على هذا النوع من الامتحان. كانت هذه المدارس منتشرة في حي السيدة زينب،
فذهبت إلى إحداها وطلبت من ناظرها أن يخفض لي الرسوم (وكان جنيهاً في الشهر) لأني
لا أحضر إلا مادة الإنجليزي فرفض وقال لي: لابد من تحصيل الرسوم كاملة حتى ولو لم
تحضر إلا مادة واحدة. فاضطررت إلى دفع الجنيه شهريًّا مقابل حضوري درس الإنجليزي
فقط، وكان ذلك عبئاً ماليًّا بالنسبة لي؛ إذ كنت مضطراً لتدبير هذا المبلغ من
مصروفي الضئيل؛ لأني لم أجرؤ أن أطلب من أبي دفعه خوفاً من رفضه بحجة أن الانشغال
بهذا سوف يكون على حساب دراستي في الأزهر، وربما يتسبب في رسوبي. والعقبة المالية
الثانية التي قابلتني أني كنت أسكن في حي الدراسة والمسافة بينه وبين حي السيدة
زينب كبيرة ولا أملك ما أدفعه في المواصلات ذهاباً وعودة (بعد اقتطاع جنيهاً
كاملاً رسوم الدراسة في المدرسة الليلية) فاضطررت إلى قطع هذه المسافة مشياً
ذهاباً وعودة كل يوم وذلك لمدة سنتين دراسيتين إلى أن قدمت أوراقي لامتحان الشهادة
الابتدائية من المنازل. حصلت عل استمارة النجاح التي كنت أبرزها لهذين التلميذين
ذاكراً لهما أن ما يدرسانه قليل بالنسبة لما ندرسه في الأزهر، والدليل أني حصلت
على الشهادة دون أن أحضر دروسها المقررة آنذاك على تلاميذها، وكان ذلك في عام
1950م.
5. وعندما غيرت وزارة التربية والتعليم نظام الدراسة
في مدارسها فاستحدثت الشهادة الإعدادية، يحصل عليها التلميذ بعد دراسة ثلاث سنوات
في هذه المرحلة، قيل لي: هل تستطيع الحصول على الشهادة الإعدادية كما حصلت على
الشهادة الابتدائية نظام قديم؟ فأبديت الاستعداد لهذه المرحلة، فأحضرت الكتب
المقررة على سني المرحلة الإعدادية بما فيها كتب اللغة الإنجليزية، لكني لم أستطع
ماديًّا الالتحاق بالمدارس الليلية لدراسة اللغة الإنجليزية، فاعتمدت على نفسي في
تحصيل جميع مواد هذه المرحلة بما فيها اللغة الإنجليزية. وتقدمت للامتحان من
منازلهم (كما كانوا يطلقون على هذا الإجراء) أديت الامتحان ثم انصرفت إلى ممارسة
حياتي دون تفكير في النتيجة، فلم أسأل عنها ولم أتابع ظهورها، لأن الأمر لم يكن
هامًّا بالنسبة لي، إلى أن جاءني إشعار بأن لي خطاباً مسجلاً، فينبغي عليَّ الذهاب
إلى دوار العمدة حيث يأتي كل يوم ساعي البريد حاملاً الخطابات ويستلم البريد
المرسل، فذهبت إلى هناك بصحبة أحد التلميذين اللذين كانا يتحدياني، وتسلمت الخطاب،
ولما فتحته وجدت استمارة الإعدادية مختومة بخاتم "ناجح" فسلمتها
لرفيق قائلاً له: إن مقررات المدارس بالنسبة للطالب الأزهري تعتبر سهلة جدًّا؛ لأن
ما يتلقاه في المعهد الديني يفوق بكثير ما يتلقاه نظيره في المدارس الحكومية.....
كان ذلك في عام 1954م حيث كنت منقولاً إلى السنة الرابعة في القسم الثانوي بمعهد
القاهرة الديني. فكرت كثيراً في هذا الوقت، وكان الأمر بالنسبة لي ذا مسارين: فهل أستمر في مسار التعليم الحكومي
وأحصل على الثانوية العامة ثم ألتحق بكلية من كليات الجامعة مع مسار التعليم
الأزهري، وربما تكون درجاتي متوسطة في كلا المسارين، أم أركز في التعليم الأزهري
لأتفوق فيه، وآخذ المسار المرجو للمتفوقين.... انتصر الحل الثاني فركزت في المسار
الأزهري حيث تفوقت فيه فانتسبت إلى كلية اللغة العربية التي كان يلتحق بها آنذاك
المتفوقون في الشهادة الثانوية.
6. انتظمت في الدراسة بكلية اللغة العربية في العام
الدراسي 1956/1957م وكان لي صديق التحق بكلية الشريعة فذهبت إلى مبنى الشريعة
لأقابله ,كان في مدخلها لوحة إعلانات، وكنت من عادتي لا أهتم بمثل هذه الصفحات
الإعلانية، ولكن الله أراد لي –استثناءً- أن ألقي نظرة على هذه اللوحة الإعلانية،
فوقع نظري على الإعلان التالي: سوف يحضر مدرس اللغة الألمانية اليوم، فمن يريد
الالتحاق بهذه المجموعة فليسجل اسمه عند الشيخ جعفر، وهو مراقب كما كان متبعاً في
ذلك العصر، وعلى الفور اتجهت إلى مكتب الشيخ جعفر وسجلت اسمي ضمن المجموعة التي
ستدرس هذه اللغة ( كانت هذه الدراسات مسائية ، من 4-6- مساءً أنشأها الدكتور محمد
البهي لتدريس اللغات الأجنبية لمن يرغب من طلبة الكليات الأزهرية) لماذا اندفعت
إلى دراسة اللغة الألمانية دون اللغة الإنجليزية التي قطعت شوطاً فيه (حين درست
مقرر سنة ثالثة ورابعة ابتدائي نظام قديم وسني القسم الإعدادي بعد ذلك) أو اللغة
الفرنسية التي حضرت دروسها في مدرسة الليسيه (وكانت قرب ميدان التحرير) لمدة ثلاثة
أشهر وبذلت الكثير من الجهد والمال في دراستي لهاتين اللغتين؟ فلما لا قيته من
نشقة في تعليم هاتين اللغتين، أردت أن أجرب لغة أخرى فاخترت الألمانية وساعدني على
الاستمرار في تعلمها أنها لم تكلفني ماديًّا كما أن مقر تعلمها قريب من سكني، أضف
إلى ذلك المدرس الألماني كان من النوع الذي يأسر التلاميذ بظرفه وطريقته في
التدريس ومعاملته اللطيفة للدارسين أثناء وبعد الدرس. استمرت دراستي لهذه اللغة
أربع سنوات كنا نؤدي امتحاناً فيما ندرسه (وكان قليلاً بالنسبة لوقت الدراسة) إلى
جاء الوقت الذي رُشِّحتُ فيه للدراسة في ألمانيا للحصول على الدكتوراه وسأفصل ذلك
في فقرة لاحقة.
7.
في بداية دراستي في السنة الثانية بالكلية
(1957/1958م) أعلن ديوان الموظفين[3]
عن الحاجة إلى تعيين أئمة في وزارة الأوقاف من خريجي الكليات الأزهرية الثلاثة
(اللغة العربية وأصول الدين والشريعة)، ُثم أضاف الإعلان إليهم الحاصلين على
الثانوية الأزهرية، (لا أدري كيف علمت بهذا الإعلان وأنا لست ملازماً لقراءة
الجرائد؛ لأن الميزانية لم تكن تتحمل شراء جريدة كل يوم، ربما وصلني هذا الخبر عن
طريق الأصدقاء والمعارف) فتقدمت ودخلت الامتحان الذي لم يحدد فيه مرجع، واشتركت في
هذا الامتحان مع خريجي الكليات الثلاثة وأنا لازلت في بداية السنة الثانية في
الكلية، وكان الامتحان قسمين: تحريري في الفقه، والتفسير ومن ينجح يدخل الامتحان
الشفوي. نجحت في التحريري ودخلت الامتحان الشفوي ولا أذكر من أعضاء اللجنة سوى
الشيخ محمد الغزالي. لم يسألوني في أي مادة من مواد الفكر الإسلامي، بل دارت
أسئلتهم حول رأيي في قضايا العصر وكيف أشرح التعاليم الإسلامية بما يتفق مع
المستجدات العصرية. اختاروا من الناجحين 120 فقط من عشرات الآلاف الذين تقدموا
للامتحان لأن البطالة كانت متفشية في الخريجين من الكليات الأزهرية، فقد كانت هناك
أعداد ضخمة مر على تخرجهم سنين عدة ولم يحصلوا على وظيفة. كنت واحداً من المختارين
لتولي وظيفة إمام، لكن القدر كتب لي أن أعمل في وزارة الداخلية في وظيفة أُطْلِقَ
عليها واعظ، فأصبحت واعظا يجوب السجون والمعتقلات ليصحح فكر هؤلاء الذين رماهم
الحظ في هذه البقعة. كان مرتبي الشهري 9 جنيهات صافية بعد الاستقطاعات، فكان هذا
المبلغ بالنسبة لي إنقاذاً من ضائقة مالية أجهدتني سنين، كان هذا المبلغ عوناً
كبيراً في حياتي أنا وأخي الذي كان طالبا في المرسة الثانوية –على ما أذكر المدرسة
الخديوية-؛ فلم يعد يشغلني طلب النقود من أهلي، ومكثت في هذه الوظيفة مدة دراستي
الجامعية –من السنة الثاني حتى الرابعة وسنة العالمية مع إجازة التدريس-حتى عينت
بعد التخرج مباشرة مدرساً في معهد منوف الأزهري. بعد تسلمي لهذه الوظيفة واعظا
أصبحت أعمل 16 ساعة في اليوم وظيفة واعظ + الدراسة ومذاكرة المقررات الدراسية+
دراسة اللغة الألمانية حضوراً وحفظاً لما نأخذه من دروسها، فكان عملي يبدأ من
الصباح الباكر حتى العاشرة مساءً (لأني كنت آوي إلى فراشي في هذا الوقت لأستطيع
الاستيقاظ لصلاة الفجر)، لكني كنت مسرورا لأن عبء الاحتياج إلى المال قد أزيل عن
كاهلي.
8.
بعد حصولي على العالمية مع إجازة التدريس
عُيِّنْتُ مباشرة مدرساً في معهد منوف الديني (الأزهري)[4]
، وبعد شهور عدة في هذا العمل حدث ما يلي: زار رئيس هيئة التبادل العلمي الألماني
(DAAD ) شيخ الأزهر، و قدم له أثناء هذه الزيارة خمس منح لدراسة
الدكتوراه في الجامعات الألمانية، وعقب هذه الزيارة أعلن الأزهر عن قبول طلبات
لهذه المنح مشترطاً لمن يتقدم أن يكون مدرساً بالمعاهد الأزهرية، ومتخرجاً من كلية
أصول الدين أو من كلية اللغة العربية قسم فلسفة، وأن يكون مُلِمًّا باللغة
الألمانية، فتقدم إليها 18 طالباً، عُقِد لهم بعد ذلك مقابلات شخصية أمام لجنة من
أساتذة ألمان، ورُتِّمَ المتقدمون في كشف حسب درجاتهم في امتحان الشهادة العالية،
فكنت رقم واحد في هذا الكشف. عُقِدَت لجنة المقابلة في أحد مباني الكليات الذي كان
موجوداً في حي البراموني بجوار مستشفى أحمد ماهر، في شارع متفرع من شارع بورسعيد،
قريب من ميدان السيدة زينب. دخلت على اللجنة فوجهت لي أسئلة متنوعة باللغة
الألمانية ووفقني الله في إجابات مقنعة لهم (هكذا تخيلت). وعندما خرجت، طلب مني
زميل أن أرافقه إلى ميدان السيدة زينب لقضاء بعض مصالحه، ولما كنت غير حريص على
معرفة نتيجة المقابلة، عملاً بالمقولة: "عليَّ أن أسعى وليس علىَّ إدراك
النجاح" ذهبت معه غير عابئ بما تسفر عنه هذه المقابلة، ولما رجعت قابلني
الزملاء بصياح: "إنت فين؟" فقلت: ماذا حدث؟ قالوا: هم يبحثون عنك، لقد
اختاروك ضمن الخمسة الذين سيسافرون للدراسة في ألمانيا. وهنا بدأت مسيرة حياتي
تأخذ منعطفاً لم أحسب له حساباً من قبل، بل لم يخطر على بالي في يوم من الأيام....
فإن كان في العمر بقية، ومنحني الله القدرة على الكتابة فسوف أسجل مسيرة حياتي في
ألمانيا وما بعدها.
فاق ترتيب القدر ما
رسمته وتوقعته في مسيرة حياتي؛ إذ لولا تقدير الله لي أن أبدأ دراستي في الأزهر
متأخراً، لما اتجهت إلى دراسة مقررات المدارس في القسم الابتدائي (نظام قديم)
وحصلت على الابتدائية، وكذلك دراسة مقررات المرحلة الإعدادية وحصلت على شهادتها،
كما وضحت ذلك في رقمي 4،5، ولولا تأخري في بداية دراستي الأزهرية ما اتجهت إلى
الحصول على الوظيفة بالثانوية الأزهرية كما بينت ذلك في رقم 7، وكذلك ما بدأت
بدراسة اللغة الألمانية التي غيرت مسيرة حياتي كلية، لأنها كانت ستأتي وأنا في
السنة الرابعة، لأني كنت سأفكر في التأهيل لوظيفة ما بعد التخرج من الكلية، وبذلك
تحققت مقولة : " لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع" في كل هذه الأحداث
التي مرت بمسيرة حياتي.
ربي رضينا بقضائك،
وسلمنا تسليماً كليًّا بما كتبته لنا في سجل الغيب، فأنت القادر على ترتيب الأحداث
حسب إرادتك وعلمك، فاللهم اكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار. إنك سميع مجيب.
أ.
د/ محمد شامة
[1]( https :// ar.wikipedia.org
[2] ) كان سن القبول بالأزهر في ذلك
الحين يتراوح 12 و16 سنة فمن هو سنه أصغر من 12سنة لا يقبل، وكذلك من تجاوز سنه 16
سنة .
[3] ) وهو الديوان الذي عن طريقه يُعَيَّن الموظفون في
شتى الوزارات والمصالح الحكومية؛ فإذا احتاجت أي وزارة أو مصلحة حكومية إلى موظفين
تبلغ الديوان باحتياجاته وشروط من يتولى هذه الوظيفة، فيعلن الديوان عن الوظيفة
المطلوبة والشروط التي يجب توافرها في الموظف، ثم يجري امتحاناً للمتقدمين ويرسل
للجهة الطالبة العدد المطلوب من قائمة الناجحين في المسابقة التي يعقدها لهذه
الوظيفة.
[4] ) سمعت أن الذين عُيِّنوا من هذه الدفعة (من ثلاث
كليات: اللغة العربية وأصول الدين والشريعة) لم يتجاوزوا 12 فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق