إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 2 مارس 2021

 

O

السُّلَّم الحضاري

أ‌.       د/ محمد شامة

شاع في المجتمعات الإنسانية تقسيم الناس إلى طبقات:

أهل القمة، وهم أنواع: أصحاب النفوذ والسلطة في مجال الحكم، وهم وصلوا إليها-في غالب الأحوال-بأساليب، معظمها غير شرعي اعتمدوا فيها على خداع الجماهير بأساليب شتى. أما النوع الثاني، فهم جامعو الثروة، وكثير منهم سلك طرقاً معوجة، سلبوا فيها جهد من وقع تحت سلطانهم، وامتصوا عرقهم، واستولوا بطرق غير مشروعة على ما أنتجوه من أشياء يحتاج إليها الناس في معيشتهم فيتحكمون في أسعارها، طمعاً في الثراء الفاحش.

فإذا رام شعب الوصول إلى الارتقاء فوق سلم الحضارة الراسخ، فعليه أن يبدأ الصعود إلى تلك القمة، درجة بعد أخرى؛ فأول الدرجات المؤهلة لها محو الأمية الأبجدية، وتلك يجب أن تشمل معظم أفراد الشعب-إن لم يكن كلهم-يجب أن تُمْحَى أميتهم الأبجدية، فتلك هي الأساس الذي تقوم عليه الدرجات الأخرى المُوَصِّلَة إلى القمة الحضارية. وتأني بعدها الدرجات الأخرى: مثل الثقافة العلمية، سواء كانت مهنية أو متخصصة، أو كانت معلومات عامة تُؤَهِّل طبقة من الشعب للتميز، بحيث تكون معلوماتها أكثر من العامة الذين يقف جهدهم عند معرفة الفراءة والكتابة، وهؤلاء عددهم أقل من الشريحة القابعة في أسفل البناء الحضاري. تليها درجة من تمكنه قدرته الفكرية من التخصص في جانب من جوانب الظواهر المحيطة بالإنسان، سواء تعلقت بالطبيعة أم بالإنسان، فهم يحللون هذه الظواهر ويبسطونها لمن يريد من عامة الناس –أي ممن وقف على الدرجة الأدنى-معرفتها ويتوقون إلى معرفة أسرارها. أو يتعاملون معها في حياتهم.

لا يصل إلى الدرجة العليا على سلم الحضارة إلا أولئك الذين اجتازوا الدرجات السابقة بنجاح، وحصلوا معارفها شاملة كل أجزائها، وأتقنوا كل أفكارها، وأحاطوا بكل أجزائها، وأدركوا فلسفاتها، زد على ذلك كانوا على درجة كبيرة من القوى الفكرية التي أهلتهم للصعود إلى الدرجة العليا؛ وذلك بقدرتهم على الإبداع كلٌّ في تخصصه، مع ابتكار قضايا تبدو للعامة خيالاً علميًّا ويظن من في درجة أقل من درجة القمة أن ما يقوله هؤلاء المبدعين يستحيل تحقيقه على أرض الواقع.    

 لا يستطيع هؤلاء المبدعين الاستمرار في أبحاثهم وإعلان ابتكاراتهم إلا في جو الحرية؛ فهي شرط أساسي في تشجيع المبتكرين في الاستمرار في التعبير عما يرونه من قضايا تعود على الأمة بالرقي والتقدم، وتفسح الطريق أمامها للاستمرار في هذا النهج كي يسهم أبناؤها في بناء الصرح الحضاري الذي سيقود الأمة إلى الرقي والتقدم في جميع مجالات الحياة.

فإذا فحصنا أسباب رقي الأمم وتقدمها لوجدنا أن السبب الأول في ازدهارها هو الحرية ، أي السماح للمبدعين بنشر أفكارهم كما يحبون دون رفض أي نوع منها حتى ولو كان شاذًّا؛ لأنه لو كان فيه عوار فسوف يضمحل ويختفي من صفحات الفكر، مهما كان وضع قائله، أو على أي سند يستند إليه من يتبنى هذه المقولات الشاذة؛ لأن الزبد من الأفكار يذهب جفاء، وما ينفع الناس - ويتناسب مع العصر، ولا يصادم العقل، وينسجم مع النصوص المقدسة، أو المقولات التي يوافق عليها أهل الراي السليم، ولا يكون بينها وبين المبادئ التي أثبتت التجارب أنها صالحة للفرد، ولا ينتج عنها ما يضر الأفراد، أو يعيق مسيرة التقدم في المجتمع- يمكث في الأرض.

ونظرة إلى الحضارة الإسلامية يتبين لنا أنها ازدهرت في جو من الحرية، بحيث استطاع كثير ممن وقفت جهودهم الفكرية عند محيط معرفة القراءة والكتابة الإعلان عن رأيه حتى ولو كان مخالفاً لرأي العامة، أو متصادماً مع المنطق، أو كان لا يقبله العقل، أو لا يستسيغه العرف، أو ترفضه التقاليد، وبذلك بنوا حضارة شهد لها الجميع، لأنها تبوأت أعلى الدرجات في سجل الحضارات الإنسانية.

فحين نتصفح سجل حضارة المجتمع الإسلامي نجد فيه الغث والسمين، ونقرأ فيه الصالح والطالح، وذلك من طبيعة بناء صرح الحضارات، فلا تسجل أي حضارة الأفكار البناءة فقط، بل نجد في صفحاتها ما يصلح لتبوأ مكاناً في البناء الحضاري، وما لا يصلح فمثله كمثل البناء المادي؛ يقوم على لبنات صالحة، ويتخلف عنه ركام ونفايات، فلا يقوم بناء دون أن يتخلف عنه هذا الركام، وينحدر منه نفايات، ثم يقوم المرء بطرحه بعيداً عن البناء الحضاري البراق. 

تحول البناء الحضاري الإسلامي في القرون الماضية إلى ركام، فازدحم عالمه بالخرافات والأساطير، فسيطر الجهلة وأنصاف العلماء على عالم الأفكار، فلم يستطيعوا إضافة أفكار جديدة، بل شوهوا ما أنتجه العلماء في العصور السابقة التي كانت مزدهرة بالإبداعات والابتكارات في عالم الأفكار. وليت الأمر اقتصر على عجزهم، بل طاردوا من تظهر عليه علامات الذكاء بالاتهامات الكاذبة، واستعانوا بالسلطة السياسية في قمعه وإقصائه عن الساحة الفكرية، فانطفأت شعلة التجديد، وتوارت عن الساحة كل فكرة بناءة، فتهاوى الصرح الحضاري تحت ضربان المقلدين، وهم في الواقع قتلة الأفكار الناضجة، ومشوهي الصفحات المضيئة في المجتمع الإسلامي، فانحدر إلى السفح كل من ران ببصره إلى القمة الحضارية واستكان في القاع بعد ما لاح له أن لا فائدة من المعارك التي يشنها على الرجعيين المسيطرين على المناصب المُوَجِّهة؛ لأن الديكتاتورية السياسية تدعمهم في محاربتهم الفكر الحر المنير الذى ليس في صالحهم، ولذلك فهم يدعمون أصحاب النفوس المريضة من أنصاف العلماء، لأنهم يسندون ديكتاتوريتهم بغلاف ديني، ليس فيه من الدين شيء، بل هو مسخ للأفكار المنيرة التي أنتجها السابقون في عصر الحضارة الإسلامية.

استكانت الشعوب الإسلامية في سفح السلم الحضاري، وظلت قابعة فيه منذ القرن الخامس الهجري حتى الآن، بينما استمرت شعوب أخرى في صعود السلم حتى قمته، وظلت فيه بما أبدع علماؤها من: أفكار متطورة، وابتكروا نظريات في عالم الفكر بجميع أنواعه، فملكوا زمام الحضارة، وأنتجوا الكثير من متطلبات الحياة المعاصرة، فتمكنوا من رقاب الدول القابعة في سفح السلم؛ فلم يمنحوها من مبتكراتهم إلا القدر اليسير في مقابل إخضاعهم لأوامرها، والخنوع تحت مظلتها، فساروا تابعين لها ينفذون ما يشيرون به، ويخضعون لما تمليه عليهم، حتى ولو كان على حساب التخلي عن كرامتهم، فتنكروا لمبادئهم الأصلية، ورحبوا بكل ما تمليه عليهم تلك الشعوب المتمكنة من قمة الحضارة، حتى ولو تطلب الأمر وضع هاماتهم في الوحل، ومسخ شخوصهم في نفايات هذه الحضارة الحديثة، متمسكين بثقافاتهم ظانين أنها ثوب الحضارة، وما هي إلا مخلفاتهم، وما رموه لهم لأنه غير مستساغ عندهم.

فإذا بحثنا عن السبب الرئيسي لبلوغ الشعوب الإسلامية إلى هذا الوضع المهين لتبين لنا أنه غياب الحرية الفكرية، وتبوأ الجهلة وأنصاف العلماء قيادة الفكر في المجتمع، فطفقوا يرددون مخلفات التشريع، وماهي إلا نفايات لا تصلح للعصر الحاضر، ويرفعون أصواتهم بآراء زاعمين أنها لب الدين وأصل التشريع، مع أنها لم تكن لها في يوم من أيام ازدهار الحضارة الإسلامية وزن في درجات السُّلَّم الحضاري.

لابد من إزالة التراكمات التي سقطت على الساحة الفكرية منذ أن انطفأ نور الحضارة في العالم الإسلامي قبل قرون؛ إذ يجب تنظيف الطريق المؤدي إلى القمة الحضارية أوَّلاً وهو أول عمل يقوم به من يريد السير قدماً إلى عملية البناء الحضاري في العالم الإسلامي، لأن الطريق مليء بـــ "الأحجار" التي سقطت وأعاقت السائرين في طريق التقدم، فمنعتهم من السير خطوة واحدة على طريق النهضة، فباعدت بينهم وبين التقدم والرقي في هذا العالم، ومن أهم هذه "الأحجار" المعَوِّقة للمسيرة الحضارية ما يلي: 

"الحجر الأول":[1] لابد من لإقناع أولئك الذين اندمجوا في الروحانيات، وأهملوا العنصر المادي اللازم لاستمرار الحياة؛ فعاشوا تحت رحمة من يعطيهم طعامهم ولوازم حياتهم فاستُذِلُّوا واستُعْبِدا حتى صار أمرهم بينهم شديداً نتيجة للشروط القاسية التي يشترطها عليهم من يمنحهم قُوتَهم وما يحتاجونه لاستمرار وجودهم على قيد الحياة. وقد يصل الأمر إلى ركوعهم -بل سجودهم-أمام رغبات أعدائهم كي لا يموتوا جوعاً، أو يسقطوا قتلى أمام من تفوق عليهم في سلم الحضارة المادية، فأخضعهم بقوة سلاحه الذي غفلوا عن تصنيع مثيله بانشغالهم بروحانيتهم. لابد من إقناعهم بأن تعاليم الإسلام ليست روحانية فقط، لأن الإسلام اهتم أيضا بالجانب المادي لأنه ضروري لحياة الإنسان.

"الحجر الثاني": الفتاوى الشاذة التي تبعد المسلمين عن عالمهم الذي يعيشون فيه، وانكفائهم على تأدية الطقوس من : صلوات ودعوات واعتكاف في المساجد ، فإذا انخرطوا في الحياة، وباشروا السلوك الإنساني، انحرفوا في طريق بعيد كل البعد عن روح الإسلام وتعاليمه، فهم يصلون الفرائض والنوافل، وأحياناً يعتكفون في المساجد مصلين ومسبحين، ولكنهم في تعاملهم مع الناس وسلوكهم في المجتمع لا ترى لتدينهم أثراً؛ فهم يكذبون، ويهملون في واجباتهم الدنيوية على كل المستويات، ويرتكبون من الآثام ما يعف اللسان عن ذكرها، فتدينهم صوري لا أثر له في سلوكهم، فهو إيمان في الظاهر، وفسق في الباطن، فلا فائدة من هذا التدين، ولا أثر في السلوك لهذه الصلوات والتسبيحات، وصدق رسول الله e  إذ يقول: "من لم تنهه صلاته فلا صلاة له".

ومن الانحراف في الحكم على الأشياء أن الناس ينخدعون في هذا الفريق، فيحكمون على أفراده بالصلاح والتقوى، وهم أبعد ما يكونون عن هذا الوصف؛ فقد روي أن عمر بن الخطاب t طلب من شاهد في قضية أن يأتيه بمن يشهد له بأنه عدل حتى يقبل شهادته، فجاء رجل وقال لعمر: اقبل شهادة هذا الرجل فإنه عدل. فوجه إليه عمر هذه الأسئلة: أتسكن بجواره؟ قال: لا! قال له: أرافقته في سفر؟ قال: لا! قال له: هل كانت بينك وبينه معاملات مادية؟ قال: لا! فال له عمر: لعلك رأيته يتمتم بالصلاة في المسجد! قال: نعم!

     فالتفت عمر إلى الشاهد وقال له: اذهب يا رجل فأتني بمن يعرفك، فإن هذا لا يعرفك! ألست ترى أن عمر تصرف بما يعلمنا أن التدين الظاهري ليس دليلاً على التقوى، بل المدار في الحكم على المرء بالصلاح والتقوى راجع إلى سلوكه الطيب وتعامله مع الآخرين بالحسنى والبعد عن الزائل والانحرافات، يقول تعالى: ﱡﭐ           [العنكبوت: ٤٥ – ٦٩]

"الحجر الثالث": الغلو والتشدد، فتحريم ما أحل الله من الطيبات حتى يكون الإنسان-هكذا يشيعون-أقرب إلى الله، ونسوا قوله تعالى: ﱡﭐ       [الأعراف: ٣٢] ، فإطلاق الزينة هنا تشمل كل ما في الحياة من طيبات لم يرد في القرآن الكريم نص قطعيّ الدلالة يُحَرِّمها، ولا يترتب عليها ضرر للفرد أو الجماعة، كما لا يترتب على الاستمتاع بها الانشغال عن تأدية فرائض العبادات، أو تعطيل العمل وقلة الإنتاج؛ فالإسلام لا يعرف هذا الغلو في العبادة، ولا يقر التشدد فيما فرضه الله، فهو يعلن في القرآن الكريم أنه لا يبغي من وراء فرضه على الناس أن يوقعهم في حرج، فقال تعالى: ﱡﭐ             رو   ﱿ   [المائدة: ٦] ، وقال رسول الله e : "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا." [رواه البخاري ومسلم]، كما روي عن حميد الطويل أنه سمع مالك بن أنس t يقول: "جاء رهط إلى بيوت أزواج النبي e

يسألون عن عبادة النبي e فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي e ، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله e إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني." [رواه البخاري]

فهذه النصوص تدل على أن الغلو في الدين والتشدد في البعد عن طيبات الحياة ليس من الإسلام؛ لأنه دين الحياة، جاء ملائماً لطبيعة الإنسان؛ فلم يفرض عليه ما يعكر عليه صفو حياته، أو يحرمه من الملذات الطيبة، بل إنه عندما فرض عليه فروضاً راعى قدرته على القيام بها، فقال تعالى: ﱡﭐ      [البقرة: ٢٨٦]، فظهور هذا التيار في المجتمعات الإسلامية انعكاس للأمية الدينية، وتلبية لما ينشره من يتصدرون الدعوة في وسائل الإعلام المختلفة الذين لا تؤهلهم ثقافتهم للحديث عن تعاليم الإسلام الصحيحة، ولا تمكنهم من معرفة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم في المجتمع المعاصر.

     "الحجر الرابع": التطرف والعنف، وليست هذه الظاهرة جديدة على المجتمع الإسلامي، فقد ظهرت جماعات متطرفة عبر التاريخ الإسلامي، ولكنها لم تكن بهذا الانتشار وهذا الشيوع، بل كانت محصورة في جماعات قليلة العدد، فحوصرت آنذاك بعامة المسلمين الذين أنكروا عليهم اتجاه العنف والقتل.

     قد يكون السبب في الانتشار الواسع اليوم عوامل أخرى خارجة عن المجتمعات الإسلامية، وذلك بتدبير مخابرات أجنبية تريد إضعاف العالم الإسلامي وزيادة تركيعه أمام متطلبات "الاستعمار الجديد"، وإلا فمن أين يأتي تمويل هذه الجماعات، وهو بالملايين، بل بالمليارات! ومن يمدهم بهذا السلاح المتطور الذي لا تملك مثيله بعض دول المنطقة؟ إنه الهجوم الأجنبي غير المباشر على العالم الإسلامي مستغلاً فريقاً من أبنائه الذين ليست لهم من الثقافة الإسلامية ما يمكنهم من معرفة تعاليم الإسلام التي تحرم إزهاق الأنفس البريئة بغير ذنب وتدمير ممتلكات الشعوب الإسلامية التي أقامتها بعرق أبنائها، فهؤلاء الشباب المغرَّر بهم لا يعرفون من تعاليم الإسلام إلا قشور، وليس عندهم من قيم الإسلام شروى نقير، وإلا عرفوا أن الإسلام حرم قتل المؤمن، وأنذر من يقدم على ذلك بخمس عقوبات، فقال تعالى: ﱡﭐ       [النساء: ٩٣]  ، كما حرم قتل النفس بصرف النظر عن عقيدته، أو جنسه، أو هويته، فقال تعالى: ﱡﭐ            [المائدة: ٣٢]، أي أن قتل النفس والفساد هو اعتداء على المجتمع كله، فهو تدمير للمجتمع الإنساني، فيجب على الجميع التصدي لهم، فهم بغاة إن لم يسمعوا لنداء الله وينخرطوا في الجماعة الإسلامية المسالمة، فعلى الجميع محاربتهم حتى يرتدعوا ويتركوا العنف والفساد في الأرض، فقال تعالى: ﱡﭐ         [الحجرات: ٩]

       ليس معنى إزاحة هذه الأحجار من طريق المبدعين تكميم أفواه الذين يتبنون هذه الآراء، لأن طبيعة البناء الحضاري تقتضى الحرية لكل الآراء-إلا الذين يستخدمون العنف في فرض آرائهم فلا يسمح لهم بذلك-حتى وإن بدا للعيان خطأها، بل تصحيح هذا الخطأ كما بينا ذلك سابقاً حتى لا ينخدع جمهور المسلمين بهذه الآراء.

     مَنْ المؤهّل لإزاحة هذه "الأحجار" من على السُّلَّم الحضاري، تلك "لأحجار" التي تعوق المبدعين والمبتكرين من تأدية واجبهم للوصول إلى القمة الحضارية، حيث يمكنهم الإسهام في البناء الحضاري؟

     توجد جهات عدة يجب على أفرادها الإسهام في تخلية السُّلَّم الحضاري لينطلق عليه أصحاب الهمم الفكرية، والمجال لا يتسع لذكرها كلها، ولذلك سأذكر أهم من له تأثير واضح في هذا المجال. وهم أعضاء المؤسسات الدينية الذين يصدرون فتاواهم في المشاكل المعاصرة، لأن جمهور المسلمين يتقبل آراءهم دون اعتراض؛ لأنهم يرون فيهم صوت الدين، ولذا لو التزم هؤلاء بما يجب عليهم في العصر الحاضر، لتغير وجه الحياة في المجتمعات الإسلامية، لكنهم عندما توجه إليهم أسئلة عن مشاكل معاصرة، لجأوا إلى النصوص القديمة، ونسوا أن ما في هذه النصوص لا يعبر عن مشاكل العصر، بل هي آراء أناس عاشوا في عصر آخر بعيد كل البعد عن حياة الناس في القرن الواحد والعشرين.

     يجب على من يتصدر للفتوى أن يكون مُلِمًّا بمقتضيات العصر، وأن يكون عالماً بفلسفة التشريع الإسلامي، وأن يكون لديه القدرة على الإبداع والابتكار، وأن يكون قادراً على فهم النصوص فهماً جيداً بحيث يمكنه شرحها بما يتناسب مع معطيات العصر، مع الحفاظ على توجيه النصوص بما يلائم حياتنا، على ألا يخرج عن القواعد اللغوية، ولا يحيد عن معنى النصوص قطعية الدلالة.

     كذلك من المهم ألا يكون أسيراً لمدرسة معينة، بحيث لا تخرج فتاواه عن توجهها، بل ينفتح على كل المدارس ليأخذ منها ما يلزم للمجتمع المعاصر، زد على ذلك قبوله للآراء الحديثة المبنية على قواعد فقهية واضحة، ويأخذ منها ما يتطلبه الموقف، والإفتاء بها تبعاً للمصلحة التي تقتضي تطبيق هذه الآراء. فلا ينسى القاعدة الفقهية: "حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله." وأن يتصالح مع الآراء المخالفة مادامت لا تخرج بعيداً عن دائرة الروح الإسلامية، ولا تتصادم مع نص قطعيّ الدلالة.

     هذه هي أهم قواعد النهضة، وأساسيات قيام الحضارات الإنسانية، ولنا في أسلافنا مثال واضح فقد كان هناك مكان لكل الآراء، وهو السمة الغالبة لنهضة الشعوب في كل العصور حيث كان الحماية لكل رأي حتى من المخالفين له، ولم يشذ المسلمين في نهضتهم عن أساس قيام الحضارات الإنسانية؛ فإذا كان فولتير في مستهل قيام النهضة الحديثة قد قال: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك." فقد سبقه في هذا علماؤنا؛ فقد فال الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب." وقال أبو حنيفة: "هذا أفضل ما توصلنا إليه، فمن جاءنا بأفضل منه تبعناه"، فواضح من هذين انصين أن علمائنا سبقوا فولتير ومن على شاكلته في النهضة الحديثة فلم يعترفوا بحق المخالف في التعبير عن رأبيه فقط، بل سلموا بأنه من المحتمل أن يكون رأيه صواباً ورأيهم هم خطأ.

     هذا هو الجو الذي تزدهر فيه الحضارة، لأن الرأي الواحد-كما هو الحال في عالمنا المعاصر في المجتمعات الإسلامية-لا يسهم في ازدهار حضارة، بل يسد كل المنافذ التي يمكن أن تخرج منها بذور الحضارة، بل تقضي الديكتاتورية في كل المجالات، سواء كانت سياسية أم فكرية على الإبداع والابتكار، وتميت كل زهور الحضارة، وذلك واضح من أحداث التاريخ الإنساني، إذ لم تقم حضارة في ظل الدكتاتورية، ولم ينمو الفكر ويزدهر مع سيطرة الجهلة وأدعياء العلم على الساحة الفكرية.

     أفيقوا أيها المسلمون، واتركوا البراعم الفكرية تتفتح، إن أردتم عودة الحضارة الإسلامية إلى مجدها الماضي! أفسحوا المجال للأفكار الجديدة؛ فهي المنارات التي توضح لنا طريقنا إلى المجد والسؤدد! حرروا العقول من أسر الماضي الذي لا يصلح للحاضر! لا تدوروا في فلك من سبقكم، إن بدا أن أفكارهم لا تصلح للحاضر، لأن حياتنا تختلف عن حياتهم! ولكم في الإمام الشافعي قدوة؛ فقد غير رأيه في مصر عما قرره في العراق-وأطلق على رأيه في العراق: المذهب القديم، وعلى رأيه في مصر: المذهب الجديد-ولما سئل عن هذا التغيير قال: " الحياة في مصر تختلف عنها في العراق." أي أنه يجب على المفتي مراعاة حياة من يفتيهم.           

                       أ‌.       د/ محمد شامة



[1] ) اقرأ كتابنا : " مسئولية من تجديد الخطاب الديني"!






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...