O
الأمية بشعبها الثلاثة
من
منظور إسلامي
للأمية مجالات متعددة، وأنواع مختلفة، تنطلق كلها وتتمحور حول الأمية
الهجائية، فهي الأساس الذي تقوم عليه كل أنواع الأمية، سواء كانت تتعلق بالأمية
الوظيفية أو المعلوماتية، أو الأمية العلمية والثقافية، وكذلك الأمية الدينية. فكل
أنواعها تنطلق من ثلاث: الأمية الهجائية، والأمية الثقافية، والأمية الدينية. فكل
أنواع الأميات الأخرى متفرعة عنها، بل إن الأمية الأبجدية هي أساس كل ما يطلق عليه
أمية، ولهذا كانت أول آية نزلت من القرآن الكريم تشير إلى أنه يجب على الإنسان أن
يزيل أميته الأبجدية حتى تتفتح أمامه كل أبواب محو الأمية أيًّا كان نوعها وفي أي
درجة كان وضعها في حياة البشر، فضلاً عن أنها هي أساس بناء الحضارات؛ إذ لم تزدهر
أي حضارة إلا على أساس القراءة والكتابة، فالعنصر الأساسي لبناء الحضارة وازدهارها
هو تسجيل ما ينتجه الإنسان في جميع مجالات حياته، سواء كان ذلك بالكتابة أو النقش،
او التعبير عنه بالآثار؛ فلم تقم حضارة –أيًّا كان نوعها وموضوعها-على أساس السرد
الشفهي، بل إن تسجيلها، بأي نوع من أنواع التعبير، يهتبر لبنة في بنائها، بل إن
البناء على يحدد بارتفاع معين؛ إذ كلما كان الإنسان قادراً على استيعاب ما تركه له
السابقون، ومدركاً لدوره في سلسلة البناء الحضاري، اندفع بكل قوة إلى إضافة حلقة
جديدة في سلسلة الحضارة الممتدة عبر التاريخ الإنساني.
اهتم المصلحون عبر التاريخ الإنساني بمعالجة ما يظهر
في المجتمع من نواحي سلبية؛ إذ يدعون في برامجهم الإصلاحية إلى توجيه مواطنيهم إلى
التصدي للسلبيات في سلوكهم، ومحاربة ما يظهر في حياتهم من أمور تعيق مسيرة حياتهم،
أو تطغى على الجوانب الإيجابية في معيشتهم، فهم ينادون في برامجهم إلى نبذ كل ما
من شأنه أن يضرهم صحيًّا في أبدانهم، أو يشوه أفكارهم بأمور تهوي بهم إلى المهالك
في معيشتهم من جراء ما تحمل في طياتها من مبادئ تشوع وجه الحياة من كلا جانبيها:
المادية والروحانية.
ذلك هو الطابع العام لمناهج المصلحين على اختلاف دعواتهم
وتنوع أساليب مناهجهم الإصلاحية، ولم يختلف هذا المضمون العام باختلاف القرون
والأزمان، ولا بتنوع سبل الحياة على امتداد القرى والنجوع، وأساليب الحكم في الدول
والمقاطعات.
لم يسلك
الإسلام هذا السبيل؛ فلم يوجه محمد e في بدء دعوته سكان مكة إلى نبذ ما هم عليه
من مظاهر سلبية من ناحية العقيدة أو من ناحية السلوك؛ إذ جاءت الآيات الأولى من
الوحي بعيدة كل البعد عن هذا المنهج المعروف
والمتبع في التاريخ الإنساني، بل اتجه إلى أسلوب لم تعرفه البشرية من قبل؛
لأنه من العليم الحكيم، أتجه إلى الإشارة إلى محو الأمية الأبجدية ، فنزلت الآيات
الأولى تعالج هذه الأمية، فقال تعالى: ﱡﭐ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﱠ [العلق: ١ – ٥]
فمحو
الأمية الأبجدية هي مفتاح إلى محو كل أنواعها وتصحيح كل مسالكها، وتقويك كل اعوجاج
في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء كان ذلك في السلوك، أو كان في مجال تصحيح
العقيدة، أو في إطار تمهيد الطريق للنهوض في مجالات الحياة المختلفة: مادية، او
روحية، أو كانت متعلقة بالإنجاز الحضاري، أيًّا كان نوعه ومضمونه، وعلى أي مبادئ
يرتكز، ومن أي منبع ينطلق. ويعبر عن ذلك كله المستوى الثقافي لصانعي الحضارة، أي
أن الثقافة تؤثر في السلوك، وتوجه مسيرة الحياة، وتعبر عن درجة السمو الإنساني؛ إذ
كلما ارتفع المستوى الثقافي لأفراد المجتمع، أثر ذلك في جميع مناحي الحياة، فتطبع
أحوالها بطابعها، وتعبر عن درجاتها في الرقي والتحضر.
قد
يقال: إن محو الأمية الهجائية شرط، أو أصل لمحو الأمية الثقافية غير صحيح؛ لأننا
نرى أفراداً لا يقرؤون ولا يكتبون يتمتعون بدرجة ثقافية لا بأس بها، وخاصة في مجال
عملهم!!!!
هذه
ظاهرة موجودة على امتداد التاريخ وتعدد المهن، واختلاف المراكز الاجتماعية....
ولكن!!! من أي مصدر استقى هؤلاء معلوماتهم، ومن أي منبع تلقوا هذه المعلومات، على
اختلاف درجاتها وتنوع عناصرها؟ وكيف تكونت عن هذا "المثقف" (الأميّ
هجائيًّا) هذه الصور الفكرية التي محت أميته المهنية، أو على الأقل ساعدته على
تحسين سلوكه، والإبداع والابتكار في مهنته؟؟؟؟
مصدر
هذه الصور الفكرية أساساً من البيئة؛ فالإنسان يولد صفحة بيضاء، لم يرسم فيها خط،
ولم يسطر فيها كلمة، ثم تبدأ الخطوط تتوالى عليه مما حوله، وتسطر المعلومات من
الأحداث التي تجري أمامه، فتنقلها حواسه إلى داخل جهاز الرصد الذي خلقه الله فيه،
ومن أولى المصادر التي تمده بما يحتاج إليه في هذا المجال: أبواه، فهما أول من تقع
عليه حواسه المستقبلة، فتتلقف قواه الذهنية كل ما يصل إليه وتعيه، وتحتفظ به
لتخرجه فيما بعد في صور سلوك وألفاظ تنبئ عن طبيعة ما تلقاه، فإن كان طيباً كان
سلوكه طيباً، وأخلاقه حسنة، وألفاظه مهذبة، وتعامله مع الآخرين راقياً، ثم هناك
بعد ذلك مصادر أخرى متعددة يحتك بها (في بيئته) في مراحل حياته، ويتلقى منها
معلوماته، التي يستخدمها فيما يمارسه من أعمال في حياته، وهي التي تكون معلوماته
الثقافية.
تكونت
هذه المعلومات في البيئة من حصيلة كتابة الأفراد السابقين، وعليه فالثقافة يعود
مصدرها إلى تحصيل الأفكار عن طريق الكتابة؛ فمحو الأمية الثقافية يرتكز على محو
الأمية الأبجدية؛ إذ هي الخطوة الأولى في مسيرة البناء الثقافي، والأساس الأول
للصرح الحضاري لأي أُمّة، فمن يريد التقدم والرقي لأي شعب فليبدأ بالتعلم، وأساس
التعليم ومنطلقاته محو الأميّة الأبجدية، فمبادئ أي نهضة تقوم أولاً على تعليم الأفراد
القراءة والكتابة؛ لأنها آلية تحصيل المعلومات التي تُكَوِّن صرح الحضارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق