O
الأفكار
إنتاجاً وتوجبهاً
أ.
د/ محمد شامة
الإنسان محور الأفكار منذ بدء الخليقة حتى الآن، سواء كانت إبداعاً أو
تلقيناً، فهدفها الأساسي تطويع الظاهر المادية لينتفع بها في حياته، أو تحصينه ضد
كل ما يؤذيه او يدمر حياته، وتلقينه المبادئ التي يجب أن يعتنقها لتسهيل ذلك عليه،
وتعليمه الأساليب التي يجب عليه استخدامها ليعيش آمناً من تقلبات الدهر، ومحصناً
ضد الأفكار الهدامة له، والمسببة لشقائه في مسيرة حياته.
اختلفت هذه الأفكار في مضامينها وأهافها باختلاف العصور، وتنوعت صيغها
بتنوع درجة الحضارة الإنسانية: مادية كانت أو روحية، وتعددت أطرافها بتعدد مواقف
هذه الأطراف وقدرتها الذهنية ومدى ما لديها من معلومات عن طبيعة ما حولها، ومن
حولها؛ فلم يكن في العصور الأولى سوى طرفان: الطبيعة والإنسان، إذ كان الإنسان
يتوصل إلى طبيعة ما حوله من ظواهر عن طريق تجربته الشخصية، وتعامله المباشر مع هذه
الظواهر، فلم يكن هناك آنذاك طرف ثالث، فالطبيعة هي المصدر، والإنسان هو المتلقي
والمدرك لما في الطبيعة من معانٍ يمكن أن يستخدمها في حياته.
وعندما عجز الإنسان عن تفسير بعض الظواهر المحيطة به، ظهر الطرف الثالث في
عملية إنتاج الفكر الإنساني؛ إذ ادَّعى فريق من الناس معرفة ما عجزت عن تفسيره
القوى الفكرية لعامة الناس، فادعوا أنهم قادرون على فك رموز الطبيعة، وبيان
أسرارها وذلك عن طريق ممارسة ما أُطْلِق عليه السحر، فالسحرة مارسوا وظيفة
توصيل الأفكار المتعلقة بالمحيط الإنساني إلى عامة الناس، فاستولوا بذلك على عواطف
العامة، وتحكموا في سلوكهم بما ظهر على أيديهم من أعمال عجز الآخرون عن الإتيان
بمثلها، فاستولوا على عواطفهم وملكوا زمام سلوكهم ، فانقادوا لهم دون أدنى اعتراض،
وبذلك صارت أطراف إنتاج الفكر وصياغته وإصداره للآخرين ثلاثة: الطبية والسحرة
وجمهور الناس المتلقين لهذه الأفكار وسلوكهم طبقاً لمضمونها وتوجيهها.
شارك في عملية تحديد الفكر وتوجيهه طائفة أخرى أُطْلِق عليها لقب: "الكهنة"،
وكان تأثيرها على العامة يفوق تأثير السحرة، فعلى الرغم من أن السحرة يأتون من
الأعمال ما يبهر الناس ويقودهم دون تفكير، إلا أن تأثير الكهنة غاقهم في ذلك؛
لأنهم يتكلمون نيابة عن فوة خارقة لها الأثر الأسمى في سلوك الناس، الا وهي: قوة
الآلهة الذين يتصرفون في أقدار الناس دون مقاومة تذكر، ويتحدث أولئك –إدِّعاءً-بصفتهم
نواباً عن الآلهة على الأرض؛ فكلامهم لا يعترض عليه أحد، يسلم الناس بما يقولون
دون اعتراض، ما يأمرون به دون مقاومة؛ فهم يخبرونهم عما عن ما يحدث لهم بعد الموت من
عقاب من يخالفهم، وثواب من يطيعهم، وبذلك أصبح مصدر الأفكار ثلاثة: الطبيعة،
والسحرة، والكهنة، غير أن هذه الطائفة (الكهان) ، وإن كان مصدر أفكارهم مقدسة لا
يعتريها الشك أو البطلان، إلا أنهم أضافوا إيها –بمرور الزمن- بعضاً مما يدعيه
السحرة من ترهات وخرافات وأحجية، حتى كادت
الأفكار المقدسة تتسم كلية بما يشيعه السحرة، ويدعو إليه المنجمون، ويزينه بثوب الدين
الغارقون في خضم الخرافات والأساطير. ولولا أن الله تكفل بإرسال الرسل ليصححوا
مسار الأفكار وليُقَوِّموا المعوج في سير وسلوك الناس لطغت أفكار السحرة والمنجمين
والغارقين في ترهات الأساطير والشعوذة على حياة الناس وقادت سلوكهم وعاداتهم إلى
بحر من الظلمات لا قرار له، ومسالك مظلمة تحجب كل ما من شأنه أن يهدي الناس إلى
الطريق المستقيم ويحميهم من الوقوع في ظلمات بعضها فوق بعض يستحيل على العقل
الخلاص منها، ويتعذر عليه رؤية الطريق المستقيم الذي يهدي الناس إلى سلوك الهدى
والرشاد.
انحصرت مهمة الكهنة (= رجال الدين والمتخصصين في الدراسات الدينية في تلقي
تعاليم الأنبياء (والمصلحين في المجال الديني) وحفظها وتعليمها للناس، غير أنهم –بمرور
الزمن-قاموا بتدجينها بأفكار السحرة وترهات المشعوذين، ظنًّا منهم أنهم بذلك
يجذبون العامة إلى دعوتهم ويستولون على عواطفهم، إلا أنهم بذلك كانوا يطمسون
التعاليم الشرعية والوصايا الدينية التي بلغها الرسل لأقوامهم، فكلما وصل الوضع
إلى طمسها وضياعها وسط أساطير وخرافات ، كانت عناية الله بالبشرية تقضي بإرسال
رسول ليصفي التعاليم الإلهية مما علق بها من خرافات وأساطير. وظل هذا التداع بين
بين الرسالة الإلهية والخرافات والأساطير حتى أرسل الله رسوله محمداً e بالرسالة الخاتمة فحفظها من الخلط بينها وبين تهاويل المشعوذين وترهات
الشياطين وذلك بحفظه نصوص الوحي (القرآن الكريم) من دخائل السحرة، وألاعيب
المبتدعين، زد على ذلك أن القرآن الكريم رسم للمسلمين ألتواصل بين الدعاة
والمدعوين، فقال تعالى: ﭐﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮﱠ
[النحل: ١٢٥] ، هذه
مناهج ثلاثة (الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن) ذكرها الله بسبب
التفاوت الثقافي، والبيئي، والزمني. تنوع الأدلة بسبب نوعية المدعوين وتعدد أساليب
معارضتهم للدعوة، إذ أن الحكمة تقتضي استخدام الأدلة العقلية مع غير المسلمين.
والموعظة الحسنة تقتضي مخاطبة النفس علم النفس والأخلاق والاجتماع. المجادلة التي
هي أحسن: تكون مع المعاندين والمشككين بأسلوب عقلي مع الاستعانة بالفلسفة والمنطق
وعلم النفس.
كذلك كانت –ولا زالت-وسيلة انتقال الأفكار (تعاليم الإسلام
وبيان الأحكام الشرعية...و...و..إلخ) المواجهة المباشرة بين الداعية ومن يدعوهم،
وذلك بإلقاء المحاضرات والدروس في مكان معين (المساجد مثلاً).ثم تطورت بابتكار صور
أخرى مثل: المذياع والتليفزيون، ثم أخيراً وسائل الأخرى المتعددة في آلاتها وطرق
انتقال المعلومة من الرسل إلى المتلقي، فلعبت هذه الوسائل دوراً كبيراً في نقل
الأفكار إلى جمهور عريض من المتلقين مما أفاد ذلك الدعاة إفادة كبيرة، غير أنه
تسبب في ضرر كبير على نقاء الفكر الإسلامي؛ إذ فتح الباب للمدعين لنشر أفكار أساءت
إليه ، بل أساءت إلى الدين؛ حيث اختلطت الخرافات والأساطير بالمبادئ الإسلامية فحجبت
صفاء الشريعة، وطمست نقاءها، فألقى على المتخصصين عبئًا كبيراً؛ إذ لم تقتصر
مهمتهم على بيان التعاليم الدينية وشرح الأحكام الإسلامية فقط، بل ألقى على عاتقهم
محاربة هؤلاء المدَّعين والتصدي لأفكارهم المريضة، ودعواتهم الخرقاء التي أشاعتها
بين جمهور المسلمين، بل وحجبت نور الإسلام عن غير المسلمين.
قد يقال: لم يخل هصر من عصور التاريخ الإسلامي من وجود
أمثال هذه الطائفة، بل وُجِدَت في كل عصر من عصور التاريخ الإسلامي في كثير من
المدن والأقطار الإسلامية، فما الجديد؟
كان تأثير هذه الطائفة في الماضي بالمحيط الذي يعيش فيه
أفرادها، بل أحياناً لا يتعدى منطقة صغيرة من المدن التي يقيمون فيها، فتأثيرها كان
محدوداً، أما اليوم فوسائل الاتصال الحديثة تحمل آراءهم إلى كل أطراف الدنيا، ولذا
فانتشار أفكارهم يصل إلى القاصي والداني، مما جعل ما يعون إليه يؤثر على واسع من
الأقطار الإسلامية ويتلقاها غير المسلمين فيؤثر سلباً على موقفهم من الإسلام. زد
على ذلك أن القائمين على هذه الوسائل (سعياً للكسب المادي) يفسحون المجال لهم لأن
طريقتهم في الإلقاء مع ما يعرضونه من خرافات وأساطير تجلب كثيراً من المستمعين
إليهم، فتزداد الإعلانات، بخلاف الوضع مع المتخصصين، حيث يكون عرضهم للمعلومات
الدينين عارياً من تشويق الخرافات والأساطير التي يلجأ إليها الدخلاء على الفكر
الإسلامي للتغطية على فقرهم الفكري في المجال الإسلامي.
ترحب معظم (إن لم يكن كل) وسائل الإعلام باستضافة هؤلاء
المدعين، لأن أفكارهم المثيرة تجلب لها الإعلانات التي تدر عليها كثيراً من
الأموال، على العكس مع المتخصصين؛ لأنهم يخاطبون العقل وأربابه قليلون، أما
الخرافات والأساطير تش العامة وهم كُثْر، فلا فائدة مالية تعود على القناة من
استضافة المتخصصين.
وينتج عن هذا التصرف محو كل ما يقوله الداعية المتخصص؛ لأن
الصورة لأن الصورة لها أثر كبير على وعي الناس. وليس هذا هو الأثر السيء فقط من
هذه الشاشة، بل هناك الكثير من السيئات تدخل عقل المشاهد فتؤثر سلباً على سلوكه،
وسأذكر شيئين فقط من هذه البرامج التي تؤثر على السلوك العام:
1.
التدخين، فقد بُحَّ صوت الداعين إلى الإقلاع عن هذه العادة
السيئة المضرة ضرراً بالغاً على الصحة، لكن هذه الشاشة تعرض كثيراً من الصور –
وخاصة صور الممثلين-تبين أصحابها وهم يدخنون بشراهة، مما أضاع كل ما يقال عن
التدخين وبيان أضراره.
2.
كثيراً ما تعلن هذه الشاشة موعد بدء البرنامج، ولكنها لا
تلتزم بهذا الميعاد، بل تتأخر كثيراً مما يوحى للمشاهد في ذاكرته بأنه ليس عليه
بأس إذا لم يلتزم بالمواعيد. ومراعاة المواعيد المقررة من أهم العادات التي يلتزم
بها المتحضرون.
وهناك الكثير من الأمور التي تغرس
في وعي المشاهد سلوكاً غير متحضر، الأمر الذي يحكم على من يسلك هذا السلوك بأنه
بعيد جدًّا عن التحضر، وأنه لازال يعتنق أفكار البدائيين ويمارس سلوكهم.
أ. د/ محمد شامة