P
مـقـدمــــــة
تميل الكائنات الحية – فى الغالب الأعم – إلى العيش فى تجمعات بنى جنسها ، حيث تحس بالأمن والأمان ، وتشعر بالسكينة والاستقرار ، ويتغلب الكائن الحى على خوفه بين أفراد جنسه ، ويسيطر على مصادر القلق على نفسه من المخاطر المحيطة به وسط أفراد نوعه ، فهم يمدونه بالقوة اللازمة لمقاومة عوامل الفناء من حوله ، ومصارعة ما - ومن - يحاول اعتراض طريق حياته ، ولهذا يشعر الفرد بأن وجوده مرتبط بوجود جماعته ، وحياته متوقفة على هيكل وشكل المجتمع الذى هو فرد منه ، فإن كان قوياًّ أحس بالزهو والافتخار ، وازداد شعوره بالأمن والاطمئنان . أما إذا كان مجتمعه ضعيفاً سرى الضعف فى أوصاله ، وتغلغل الخوف فى ثناياه ، وبين ضلوعه وأجفانه ، ولهذا مال كل كائن حى – غريزياًّ – إلى الدفاع عن جماعته ، حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بحياته ، لأنه يدرك أن لا وجود له ، إذا تلاشت هذه الجماعة ، أو وصل ضعفها إلى درجة لا تمكنها من الذود عن حياة الأفراد ، وتأمين الحماية لهم . ومن هنا تنازل الفرد عن بعض ما يحتاج إليه فى سبيل تقوية الجماعة ، فيخضع لكل ما من شأنه أن يدعمها ، حتى ولو أدى ذلك إلى حرمانه مما هو أساسى فى حياته .
وكلما ارتقى الكائن الحى فى سلم التطور النوعى ، كلما زاد شعوره بأهمية قوة
الجماعة وتمسكها فى حياته ، واشتد إحساسه بالانتماء إليها فى سلوكه ، وقوى ارتباطه
بها فى ميوله ، بحيث يصبح الشعور بوجوده غير منفك عن وجود جماعته ، فيمتزج الكل فى
وحدة يزيدها هذا الشعور تماسكاً ، وقوة ، وصلابة . بل إن التطور النوعى يضيف إلى
هذا الشعور الغريزى اقتناعاً عقلياًّ بأهمية المجتمع وقوته فى حياة الفرد . ومما
لاشك فيه أن العقل يلعب دوراً كبيراً وهاماًّ فى إقناع الفرد بالرضوخ لقانون
الحياة الجماعية ، ويهيئه نفسيًّا لتقبل ما يتعارف عليه المجموع من قوانين
وإجراءات ، حتى ولو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض حرياته ، وترك بعض ما تميل إليه
نفسه للاستمتاع بملذات الحياة وطيِّباتها
.
ولا يوجد نوع وصل فى رتبته العقلية ، وتطوره الفكرى درجة تمكنه من إدراك ما
للجماعة من أهمية فى حياة الفرد ، مثل ما وصل إليه الإنسان ، فقد استطاع بعقله أن
يميز بين إيجابيات الحياة الجماعية ، وسلبيات الحياة الفردية ، فآمن بوجود الجماعة
، بل عمل على تقويتها وتعزيزها بسلسلة من الإجراءات والقوانين التى تلزم الفرد
بالتنازل عن بعض رغباته فى سبيل المجافظة على حياة الجماعة ، وتقويتها ، والدفاع
عنها ، ومقاومة كل ما من شأنه أن
يضعفها ، أو يهددها بالانهيار والتلاشى، وقد أطلق الاجتماعيون على هذا النوع من
الالتزام : "العقد الاجتماعى" ، أى أن ما يتعارف عليه الأفراد من لوائح
ترسم شكل حياة الجماعة ، ونظم تبين هويتها ، وقوانين تضبط مسيرتها ، يعتبر بمثابة
العقد الذى ينبغى على كل أفراد الجماعة الالتزام به ، فمن يخرج عليها ، يعاقب
طبقاً للقوانين المتفق عليها . ومن يسلك سلوكاً يكون فيه تهديد لكيان المجتمع،
يقع تحت طائلة عقاب قد يصل إلى حد بتره ، إن لم يكن هناك وسيلة أخرى لإصلاحه ،
وحماية المجتمع من شروره وعدوانه.
غير أن درجة التفاعل مع هذا القوانين والنظم ، ومدى الخضوع لها تختلف
باختلاف مصدرها ، وتلاؤمها للتطبيق دون تفريط أو إفراط ، وعلاقة الإنسان بها ،
ودرجة ارتباطه روحيًّا بوجوب تنفيذها :
- فإذا كانت
طائفية تميز عرقاً عن آخر ، و ترفع طبقة على أخرى ، وتفضل ذوى الأحساب والأنساب ،
وتلبى مطالب أصحاب الجاه والسلطان ....و....و....الخ ، تحايل المظلومون للخلاص
منها ، وسلك المنبوذون مسالك شتى للتحرر من سلطانها .
- ولو وضعت على
نحو لا يشبع غرائز الإنسان الطبيعية ، ولا يلبى حاجاتهم الضرورية ... و....و.....الخ
، تمرد الناس عليها ، وأعلنوا معارضتهم لها ، وجهروا بعصيانها ، ومخالفة ما تنطق به بنودها وتشريعاتها .
- أما إذا أفرطت
فى العقاب ..... ثار المكتوون بنارها ، فاقتلعوا ما فى طريقهم من معالم الحضارة
والمدنية ، واعتدوا على جلاديهم بكل سلاح يقع فى أيديهم ، بل قد تصل ثورتهم إلى
إزهاق أرواح ، لا ذنب لها ولا جريرة فى مسلسل الاضطهاد ، وسيناريو التعذيب
والتنكيل بالضعفاء والمظلومين .
ولا يختلف الوضع عندما يدفع الحرمان ضحاياه إلى التمرد على قانون يحمى
المستغلين وأصحاب المال ، فلا يُلْزِمهم بحقوق تجاه مجتمعهم ، ولا يجبرهم على
تأدية ما عليهم لبنى وطنهم .
فلو فرضنا – جدلاً – أن بعض المجتمعات قد تمكنت من وضع قانون ملائم لطبيعة
الإنسان البشرية ، دون إفراط أو تفريط ، فليس فيه تمييز طبقة على أخرى ، ولا تفضيل
جنس على آخر ، كما أنه لا يسمح باستغلال طاقات الأمة استغلالاً محرماً ، ولا يترك
فرداً يستنزف جهود أبناء الوطن بطرق غير مشروعة ، دون الوقوف فى وجهه ، والتصدى له
ومعاقبته بعقوبة تزجره ، وتردع غيره عن التفكير فى سلوك هذا الطريق ، فإن مثل هذا
القانون - وإن كان فيه العديد من العناصر الإيجابية لسلامة البنية الاجتماعية - ينقصه
عنصر هام جداً ، بل إنه يكاد يكون العنصر الرئيسى فى الإصلاح والتقويم ، ألا وهو
الاقتناع الداخلى لدى الإنسان بوجوب الالتزام به ، وتنفيذه ، حتى وإن كان بعيداً
عن أعين الرقباء . ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت هناك علاقة روحية بين المشرِّع
والمشرَّع له ؛ إذ يدفعه هذا الارتباط الروحى إلى المحافظة على مواد القانون ، و
التفانى فى التمسك به ، والتضحية فى سبيل تطبيقه ، فضلاً عن الدفاع عن شرعيته بكل
ما أوتى من قوة . وفى هذه الحالة يخفف العبء عن المعينين للرقابة ، فلا يبذلون
جهداً فى حفظ الأمن والاستقرار إلا مع فئة قليلة ، خبت فيها الروح ، وقد تضيق
دائرتها ، فيقل عدد المخالفين خوفاً من توقيع العقاب عليهم .
وعلى الرغم من اقتناع بعض الباحثين بأن الثقافة ، ودرجة التحضر ، كفيلان
بخلق هذه العلاقة بين الفرد والقانون ، إذ أن الإنسان المثقف أكثر الناس حرصاً على
الالتزام باللوائح والنظم والقوانين ، وكلما ارتقت درجته فى سلم الحضارة ، كان
حرصه على هذا الالتزام أكثر ، حتى يصبح جزءًا من طبيعته وميوله ، إلا أن ما تغرسه
الروح الدينية فى هذا الجانب أكثر عمقاً من أى ثقافة ، مهما كانت نوعيتها وحجمها ،
وأشد صلابة من أعلى درجات الرقى والحضارة ، وإن ارتفعت بالإنسان إلى عالم المثل ،
وأحاطته بطبقات من الأخلاق والفضائل ؛ ذلك أن الشعور الدينى يتغلغل فى الإحساس ،
ويختلط بالشعور ، ويمتزج بالدم فى العروق والشعيرات ، بحيث لا يتصرف الإنسان إلا
طبقاً لإحساسه ، ولا يسلك مسلكاً يتنافى مع شعوره ، فلو كان ما يطلب منه الالتزام
به فى سلوكه مع نفسه ، وفى مجتمعه مع من يعيشون معه ، ملبيًّا لهذا الشعور ، وغير
متنافر معه ، اتحد الطرفان ، فأصبح القانون جزءاً من كيانه ، فلا يحس إلا طبقاً
لمبادئه ، ولا يتصرف إلا استجابة لأوامره
ونواهيه ، بحيث لا يخرج عنه إلا فى لحظات الغفلة ، وأوقات النسيان ، لكن
سرعان ما يصحو ويتذكر ، فيعود إلى سلوكه الطبيعى الذى هو صدى لما يأمر به القانون
، وينهى عنه .
ولا يوجد فى المجتمعات البشرية ما يتميز بهذه الخصائص سوى القانون الدينى ،
فتعاليم الدين تحتل مكان القداسة فى نفس الإنسان – سواء كان ذلك عن رغبة فى الثواب ، أو رهبة من العقاب – فلا يجرؤ على
مخالفتها ، وليس لديه الشجاعة لمعارضتها ، فهو منقاد لها ، منفذ ما تطلبه من أوامر
، ومجتنب ما تنهى عنه ، بوازع داخلى ، دون الحاجة إلى إجبار من أمير أو خفير ، ومن
غير أن يدفعه إلى ذلك سطوة سلطان ، أو
سلاح فرسان ، فهو منقاد لها بطبيعته ،
لأنها امتزجت بحواسه ، وهو سائر فى الطريق التى رسمتها له استجابة لمشاعره
المختلطة بها ، فلا يحيد عنها لأن طبعه يأبى ذلك ، ولا يخالفها ، لأن مخالفتها
تمزقه داخليًّا ، فيحس بالضياع والهوان .
ولهذا نرى المجتمعات التى تطبق تعاليم دينها فى حياتها من أكثر المجتمعات البشرية انضباطاً ، وأقومها
أخلاقاً ، تقل فيها نسبة الجريمة إلى حد كبير ، ويشعر الفرد فيها باطمئنان النفس ،
وراحة الضمير ، وهدوء الأعصاب ، وانسجام فى العلاقات الإنسانية ، فإذا كانت تعاليم
الدين صافية غير مختلطة بترهات الكهان ، وحماقات ضعاف العقول والنفوس ، وضلالات
المنحرفين والمتطرفين ، فإن ما تنطق به نصوصه من قوانين يعتبر الأساس الصحيح
لتنظيم قواعد سليمة ، تصلح لحماية الأمة من عوامل الضعف والانحلال ، وتحافظ على
كيانها ، فلا تتسرب إليها جرثومة تنخر عظامها ، ولا يعكر صفو أفرادها أى نوع من
الآفات التى تصاب بها الأمم ، عندما تضل طريقها ، أو تفقد هويتها .
ولا يتحقق ذلك إلا فى الإسلام ، فقد كتب الله
لنصوصه الحفظ من
الضياع ، فصانها من أيدى العابثين ، يقول تعالى : ] إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [الحجر : 9] ، فالقرآن الكريم وحى الله الذى لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه ، فيجب أن يكون مصدر القوانين التى تضبط النظام فى المجتمع ،
وتُقَوِّم سلوك الإنسان ، وتهذب أخلاقه ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر معاند ، ضاعت الحقيقة
من قلبه ، فأغمض عينيه بحيث لم يعد يرى أن للقرآن الكريم سلطاناً على النفوس ، فلا
يستطيع المسلم منه فكاكاً ، وأن فى تعاليمه كل المقومات والعناصر التى ينشدها
الأفراد فى حياتهم :
- عدالة : لا تعرف
الانحياز لطائفة ضد أخرى ، وتأبى تفضيل جنس على آخر على أساس دم ، أو عرق ، أو نسب .
- انسجام مع طبيعة الإنسان : فليس فى
تعاليمه ما يكبت غريزة ، أو يقضى على عنصر أساسى فى حياة الناس .
- سهولة ويسر : فلا شطط ، ولا
تعنت ، يقول تعالى : ]وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج : 78]، ويقول : ]لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة : 286]
- تقبل نفسى
: إذ لا يجد المرء غضاضة فى الخضوع لها ، فهى من الله الذى يرضى الإنسان بسلطانه ،
ويتقبل أوامره بصدر رحب ، ويتجنب نواهيه بارتياح ، بخلاف ما لو كان من صنع بشر ، الأمر
الذى يورث التمرد عليه ، لمجرد شعوره بأنه من إنسان مثله ، فلا تقبل نفسه الخضوع
له إلا مرغمة ، ولا تنفذ ما يأمر به إلا
كارهة .
فإن ادعى بعض
الناس أن تطبيق الشريعة الإسلامية :
- رجوع بالمجتمع
إلى عصور القرون الوسطى ، لأنها صيغت لتلائم تلك الحياة الأولى ....
- وتطويع للحياة المعاصرة لتعاليم لم تعد صالحة لمتطلبات العصر ، فهى عاجزة
عن مواكبة سرعة الخطى فى طريق التقدم والرقى ، وتلبية احتياجات إنسان القرن
العشرين ....
فهو لم بفهم طبيعة التشريع الإسلامى ، ولم يدرك فلسفته وأهدافه ؛ إذ أن
للتشريع الإسلامى محوراً يدور حوله ، ويرتكز عليه ، ألا وهو الإنسان !!! إذ يركز
على تقويمه ، وتهذيبه ، وإصلاح سلوكه . ومما لاشك فيه أن طبيعة الإنسان لا تتغير
بتغير الزمان والمكان ، فالأنانية التى
تسيطر على بعض أفراد من البشر لا تختلف اليوم عما كانت عليه فى الماضى ، وإن
اختلفت أساليب إشباعها .... وميله إلى الاعتداء على ما فى يد الغير لا يغير جوهره ومضمونه تقدم ورقى وحضارة ، وإن حُوِّرَت
وطُوِّرَت أساليب ووسائل هذا الاعتداء ... وكذلك الشأن فى كل غرائزه ؛ لا تبدلها
العصور ، وإن لونت مظهرها الخارجى ، ولا يغير التحضر كنهها ، وإن عدل فيه ، فغير
شكله . ولا يمحوها الرقى والتقدم ، بل يحجبها فلا تراها العين المجردة ، وإن كانت
آثارها أكثر وضوحاً منها فى عصور " التخلف والانحطاط " .
ومن هنا فلا
يجوز أن يُرْفَض قانون ، بحجة أنه لم يعد صالحاً للعصر ، ما دام هذا القانون يهدف
إلى إصلاح الإنسان وتهذيبه ، لأن طبيعة الإنسان باقية كما هى ، على الرغم من
اختلاف العصور حضارة وتقدماً ، وتفاوتت مجمعاتها ثقافةَ وتعليماً.
أما ما يدعيه المعارضون من عدم قدرة الشريعة الإسلامية على تلبية متطلبات
العصر، بحجة أن هناك من الظواهر ما يتغير ويتبدل ، وكثير منها جديد كل الجدة - أى
ليس له مثال سابق فى تاريخ المجتمع الإسلامى - بل إن نظام الحياة قائم على التغير
المستمر ، والتطور المطرد ، الأمر الذى يستلزم تغيير القوانين باستمرار ، لتنسجم
مع صور الحياة المتجددة ، ولتلبى احتياجات المجتمع التى تنشأ عن هذا التغير ..
فقد نشأ هذا
الاعتراض بسبب عدم إدراك فلسفة التشريع الإسلامى ، ذلك أن الله أنزل التشريع الإسلامى متطابقاً
مع طبيعة الوجود ، منسجماً مع كل ما يطرأ من
التغيرات ، أو يظهر على سطح الحياة من ظروف متجددة ، ذلك أنه تضمن قواعد
كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور ، وتتمشى مع ما ينبغى أن تكون عليه الحياة من
الاستقرار ، أو تتفق مع الظواهر التى يشترك فيها جميع الأجناس البشرية ، ومع ذلك
فقد تركت التفصيلات والتفريعات لعقل الإنسان ، يستخلصها حسب عصره وبيئته ،
ويستنتجها طبقاً لمتطلبات ظروفه المحيطة به ، بحيث يلبى احتياجات العصر . وفى الوقت
نفسه لا تخرج عن الخط الرئيسى الذى رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع ، أو
كدستور يتخذه الناس قاعدة تشريعية أصلية ، ينبثق منها كل ما يقررونه من قوانين ،
وما يرسمونه لأنفسهم من لوائح ونظم .
فالقضايا الكلية فى الإسلام هى قواعد التشريع الأساسية التى تصلح لكل شعب ، وتلبى احتياجات كل المجموعات البشرية ،
على اختلاف ألوانها وأجناسها ، وتتناسب مع كل عصر وبيئة ؛ إذ يتخذها الجميع أساساً
تُسْتَنتَج منه أحكام لكل القضايا ، وعلاج لكل المشاكل التى تواجه الإنسان
والمجتمعات ، فكانت هذه المبادئ الرئيسية فى التشريع أساساً للاجتهاد فى مجال
الأحكام الشرعية ، الذى بمقتضاه تكونت المذاهب الفقهية ، فزخرت بالأحكام
والتفريعات التى كانت منها فروض مقدرة الحدوث فى الأزمان المستقبلة .
فكان هذا العمل
فى مجال التشريع ، دليلاً على مرونة الفقه الإسلامى ، وصلاحيته لمواجهة الأحداث ،
التى تظهر نتيجة لديناميكية الحركة فى مجالات الحياة المختلفة ، وعنصراً جوهرياًّ
فى مفهوم صلاحية التشريع للتطبيق فى كل العصور ، مهما ارتقى الإنسان فى سلم
الحضارة والمدنية .
ومن أكثر حجج
المعارضين صدى بين الجماهير ، وأبعدها تأثيراً فى موقف المشتغلين بقضايا السياسة
والحكم ، ما يزعمونه من أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يتناسب مع روح العصر ، فلم
تعد تقبله النفس الإنسانية التى تربت فى جو "ليبرالى" ، يكره القسوة فى
العقاب ، ويرفض كل أساليب الوحشية فى مجال التقويم والتهذيب ، فالإنسان المتحضر
يقشعر بدنه ، عندما يسمع أن من صور العقاب
: قطع يد السارق ، ورجم الزانى المحصن حتى الموت ...و ...و ...الخ ، فهو يعارض دائماً وأبداً كل
تشريع يتضمن مثل هذا العقاب القاسى ، حتى ولو كان الإسلام الذى يدين به - عند بعض
المسلمين - ، معللاً هذا الموقف بعلل شتى ، ومبرراً موقفه المعارض لتطبيق الشريعة
الإسلامية - رغم تمسكه بالإسلام عبادةً وأخلاقاً – بمختلف الحجج والبراهين ، ومن
أشهرها : ما يدعيه من أن تطبيق مثل هذه العقوبات سيؤدى إلى زيادة العجزة فى
المجتمع ، مما يزيد فى عبء الدولة ؛ إذ يبدد قواها ، ويشل حركتها ، فتعجز عن
مواكبة التقدم والرقى مع غيرها من الأمم .
اقتنع كثير من
المسلمين – وخاصة خريجو المدارس المدنية – بهذا الاتجاه ، غير أن بعضهم أيده
سلبياًّ ، وعارضه وجدانياًّ . وآخرون ناصروه بكل قوة متاحة لهم ؛ فهم يناصرونه
بالقلم ، إن كانوا على درجة تؤهلهم لذلك ، ويدعمونه بالسلطة والسلطان ، إن ملكوا
زمام الحكم ، ودفة القيادة والتوجيه . ولا يصل إلى هذه الدرجة إلا من أيد وبارك
اتجاه المعارضين ، حتى لو وصل معهم من يؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية ، فسرعان ما
تجرفه الأمواج ، وتحتويه أجنحة هذا الاتجاه
فيُطْوَى تحتها ، وينسى مواقفه الأولى ، إن لم يتحول إلى معارض لما كان
ينادى به قبل الانضمام إلى سدنة الحكم ، وحاشية السلطان .
وينبغى على
هؤلاء المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية - سواء كانت معارضتهم سلباً أو إيجاباً
- أن يعلموا أن الشريعة الإسلامية ليست هى الحدود فقط ، بل هى منهاج لكل جوانب
الحياة الإنسانية ، ولا تمثل الحدود فيها إلا جزءاً ضئيلاً جداً بالنسبة
للمجموع الكلى .
وبناءً عليه
فمعارضة تطبيق الكل بسبب جزئية صغيرة أمر غير مقبول ، ولا يستساغ عقلاً التسليم به
.... أضف إلى ذلك أن ما يبدو من قسوة فى عقوبات الحدود ليس كما يصورها هؤلاء
المعارضون ، إذ ليس فى التشريع الإسلامى ما يحتم قطع يد كل سارق، أو رجم كل من
يتهم بالزنا ، فهناك من الشروط ما يحصر تنفيذ هذه الحدود فى دائرة ضيقة جداً ،
لدرجة أن تطبيقها قد يصبح فى حكم النادر ، أو فى حكم المستحيل ، إذ أن الرجم لا
يكون إلا بالاعتراف ، أو بشهادة أربعة ،
يرون العملية بالتفصيل ، وبأدق مظاهرها ،
ولا أظن أن هذا ممكناً .
كما أنه من الجائز شرعاً تعليق هذه العقوبة ، لو لم تتوفر شروط تنفيذها ،
كما فعل عمر بن الخطاب tحبث لم يطبق عقوبة يد السارق فى عام الرمادة .
فكيف يقال : إن قسوة العقوبة فى الشريعة الإسلامية أمر غير محتمل فى ظل
الحياة المعاصرة ، فى حين أن رسول الله r قال : "ادرءوا
الحدود بالشبهات" ، فأدنى شبهة تسقط الحد !!!! كما يضيق من دائرة تنفيذ
الحدود أيضاً كثرة الآراء الفقهية فى المسألة الواحدة ، مما يجوز للجنة التشريع
القضائى أن تختار من هذه الآراء أقربها إلى روح العصر أساساً للعقوبة ، ومبدأً من
مبادئ القوانين الملزمة للقضاة .
ومن الحقائق المعروفة أن من الفقهاء من تمسك بظاهر النص ، ومنهم من التزم
بروحه بدرجات متفاوتة ، بحيث يجد المتشددون فيها ما يشبع ميولهم ، ولا يفقد
المتساهل ما يدعم اتجاهه فى صياغة قواعد قانونية ، تتفق مع روح العصر ، وفى الوقت
نفسه لا تفقد هويتها الإسلامية .
ومن أجل هذا
كله أردت أن أعرض صورة لآراء الفقهاء فى مجال العقوبات فى التشريع الإسلامى :
- لأبين
للمعارضين أن فى الفقه الإسلامى مجالاً لمتطلبات العصر ، وساحة تستوعب ما لابد منه
فى الحياة المعاصرة ....
- ولأوضح
للمتشددين أن من الفقهاء الموثوق بهم علماً وفهماً ، مَنْ يخالفهم فى هذه الآراء المتشددة ، فلا ينبغى لهم أن يعتبروا أن
ما يرونه صحيحاً هو الإسلام ولا شيء غيره ، بل ينبغى عليهم - إن أرادوا تشدداً -
أن يعرضوا ما يؤيدونه من الآراء على أنه أحد الآراء المطروحة فى ساحة التشريع
الإسلامى .
وكان من الممكن
أن أسلك طريقاً جديداً فى عرض نصوص التشريع الإسلامى لأوضح صلاحيته للتطبيق فى كل
زمان ومكان ، ولكنى عدلت عن ذلك لأمرين :
1. أن لآراء الفقهاء القدامى نوعاً من القداسة عند المسلمين
، مما يجعل لها سلطة فى الإقناع والتسليم
، وهذه ظاهرة مسلم بها عند كل الشعوب ؛ إذ كلما كان الرأى أقدم ، كان أقرب إلى
القبول ، لأنه اجتاز من الزمن فترة أكثر
من غيره ، وكان عمره – ذاته – دليلاً على أنه قد اجتاز هذا الاختبار بنجاح ، إذ لما كانت أجيال متعاقبة من الناس قد وجدته
صحيحاً ، وتقبلته عقلاً وتديناً ، فإن احتمال أن يكون صحيحاً بالفعل أقوى من
احتمال ما لم يمر إلا بفترة اختبار قصيرة ، ومن الممكن أن تعد هذه القاعدة فرعاً
من قاعدة : البقاء للأصلح .
2. أنى وجدت فى التشريع الإسلامى آراءً تناسب العصر ،
فاكتفيت بإبرازها فى أسلوب عصرى ، لتتضح صورة صلاحية التشريع الإسلامى لكل زمان
ومكان فى ذهن المعارضين والمترددين على
السواء ، ومحاولة لإقناع من لا يرى من المتشددين إلا جنباً واحداً ، أن
هناك جوانب أخرى ، وآراء متعددة فى المسألة الواحدة ، فليس من مصلحة الإسلام
التضييق على المسلمين ، حتى لا تكون فتنة ، وليتذكروا قول الله تعالى : ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج : 78]، وقوله : ]لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة : 286]
وفقنا الله
جميعاً إلى ما فيه صلاح أمور الدين والدنيا
أ. د/ محمد شامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق