إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 5 أغسطس 2020

P

مـقـدمــــــة

 كتابنا: الإسلام إصلاح وتهذيب/ عرض وتحليل للحدود والتعزير 

تميل الكائنات الحية – فى الغالب الأعم – إلى العيش فى تجمعات بنى جنسها ، حيث تحس بالأمن والأمان ، وتشعر بالسكينة والاستقرار ، ويتغلب الكائن الحى على خوفه بين أفراد جنسه ، ويسيطر على مصادر القلق على نفسه من المخاطر المحيطة به وسط أفراد نوعه ، فهم يمدونه بالقوة اللازمة لمقاومة عوامل الفناء من حوله ، ومصارعة ما - ومن - يحاول اعتراض طريق حياته ، ولهذا يشعر الفرد بأن وجوده مرتبط بوجود جماعته ، وحياته متوقفة على هيكل وشكل المجتمع الذى هو فرد منه ، فإن كان قوياًّ أحس بالزهو والافتخار ، وازداد شعوره بالأمن والاطمئنان . أما إذا كان مجتمعه ضعيفاً سرى الضعف فى  أوصاله ، وتغلغل الخوف فى ثناياه ، وبين ضلوعه وأجفانه ، ولهذا مال كل كائن حى – غريزياًّ – إلى الدفاع عن جماعته ، حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بحياته ، لأنه يدرك أن لا وجود له ، إذا تلاشت هذه الجماعة ، أو وصل ضعفها إلى درجة لا تمكنها من الذود عن حياة الأفراد ، وتأمين الحماية لهم . ومن هنا تنازل الفرد عن بعض ما يحتاج إليه فى سبيل تقوية الجماعة ، فيخضع لكل ما من شأنه أن يدعمها ، حتى ولو أدى ذلك إلى حرمانه مما هو أساسى فى حياته .

وكلما ارتقى الكائن الحى فى سلم التطور النوعى ، كلما زاد شعوره بأهمية قوة الجماعة وتمسكها فى حياته ، واشتد إحساسه بالانتماء إليها فى سلوكه ، وقوى ارتباطه بها فى ميوله ، بحيث يصبح الشعور بوجوده غير منفك عن وجود جماعته ، فيمتزج الكل فى وحدة يزيدها هذا الشعور تماسكاً ، وقوة ، وصلابة . بل إن التطور النوعى يضيف إلى هذا الشعور الغريزى اقتناعاً عقلياًّ بأهمية المجتمع وقوته فى حياة الفرد . ومما لاشك فيه أن العقل يلعب دوراً كبيراً وهاماًّ فى إقناع الفرد بالرضوخ لقانون الحياة الجماعية ، ويهيئه نفسيًّا لتقبل ما يتعارف عليه المجموع من قوانين وإجراءات ، حتى ولو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض حرياته ، وترك بعض ما تميل إليه نفسه للاستمتاع بملذات الحياة  وطيِّباتها .

ولا يوجد نوع وصل فى رتبته العقلية ، وتطوره الفكرى درجة تمكنه من إدراك ما للجماعة من أهمية فى حياة الفرد ، مثل ما وصل إليه الإنسان ، فقد استطاع بعقله أن يميز بين إيجابيات الحياة الجماعية ، وسلبيات الحياة الفردية ، فآمن بوجود الجماعة ، بل عمل على تقويتها وتعزيزها بسلسلة من الإجراءات والقوانين التى تلزم الفرد بالتنازل عن بعض رغباته فى سبيل المجافظة على حياة الجماعة ، وتقويتها ، والدفاع عنها ، ومقاومة كل ما من شأنه أن يضعفها ، أو يهددها بالانهيار والتلاشى، وقد أطلق الاجتماعيون على هذا النوع من الالتزام : "العقد الاجتماعى" ، أى أن ما يتعارف عليه الأفراد من لوائح ترسم شكل حياة الجماعة ، ونظم تبين هويتها ، وقوانين تضبط مسيرتها ، يعتبر بمثابة العقد الذى ينبغى على كل أفراد الجماعة الالتزام به ، فمن يخرج عليها ، يعاقب طبقاً للقوانين المتفق عليها . ومن يسلك سلوكاً يكون فيه تهديد لكيان المجتمع، يقع تحت طائلة عقاب قد يصل إلى حد بتره ، إن لم يكن هناك وسيلة أخرى لإصلاحه ، وحماية المجتمع من شروره وعدوانه.

غير أن درجة التفاعل مع هذا القوانين والنظم ، ومدى الخضوع لها تختلف باختلاف مصدرها ، وتلاؤمها للتطبيق دون تفريط أو إفراط ، وعلاقة الإنسان بها ، ودرجة ارتباطه روحيًّا بوجوب تنفيذها :

-   فإذا كانت طائفية تميز عرقاً عن آخر ، و ترفع طبقة على أخرى ، وتفضل ذوى الأحساب والأنساب ، وتلبى مطالب أصحاب الجاه والسلطان ....و....و....الخ ، تحايل المظلومون للخلاص منها ، وسلك المنبوذون مسالك شتى للتحرر من سلطانها .

-   ولو وضعت على نحو لا يشبع غرائز الإنسان الطبيعية ، ولا يلبى حاجاتهم الضرورية ... و....و.....الخ ، تمرد الناس عليها ، وأعلنوا معارضتهم لها ، وجهروا بعصيانها ، ومخالفة  ما تنطق به بنودها وتشريعاتها .

-   أما إذا أفرطت فى العقاب ..... ثار المكتوون بنارها ، فاقتلعوا ما فى طريقهم من معالم الحضارة والمدنية ، واعتدوا على جلاديهم بكل سلاح يقع فى أيديهم ، بل قد تصل ثورتهم إلى إزهاق أرواح ، لا ذنب لها ولا جريرة فى مسلسل الاضطهاد ، وسيناريو التعذيب والتنكيل بالضعفاء والمظلومين .

ولا يختلف الوضع عندما يدفع الحرمان ضحاياه إلى التمرد على قانون يحمى المستغلين وأصحاب المال ، فلا يُلْزِمهم بحقوق تجاه مجتمعهم ، ولا يجبرهم على تأدية ما عليهم لبنى وطنهم .

فلو فرضنا – جدلاً – أن بعض المجتمعات قد تمكنت من وضع قانون ملائم لطبيعة الإنسان البشرية ، دون إفراط أو تفريط ، فليس فيه تمييز طبقة على أخرى ، ولا تفضيل جنس على آخر ، كما أنه لا يسمح باستغلال طاقات الأمة استغلالاً محرماً ، ولا يترك فرداً يستنزف جهود أبناء الوطن بطرق غير مشروعة ، دون الوقوف فى وجهه ، والتصدى له ومعاقبته بعقوبة تزجره ، وتردع غيره عن التفكير فى سلوك هذا الطريق ، فإن مثل هذا القانون - وإن كان فيه العديد من العناصر الإيجابية لسلامة البنية الاجتماعية - ينقصه عنصر هام جداً ، بل إنه يكاد يكون العنصر الرئيسى فى الإصلاح والتقويم ، ألا وهو الاقتناع الداخلى لدى الإنسان بوجوب الالتزام به ، وتنفيذه ، حتى وإن كان بعيداً عن أعين الرقباء . ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت هناك علاقة روحية بين المشرِّع والمشرَّع له ؛ إذ يدفعه هذا الارتباط الروحى إلى المحافظة على مواد القانون ، و التفانى فى التمسك به ، والتضحية فى سبيل تطبيقه ، فضلاً عن الدفاع عن شرعيته بكل ما أوتى من قوة . وفى هذه الحالة يخفف العبء عن المعينين للرقابة ، فلا يبذلون جهداً فى حفظ الأمن والاستقرار إلا مع فئة قليلة ، خبت فيها الروح ، وقد تضيق دائرتها ، فيقل عدد المخالفين خوفاً من توقيع العقاب عليهم .

وعلى الرغم من اقتناع بعض الباحثين بأن الثقافة ، ودرجة التحضر ، كفيلان بخلق هذه العلاقة بين الفرد والقانون ، إذ أن الإنسان المثقف أكثر الناس حرصاً على الالتزام باللوائح والنظم والقوانين ، وكلما ارتقت درجته فى سلم الحضارة ، كان حرصه على هذا الالتزام أكثر ، حتى يصبح جزءًا من طبيعته وميوله ، إلا أن ما تغرسه الروح الدينية فى هذا الجانب أكثر عمقاً من أى ثقافة ، مهما كانت نوعيتها وحجمها ، وأشد صلابة من أعلى درجات الرقى والحضارة ، وإن ارتفعت بالإنسان إلى عالم المثل ، وأحاطته بطبقات من الأخلاق والفضائل ؛ ذلك أن الشعور الدينى يتغلغل فى الإحساس ، ويختلط بالشعور ، ويمتزج بالدم فى العروق والشعيرات ، بحيث لا يتصرف الإنسان إلا طبقاً لإحساسه ، ولا يسلك مسلكاً يتنافى مع شعوره ، فلو كان ما يطلب منه الالتزام به فى سلوكه مع نفسه ، وفى مجتمعه مع من يعيشون معه ، ملبيًّا لهذا الشعور ، وغير متنافر معه ، اتحد الطرفان ، فأصبح القانون جزءاً من كيانه ، فلا يحس إلا طبقاً لمبادئه ، ولا يتصرف إلا استجابة لأوامره  ونواهيه ، بحيث لا يخرج عنه إلا فى لحظات الغفلة ، وأوقات النسيان ، لكن سرعان ما يصحو ويتذكر ، فيعود إلى سلوكه الطبيعى الذى هو صدى لما يأمر به القانون ، وينهى عنه .

ولا يوجد فى المجتمعات البشرية ما يتميز بهذه الخصائص سوى القانون الدينى ، فتعاليم الدين تحتل مكان القداسة فى نفس الإنسان – سواء كان ذلك عن رغبة فى   الثواب ، أو رهبة من العقاب – فلا يجرؤ على مخالفتها ، وليس لديه الشجاعة لمعارضتها ، فهو منقاد لها ، منفذ ما تطلبه من أوامر ، ومجتنب ما تنهى عنه ، بوازع داخلى ، دون الحاجة إلى إجبار من أمير أو خفير ، ومن غير أن يدفعه إلى ذلك سطوة  سلطان ، أو سلاح فرسان ، فهو منقاد لها  بطبيعته ، لأنها امتزجت بحواسه ، وهو سائر فى الطريق التى رسمتها له استجابة لمشاعره المختلطة بها ، فلا يحيد عنها لأن طبعه يأبى ذلك ، ولا يخالفها ، لأن مخالفتها تمزقه داخليًّا ، فيحس بالضياع والهوان .

ولهذا نرى المجتمعات التى تطبق تعاليم دينها فى حياتها  من أكثر المجتمعات البشرية انضباطاً ، وأقومها أخلاقاً ، تقل فيها نسبة الجريمة إلى حد كبير ، ويشعر الفرد فيها باطمئنان النفس ، وراحة الضمير ، وهدوء الأعصاب ، وانسجام فى العلاقات الإنسانية ، فإذا كانت تعاليم الدين صافية غير مختلطة بترهات الكهان ، وحماقات ضعاف العقول والنفوس ، وضلالات المنحرفين والمتطرفين ، فإن ما تنطق به نصوصه من قوانين يعتبر الأساس الصحيح لتنظيم قواعد سليمة ، تصلح لحماية الأمة من عوامل الضعف والانحلال ، وتحافظ على كيانها ، فلا تتسرب إليها جرثومة تنخر عظامها ، ولا يعكر صفو أفرادها أى نوع من الآفات التى تصاب بها الأمم ، عندما تضل طريقها ، أو تفقد هويتها .

 ولا يتحقق ذلك إلا فى الإسلام ، فقد كتب الله لنصوصه الحفظ من
الضياع ، فصانها من أيدى العابثين ، يقول تعالى :
] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [الحجر : 9] ، فالقرآن الكريم وحى الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيجب أن يكون مصدر القوانين التى تضبط النظام فى المجتمع ، وتُقَوِّم سلوك الإنسان ، وتهذب أخلاقه ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر معاند ، ضاعت الحقيقة من قلبه ، فأغمض عينيه بحيث لم يعد يرى أن للقرآن الكريم سلطاناً على النفوس ، فلا يستطيع المسلم منه فكاكاً ، وأن فى تعاليمه كل المقومات والعناصر التى ينشدها الأفراد فى حياتهم :

- عدالة : لا تعرف الانحياز لطائفة ضد أخرى ، وتأبى تفضيل جنس على آخر على أساس  دم ، أو عرق ، أو نسب .

- انسجام مع طبيعة الإنسان : فليس فى تعاليمه ما يكبت غريزة ، أو يقضى على عنصر أساسى فى حياة الناس .

- سهولة ويسر : فلا شطط ، ولا تعنت ، يقول تعالى : ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج : 78]، ويقول : ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة : 286]

- تقبل نفسى : إذ لا يجد المرء غضاضة فى الخضوع لها ، فهى من الله الذى يرضى الإنسان بسلطانه ، ويتقبل أوامره بصدر رحب ، ويتجنب نواهيه بارتياح ، بخلاف ما لو كان من صنع بشر ، الأمر الذى يورث التمرد عليه ، لمجرد شعوره بأنه من إنسان مثله ، فلا تقبل نفسه الخضوع له إلا  مرغمة ، ولا تنفذ ما يأمر به إلا كارهة .

فإن ادعى بعض الناس أن تطبيق الشريعة الإسلامية :

- رجوع بالمجتمع إلى عصور القرون الوسطى ، لأنها صيغت لتلائم تلك الحياة  الأولى ....

- وتطويع للحياة المعاصرة لتعاليم لم تعد صالحة لمتطلبات العصر ، فهى عاجزة عن مواكبة سرعة الخطى فى طريق التقدم والرقى ، وتلبية احتياجات إنسان القرن العشرين ....

فهو لم بفهم طبيعة التشريع الإسلامى ، ولم يدرك فلسفته وأهدافه ؛ إذ أن للتشريع الإسلامى محوراً يدور حوله ، ويرتكز عليه ، ألا وهو الإنسان !!! إذ يركز على تقويمه ، وتهذيبه ، وإصلاح سلوكه . ومما لاشك فيه أن طبيعة الإنسان لا تتغير بتغير الزمان  والمكان ، فالأنانية التى تسيطر على بعض أفراد من البشر لا تختلف اليوم عما كانت عليه فى الماضى ، وإن اختلفت أساليب إشباعها .... وميله إلى الاعتداء على ما فى يد الغير لا يغير  جوهره ومضمونه تقدم ورقى وحضارة ، وإن حُوِّرَت وطُوِّرَت أساليب ووسائل هذا الاعتداء ... وكذلك الشأن فى كل غرائزه ؛ لا تبدلها العصور ، وإن لونت مظهرها الخارجى ، ولا يغير التحضر كنهها ، وإن عدل فيه ، فغير شكله . ولا يمحوها الرقى والتقدم ، بل يحجبها فلا تراها العين المجردة ، وإن كانت آثارها أكثر وضوحاً منها فى عصور " التخلف والانحطاط " .

ومن هنا فلا يجوز أن يُرْفَض قانون ، بحجة أنه لم يعد صالحاً للعصر ، ما دام هذا القانون يهدف إلى إصلاح الإنسان وتهذيبه ، لأن طبيعة الإنسان باقية كما هى ، على الرغم من اختلاف العصور حضارة وتقدماً ، وتفاوتت مجمعاتها ثقافةَ وتعليماً.

أما ما يدعيه المعارضون من عدم قدرة الشريعة الإسلامية على تلبية متطلبات العصر، بحجة أن هناك من الظواهر ما يتغير ويتبدل ، وكثير منها جديد كل الجدة - أى ليس له مثال سابق فى تاريخ المجتمع الإسلامى - بل إن نظام الحياة قائم على التغير المستمر ، والتطور المطرد ، الأمر الذى يستلزم تغيير القوانين باستمرار ، لتنسجم مع صور الحياة المتجددة ، ولتلبى احتياجات المجتمع التى تنشأ عن هذا التغير ..

فقد نشأ هذا الاعتراض بسبب عدم إدراك فلسفة التشريع الإسلامى  ، ذلك أن الله أنزل التشريع الإسلامى متطابقاً مع طبيعة الوجود ، منسجماً مع كل ما يطرأ من   التغيرات ، أو يظهر على سطح الحياة من ظروف متجددة ، ذلك أنه تضمن قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور ، وتتمشى مع ما ينبغى أن تكون عليه الحياة من الاستقرار ، أو تتفق مع الظواهر التى يشترك فيها جميع الأجناس البشرية ، ومع ذلك فقد تركت التفصيلات والتفريعات لعقل الإنسان ، يستخلصها حسب عصره وبيئته ، ويستنتجها طبقاً لمتطلبات ظروفه المحيطة به ، بحيث يلبى احتياجات العصر . وفى الوقت نفسه لا تخرج عن الخط الرئيسى الذى رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع ، أو كدستور يتخذه الناس قاعدة تشريعية أصلية ، ينبثق منها كل ما يقررونه من قوانين ، وما يرسمونه لأنفسهم من لوائح  ونظم .

فالقضايا الكلية فى الإسلام هى قواعد التشريع الأساسية التى تصلح لكل  شعب ، وتلبى احتياجات كل المجموعات البشرية ، على اختلاف ألوانها وأجناسها ، وتتناسب مع كل عصر وبيئة ؛ إذ يتخذها الجميع أساساً تُسْتَنتَج منه أحكام لكل القضايا ، وعلاج لكل المشاكل التى تواجه الإنسان والمجتمعات ، فكانت هذه المبادئ الرئيسية فى التشريع أساساً للاجتهاد فى مجال الأحكام الشرعية ، الذى بمقتضاه تكونت المذاهب الفقهية ، فزخرت بالأحكام والتفريعات التى كانت منها فروض مقدرة الحدوث فى الأزمان المستقبلة .

فكان هذا العمل فى مجال التشريع ، دليلاً على مرونة الفقه الإسلامى ، وصلاحيته لمواجهة الأحداث ، التى تظهر نتيجة لديناميكية الحركة فى مجالات الحياة المختلفة ، وعنصراً جوهرياًّ فى مفهوم صلاحية التشريع للتطبيق فى كل العصور ، مهما ارتقى الإنسان فى سلم الحضارة والمدنية .

ومن أكثر حجج المعارضين صدى بين الجماهير ، وأبعدها تأثيراً فى موقف المشتغلين بقضايا السياسة والحكم ، ما يزعمونه من أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يتناسب مع روح العصر ، فلم تعد تقبله النفس الإنسانية التى تربت فى جو "ليبرالى" ، يكره القسوة فى العقاب ، ويرفض كل أساليب الوحشية فى مجال التقويم والتهذيب ، فالإنسان المتحضر يقشعر بدنه ، عندما يسمع أن من صور  العقاب : قطع يد السارق ، ورجم الزانى المحصن حتى الموت ...و  ...و ...الخ ، فهو يعارض دائماً وأبداً كل تشريع يتضمن مثل هذا العقاب القاسى ، حتى ولو كان الإسلام الذى يدين به - عند بعض المسلمين - ، معللاً هذا الموقف بعلل شتى ، ومبرراً موقفه المعارض لتطبيق الشريعة الإسلامية - رغم تمسكه بالإسلام عبادةً وأخلاقاً – بمختلف الحجج والبراهين ، ومن أشهرها : ما يدعيه من أن تطبيق مثل هذه العقوبات سيؤدى إلى زيادة العجزة فى المجتمع ، مما يزيد فى عبء الدولة ؛ إذ يبدد قواها ، ويشل حركتها ، فتعجز عن مواكبة التقدم والرقى مع غيرها من الأمم .  

اقتنع كثير من المسلمين – وخاصة خريجو المدارس المدنية – بهذا الاتجاه ، غير أن بعضهم أيده سلبياًّ ، وعارضه وجدانياًّ . وآخرون ناصروه بكل قوة متاحة لهم ؛ فهم يناصرونه بالقلم ، إن كانوا على درجة تؤهلهم لذلك ، ويدعمونه بالسلطة والسلطان ، إن ملكوا زمام الحكم ، ودفة القيادة والتوجيه . ولا يصل إلى هذه الدرجة إلا من أيد وبارك اتجاه المعارضين ، حتى لو وصل معهم من يؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية ، فسرعان ما تجرفه الأمواج ، وتحتويه أجنحة هذا الاتجاه  فيُطْوَى تحتها ، وينسى مواقفه الأولى ، إن لم يتحول إلى معارض لما كان ينادى به قبل الانضمام إلى سدنة الحكم ، وحاشية السلطان .

وينبغى على هؤلاء المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية - سواء كانت معارضتهم سلباً أو إيجاباً - أن يعلموا أن الشريعة الإسلامية ليست هى الحدود فقط ، بل هى منهاج لكل جوانب الحياة الإنسانية ، ولا تمثل الحدود فيها إلا جزءاً ضئيلاً جداً بالنسبة للمجموع الكلى .

وبناءً عليه فمعارضة تطبيق الكل بسبب جزئية صغيرة أمر غير مقبول ، ولا يستساغ عقلاً التسليم به .... أضف إلى ذلك أن ما يبدو من قسوة فى عقوبات الحدود ليس كما يصورها هؤلاء المعارضون ، إذ ليس فى التشريع الإسلامى ما يحتم قطع يد كل سارق، أو رجم كل من يتهم بالزنا ، فهناك من الشروط ما يحصر تنفيذ هذه الحدود فى دائرة ضيقة جداً ، لدرجة أن تطبيقها قد يصبح فى حكم النادر ، أو فى حكم المستحيل ، إذ أن الرجم لا يكون إلا  بالاعتراف ، أو بشهادة أربعة ، يرون العملية  بالتفصيل ، وبأدق مظاهرها ، ولا أظن أن هذا ممكناً .

كما أنه من الجائز شرعاً تعليق هذه العقوبة ، لو لم تتوفر شروط تنفيذها ، كما فعل عمر بن الخطاب tحبث لم يطبق عقوبة يد السارق فى عام الرمادة .

فكيف يقال : إن قسوة العقوبة فى الشريعة الإسلامية أمر غير محتمل فى ظل الحياة المعاصرة ، فى حين أن رسول الله r قال : "ادرءوا الحدود بالشبهات" ، فأدنى شبهة تسقط الحد !!!! كما يضيق من دائرة تنفيذ الحدود أيضاً كثرة الآراء الفقهية فى المسألة الواحدة ، مما يجوز للجنة التشريع القضائى أن تختار من هذه الآراء أقربها إلى روح العصر أساساً للعقوبة ، ومبدأً من مبادئ القوانين الملزمة للقضاة .

ومن الحقائق المعروفة أن من الفقهاء من تمسك بظاهر النص ، ومنهم من التزم بروحه بدرجات متفاوتة ، بحيث يجد المتشددون فيها ما يشبع ميولهم ، ولا يفقد المتساهل ما يدعم اتجاهه فى صياغة قواعد قانونية ، تتفق مع روح العصر ، وفى الوقت نفسه لا تفقد هويتها الإسلامية .

ومن أجل هذا كله أردت أن أعرض صورة لآراء الفقهاء فى مجال العقوبات فى التشريع   الإسلامى :

- لأبين للمعارضين أن فى الفقه الإسلامى مجالاً لمتطلبات العصر ، وساحة تستوعب ما لابد منه فى الحياة المعاصرة ....

- ولأوضح للمتشددين أن من الفقهاء الموثوق بهم علماً وفهماً ، مَنْ  يخالفهم فى هذه  الآراء المتشددة ، فلا ينبغى لهم أن يعتبروا أن ما يرونه صحيحاً هو الإسلام ولا شيء غيره ، بل ينبغى عليهم - إن أرادوا تشدداً - أن يعرضوا ما يؤيدونه من الآراء على أنه أحد الآراء المطروحة فى ساحة التشريع الإسلامى .

وكان من الممكن أن أسلك طريقاً جديداً فى عرض نصوص التشريع الإسلامى لأوضح صلاحيته للتطبيق فى كل زمان ومكان ، ولكنى عدلت عن ذلك لأمرين :

1.      أن لآراء الفقهاء القدامى نوعاً من القداسة عند المسلمين ، مما يجعل لها سلطة فى الإقناع  والتسليم ، وهذه ظاهرة مسلم بها عند كل الشعوب ؛ إذ كلما كان الرأى أقدم ، كان أقرب إلى القبول ، لأنه اجتاز من  الزمن فترة أكثر من غيره ، وكان عمره – ذاته – دليلاً على أنه قد اجتاز هذا الاختبار بنجاح  ، إذ لما كانت أجيال متعاقبة من الناس قد وجدته صحيحاً ، وتقبلته عقلاً وتديناً ، فإن احتمال أن يكون صحيحاً بالفعل أقوى من احتمال ما لم يمر إلا بفترة اختبار قصيرة ، ومن الممكن أن تعد هذه القاعدة فرعاً من قاعدة : البقاء للأصلح .

2.      أنى وجدت فى التشريع الإسلامى آراءً تناسب العصر ، فاكتفيت بإبرازها فى أسلوب عصرى ، لتتضح صورة صلاحية التشريع الإسلامى لكل زمان ومكان فى ذهن المعارضين والمترددين على  السواء ، ومحاولة لإقناع من لا يرى من المتشددين إلا جنباً واحداً ، أن هناك جوانب أخرى ، وآراء متعددة فى المسألة الواحدة ، فليس من مصلحة الإسلام التضييق على المسلمين ، حتى لا تكون فتنة ، وليتذكروا قول الله تعالى : ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج : 78]، وقوله : ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة : 286] 

وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه صلاح أمور الدين والدنيا

                                           أ. د/       محمد شامة

 

 

 

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...