إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 10 أغسطس 2020

 

P

موقف الأزهر من المتغيرات

الفكرية

                                                                                              أ. د/ محمد شامة

تقوم الحياة فى هذا الكون على الحركة؛ فكل ما فيها يتحرك ليظل حياً، فأفلاكه ونجومه لا تتوقف لحظة واحدة عن الحركة، وإلا اختل التوازن بينها، فيكون فى ذلك تداعى هذا النظام الكونى الذى أبدعه الله على هذه الصورة المحكمة؛ فكل ما على هذه الكواكب من نبات وحيوان لا يكف عن الحركة، حتى الجماد، فهو يتحرك فى دائرة حركة الكون، كما أن كل خلية فى المخلوقات دائمة التحرك، لا تتوقف لحظة، وإلا انعدم وجودها. فالوجود حركة، والعدم سكون، إذ يستمر الموجود باستمرار التحرك، فإذا سكن، انتقل من دائرة الحركة إلى دائرة العدم.

فالتلازم بين الوجود والحركة سنة الله التى فطر الكون عليها، بما فيه من مخلوقات لا تُحْصَى ولا تُعَد، ومن لوازم هذه الحركة التغيير الدائم، إذ لا يستمر شيء على وجه الأرض على حالة واحدة فى لحظتين – وإن بدا للعين المجردة على خلاف ذلك – بل هو فى تفاعل مستمر، وتغيير مطرد، ولهذا قالوا: " الحياة حركة والسكون موت."

ولكن على الرغم من أن أساس الحياة الحركة ، وأن من لوازمها التغيير ، الذى هو طابع الحياة ، فقد شاء الله أن يجعل ظواهر ثابتة ، تتحرك بهيئتها وطابعها داخل عجلة الزمن التى لا تتوقف عن الدوران ، فهذه الظواهر الثابتة جعلها الله  " أعمدة  " تجمع بأطراف المتغيرات المستمرة فى الظهور و العدم طبقا لقانون التغير العام ، ولولا هذه  " الأعمدة  " الثابتة لانهار كل ما على الأرض أثناء هذه التحولات المستمرة ، فهناك أصول ثابتة تقتصر حركتها على كونها داخل الحركة الكونية العامة ، فهى لا تتغير ، أما ما عداها ، فهو دائم التغيير ، وبهذا حفظ الله النظام الكونى من التغيير والتبديل ، الذى يدمر الاستقرار والاطمئنان فى المسارات الكونية ، وحماه من السكون التام الذى هو الموت والعدم .

وليس التلازم بين الحياة والحركة قاصراً على ما فى الكون من ماديات، بل يشمل جميع عناصر الوجود، سواء كانت فى مجال المادة، أو فى عالم الفكر والروح، فالروح التى لا تنفعل مع ما يحيط بها من أحداث ومتغيرات، هى روح ساكنة جامدة، والساكن ميت لا حياة فيه؛ فمظاهر حياة الروح، التأثير والتأثر بما يحدث حولها، والتفاعل و " الديناميكية " معه إن رفضاً أو قبولاً. كذلك الفكر ، لا ينمو ويزدهر إلا إذا واكب المتغيرات فى كل مجالات الحياة ، فإن تقوقع وجمد فى مكانه ، تخلفت المسيرة الثقافية فى المجتمع ؛ لأن أساس التقدم يكمن فى " ديناميكية " الفكر مع الأحداث المتغيرة ، إذ أن من الأمور المسلم بها ألا يبقى مظهر من مظاهر الحياة ثابتاً ، وإلا كان عائقاً يعوق سير الحياة فى مجراها الطبيعى ، لذا كان لابد للإنسان أن يغير فى أسلوب حياته ، كى يتلاءم مع سنة التطور ، ويُعَدِّل فى أفكاره لتنسجم مع صور الحياة المتجددة، وتتلاءم مع احتياجات المجتمع ، التى تنشأ عن التفاعلات المستمرة فى الظواهر الاجتماعية ؛ فإن عجز الفكر عن القيام بهذه المهمة ، فجمد على ما خلفه الأجداد ، وتقوقع فى دائرة محدودة لا يتعداها ، وأغلق على نفسه مجالاً ، ليس له صلة بعالم الأفكار على الساحة الدولية ، وابتعد عن التيارات الفكرية التى يموج بها محيط العالم البشرى ، فقد حكم على نفسه بالموت ، لأن الجمود وعدم الحركة والامتناع عن التأثير مع التيارات الفكرية الأخرى ، هو موت وهلاك للفرد وللمجتمع ؛ إذ من الثابت أن من تصيبه هذه الآفة لا يقوى على حماية نفسه ومبادئه من الأفكار الهدامة والتيارات الفكرية المعادية .

ويكفى للتدليل على ذلك التذكير بما حدث للعالم الإسلامى فى مواجهته مع الغرب ؛ إذ عندما واجهه فى الحروب الصليبية ، استطاع أن يدحر الصليبيين ويردهم على أعقابهم ؛ لأن فكر المسلمين آنذاك كان فكراً حيًّا ، يتفاعل مع الأحداث ويؤثر فيها بتوجيهها وتطويعها ، وإن لزم الأمر يصبغها بصبغة إسلامية ، وعندما عاد الصليبيون لمواجهة الشرق مرة أخرى في القرن التاسع عشر ، كانت الظروف والملابسات مختلفة اختلافاً كلياًّ عما كانت عليه فى المرة الأولى ، حيث كانت القوة الإسلامية متفوقة حضارياً وفكرياً ، أما في القرن التاسع عشر فقد بدا أن المعركة بين المسلمين والأوربيين غير متساوية ؛ فالمعركة كانت بين طرفين غير متكافئين ، لأن تقدم الغرب منحه تفوقاً حضارياً ، ومكنه من أن يكون سيد المعركة ، ولم يستطع العالم الإسلامى الصمود أمام هذا التفوق الحضارى ، لأنه عاش منطوياً على نفسه حقبة طويلة أضعفته وأنهكته بحيث سقط أمام الزحف الأوروبي سياسياً واقتصادياً ، ويبدو أن الزمن قد وقف بالشرق قروناً طويلة ، فظل ثابتاً مجمداً لم يطـرأ عليه جديد ، فبدا وكأنه لم ير هذه القرون ، ولم يعشها ، ولم يكن لِما طرأ عليه من تغيير داخلى – فى نوع الحكام وتعددهم – أي تأثير إطلاقاً ، وبالتالي لم يكن له أى نوع من التطور السياسي والاقتصادي.

فهل يلزم أن يكون التغيير مستمراً، وشاملاً لكل ما فى الحياة من أفكار ونظم حتى يظل المجتمع قادراً على مواكبة حركة التقدم على الساحة الدولية؟

يشتمل هذا السؤال على عنصرين، هما: الاستمرارية والشمول،

 أما الشمول:

فلا ينبغى أن يكون، لأن هناك مبادئ ثابتة لا يجوز تغييرها:

-       إما لأنها مقدسة، فرضها العليم الخبير على نحو يصلح لكل زمان ومكان، فهذه لا ينبغى الاقتراب منها؛ لأن الإنسان لازال عاجزاً فكرياً عن إدراك ما فيها من أسرار، كما أن قدرته محدودة بالظروف الزمانية والمكانية التى كونته، فلن يستطيع استكشاف ما ترمى إليه مـن خير للفرد والمجتمع، وعليه فيجب قبولها وتطبيقها، سواء ظهر للإنسان هذا الجانب أم لا.

-       وإما لتجاوزها مرحلة التجربة والاختبار، إذ من الثابت أن ما تجاوز هذه المرحلة يكون من المسلمات التى لا يُقبَل الشك فيها، فضلاً عن رفضها، ولهذا فليس من لوازم التغيير الباعث على الحياة فى المجتمع أن يلحق هذه المسلمات، وإلا فقدت حركة التقدم الثوابت اللازمة لحفظ الحياة من الانهيار والدمار.

وأما الاستمرارية:

     فليس المراد بها التلاحق السريع فى تغيير الأفكار والصور الفكرية فى المجتمع ؛ لأنه لو حدث هذا لكان أشبه بشريط من الصور يمر أمام العين بسرعة لا يُمَكِّنُها من ملاحقة ما فيه من معالم ، مما يجعله أقرب إلى الخيالات منه إلى أشكال ذات أبعاد معينة توحى بتصور واضح ، بل المراد بها أن يتفاعل الجديد مع القديم بحيث تكون هناك "ديناميكية " قائمة على أسس سليمة ، تؤدى إلى إثبات الصالح  لمتطلبات العصر، وفناء ما يعجز عن أداء دورٍ بناء فى المجتمع : ﭐﱡﭐ ﲿ       [ الرعد : 17  ] ، فهذه العملية تحتاج إلى وقت حتى يُثْبِت الصالح  صلاحيته ، ويستبين عدم صلاحية الأفكار الخالية من المضمون النافع للمجتمع ، وهذا ما يطلقون عليه  "Evolution" ، أى عملية التطور ، وغالباً ما تكون درجات هذه العملية ثابتة وراسخة ، أما التغيير الجبري السريع ، وهو ما يطلقون عليه "Revolution" ، أى الثورة ، فكثيراً ما جلب على أصحابه الخراب والدمار .

وجملة القول، أن الحياة حركة، ومن لوازمها التغير الناتج عن " ديناميكية " طبيعية مع أحداث ومتطلبات الحياة – سواء فى المجالات المادية، أو فى عالم الأفكار والأرواح -، وأن هناك ثوابت لا تتغير، فيجب الاحتفاظ بها كما هي، وإلا أصيب المجتمع بالانهيار والدمار.

ولذا يجب على المؤسسات التعليمية أن تأخذ هذه المسلمات فى اعتبارها – فى جميع أوجه نشاطها التعليمي والثقافي – كي تؤدى دورها في المجتمع على أكمل وجه:

-     فلا تهمل فى تراث الأمة، لأن فى ذلك ضياعاً لشخصية المجتمع، وعدم الاستقرار فى مسيرة الحياة نحو التقدم والرخاء.

-    ولا تتحجر على كل ما هو قديم إن ظهر واضحاً عدم صلاحيته للحياة المعاصرة.

-    ولا ترفض الجديد الذي أثبتت التجارب أنه ضرورى للفرد والمجتمع.

-    ولا تهرب من مواجهة التيارات الفكرية، التى تحمل فى ثناياها معاول الهدم لكل ما من شأنه أن يدعم الأخلاق، ويحافظ على تراث الأمة المنبثق من منابع عقيدتها وإيمانها.

فإذا نظرنا إلى المؤسسات التعليمية ، ودور العلم التى نشأت فى ظل الإسلام ، لوجدنا أنها – فى جميع مراحلها – كانت تؤدى هذا الدور الذى تتطلبه مقتضيات التطور ، وطبيعة الحياة الإنسانية ؛ فقد كانت المساجد منذ فجر الإسلام مقرًّا للإشعاع الفكري والروحي ، إذ لم تكن مهمتها قاصرة على كونها أماكن للعبادة فقط ، بل كانت بالإضافة إلى ذلك جامعات تشع منها العلوم والمعارف ، ومراكزاً للشورى والقضاء، وملتقى يجد فيها الناس حلاً لمشاكلهم الدينية والدنيوية ، واشتهر منها فى مصر مسجد (عمرو بن العاص) ؛ فقد برز منذ نشأته سنة 21 هجرية كأقدم جامعة إسلامية ، استمرت فى أداء رسالتها الإسلامية ، من روحية ومادية حتى قام ( الجامع الأزهر ) سنة 361 هـ ، فأسهم معها فى أداء هذه الرسالة بقوة وعزم وإيمان ، وظلا معاً ينشران أضواء الثقافة الإسلامية حتى توقف جامع عمرو عن أداء هذه الرسالة بسبب أحداث وقعت، فانفرد الجامع الأزهر بالزعامة العلمية عبر القرون ، وظل مصدراً للعلم ، ومناراً للهداية ، وملجأً يعوذ به المسلمون عندما تلم بهم الحوادث ، أو يقعون  تحت وطأة ظالم ، أو يعتدى على حرماتهم معتدٍ .

كان علماء المسلمين فى عصر الازدهار يدرسون جميع أنواع العلوم والفنون، فكان منهم: الفقيه، والطبيب، والفلكي والمهندس، والعالم الطبيعي والكيميائي والجغرافي، والمؤرخ، والرياضي.

وسار الأزهر على هذا الطريق ، فأسهم علماؤه فى جميع المعارف والعلوم بالدرس والبحث والتأليف ، فقد كانت الدراسة به فى عهد الفاطميين تغلب عليها الصبغة الدينية واللغوية ، ولكن كان إلى جوارها دروس عديدة فى : المنطق ، والحساب ، والهندسة ، والجبر ، والفلك ، وهكذا كان فى معظم الأمور مواكباً لحركة التقدم ، ومشاركاً فى صنع الحضارة فى جميع ميادينها، كما كان راعياً للمسلمين ، فكانوا يهرعون إليه فى الأزمات ، ملتمسين من علمائه الإرشاد والتوجيه ، فكان بذلك قائداً لهم فى الحياة السياسية والاجتماعية ، كما كان حاملاً لواء التقدم فى مجالات البحوث والعلوم على اختلاف أنواعها وأشكالها ، سواء كان ذلك فى المجال الدينى أو فى ميادين المعارف الأخرى ، كذلك قام الأزهر بدور فعال فى مقاومة تيارات الإلحاد  والانحرافات ، والمذاهب الهدامة ، والحملات التبشيرية ، ودعاة الفوضى والانحلال .

وبذلك كان نشاطه مواكباً لحركة التقدم ، ومتفاعلاً مع قانون الحركة الذى يقوم عليه نظام الكون كله ، وفى الوقت نفسه كان حامياً للعقيدة الإسلامية ، وراعياً لتراث المسلمين الفكرى ، ينقيه من الشوائب ، ويصفيه مما علق به عبر الأزمان والعصور من الصور الدخيلة والظواهر الغريبة عن روح الإسلام ، والأفكار المُعَوِّقة لمواكبة حركة التطور والتقدم فى جميع مجالات الحياة ، فأثبت بذلك وجوده على جميع مستويات الدولة، يؤخذ رأى علمائه فيما يهم أمر المسلمين ، سواء كان ذلك فى المجال السياسى ، أو فى الحقل الاجتماعي، بالإضافة إلى ريادته فى المسائل الدينية .

ولكن عندما تسرب الضعف إلى المجتمعات الإسلامية ، فانتكست أعلام الفكر فيها ، وخيم الجمود بأجنحته على كل أرجائها ، خفتت أنوار البحث فى الأزهر ، بل انطفأت شعلة التجديد والابتكار فى مجال الدرس والتأليف ، واستكان العلماء لهذا الضعف الذى أصابهم ، فظنوا أن الزمن لم يعد قادراً على إعداد من يستطيع الاجتهاد لمواجهة الأحداث التى تظهر فى المجتمع ، فأغلقوا بابه ، ورضوا بالتقليد ، وعكفوا على كتب لا روح فيها ، وابتعدوا عن الناس فجهلوا الحياة ، وجهلوا طرق التفكير الصحيحة ، وطرق البحث القويمة ، وما جد فى الحياة من علوم ، وما ظهر فيها من مذاهب وآراء ، فأعرض الناس عنهم ، ونقموا هم على الناس ، ولم تكن لهم همة فى التأليف ، فراحوا يشرحون الكتب ، ويكتبون الحواشي على الشروح ، واتجهت كل العناية إلى الناحية اللفظية ، والمناقشات الحرفية ، وصرف الذهن عن الفكرة إلى طريقة الأداء ، وإلى الألفاظ والعبارات ، وشغل العلماء أنفسهم بالفروض والاحتمالات الوهمية التى لا تقع ، وراحوا يبحثون لها عن حلول ، وانصرف الأزهر عن دراسة العلوم العقلية ، ولم يبق به إلا ذلك البصيص الشاحب من الدراسات الدينية واللغوية .وانتشر بين علماء الأزهر القول بتحريم دراسة العلوم العقلية بل نسبوا الكفر لمن يطالعها ويعنى بها. [1]  

كان لهذا الموقف آثار سلبية على العالم الإسلامى ، إذ عندما وقف فى القرن قبل الماضى أمام النهضة الأوروبية وجهاً لوجه ، لم يستطع الصمود أمامها ، بل هرب من مواجهتها بحجة أنها قائمة على أسس لا يقرها الإسلام ، كذلك لم يحاول فهم جوانبها المادية والاستفادة منها لمواكبة تطور الحياة الإنسانية ، لأن ذلك يحتاج إلى دراسة العلوم العقلية ، وهى حرام طبقاً لفتوى جمهور علماء الأزهر ، فقد كانوا يحرمون دراسة الحساب والفلك والطبيعة ، وغيرها من العلوم التى قامت عليها النهضة الحديثة ، فاقتصرت مناهج المؤسسات التعليمية فى المجتمعات الإسلامية على النواحي الدينية فقط ، فلم تتناول المشاكل العامة فى المجتمع إلا من زاوية ترديد ما قاله السابقون ، فجمد الفكر الإسلامى ، وتوقف عن التجديد والابتكار [2]،  فلم يستطع تقديم حلول للمسائل التى تظهر كل يوم على سطح الحياة الإنسانية ، كذلك عجز عن الخلق والإبداع فى مجال العلـوم ، والتكنولوجيا ، وعندما بدت أعراض الضعف – نتيجة هذا الجمود – فى مرحلة المواجهة ، ظهرت عدة محاولات للدفاع عن الشرق الإسلامى ضد الغزو الفكرى ، كان بعضها دعوات سياسية ، ارتكزت على القومية الوطنية ، والأخرى تربوية ، اتخذت المنهج الحديث فى التربية أساساً للنهوض بمستوى الأمة ، كى تقوى على صد الأجنبي عن ديارها وعقيدتها وثرواتها .

أما القائمون على المعاهد العلمية الدينية، فقد التزموا موقفاً سلبياً فى مواجهة التيارات الفكرية الأجنبية، فقد رفضوا إدخال أى نوع من العلوم الحديثة في مناهجهم، بحجة أن ذلك لا يتفق مع الإســلام ........ حرموا تدريس الجغرافيا والطبيعة والكيمياء والرياضيات، وغير ذلك من العلوم التى تقوم عليها أسس النهضة الحديثة، وهي التي تمثل أحد عنصري القوة في مواجهة الغزو الأجنبي[3]. فنتج عن هذا أن فقدوا كثيراً من الأصوات المسلمة فى صفوف التيارين الآخرين، وهما التيار السياسى القائم على أساس القومية، والتيار التربوى الذى اتخذ الأسلوب التربوى الحديث أساساً للنهوض بالأمة.

هَيَّاَ هذا الوضع فى مجال التعليم الدينى المناخ لظهور التعليم المدني، كما ساعد المستعمر على تمكين خريجى المدارس الأجنبية من السيطرة على مقاليد السلطة وأَزِمَّة التوجيه الفكري، وقدم له فرصة ذهبية – انتهزها واستغلها بذكاء نادر – لتشويه صورة رجل الدين عند   الجماهير.

وحين اشتدت معارضة رجال الدين للاستعمار فى إصلاح التعليم، فرفضوا إدخال النظم الحديثة فى معاهدهم، وجد المستعمرون أنصاراً لهم – فى صفوف القوميين والمصلحين التربويين – فى دعوتهم إلى إنشاء مدارس حديثـة على غـرار المدارس الأوروبية، وأطلقـوا عليها أسم " التعليم المدني " في مقابـل " التعليم الديني"، وبهذا وجد نظامان للتعليم فى المجتمع الإسلامي: مدارس دينية، وأخرى مدنية، جامعات تقوم على النظام الأوروبي، وأخرى لا يدرس فيها سوى العلوم الدينية. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل استأثر خريجو الجامعات المدنية بكل الوظائف الحساسة في الدولة، وحصلوا على كل الامتيازات، بينما حُرِم الآخرون من كل شيء، فلم يعينوا إلا لتدريس مادتي: الدين واللغة العربية. ...وبقروش لا تسمن ولا تغنى من جوع.

دعم الاستعمار – وساعده فى ذلك مسلمون تربوا فى مدارسه – التعليم المدني، وحارب التعليم الديني، فانكمش وعجز عن تأدية رسالته كما ينبغي، وبقي معزولاً عن مواجهة التيارات الفكرية الحديثة. ويرجع عدم قيامه بهذا الواجب إلى:

-     جمود القائمين عليه، وعدم فهمهم للأيديولوجيات العالمية التى تموج بها المجتمعات الحديثة.

-     وإلى خضوعهم للحكام – وهم متعددو الأهواء فى تأييدهم هذا أو ذاك من المذاهب العالمية المختلفة – فلم يبينوا رأى الإسلام واضحاً فى المذاهب الاقتصادية المعاصرة كالاشتراكية والرأسمالية، بل أخضعوا أحكام الإسلام لهوى الحاكم، فإن كان اشتراكياً فالإسلام يدعو إلى الاشتراكية، وإن كان معادياً للاشتراكية تجاوبت الأصداء فى أرجاء المعاهد العلمية تغنى على الوتر.

-     وإلى عجزه – أى نظام التعليم الدينى - عن إبداء الرأى فى حل المشاكل الاجتماعية   – التى تعانى منها الشعوب الإسلامية  - من وجهة النظر الإسلامية، وظل يدور فى مماحكات لفظية ، وشقشقات لغوية جافة ، فخلت الساحة للتفكير الأوربى - أو الإسلامي المتأورب - فبسط نفوذه على عقلية الطبقة المثقفة ثقافة  (مدنية) ، وهى الطبقة التى تتولى السلطة ، وبهذا ضمن الاستعمار تنفيذ النظم الأوروبية فى مجتمع مسلم بواسطة حكام مسلمين ، ومن هذه الطبقة أيضاً خرج أصحاب الدعوات الهدامة ، لأن ثقافتهم الغربية – وولاءهم للغرب – أضعفت صلتهم بالإسلام ، وقطعت الوشائج التى تصلهم بعقيدتهم  [4] .

فقد الأزهر - بسبب جمود علمائه ، وخضوعهم لأهواء أرباب السلطة ، وعجزهم عن مواكبة حركة التطور فى مجالات البحث والتدريس ، وعزلهم عن مواقع اتخاذ القرار - سيطرته على الحياة العامة منذ بداية القرن العشرين ، فهو وإن ظل مدافعاً عن اللغة العربية والشريعة الإسلامية ، إلا أن نشاطه فى هذين المجالين أخذ يتقلص وينكمش ، حتى توارى عن الأعين ، ولم يعد باقياً منه سوى أصوات خافتة ، ونشيج على ما وصل إليه حال المسلمين ، وتأوهات مما أصابه في مجالي التعليم والتوجيه في المجتمع الإسلامي، إذ قل الإقبال على التعليم فيه ، نتيجة سياسة مجانية التعليم ، فأصبح الناس يفضلون إرسال أولادهم إلى المدارس المدنية ، على تعليمهم فى الأزهر ؛ لأنه لم يعد فيه ميزات تشدهم إليه ، فقد فَقَدَ ميزة المجانية التى كانت تميزه عنها فى العهود السابقة ، كما ضاقت فرص العمل أمام المتخرجين فيه ، فلم يعد لهم سوى تدريس الدين واللغة العربية فى المدارس ، بل زاحمهم فيها أيضاً خريجو أقسام اللغة العربية فى الجامعات الأخرى ، وغالباً ما يفضلون عليهم .

فلولم يصدر قانون تطوير الأزهر فى عام 1961م لأصبحت مدرجاته خاوية على عروشها ، لا تجد من يطلب العلم فيها ؛ لأن ظروف الحياة ، ومتطلبات العصر باعدت بينه وبين أبناء المسلمين ، فلم يعد مقبولاً لدى جمهرتهم أن يظل الدارسون معزولين عما يدور حولهم من أحداث ، وليس من المستساغ فى العصر الحديث أن يتخرج الطالب فى معهد عالٍ وهو لا يعرف شيئاً – ولو بسيطاً – عن إنجازات الإنسان فى مجالات العلوم المتعددة ، كما أنه لا يُقْبَل عقلاً ولا واقعاً أن يختار الأب لابنه معهداً لا يحقق له بعد التخرج مركزاً يكفيه فى حياته مادياً ، ويشبع رغبته أدبياً واجتماعياً .

دفع قانون التطوير إلى الأزهر دماء جديدة بعثت فيه الحياة ، فدب النشاط العلمى فى جميع أرجائه ، واتسعت آفاق المدرجات العلمية فيه وتنوعت ؛ إذ أُنْشِئت فيه دراسة الهندسة والطب والصيدلة والزراعة وغيرها من العلوم التى كانت محرمة عليه منذ أن أصابه الضعف ، وأنهكه التخلف عن ركب الحياة المتطورة ، غير أن هذه الانتفاضة العلمية لم تكن هى المقصودة من قانون التطوير ، أو بتعبير أدق ، لم تكن هى التى كان يريدها المخلصون للأزهر ولرسالته ، فقد كان من المنتظر من مثل هذا القانون أن يعالج تخلف الأزهر عن ملاحقة الأحداث التى تقع فى مجالات الحياة المختلفة ، وأن يدفعه إلى التفاعل معها تفاعلاً لا يخرجه عن طابعه كمصدر من مصادر التوجيه الإسلامى فى المجتمعات الإسلامية ، فهو يحللها ، ويبدى الرأى فيها، وإن لزم الأمر يوجهها وجهة إسلامية ، وبذلك يكون قد خرج من عزلته ، وأدلى بدلوه فى مجريات الأمور التى يعيشها العالم الإسلامى على جميع المستويات الشعبية والرسمية مع إسهامه بأسلوب فعال فى جميع العلوم والمعارف الحديثة ، لكن لم يحدث للأزهر شيئ من هذا القبيل ، بل اقتصر الأمر على زيادة عدد الكليات ، وبالتالى زاد عدد الطلبة الذين يدرسون  فيه ، فى الوقت الذى ضاعت فيه – أو كادت – سمعته العلمية ، كمعهد عُرِفَ عنه أنه لا يقبل إلا النابغين والأذكياء ، وبالتالي لا يُخَرِّج إلا نوعية ممتازة من العلماء والباحثين؛ فقد فتحت أبوابه لمن لا يقبلون فى الجامعات الأخرى ، فالتحق به الحاصلون على أقل الدرجات فى امتحان الثانوية العامة [5] وإن آثر بعض النابغات الحاصلات على الثانوية العامة الالتحاق بكليات الأزهر ، فإن الدافع إلى ذلك ظروف وملابسات مختلفة دفعتها إلى ذلك ، فضلاً عن أن نسبتهن قليلة جداً .

ويرجع السبب فى هذه الظاهرة إلى عدم التوفيق فى تطبيق قانون التطوير، إذ ليس من المقبول عقلاً أن يختار الطالب الدراسة فى كلية تفرض عليه قضاء سنة – زيادة على ما هو مقرر فى الكليات المناظرة لها فى الجامعات الأخرى – لدراسة العلوم الدينية، وهي ما أطلق عليها فى جامعة الأزهر: " السنة التأهيلية ". قد يقال: إن هذا ضروري، لأنه سيتخرج من جامعة إسلامية، فلا بد أن يكون لديه من المعلومات الدينية ما يؤهله لأن يحمل اسم هذه الجامعة ...... ولكن كان من الممكن أن توزع المواد التى يدرسها الطالب فى هذه السنة على سنى الدراسة فى الكليات، خاصة وأن ما يدرس فيها لا يحتاج إلى وقت طويل لفهمه واستيعابه، فالحقيقة أنها سنة ضائعة من عمر الطالب، وفى الوقت نفسه فهى تمثل عقبة فى وجه النابغين إذا فكروا يوماً ما فى الالتحاق بالأزهر.

فإذا تركنا هذه السنة ، وألقينا نظرة على مناهج العلوم الإسلامية ، التى تدرس فى الكليات العملية لوجدنا أنها فقدت أهم عنصر من العناصر اللازمة فى تكوين الشباب لمواجهة التيارات المعادية للإسلام ، ذلك أن الصراع الآن على الساحة الدولية ، هو صراع بين نظم مختلفة فى اتجاهاتها ، ومتعددة فى أشكالها وصورها ، فدعاة كل مذهب يدعون أن مذهبهم هو الأمثل لتحقيق العدالة فى المجتمع ، وأنه الأوحد فى تشكيل الحياة الإنسانية على نحو يؤدى إلى تحقيق الخير والسعادة للناس جميعا ، فحين يسمع الشاب المسلم أصوات دعاة هذه المذاهب ، يتطلع إلى معرفة رأى الإسلام فى هذه المعركة الدائرة على ساحة الفكر البشرى، مستفسراً عن موقف الإسلام إزاء هذه النظم ، سائلاً – كلما سنحت ظروف حياته – عما إذا كان الإسلام يؤيد هذا أو يرفضه ، أو عما إذا كان للإسلام نظام يُغْنينا عن الجرى وراء هذه التيارات التى تحاول استقطابنا . ولهذا يجب أن يدرس طالب كليات الدراسات العملية – هندسة وطب وزراعة وغيرها – النظم الإسلامية، لأنه إذا عرف أن للإسلام:

-         نظاماً اقتصادياً يقضى على سلبيات النظام الرأسمالي، ويحقق العدالة الاجتماعية على نحو لم يعرفه أى نظام على وجه الأرض.

-         ونظاماً فى الحكم يدعو إلى الشورى، ويضمن حرية الرأى لكل فرد في المجتمع، مهما كان مركزه الاجتماعي، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو الثقافي، ويحرس الحقوق من اعتداء أى إنسان مهما كانت صفته في المجتمع، حتى ولو كان رئيس الدولة، فلا يسمح بأن يُظلَم أحد حتى ولو كان أقل الناس شأناً، فلا فرق بين صغير وكبير فى هذا المجال، ولا بين غنى وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، فالكل أمام شرع الله سواء.

-         ونظاماً للأسرة، يعمق روح المحبة والتعاون بين الأفراد، ويقضى على الفحشاء والمنكر في المجتمع، ويشبع الغرائز الإنسانية بطريق سليم، ويلبى رغبات كل فرد على نحو ليس فيه اعتداء على الكرامة أو الفضيلة، وليس فيه الحرمان التي تأباه الطبيعة البشرية. 

وغير ذلك من النظم التى تحفظ الحياة الإنسانية من الانحلال والانحطاط، وتقيها من آفة الجمود والتقوقع داخل إطار يحول بين تقدمها وازدهارها.

إذا عرف الطالب هذا، فسوف يدرك أن الإسلام نظام يصلح للحياة المعاصرة، فلا تؤثر فيه أصوات من يَدَّعون أن الإسلام غير قادر على مواجهة المتطلبات العصرية، بل يواجهها مبيناً ما انطوت عليه من افتراءات، وما احتوته من مغالطات أريد بها وجه الشيطان، لخدمة أصحاب المذاهب المعادية للإسلام.

فإذا انتقلنا من هذا إلى استكشاف التغييرات التى طرأت على الكليات التقليدية بعد تطبيق قانون التطوير ، لوجدنا أنها واضحة فى الجوانب الشكلية ولواحقها من درجات وأقسام ، ولجان شتى ، محاكاة لما هو فى الجامعات الحديثة ، فأصبح أثرها ملموساً فى ناحية الكم دون الكيف ؛ إذ لم يحدد القائمون على هذه الكليات الأهداف المطلوب تحقيقها فى عالمنا المعاصر، بل سادت فكرة الحصول على أكبر عدد من الطلاب على ما عداها ، مما يجب عمله ليؤدى الأزهر رسالته ، فارتفع عدد الكليات ارتفاعاً لم يراع فيه الاهتمام الكافي بالنوعية التي يراد من الأزهر إعدادها لتؤدى واجبها فى حقل الدعوة وسط محيط من الأفكار والنظريات المستوردة ، وأدى الولوع بزيادة العدد إلى إنشاء كليات متناظرة فى مدينة واحدة ، وأحيانا فى مبنى واحد ، كذلك أصابت حمى الجرى وراء الكم المناهج الدراسية ، فأصبحنا نرى عددا من المواد في الجدول الدراسي لو بحثناها بحثاً أكاديمياً لأمكن إرجاعها إلى مادة واحدة ، والمقام لا يسمح إلا بذكر مثال واحد :

يدرس طلبة كلية أصول الدين المواد التالية:

-        عقيدة.

-        توحيد.

-        ملل ونحل.

-        علم الكلام.

-        مقارنة أديان.

-        تيارات ومذاهب معاصرة.

-        تصوف.

ألا يمكن دمج هذه المواد كلها تحت عنوان واحد، وهو: " علم الأديان "؟؛ لأن كلاً منها يعتبر عنصراً من الهيكل العام لهذا الجانب الفكرى في تاريخ الإنسانية، ثم تقسم المادة إلى حلقات أربع، يدرسها الطالب فى السنوات الدراسية الأربع فى المرحلة الجامعية الأولى، وبذلك يحصل الطالب على صورة متكاملة لهذه المادة، ويتضح فى ذهنه نوع العلاقة بين جميع عناصرها؟

لا شك أن هذا أفضل من أن يتلقى معلومات متناثرة، لا تشكل فى ذهنه إلا صورة ممزقة معدومة الصلة بين العناصر الفكرية المتقاربة.

كان من آثار تقليد الجامعات الأخرى فى تطبيق قانون التطوير فى الأزهر تشعيب الدراسة فى كليات أصول الدين والدعوة، ابتداءً من السنة الثالثة فى المرحلة الجامعية، فانقسم الطلبة إلى: دارس للتفسير، وآخر للحديث، وثالث للعقيدة والفلسفة، ورابع للدعوة، ونسى القائمون على أمر هذه الكليات أن المتخرج منها داعية فى المقام الأول، ويحتاج من يُهَيَّأ لهذه المهمة إلى دراسة:

-    التفسير والحديث؛ لأنها بضاعته.

-    والفلسفة؛ لأنها سلاحه في ميدان الصراع الفكري على الساحة العالمية.

-    وعلم الأديان؛ لأنه يكشف له جوانب الزيف والبطلان فى الأديان الأخرى مما يجعله خبيراً فى مجادلة أصحاب الأهواء والنحل.

-    والنظم الإسلامية؛ لأنها توضح له صلاحية الإسلام للحياة المعاصرة.

-    والدعوة؛ لأنها تبين له الأسلوب الذى ينبغى اتباعه فى عرض ما عنده من معلومات، وتمده بالثقافة اللازمة في مجال الإعلام، كي يكون قادراً على مخاطبة الجماهير، وتوجيه الرأى العام إلى ما يسعد الناس فى الدنيا وينزلهم منازل الأبرار والصديقين والشهداء والصالحين في الآخرة.

وعليه فإنى أرى أن تكون أقسام كليات أصول الدين والدعوة الإسلامية هي:

-        قسم التفسير.

-        قسم الحديث.

-        قسم الأديان.

-        قسم الفلسفة.

-        قسم النظم الإسلامية.

-        قسم الدعوة والإعلام الإسلامي.

ويمكن أن يُعتَرَض على تسمية القسم الأخير بأن فيه تكرارا، لأن الدعوة هي: الإعلام، وبأن الوصف بالإسلامي تحصيل حاصل؛ لأن الإعلام فى دولة إسلامية، وفى جامعة تقوم الدراسة فيها أساساً على العلوم الإسلامية، لايكون إلا إسلامياً. ومما لا شك فيه أن هذا اعتراض وجيه يمكن أن يطرح على مائدة البحث، كما أن هذه الأفكار كلها ما هى إلا خطوط عريضة فى جانب واحد، هو جانب كليات أصول الدين والدعوة، أردت بها أن تكون قاعدة للبحث كي نضع تطوير الأزهر في مساره الصحيح.

                                             أ. د/ محمد شامة



    تاريخ الأزهر وتطوره صـ 224 ([1]

[2]  ) حتى فى المسائل الدينية البحتة، لم يقم بواجبه كما ينبغي، بل قصر فى ناحية وأهمل فى أخرى، وقد عبر الشيخ محمد عبده عن قصور التعليم الدينى آنذاك أصدق تعبير، فقال: " إذا استقرينا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب الخذلان لا نجد إلا سبباً واحداً: وهو القصور فى التعليم الديني، إما بإهماله جملة كما هو فى بعض البلاد، وإما بالسلوك إليه من غير طرقه القويمة كما هو فى البعض الآخر.

 أما الذين أهمل فيهم التعليم الديني: فجمهور العامة في كل ناحية، لم يبق عندهم من الدين إلا أسماء يذكرونها ولا يعتبرونها، فإن كانت لهم عقائد، فهى بقايا من عقائد الجبرية والمرجئة، من نحو: أنه لا اختيار للعبد فيما يفعله، وإنما هو مجبور فيما يصدر عنه جبراً محضاً. فلهذا لا يؤاخذ على ترك الفرائض، ولا على اجتراح السيئات، ومثل: إن رحمة الله لا تدع ذنباً حتى تشمله بالغفران قطعاً، لا احتمال معه للعقاب، فليفعل الإنسان ما يفعل من الموبقات، وليهمل ما يهمل من المفروضات فلا عقاب عليه، وما شاكل ذلك مما أدى إلى هدم أركان الدين من نفوسهم واستل الحمية من قلوبهم ........ ولا منشأ له إلا عدم تعلمهم عقائد دينهم، وغفلتهم عما أودع كتاب الله وسنة رسوله.

 وأما الذين أصابوا شيئاً من العلم الديني: فمنهم من كان همهم على أحكام الطهارة والنجاسة، وفرائض الصلاة والصوم، وظنوا أن الدين منحصر فى ذلك، ومتى أدَّوْا هاتين العبادتين على ما نص فى كتب الفقه فقد أقاموا الدين، وإن هدموا كل ركن سواهما. ويشتركون مع الأولين في تلك العقائد الفاسدة.

ومنهم من زاد على ذلك علم الفروع فى أبواب المعاملات متخذاً ذلك آلة للكسب وصنعة من الصنائع العادية، وأولئك الأغلب من طلاب الإفتاء والقضاء، ووظائف التدريس وما شاكل ذلك. لا ينظرون إلى الدين إلا من وجهة ما يجلب عليهم المعيشة ...... فإن مال بهم طلب العيش إلى مخالفته لم يبالوا بذلك، معتقدين على مثل عقائد الجهلة ممن قدمنا.

وهؤلاء لا تختص مفاسد أعمالهم بذواتهم، ولكنها تتعدى إلى أخلاق العامة وأطوارهم، فهذا القسم أعظم الأقسام خطراً، وأشدها ضرراً فى العامة والخاصة ...... وما   أفراده بقليل " . [محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي صـ 141 -  142 ، نقلاً عن تاريخ الإمام جـ 2  صـ 509 – 510 ]

[3]  ) فعليها تقوم القوة المادية فى المواجهة، أما العنصر الآخر وهو القوة الروحية، فالإسلام كفيل بغرسه فى نفوس المسلمين، لو قامت المناهج التربوية على أسس إسلامية.

[4]  ) راجع كتابنا: " أثر البيئة في ظهور القاديانية"

[5]  ) حتى بعد قصر الالتحاق بجامعة الأزهر على خريجي المعاهد الأزهرية، لأن معظم الذين يلتحقون بهذه المعاهد هم من الذين لا يجدون لهم أماكن فى المدارس الأخرى فى الدولة، كذلك أقسام اللغات والترجمة التى لا زالت تقبل من طلبة الثانوية العامة، لا يتقدم إليها إلا من فاته ركب الالتحاق بالجامعات الأخرى.

الأربعاء، 5 أغسطس 2020

P

مـقـدمــــــة

 كتابنا: الإسلام إصلاح وتهذيب/ عرض وتحليل للحدود والتعزير 

تميل الكائنات الحية – فى الغالب الأعم – إلى العيش فى تجمعات بنى جنسها ، حيث تحس بالأمن والأمان ، وتشعر بالسكينة والاستقرار ، ويتغلب الكائن الحى على خوفه بين أفراد جنسه ، ويسيطر على مصادر القلق على نفسه من المخاطر المحيطة به وسط أفراد نوعه ، فهم يمدونه بالقوة اللازمة لمقاومة عوامل الفناء من حوله ، ومصارعة ما - ومن - يحاول اعتراض طريق حياته ، ولهذا يشعر الفرد بأن وجوده مرتبط بوجود جماعته ، وحياته متوقفة على هيكل وشكل المجتمع الذى هو فرد منه ، فإن كان قوياًّ أحس بالزهو والافتخار ، وازداد شعوره بالأمن والاطمئنان . أما إذا كان مجتمعه ضعيفاً سرى الضعف فى  أوصاله ، وتغلغل الخوف فى ثناياه ، وبين ضلوعه وأجفانه ، ولهذا مال كل كائن حى – غريزياًّ – إلى الدفاع عن جماعته ، حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بحياته ، لأنه يدرك أن لا وجود له ، إذا تلاشت هذه الجماعة ، أو وصل ضعفها إلى درجة لا تمكنها من الذود عن حياة الأفراد ، وتأمين الحماية لهم . ومن هنا تنازل الفرد عن بعض ما يحتاج إليه فى سبيل تقوية الجماعة ، فيخضع لكل ما من شأنه أن يدعمها ، حتى ولو أدى ذلك إلى حرمانه مما هو أساسى فى حياته .

وكلما ارتقى الكائن الحى فى سلم التطور النوعى ، كلما زاد شعوره بأهمية قوة الجماعة وتمسكها فى حياته ، واشتد إحساسه بالانتماء إليها فى سلوكه ، وقوى ارتباطه بها فى ميوله ، بحيث يصبح الشعور بوجوده غير منفك عن وجود جماعته ، فيمتزج الكل فى وحدة يزيدها هذا الشعور تماسكاً ، وقوة ، وصلابة . بل إن التطور النوعى يضيف إلى هذا الشعور الغريزى اقتناعاً عقلياًّ بأهمية المجتمع وقوته فى حياة الفرد . ومما لاشك فيه أن العقل يلعب دوراً كبيراً وهاماًّ فى إقناع الفرد بالرضوخ لقانون الحياة الجماعية ، ويهيئه نفسيًّا لتقبل ما يتعارف عليه المجموع من قوانين وإجراءات ، حتى ولو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض حرياته ، وترك بعض ما تميل إليه نفسه للاستمتاع بملذات الحياة  وطيِّباتها .

ولا يوجد نوع وصل فى رتبته العقلية ، وتطوره الفكرى درجة تمكنه من إدراك ما للجماعة من أهمية فى حياة الفرد ، مثل ما وصل إليه الإنسان ، فقد استطاع بعقله أن يميز بين إيجابيات الحياة الجماعية ، وسلبيات الحياة الفردية ، فآمن بوجود الجماعة ، بل عمل على تقويتها وتعزيزها بسلسلة من الإجراءات والقوانين التى تلزم الفرد بالتنازل عن بعض رغباته فى سبيل المجافظة على حياة الجماعة ، وتقويتها ، والدفاع عنها ، ومقاومة كل ما من شأنه أن يضعفها ، أو يهددها بالانهيار والتلاشى، وقد أطلق الاجتماعيون على هذا النوع من الالتزام : "العقد الاجتماعى" ، أى أن ما يتعارف عليه الأفراد من لوائح ترسم شكل حياة الجماعة ، ونظم تبين هويتها ، وقوانين تضبط مسيرتها ، يعتبر بمثابة العقد الذى ينبغى على كل أفراد الجماعة الالتزام به ، فمن يخرج عليها ، يعاقب طبقاً للقوانين المتفق عليها . ومن يسلك سلوكاً يكون فيه تهديد لكيان المجتمع، يقع تحت طائلة عقاب قد يصل إلى حد بتره ، إن لم يكن هناك وسيلة أخرى لإصلاحه ، وحماية المجتمع من شروره وعدوانه.

غير أن درجة التفاعل مع هذا القوانين والنظم ، ومدى الخضوع لها تختلف باختلاف مصدرها ، وتلاؤمها للتطبيق دون تفريط أو إفراط ، وعلاقة الإنسان بها ، ودرجة ارتباطه روحيًّا بوجوب تنفيذها :

-   فإذا كانت طائفية تميز عرقاً عن آخر ، و ترفع طبقة على أخرى ، وتفضل ذوى الأحساب والأنساب ، وتلبى مطالب أصحاب الجاه والسلطان ....و....و....الخ ، تحايل المظلومون للخلاص منها ، وسلك المنبوذون مسالك شتى للتحرر من سلطانها .

-   ولو وضعت على نحو لا يشبع غرائز الإنسان الطبيعية ، ولا يلبى حاجاتهم الضرورية ... و....و.....الخ ، تمرد الناس عليها ، وأعلنوا معارضتهم لها ، وجهروا بعصيانها ، ومخالفة  ما تنطق به بنودها وتشريعاتها .

-   أما إذا أفرطت فى العقاب ..... ثار المكتوون بنارها ، فاقتلعوا ما فى طريقهم من معالم الحضارة والمدنية ، واعتدوا على جلاديهم بكل سلاح يقع فى أيديهم ، بل قد تصل ثورتهم إلى إزهاق أرواح ، لا ذنب لها ولا جريرة فى مسلسل الاضطهاد ، وسيناريو التعذيب والتنكيل بالضعفاء والمظلومين .

ولا يختلف الوضع عندما يدفع الحرمان ضحاياه إلى التمرد على قانون يحمى المستغلين وأصحاب المال ، فلا يُلْزِمهم بحقوق تجاه مجتمعهم ، ولا يجبرهم على تأدية ما عليهم لبنى وطنهم .

فلو فرضنا – جدلاً – أن بعض المجتمعات قد تمكنت من وضع قانون ملائم لطبيعة الإنسان البشرية ، دون إفراط أو تفريط ، فليس فيه تمييز طبقة على أخرى ، ولا تفضيل جنس على آخر ، كما أنه لا يسمح باستغلال طاقات الأمة استغلالاً محرماً ، ولا يترك فرداً يستنزف جهود أبناء الوطن بطرق غير مشروعة ، دون الوقوف فى وجهه ، والتصدى له ومعاقبته بعقوبة تزجره ، وتردع غيره عن التفكير فى سلوك هذا الطريق ، فإن مثل هذا القانون - وإن كان فيه العديد من العناصر الإيجابية لسلامة البنية الاجتماعية - ينقصه عنصر هام جداً ، بل إنه يكاد يكون العنصر الرئيسى فى الإصلاح والتقويم ، ألا وهو الاقتناع الداخلى لدى الإنسان بوجوب الالتزام به ، وتنفيذه ، حتى وإن كان بعيداً عن أعين الرقباء . ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت هناك علاقة روحية بين المشرِّع والمشرَّع له ؛ إذ يدفعه هذا الارتباط الروحى إلى المحافظة على مواد القانون ، و التفانى فى التمسك به ، والتضحية فى سبيل تطبيقه ، فضلاً عن الدفاع عن شرعيته بكل ما أوتى من قوة . وفى هذه الحالة يخفف العبء عن المعينين للرقابة ، فلا يبذلون جهداً فى حفظ الأمن والاستقرار إلا مع فئة قليلة ، خبت فيها الروح ، وقد تضيق دائرتها ، فيقل عدد المخالفين خوفاً من توقيع العقاب عليهم .

وعلى الرغم من اقتناع بعض الباحثين بأن الثقافة ، ودرجة التحضر ، كفيلان بخلق هذه العلاقة بين الفرد والقانون ، إذ أن الإنسان المثقف أكثر الناس حرصاً على الالتزام باللوائح والنظم والقوانين ، وكلما ارتقت درجته فى سلم الحضارة ، كان حرصه على هذا الالتزام أكثر ، حتى يصبح جزءًا من طبيعته وميوله ، إلا أن ما تغرسه الروح الدينية فى هذا الجانب أكثر عمقاً من أى ثقافة ، مهما كانت نوعيتها وحجمها ، وأشد صلابة من أعلى درجات الرقى والحضارة ، وإن ارتفعت بالإنسان إلى عالم المثل ، وأحاطته بطبقات من الأخلاق والفضائل ؛ ذلك أن الشعور الدينى يتغلغل فى الإحساس ، ويختلط بالشعور ، ويمتزج بالدم فى العروق والشعيرات ، بحيث لا يتصرف الإنسان إلا طبقاً لإحساسه ، ولا يسلك مسلكاً يتنافى مع شعوره ، فلو كان ما يطلب منه الالتزام به فى سلوكه مع نفسه ، وفى مجتمعه مع من يعيشون معه ، ملبيًّا لهذا الشعور ، وغير متنافر معه ، اتحد الطرفان ، فأصبح القانون جزءاً من كيانه ، فلا يحس إلا طبقاً لمبادئه ، ولا يتصرف إلا استجابة لأوامره  ونواهيه ، بحيث لا يخرج عنه إلا فى لحظات الغفلة ، وأوقات النسيان ، لكن سرعان ما يصحو ويتذكر ، فيعود إلى سلوكه الطبيعى الذى هو صدى لما يأمر به القانون ، وينهى عنه .

ولا يوجد فى المجتمعات البشرية ما يتميز بهذه الخصائص سوى القانون الدينى ، فتعاليم الدين تحتل مكان القداسة فى نفس الإنسان – سواء كان ذلك عن رغبة فى   الثواب ، أو رهبة من العقاب – فلا يجرؤ على مخالفتها ، وليس لديه الشجاعة لمعارضتها ، فهو منقاد لها ، منفذ ما تطلبه من أوامر ، ومجتنب ما تنهى عنه ، بوازع داخلى ، دون الحاجة إلى إجبار من أمير أو خفير ، ومن غير أن يدفعه إلى ذلك سطوة  سلطان ، أو سلاح فرسان ، فهو منقاد لها  بطبيعته ، لأنها امتزجت بحواسه ، وهو سائر فى الطريق التى رسمتها له استجابة لمشاعره المختلطة بها ، فلا يحيد عنها لأن طبعه يأبى ذلك ، ولا يخالفها ، لأن مخالفتها تمزقه داخليًّا ، فيحس بالضياع والهوان .

ولهذا نرى المجتمعات التى تطبق تعاليم دينها فى حياتها  من أكثر المجتمعات البشرية انضباطاً ، وأقومها أخلاقاً ، تقل فيها نسبة الجريمة إلى حد كبير ، ويشعر الفرد فيها باطمئنان النفس ، وراحة الضمير ، وهدوء الأعصاب ، وانسجام فى العلاقات الإنسانية ، فإذا كانت تعاليم الدين صافية غير مختلطة بترهات الكهان ، وحماقات ضعاف العقول والنفوس ، وضلالات المنحرفين والمتطرفين ، فإن ما تنطق به نصوصه من قوانين يعتبر الأساس الصحيح لتنظيم قواعد سليمة ، تصلح لحماية الأمة من عوامل الضعف والانحلال ، وتحافظ على كيانها ، فلا تتسرب إليها جرثومة تنخر عظامها ، ولا يعكر صفو أفرادها أى نوع من الآفات التى تصاب بها الأمم ، عندما تضل طريقها ، أو تفقد هويتها .

 ولا يتحقق ذلك إلا فى الإسلام ، فقد كتب الله لنصوصه الحفظ من
الضياع ، فصانها من أيدى العابثين ، يقول تعالى :
] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [الحجر : 9] ، فالقرآن الكريم وحى الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيجب أن يكون مصدر القوانين التى تضبط النظام فى المجتمع ، وتُقَوِّم سلوك الإنسان ، وتهذب أخلاقه ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر معاند ، ضاعت الحقيقة من قلبه ، فأغمض عينيه بحيث لم يعد يرى أن للقرآن الكريم سلطاناً على النفوس ، فلا يستطيع المسلم منه فكاكاً ، وأن فى تعاليمه كل المقومات والعناصر التى ينشدها الأفراد فى حياتهم :

- عدالة : لا تعرف الانحياز لطائفة ضد أخرى ، وتأبى تفضيل جنس على آخر على أساس  دم ، أو عرق ، أو نسب .

- انسجام مع طبيعة الإنسان : فليس فى تعاليمه ما يكبت غريزة ، أو يقضى على عنصر أساسى فى حياة الناس .

- سهولة ويسر : فلا شطط ، ولا تعنت ، يقول تعالى : ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج : 78]، ويقول : ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة : 286]

- تقبل نفسى : إذ لا يجد المرء غضاضة فى الخضوع لها ، فهى من الله الذى يرضى الإنسان بسلطانه ، ويتقبل أوامره بصدر رحب ، ويتجنب نواهيه بارتياح ، بخلاف ما لو كان من صنع بشر ، الأمر الذى يورث التمرد عليه ، لمجرد شعوره بأنه من إنسان مثله ، فلا تقبل نفسه الخضوع له إلا  مرغمة ، ولا تنفذ ما يأمر به إلا كارهة .

فإن ادعى بعض الناس أن تطبيق الشريعة الإسلامية :

- رجوع بالمجتمع إلى عصور القرون الوسطى ، لأنها صيغت لتلائم تلك الحياة  الأولى ....

- وتطويع للحياة المعاصرة لتعاليم لم تعد صالحة لمتطلبات العصر ، فهى عاجزة عن مواكبة سرعة الخطى فى طريق التقدم والرقى ، وتلبية احتياجات إنسان القرن العشرين ....

فهو لم بفهم طبيعة التشريع الإسلامى ، ولم يدرك فلسفته وأهدافه ؛ إذ أن للتشريع الإسلامى محوراً يدور حوله ، ويرتكز عليه ، ألا وهو الإنسان !!! إذ يركز على تقويمه ، وتهذيبه ، وإصلاح سلوكه . ومما لاشك فيه أن طبيعة الإنسان لا تتغير بتغير الزمان  والمكان ، فالأنانية التى تسيطر على بعض أفراد من البشر لا تختلف اليوم عما كانت عليه فى الماضى ، وإن اختلفت أساليب إشباعها .... وميله إلى الاعتداء على ما فى يد الغير لا يغير  جوهره ومضمونه تقدم ورقى وحضارة ، وإن حُوِّرَت وطُوِّرَت أساليب ووسائل هذا الاعتداء ... وكذلك الشأن فى كل غرائزه ؛ لا تبدلها العصور ، وإن لونت مظهرها الخارجى ، ولا يغير التحضر كنهها ، وإن عدل فيه ، فغير شكله . ولا يمحوها الرقى والتقدم ، بل يحجبها فلا تراها العين المجردة ، وإن كانت آثارها أكثر وضوحاً منها فى عصور " التخلف والانحطاط " .

ومن هنا فلا يجوز أن يُرْفَض قانون ، بحجة أنه لم يعد صالحاً للعصر ، ما دام هذا القانون يهدف إلى إصلاح الإنسان وتهذيبه ، لأن طبيعة الإنسان باقية كما هى ، على الرغم من اختلاف العصور حضارة وتقدماً ، وتفاوتت مجمعاتها ثقافةَ وتعليماً.

أما ما يدعيه المعارضون من عدم قدرة الشريعة الإسلامية على تلبية متطلبات العصر، بحجة أن هناك من الظواهر ما يتغير ويتبدل ، وكثير منها جديد كل الجدة - أى ليس له مثال سابق فى تاريخ المجتمع الإسلامى - بل إن نظام الحياة قائم على التغير المستمر ، والتطور المطرد ، الأمر الذى يستلزم تغيير القوانين باستمرار ، لتنسجم مع صور الحياة المتجددة ، ولتلبى احتياجات المجتمع التى تنشأ عن هذا التغير ..

فقد نشأ هذا الاعتراض بسبب عدم إدراك فلسفة التشريع الإسلامى  ، ذلك أن الله أنزل التشريع الإسلامى متطابقاً مع طبيعة الوجود ، منسجماً مع كل ما يطرأ من   التغيرات ، أو يظهر على سطح الحياة من ظروف متجددة ، ذلك أنه تضمن قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور ، وتتمشى مع ما ينبغى أن تكون عليه الحياة من الاستقرار ، أو تتفق مع الظواهر التى يشترك فيها جميع الأجناس البشرية ، ومع ذلك فقد تركت التفصيلات والتفريعات لعقل الإنسان ، يستخلصها حسب عصره وبيئته ، ويستنتجها طبقاً لمتطلبات ظروفه المحيطة به ، بحيث يلبى احتياجات العصر . وفى الوقت نفسه لا تخرج عن الخط الرئيسى الذى رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع ، أو كدستور يتخذه الناس قاعدة تشريعية أصلية ، ينبثق منها كل ما يقررونه من قوانين ، وما يرسمونه لأنفسهم من لوائح  ونظم .

فالقضايا الكلية فى الإسلام هى قواعد التشريع الأساسية التى تصلح لكل  شعب ، وتلبى احتياجات كل المجموعات البشرية ، على اختلاف ألوانها وأجناسها ، وتتناسب مع كل عصر وبيئة ؛ إذ يتخذها الجميع أساساً تُسْتَنتَج منه أحكام لكل القضايا ، وعلاج لكل المشاكل التى تواجه الإنسان والمجتمعات ، فكانت هذه المبادئ الرئيسية فى التشريع أساساً للاجتهاد فى مجال الأحكام الشرعية ، الذى بمقتضاه تكونت المذاهب الفقهية ، فزخرت بالأحكام والتفريعات التى كانت منها فروض مقدرة الحدوث فى الأزمان المستقبلة .

فكان هذا العمل فى مجال التشريع ، دليلاً على مرونة الفقه الإسلامى ، وصلاحيته لمواجهة الأحداث ، التى تظهر نتيجة لديناميكية الحركة فى مجالات الحياة المختلفة ، وعنصراً جوهرياًّ فى مفهوم صلاحية التشريع للتطبيق فى كل العصور ، مهما ارتقى الإنسان فى سلم الحضارة والمدنية .

ومن أكثر حجج المعارضين صدى بين الجماهير ، وأبعدها تأثيراً فى موقف المشتغلين بقضايا السياسة والحكم ، ما يزعمونه من أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يتناسب مع روح العصر ، فلم تعد تقبله النفس الإنسانية التى تربت فى جو "ليبرالى" ، يكره القسوة فى العقاب ، ويرفض كل أساليب الوحشية فى مجال التقويم والتهذيب ، فالإنسان المتحضر يقشعر بدنه ، عندما يسمع أن من صور  العقاب : قطع يد السارق ، ورجم الزانى المحصن حتى الموت ...و  ...و ...الخ ، فهو يعارض دائماً وأبداً كل تشريع يتضمن مثل هذا العقاب القاسى ، حتى ولو كان الإسلام الذى يدين به - عند بعض المسلمين - ، معللاً هذا الموقف بعلل شتى ، ومبرراً موقفه المعارض لتطبيق الشريعة الإسلامية - رغم تمسكه بالإسلام عبادةً وأخلاقاً – بمختلف الحجج والبراهين ، ومن أشهرها : ما يدعيه من أن تطبيق مثل هذه العقوبات سيؤدى إلى زيادة العجزة فى المجتمع ، مما يزيد فى عبء الدولة ؛ إذ يبدد قواها ، ويشل حركتها ، فتعجز عن مواكبة التقدم والرقى مع غيرها من الأمم .  

اقتنع كثير من المسلمين – وخاصة خريجو المدارس المدنية – بهذا الاتجاه ، غير أن بعضهم أيده سلبياًّ ، وعارضه وجدانياًّ . وآخرون ناصروه بكل قوة متاحة لهم ؛ فهم يناصرونه بالقلم ، إن كانوا على درجة تؤهلهم لذلك ، ويدعمونه بالسلطة والسلطان ، إن ملكوا زمام الحكم ، ودفة القيادة والتوجيه . ولا يصل إلى هذه الدرجة إلا من أيد وبارك اتجاه المعارضين ، حتى لو وصل معهم من يؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية ، فسرعان ما تجرفه الأمواج ، وتحتويه أجنحة هذا الاتجاه  فيُطْوَى تحتها ، وينسى مواقفه الأولى ، إن لم يتحول إلى معارض لما كان ينادى به قبل الانضمام إلى سدنة الحكم ، وحاشية السلطان .

وينبغى على هؤلاء المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية - سواء كانت معارضتهم سلباً أو إيجاباً - أن يعلموا أن الشريعة الإسلامية ليست هى الحدود فقط ، بل هى منهاج لكل جوانب الحياة الإنسانية ، ولا تمثل الحدود فيها إلا جزءاً ضئيلاً جداً بالنسبة للمجموع الكلى .

وبناءً عليه فمعارضة تطبيق الكل بسبب جزئية صغيرة أمر غير مقبول ، ولا يستساغ عقلاً التسليم به .... أضف إلى ذلك أن ما يبدو من قسوة فى عقوبات الحدود ليس كما يصورها هؤلاء المعارضون ، إذ ليس فى التشريع الإسلامى ما يحتم قطع يد كل سارق، أو رجم كل من يتهم بالزنا ، فهناك من الشروط ما يحصر تنفيذ هذه الحدود فى دائرة ضيقة جداً ، لدرجة أن تطبيقها قد يصبح فى حكم النادر ، أو فى حكم المستحيل ، إذ أن الرجم لا يكون إلا  بالاعتراف ، أو بشهادة أربعة ، يرون العملية  بالتفصيل ، وبأدق مظاهرها ، ولا أظن أن هذا ممكناً .

كما أنه من الجائز شرعاً تعليق هذه العقوبة ، لو لم تتوفر شروط تنفيذها ، كما فعل عمر بن الخطاب tحبث لم يطبق عقوبة يد السارق فى عام الرمادة .

فكيف يقال : إن قسوة العقوبة فى الشريعة الإسلامية أمر غير محتمل فى ظل الحياة المعاصرة ، فى حين أن رسول الله r قال : "ادرءوا الحدود بالشبهات" ، فأدنى شبهة تسقط الحد !!!! كما يضيق من دائرة تنفيذ الحدود أيضاً كثرة الآراء الفقهية فى المسألة الواحدة ، مما يجوز للجنة التشريع القضائى أن تختار من هذه الآراء أقربها إلى روح العصر أساساً للعقوبة ، ومبدأً من مبادئ القوانين الملزمة للقضاة .

ومن الحقائق المعروفة أن من الفقهاء من تمسك بظاهر النص ، ومنهم من التزم بروحه بدرجات متفاوتة ، بحيث يجد المتشددون فيها ما يشبع ميولهم ، ولا يفقد المتساهل ما يدعم اتجاهه فى صياغة قواعد قانونية ، تتفق مع روح العصر ، وفى الوقت نفسه لا تفقد هويتها الإسلامية .

ومن أجل هذا كله أردت أن أعرض صورة لآراء الفقهاء فى مجال العقوبات فى التشريع   الإسلامى :

- لأبين للمعارضين أن فى الفقه الإسلامى مجالاً لمتطلبات العصر ، وساحة تستوعب ما لابد منه فى الحياة المعاصرة ....

- ولأوضح للمتشددين أن من الفقهاء الموثوق بهم علماً وفهماً ، مَنْ  يخالفهم فى هذه  الآراء المتشددة ، فلا ينبغى لهم أن يعتبروا أن ما يرونه صحيحاً هو الإسلام ولا شيء غيره ، بل ينبغى عليهم - إن أرادوا تشدداً - أن يعرضوا ما يؤيدونه من الآراء على أنه أحد الآراء المطروحة فى ساحة التشريع الإسلامى .

وكان من الممكن أن أسلك طريقاً جديداً فى عرض نصوص التشريع الإسلامى لأوضح صلاحيته للتطبيق فى كل زمان ومكان ، ولكنى عدلت عن ذلك لأمرين :

1.      أن لآراء الفقهاء القدامى نوعاً من القداسة عند المسلمين ، مما يجعل لها سلطة فى الإقناع  والتسليم ، وهذه ظاهرة مسلم بها عند كل الشعوب ؛ إذ كلما كان الرأى أقدم ، كان أقرب إلى القبول ، لأنه اجتاز من  الزمن فترة أكثر من غيره ، وكان عمره – ذاته – دليلاً على أنه قد اجتاز هذا الاختبار بنجاح  ، إذ لما كانت أجيال متعاقبة من الناس قد وجدته صحيحاً ، وتقبلته عقلاً وتديناً ، فإن احتمال أن يكون صحيحاً بالفعل أقوى من احتمال ما لم يمر إلا بفترة اختبار قصيرة ، ومن الممكن أن تعد هذه القاعدة فرعاً من قاعدة : البقاء للأصلح .

2.      أنى وجدت فى التشريع الإسلامى آراءً تناسب العصر ، فاكتفيت بإبرازها فى أسلوب عصرى ، لتتضح صورة صلاحية التشريع الإسلامى لكل زمان ومكان فى ذهن المعارضين والمترددين على  السواء ، ومحاولة لإقناع من لا يرى من المتشددين إلا جنباً واحداً ، أن هناك جوانب أخرى ، وآراء متعددة فى المسألة الواحدة ، فليس من مصلحة الإسلام التضييق على المسلمين ، حتى لا تكون فتنة ، وليتذكروا قول الله تعالى : ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [الحج : 78]، وقوله : ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة : 286] 

وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه صلاح أمور الدين والدنيا

                                           أ. د/       محمد شامة

 

 

 

 

 


مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...