O
الحج عرفة
بين
المحسوس والمعقول
أ. د/
محمد شامة
يتدرج المستوى الثقافي في أي مجتمع، من أبسطه إلى أعلاه، ومن المشاهد أن
غالبية أفراد المجتمع تميل إلى المحسوس، فلو جاء النص القرآني-أو الحديث
النبوي-يخاطب العقل فقط، لا نصرف عنه معظم الناس، فكان لابد أن يراعى هذا الجانب
كي يجذب إليه هذه الجموع، ثم يضمنه المعاني السامية التي يستسيغها المفكرون
والفلاسفة، فآيات القرآن الكريم، وكذا الأحاديث النبوية الشريف-خاصة فيما يتعلق
بالعبادات والفروض الدينية-جاءت على نحو يفهمها البدائي في كهفه، وبيدائه،
ومغاراته، كما يدرك أسرارها العالم في حلقاته العلمية، ومدرجاته الدراسية؛ أحمرهم،
وأسودهم، وأبيضهم، سواء كان في مجاهل الكرة الأرضية، أو في بروجها وناطحات سحابها،
فكلام الله مائدة عامرة لكل الأفهام الإنسانية.
وعليه
فللأوامر الإلهية خاصية لا يعلمها ويدرك كنهها إلا الله I فقد يرى
الله وجوب ذكر الجانبين كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ [المائدة: ٦]
فقد ذكر الجانب الحسي، وهو وجوب غسل أعضاء
محددة، بجانب الجانب المعنوي ألا وهو عدم الحرج بل طهارة البدن وإزالة كل ما
يتنافى مع القذارة. وقد نص على ذكر ذلك لأنه ضروري لحماية الجسم من الأمراض، وهو
الأمر الذي يميز شعب عن آخر فيما يتعلق بدرجة الحضارة؛ إذ مما يقدم شعباً على آخر
هو الحرص على النظافة التي تلعب دورا كبيراً في رقي الشعوب وتقدمها.[1]
وكذلك الوضع في وجوب الصلاة؛ إذ لها الجانب
الحسي، وهو تأديتها كما هو مبين في كتب الفقه، أما جانبها المعنوي فإنها تنهى عن
الفحشاء والمنكر، وذلك في قوله تعالي: ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷﲸ ﳁ ﱠ [العنكبوت: ٤٥] ، فمن لم تنهه صلاته فلا صلاة له، فيجب على العلماء والفلاسفة بيان ذلك
لعامة المسلمين.
وقد يترك الجانب المعنوي-غير
المحسوس-للمفكرين والفلاسفة، وذلك إذا كان الجانب المعنوي لا يتعلق بأمر مباشر
للحياة اليومية، مثل شعيرة الوقوف بعرفة؛ فإن أثرها يشمل الأمة جمعاء ولا تقام إلا
مرة واحدة في العام.
فجانبها الحسي هو
الوقوف بهذه الساحة الواسعة من فجر يوم عرفة حتى غروب الشمس، أما الجانب المعنوي فيمكن
الوصول إلى كنهه من خطبة الوداع، حيث أعلن فيها رسول الله e
جملة من المبادئ التي يجب على المسلمين الالتزام
بها في حياتهم، ونص الخطبة: "أيها
الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في
مَوقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا
ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم
فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّيها إلى من ائتمنه عليها. إن ربا الجاهلية
موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة،
وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية -يَعني أعمالها-موضوعة،
غيرَ السِّدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ – يَعني: القتل العمد قصاص-وشِبْهُ
العَمد ما قُتِلَ بالعصا والحَجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إنَّ الشيطان قد يئسَ أن يُعبدَ في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يُطاعَ
فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إن النسيء زيادةٌ في الكفر، وإن
الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدةَ الشهور عند الله
اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعةٌ حُرم: ثَلاثٌ
متواليات، وواحدٌ فرد، ألا هل بلَّغت، اللهم فاشهد. أيها الناس، إن لنسائكم عليكم
حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا
تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله
أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن
انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم
- يَعني أسيرات - ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله،
واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا
هل بلغت، اللهم فاشهد. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ
أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا
يَضرب بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتاب
الله. أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب،
أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم
فاشهد. أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز
لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ، والولد للفراش، وللعاهر
الحجر، من ادَّعى لغير أبيه، أو تَولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلاً". وبعد الانتهاء من خطبة
الوداع سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-الناس فقال: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ
عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ
وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقالَ: بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى
السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ اللَّهُمَّ، اشْهَدْ، اللَّهُمَّ، اشْهَدْ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ).
فإذا نظرنا في هذه الخطبة إلى المبادئ التي
بينها الرسول e وأمر المسلمين بتطبيقها في عصرنا الحاضر نجد أن
ما يلائمنا منها نختصره فيما يلي:
1. لا يجوز لنا أكل أموال الناس بالباطل؛
فلا يستغل القوي الضعفاء، فيسلبهم حقوقهم ويحرمهم مما أعطاه الله لهم، ويستولي عما
لهم من حقوق، ويمنع عنهم ما يجب على المجتمع الإسلامي ضماناً لهم من: تعليم،
ودواء، وعيش كريم، وسكن صحي ملائم.
2. يجب على المجتمع الإسلامي-ممثلا في
الحكومات ومراكز التشريع-رد الأمانات إلى أهلها، فلا استغلال ولا اعتداء على حقوق
الغير.
3. لا قداسة لأحد، مهما كان مركزه
الاجتماعي والقانوني في المجتمع، فلا يقدس إلا الله، ولا تمييز لأحد على آخر؛
فالكل سواء في الحقوق والواجبات.
4. عدم ظلم النساء؛ فلهن حقوق وعليهن
واجبات، فيجب المساواة بين الرجال والنساء، إلا فيما اختلف فيه طبيعة الخلق.
لا يجوز لأحد الاعتداء على الآخرين
بالقتل أو ما يدخل في حكمه، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﱠ [النساء: ٩٣] ويقول:
ﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ١١ - ١٨
ويقول تعالى: ﭐﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﱠ [الحجرات: ١١]
هذه بعض ما ورد في
خطبة الوداع من مبادئ؛ فعلى المسلمين-وخاصة العلماء والفلاسفة-دراستها وبيانها
للناس، وإعلان –على جبل عرفات في يوم عرفة-ما تحقق منها، وما يجب على المسلمين
تحقيقها؛ إذ ليس الوقوف بعرفة مجرد الوجود دون عمل؛ وإلا كان ذلك هو فهم العامة من
هذه الشعيرة، بل رأي بعض المتخصصين في بيان شعائر الحج؛ فعلى الراسخين في علوم
الشريعة أن يبينوا للمسلمين أن هذا اجتماع سنوي يعرض فيه مشاكل المجتمعات
الإسلامية، وكيفية حلها، كما يبين في هذا الاجتماع ما يحتاج إليه المسلمون في شتى بقاع الأرض، ودعوة القادرين إلى ما لديهم من قوى مادية ومعنوية لإزالة
ما يعترض المسلمين في أي بقعة من بقاع الأرض من عقبات بكل الوسائل المتاحة.
كيف
يتحقق ذلك؟
هذا هو واجب المؤتمر
الإسلامي؛ إذ ينبغي ان ينظر في أحوال المسلمين في كل بقاع الأرض ويحدد مشاكلهم
ويعين ما يحتاجون إليه دون تدخل من الحكومات في عمله، ثم يصيغ ذلك في بيان عام
يلقى على المسلمين في عرفات، كي يفهم كل مسلم ماله وما عليه إزاء أخيه المسلم،
وإلا كان هذا الاجتماع مجرد وجود لا غير، وهو ما يعتقده سائر الناس، بل هو ما
يلقنه الفقهاء للحجاج، فإن غاب الجانب المعنوي للوقوف بعرفة، أصبح لا معنى له،
فحاشا وكلا أن يفرض الله على المسلمين عملاً لا فائدة منه، ويصدق في هذا الصدد قول
أحد أعضاء هيئة التدريس في كلية إسلامية، عندما كنا في عرفات عام 1977م : هذا
الاجتماع يشبه ما يحدث في مولد الحسن أو السيدة زينب."، فقلت له: ليس هذا هو
المعنى المقصود؛ فالغاية من اجتماعنا على عرفات تدارس أحوال المسلمين وبيانها
للناس ، حتى يدركوا ما عليه أحوال المسلمين في أي قطر من أقطار الأرض؛ وقد عبر أحد
المستشرقين عن هذا المعنى في بيان مصادر القوة عند المسلمين في كتاب: "الإسلام
قوة الغد العالمية" فقال: "إن اتجاه المسلمين نحو مكة-وطن
الإسلام-عامل من أهم العوامل في تقوية وحدة الاتجاه الداخلي بين المسلمين، وأسلوب
يضفي على جميع نظم الحياة في المجتمع الإسلامي طابع الوحدة وصفة التماسك، يتوجه
المسلمون كل سنة نحو مكة، فتتحدد خطاهم نحو هدف واحد، وأفكارهم-وإن كان ذلك غير
ممكن-إلى غاية واحدة. وهناك في مكة تبسط حالة العالم الإسلامي، ويتصاعد منها أنين
الأفكار المكلومة ممزوجة بوحدة الشعور بضرورة الكفاح سويًّا، والسير معاً على طريق
النضال، ويتعنق هذا الشعور في نفوس الحجاج، ويحملونه معهم عائدين إلى الأقاليم
البعيدة المكلومة في العالم الإسلامي." [2]
ألا ترون أن فهم هذا المستشرق لشعيرة الوقوف
بعرفة، فهم غاب-أو غُيِّبَ-عن علمائنا، فطفقوا يشرحون للحجاج أن الشعيرة لا يجزئ
عنها فدية فلا بد من الوقوف بعرفة، غافلين أن عدم لا يجزئ عنه فدبة، لأنه اجتماع
ضروري ليعرف المسلمون أحوال إخوانهم في بقاع الأرض كي يتلاحموا ويتكاتفوا ليقوي
بعضهم بعضاً في مواجهة أعداء الإسلام. ومن يدعون إلى سيطرة العلمانية في المجتمع
الإسلامي.
إن
عدم وجوب الفدية لمن يفكر في التخلف عن حضور هذا الاجتماع لمعرفة أحوال المسلمين
لا حجة له لأن الحج هو عدم التخلف عن سماع تقرير المؤتمر الإسلامي المختصر عن
أحوال المسلمين في عرفات، وهو المكان الذي يضم كل الحجاج فهو اجتماع عام. وعلى
المؤتمر التزام الموضوعية، عير مبالِ إلى اعتراض أي جهة، أو سلطة مهما كانت قوتها
أو نفوذها محليًّا أو دوليًّا. فسوف يحاسبها المسلمون عن أخطائها أو تملقها لأي
جهة مهما كان وضعها.
هذا هو فهمي لهذه الشعيرة، فمن عنده ما
يخالف هذا الرأي فليتفضل ببيانه
والله أعلم.
أ. د/ محمد شامة
1.) قرأ أحد الألمان
كتاباً لي عن الطهارة باللغة الألمانية، فقال لي: من يقرأ هذا الكتاب ولم ير
المجتمع الإسلامي يعتقد أن هذا المجتمع من أنظف الشعوب الإنسانية، بل أنظفها على
الإطلاق، لكن الحقيقة خلاف ذلك.
[2] . بأول شميتز: "الإسلام قوة الغد العالمية"،
ترجمه من الألمانية إلى العربية: د/ محمد شامة، نشر في مكتبة وهبة طبعة أولى 1971م
صفحة 87
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق