إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 5 يونيو 2021

 

   O

نفقة المطَلَّقة [1]

أ‌.       د/ محمد شامة

خلَّف ارتفاع نسبة الطلاق آثاراً سيئة في المجتمع؛ إذ أصبح كثير من المطلقات بلا دخل يقيم أودهن، فليس لكثير منهن عائل يتكفل بنفقاتهن، الأمر الذي دفع كثيراً من المهتمين بشئون الأسرة إلى الإدلاء بآرائهم في هذا المجال لحل هذه المشكلة؛ وذلك بسبب أن نفقة العدة المقررة في قانون الأسرة لا تستمر أكثر من عام واحد، فضلاً عن تحمل المطَلَّقة نفقات كثيرة للحصول على حكم يلزم المطلِّق بدفع هذه النفقة ، وتقضي أوقاتاً طويلة بلا دخل ، وليس معها ما تدفعه أجراً للمحامي الذي يتولى الدفاع عنها أمام المحاكم لاستصدار أمر قضائي يلزم المطَلِّق بدفع هذه النفقة، ناهيك عن إجراءات التنفيذ وحيل المطلِّق للهروب من تنفيذ الحكم.

ارتفعت أصوات عديدة أثناء عرض قانون الأسرة على البرلمان الحالي (2021م) باقتراحات مختلفة، منها: وجوب حصول المرأة على وثيقة تأمين بمبلغ كبير تحصل عليه عند طلاقها. ودار النقاش حول هذا المقترح وغيره من الآراء في هذا الصدد. ويجدر بنا أن نبين هنا جوانب المشكلة كما ذكرها القرآن الكريم، ثم عرض آراء الفقهاء فيها، قبل عرض آرائنا:

تقع الفرقة بين الزوجين بطلاق رجعي، أو بائن، أو بفسخ العقد الصحيح أو الفاسد، أو تكون بالموت. فإذا كانت بطلاق رجعي، فقد اتفق الفقهاء على نفقة العدة من هذا الطلاق على الزوج، وهي تشمل: الطعام، والملبس، والسكن، سواء كانت عدتها بالحمل، أو بالأشهر، أو بالإقراء.

     فإذا كانت معتدة من طلاق بائن، فإن كانت حاملاً، فقد اتفق الفقهاء على أن لها النفقة لقوله تعالى: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ   [الطلاق: ٦]

وإن لم تكن حاملاً؟

فيرى الأحناف وجوب نفقتها عليه مثل المعتدة من طلاق رجعي، لأنها مكلفة بقضاء مدة العدة في بيت الزوجية، فهي محتسبة لحقه عليها، فتجب لها النفقة من وقت الطلاق، ولا تتوقف على التراضي، ولا قضاء القاضي. ولا يسقط حقها في النفقة إلا بالأداء أو الإبراء، وذلك لعموم قوله تعالى: ﱡﭐ    [الطلاق: ٧]

فهو يشمل المطلقات جميعاً، سواء أكان الطلاق بائناً أم كان رجعيًّا؛ إذ لا يخصص عام القرآن إلا بدليل قطعي، ولم يوجد ذلك الدليل.

وقال أحمد: لا نفقة لها ولا سكنى؛ لأن وجوب النفقة بحق الزوجية، وقد زالت، ولأن النبي e لم يفرض لفاطمة بنت قيس نفقة، وقال لها: "لا نفقة لك ولا سكنى."

وقال الشافعي: إنه ليس لها إلا السكنى، لقوله تعالى: ﱡﭐ   [الطلاق: ٦]

وما حكم نفقة المعتدة، إذا كانت الفرقة بسبب فسخ العقد؟

إذا كانت الفرقة فسخاً، وكان الفسخ من قِبَل الزوج، أو كان من قِبَل الزوجة، ولكن بسبب لا معصية فيه، كاختيارها نفسها بخيار الإفاقة بعد الدخول بها، ففي هذه الأحوال تجب النفقة.

وإذا كان الفسخ بسبب فساد العقد فلا نفقة لها؛ لأن النفقة غير واجبة في هذا العقد، فلا تجب النفقة في آثاره.

وكذلك إذا كان الفسخ بسبب معصية الزوجة؛ لأن الجريمة لا تثبت حقًّا من الحقوق، والزوجية قد انتهت بمعصيتها.

وقد نص قانون الأسرة الحالي بأحقيتها في النفقة لمدة سنة بناءً على رأي الفقهاء!!!!

 كل هذه الآراء، بما فيها ما استنتجه العلماء من آيات القرآن الكريم، وصيغ كقانون في سجل التعامل مع الأسرة، ليست مقدسة؛ إذ هي آراء بشر، تعبر عن فهم العالِمْ للآيات، ملبياً لظروف الزمان وطبيعة المكان، ولذا فهي تحتمل الصواب والخطأ، وهذا هو المفهوم من قاعدة التشريع بالنسبة لآراء الفقهاء؛ فهم ليسوا مشرعين، بل مفسرين لنصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وتفسيره ليس ملزِماً، بل يجوز قبوله، ويمكن رفضه لوجود آراء أكثر قرباً للنص، وأقرب إلى تحقيق المنفعة العامة، ولا تخرج بذلك عن روح التشريع الإسلامي؛ إذ أن المطلوب منها التسليم به ولا يحيد الواضع للقانون عنه هو: التسليم بنص القرآن الكريم لأنه وحي، وليس التفسير لأنه رأي بشر يحتمل الصواب والخطأ؛ فنصوص القرآن الكريم صنفان: قطعي الدلالة فلا يجوز فيه استعمال الرأي. وظني الدلالة، وهو مجال تسبح فيه آراء العلماء، لأنها كلها تحتمل الصواب والخطأ، فللمسلم أن يختار منها ما يراه مناسباً لعصره، وقابلاً للتنفيذ دون مشقة أو حرج، فإذا لم نجد في آراء السابقين ما يتحقق فيه سهولة التنفيذ وموافقة العصر، فليجتهد العلماء لاستنتاج ما يلائم العصر، بحيث لا يتصادم مع نص قطعي الدلالة أو يخالف مبدأً اتفق العلماء على ضرورته في الحياة المعاصرة. 

تنقسم تعاليم الإسلام إلى قسمين:

الأول: يستطيع الإنسان أن يلتزم به مع اختلاف الأماكن والعصور، وهو العبادات؛ إذ يمكن للإنسان أن يؤديها في البيداء والصحراء، حيث الحياة البسيطة التي لم تُحَمَّل بالمعطيات الحضارية، ولم تقيدها متطلبات التقدم والرقي، كما أن من يعيش في مجتمع حضاري، لا يحول بينه وبين أدائها أي    عائق، ففي آراء الفقهاء متسع لأدائها مع التزامه بالسلوك الحضاري، وتمسكه بما تمليه عليه الحياة، مهما كانت درجة حضارتها وتقدمها.

الثاني: أما القسم الآخر، وهو ما يتعلق بشئون الحياة، فقد أباح الإسلام للمسلمين أن يجتهدوا فيها، وإن اقتضى الأمر تطويرها فلهم ذلك، ما داموا ملتزمين بالإطار العام، وهو منهج إسلامي يبيح الانفتاح على كل الأفكار والتجارب السياسية والاقتصادية في العالم، ويسمح بالأخذ منها بما يُمَكِّن المسلمين من الانطلاق والتقدم، والأخذ بكل عناصر الرقي العلمي والسياسي والاقتصادي، مادام في ذلك مصلحة للمجتمع؛ إذ أن من بين القواعد العامة في الفقه الإسلامي: " حيث توجد المصلحة فثم شرع الله."

ولما كانت أساليب الحياة متجددة، ونظمها متطورة، فقد وضع الله التشريعات المتعلقة بها في صورة قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور، وتتمشى مع ما ينبغي أن تكون عليه الحياة من الاستقرار والاطمئنان، وتتفق مع الظواهر التي يشترك فيها جميع الأجناس البشرية. أما التفاصيل والتفريعات فقد تركها الله لعقل الإنسان يستخلصها حسب عصره وبيئته، ويستنتجها طبقاً لمتطلبات ظروفه المحيطة به، بحث يلبى احتياجات العصر، وفى الوقت نفسه لا تخرج عن الخط الرئيسي الذي رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع، أو كدستور يتخذه الناس قاعدة أصلية للتشريع، ينبثق عنها كل ما يقررونه، وما يرسمونه من لوائح ونظم.

وتكفى نظرة واحدة إلى ما يشغل المجتمعات من قضايا كبرى – وهي على سبيل المثال لا الحصر:

- الشورى في مجال الحكم،

-  وحرية النقد في جميع مجالات الحياة،

-      وقضية المساواة بين الناس على أساس القدرة الذاتية، لا على أساس عرق، أو لون، أو أي مظهر من مظاهر الحياة المادية،

-  والعدل في توزيع الثروة القومية،

وغير ذلك من الأمور الأساسية التي تقوم عليها حياة المجتمعات، وتؤثر تأثيراً بالغاً في رقى الأمم والمجتمعات. وموقف الإسلام منها: يبين أنه جاء موافقاً فيها – وفى غيرها من القضايا الأساسية – لقوانين الحياة، فرسم قواعد ثابتة، وترك التفصيلات والتفريعات للفقهاء، لتكون مجالاً للاجتهاد والاستنباط، سعياً وراء الصيغ القانونية التي تلائم بيئاتهم وعصورهم.[2]

فإذا تصفحنا الآيات التي تحدثت عن نفقة المطلقة، لاتضح لنا أنها من النوع الثاني، أي أنها عامة لا تحدد قيمة النفقة ولا مدتها، وما جاء في قوله تعالى:       [الطلاق: ٦] ، فذلك يتعلق بما تحمله من ذرية الزوج، وهو مكلف بدفع ما يحتاجه، سواء قبل ولادته أو بعدها، لما في قوله تعالى:   ، فهذه الآية، سواء ما يتعلق منها بوقت الحمل أو بالرضاعة، تتعلق بالإنفاق على الذرية، فلا علاقة لها بنقة المعتدة. وما جاء في نفقة المعتدة فهو عام لقوله تعالى: ﱡﭐ [الطلاق: ٧]، وقوله: ﱡﭐ      [الطلاق: ٦]، لأن تقدير النفقة ومدتها متغير بتغير الزمان والمكان، ومرتبط –إلى حد كبير- بمستوى حياة الزوجين قبل الطلاق، ويخضع كذلك لاعتبارات اجتماعية، وثقافية، واقتصادية؛ لهذا لم يحدد الإسلام زمنها ولا قيمتها، وتركها لظروف العصر وما يحيط بحياة الأسرة من عوامل الزمان والمكان، وما يعتريها من تغيرات عديدة، أيًّا كان نوعها وقيمتها، وهو مجال يسبح فيه العلماء بآرائهم، وتوجهاتهم التي تخضع للنقاش والمداولات القانونية والاقتصادية.

     ومن هذا المنطلق يحق لنا أن نقدر النفقة حسب الظروف والأحوال المختلفة والمتعددة، ولا نتمسك بما قاله العلماء السابقون في هذا الصدد لأنهم عبروا عما يلائم ظروفهم ويتفق مع أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية وهي مختلفة تماماً عما نعيشه اليوم.

     ومن هنا يحق لنا أن ندلي بدلونا في هذه المسألة ونطرح للنقاش ما توصل إليه فهمنا لفلسفة التشريع الإسلامي، فإن كان ملائماً للعصر ومتمشيًّا مع ما تحتاج إليه المطلقة في هذه الظروف ومؤيداً من الأغلبية المتخصصة في هذا المجال وضعناه قانوناً يلتزم به الأطراف المعنية وتقوم الجهات المختصة على تنفيذه بكل الوسائل المتاحة.

 

     يتخلص رأينا في الآتي: تقوم الدولة بإنشاء صندوق معاش للمطلقات على غرار معاش الموظفين، وتكون موارده كالآتي:       

1.    يفرض على كل عقد زواج وكذلك عقد الطلاق مبلغاً من المال لصالح هذا الصندوق.

2.    يدفع ممولو الضرائب 1% مما يدفعونه للدولة من ضرائب – وليس مخصوما منها-لصندوق معاش المطلقات.

3.     دعوة أهل الخير للتبرع لهذا الصندوق.

4.    يدفع 1% من رسوم المحررات الرسمية لهذا الصندوق.

5.    يدفع المطَلِّق-بعد الطلاق- 20% من دخله الشهري للصندوق؛ فإذا كان موظفاً تقوم جهة عمله بهذا الخصم من مرتبه وترسله إلى الصندوق، وإذا كان عمله حرًّا فتقوم مصلحة الضرائب بهذه المهمة، أما إذا كان غير موظف ولا يتعامل مع مصلحة الضرائب، فتقوم اللجنة المشرفة على الصندوق بتحديد ما يجب عليه وضعه في الصندوق، ويستمر هذا مدة سنة على الأقل، فإذا زادت مدة الزواج عن سنة يظل يدفع للصندوق هذا المبلغ مدة تساوي المدة التي قضياها في عش الزوجية.

6.    إسهام وزارة التضامن، وبنك ناصر الاجتماعي في هذا الصندوق.

 

هذا تصور مطروح للمناقشة، فهو ليس مناقضاً لنص شرعي، وأعتقد أنه لو طبق سوف يحل كثيراً من المشكلات التي تعانيها المطلقات 

                            أ‌.       د/ محمد شامة



1) تختلف أحكام العدة عن أحكام النفقة، فالعدة إبراء الرحم وقد بينها القرآن الكريم نصًّا فقال عن المتوفى عنها زوجها: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ  ﱈ ﱉ ﱊ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ  ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ  [البقرة: ٢٣٤]، وقال عن عدة المطلقة التي انقطع حيضها أو كانت حاملاً: ﱡﭐ ﲪ ﲫ  ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ  ﲵ ﲶ ﲷ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾﲿ  ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ [الطلاق: ٤] ، فإذا حدثت الفرقة بينها وبين زوجها بطلاق، أو فسخ ، وكانت من ذوات الحيض، فإن عدتها ثلاثة قروء يقول تعالى: ﱡﭐ ﱨ ﱩ  ﱪ ﱫ ﱬ    [البقرة:٢٢] ، ويقول تعالى عن مدة عدة الحامل : ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾﲿ   [ الطلاق: ٤]، أما النفقة فلم تحدد قيمتها ولا مدتها في القرآن الكريم كما بينت ذلك في هذا البحث.

 

 

  

) راجع مقالنا  المنشور في مدونة شامة: "إسلام واحد ورؤى متعددة"[2]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...