O
صراع الجنسين وحولهما
أ. د/ محمد
شامة
خلق الله الجنسين (الذكر والأنثى) من مادة واحدة؛ كما قال الإمام محمد عبده
في تفسيره لقوله تعالى: ﱡﭐﱁﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱟ ﱠ [النساء:
١]،
فقد ذكر أن الله خلق الذكر من مادة، وخلق الأنثى من نفس المادة، فهما متماثلان في
عنصري التكوين، ولذا فهما ينجذبان لبعضهما، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ [لروم: ٢١]،
أي من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر، وذلك لما بين الإثنين من جنس واحد من
الإلف والسكون ﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆﲇ ﱠ ، أي وجعل بينكم التواد والترحم بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن بينكم
سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم.
سادت هذه المودة والرحمة بين الغالبية العظمى من سكان العالم؛ إذ لم
يحدث بين الأزواج من التنافر والقطيعة إلا بنسبة قليلة جدًّا على امتداد التاريخ،
فكانت الزوجة قانعة بما لها من علاقة مع زوجها، والرجل راضياً بما بينه وبين زوجته
من انسجام ورضا بما قسم الله لهما، وكان العرف والعادات والتقاليد سائدة بينهما لا
يخالف ذلك إلا العدد القليل، خوفاً من اتهامه بالخروج عما ارتضاه المجتمع، وسلمت
به العامة من الناس.
ولما جاء الإسلام أقر هذا العرف واعترف بالتقاليد ما لم تخرج عن
السياق العام للحياة الاجتماعية، ولذا أقر علماء التشريع بمرجعية العرف في سن
العلاقة بين الزوجين ما لم يخالف ذلك نصًّا من نصوص القرآن الكريم بشرط أن يكون
قطعيّ الدلالة، أما ما احتمل أكثر من معنى، فتعددت آراء العلماء في تفسيره طبقاً
لقدرة العالِم الفكرية، ومحاولة اتفاق الرأي مع متطلبات العصر؛ ولذا لم يرد في
القرآن الكريم ما يحط من قدر المرأة أو يصمها بالدونية؛ ففي مجال العبادات سوى
بينها وبين الرجل في أدائها ، وكذلك في تقدير الثواب، فقال تعالى: ﱡﭐﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱯﱠ [ل عمران: ١٩٥]
ظلت العلاقة بين الجنسين هادئة إلى
حدٍّما حتى استولى العباسيون على السلطة؛ فبدأت نغمة الحط من قدر المرأة ينتشر في
المجتمع وذلك في خضم النزاع بين العلويين والعباسيين على الحكم؛ إذ استند العلويون
على أنهم أحفاد فاطمة بنت رسول الله e،
فهم أحق بالسلطة، ويرد عليهم العباسيون بأنهم أحفاد العباس، ولا يستوي الذكر
والأنثى، ودخل في الصراع الشعراء من الجانبين، فقال شاعر العباسيين:
خلوا الطريق لمعشر عاداتهم * حطم المناكب كل
يوم زحام
ارضوا بما قسم الله لكم به * ودعوا وراثة كل أصيد حام
أنى يكون
وليس ذاك بكائن* لبني البنات وراثة الأعمام
ويرد عليه شاعر
العلويين بقوله:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن *
لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل
من ماله
* والعم متروك
بغير سهام
ما للطليق وللتراث
وإنما *
صلى الطليق مخافة الصمصام
وظل
السجال بين الرجل والمرأة و بين أتباعهما من الرجال متأججاً حتى جاء العثمانيون
فزادوا من وطأة الضغط على المرأة، حتى أصبحت لا سند لها؛ فالرجل يتعالى عليها،
والأدباء والمفكرون يحطون من قدرها بالنسبة للرجل ووجدوا في بعض آيات القرآن
الكريم سنداً لهم مثل قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ
ﱭ ﱠ [النساء: ٣٤] ، وقوله في شهادة المرأة على النصف
من شهادة الرجل، مما يجعل وصفها في المجتمع بأقل من وضع الرجل قال تعالى:
ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﳐ ﱠ [البقرة: ٢٨٢] [1]
استمرت هذه النغمة (وهي الحط من
قدر المرأة وتفضيل الرجل عليها) في المجتمع الإسلامي حتى اتصلت المجتمعات
الإسلامية بالمجتمعات الغربية التي قطعت شوطاً كبيراً في مسيرة التقدم والرقي،
فظهر الصراع واضحاً بين المرأة ومن يساندها من الكتاب والمفكرين، وبين الرجل ومن
يتمسك بما خلفه العصر العباسي وفترة العثمانيين من أقوال وآراء تغلغلت في ثقافة
المسلمين منذ العصر العباسي حتى العصر الحاضر، فبدأ الصراع سجالاً منذ الطهطاوي
حتى الآن؛ إذ أنصف الطهطاوي المرأة في بعض كتاباته ، ثم أصدر قاسم أمين كتابيه:
"تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة". ومنذ ذلك الحين توالت
إصدارات المؤيدين والمعارضين، وعقدت المناقشات والمساجلات في شتى أنحاء الوطن العربي
والإسلامي. ومن اللافت للنظر أن النغمة السائدة كانت توجيه تهمة انحطاط المرأة
وتخلفها على الإسلام، وكان صدور هذه التهمة من أناس أقحموا أنفسهم في هذه الحلبة
من النقاش دون معرفة كافية بتعاليم الإسلام، وعدم إلمام بالأسباب الحقيقية لتخلف
المرأة في العالم الإسلامي، وساعدهم على ذلك سطحية الفكر الإسلامي عند كثير من
الذين يدعون أنهم متخصصون في الفكر الإسلامي أو أنهم متخرجون من المؤسسات الإسلامية.
وفي الحقيقة أن كلا الفريقين لا يدركان الآثار السيئة التي تنتج عن دخولهما في هذه
المعركة الفكرية؛ إذ أن الفريق الأول بعيد كل البعد عن الإلمام بالنصوص الإسلامية،
والثاني حفظ النصوص ولكنه لم يدرك فلسفتها، فاقتصر عمله على الحفظ وترديد ما قاله
السابقون دون إدراك للظروف التي كانت تحيط بالمسلمين، ودون معرفة بدوافع المجتمع
الذي عاشوا في ظلها، وللتدليل على ذلك:
1.
توجيه القارئ إلى ما ذكرناه سابقاً من أن سبب انحطاط المرأة
كان النزاع على السلطة بين العباسيين والعلويين، وتخلف الفكر العثماني فيما يتعلق
بفلسفة التشريع الإسلامي.
2.
ما ذكره المؤيدون للمرأة أقل بكثير مما أتاحه الإسلام لها
ومارسته في العصر الإسلامي الأول، فعلى سبيل المثال فقد طالب قاسم أمين بإتاحة
الفرصة للمرأة في التعليم، فقال نصًّا: "أنا لا أطالب بأن تدخل المرأة الجامعة
ولكن بأن تتعلم المرأة القراءة والكتابة حتى إذا طلب منها أن توقع على شيء تدرك
علام تُوَقِّع."
قوبل هذا الرأي
بالاستنكار–حتى من الذين يدعون أنهم متخصصون في الفكر الإسلامي-وارتفعت الأصوات
مدعية أنه يطالب بخروج المرأة من خدرها، وهم بذلك يبرهنون على أنهم يجهلون أن
المرأة في صدر الإسلام لم تتعلم القراءة والكتابة فقط، بل وصل بعضهن – على الرغم
من الدعوة التي تطالب مراراً وتكراراً بمكوثها في البيت وعدم خروجها منه-في سلم
التعليم إلى درجة الأستاذية مثل: أم المؤيد، زينب بنت أبي القاسم (ت 615هـ = 1218م) فقد
درست على محمد بن إسماعيل بن أبي القاسم النيسابوري، وعلى أبي القاسم زاهر بن
طاهر، وغيرهما من العلماء، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر الفارسي،
والعلامة أبو القاسم الزمخشري ، صاحب الكشاف، وغيرهما من السادات الحفاظ. ويذكر
ابن خلكان أنها أجازته في بحث كتبه في عام 1213م.
وفي القرن التاسع الهجري نجد عالمات تفوقن
في مجال العلوم مثل: فاطمة بنت خليل بن أحمد الكنانية (ت 838هـ = 1234م)، فقد
اشتهرت بأنها عالمة في مجال الحديث النبوي، وغيرهن من العالمات اللاتي اشتهرن في
مجال الإنتاج العلمي مثل: سارة بنت أحمد الحلبية، وزينب بنت سليمان، وست الملوك
فاطمة بنت علي وغيرهن كثيرات. [2]
والحق أن الفتح العثماني قضى على مظاهر
النشاط الفكري التي كانت مزدهرة في العهد السابق لسيطرتهم على مقاليد الحكم في
المجتمع الإسلامي، فقد عني الغزاة الأتراك عقب الفتح مباشرة بتجريد مصر الإسلامية
من ذخائرها النفيسة في الآثار والكتب، وحُمِل ذلك كله إلى القسطنطينية ... وهكذا
انهار صرح الحركة الفكرية الإسلامية وتضاءل شأن العلوم والفنون، وانحط معيار
الثقافة... ولم يبق سوى آثر دارسة.[3]
وفي هذا الوقت وقع الاتصال بيت العالم
الإسلامي وبين المجتمعات الغربية، حيث وصل النساء فيها على كثير من حقوقهن، فتطلع
كثير من المسلمين – ومعظمهم من الرجال-إلى محاولة حصول المرأة المسلمة على بعض
حقوقها أسوة بالمرأة الغربية، فأسسوا جمعيات أطلق عليها: "جمعيات تحرير
المرأة". ومنذ ذلك الحين وقع النزاع بين الرجال، ويعاضدهم أولئك الذين تمسكوا
بالعادات والتقاليد التي سادت في فترة التراجع الحضاري في المجتمعات الإسلامية،
وبين النساء اللائي تطلعن إلى الحصول على المزايا التي حصلت عليها المرأة في
العالم الغربي، ويعاضدهن أنصار تحرير المرأة الذين جاهدوا بكل الطرق لحصول المرأة
على حقها أسوة بالمرأة في المجتمع الغربي. وفي خضم هذا النزاع أُقِرَّت بعض
التعديلات في قانون الأحوال الشخصية، لكن لم تصل هذه التعديلات إلى ما تتمناه
المرأة وأنصارها، وظل الشد والجذب بينهما مستمراً فأثر ذلك على وضع الأسرة مما
تسبب في زيادة نسبة الطلاق في المجتمع، وترتب عليها قضية الحضانة وما يتبعها من
ملابسات مما دفع المنادين بتعديل قانون الأحوال الشخصية إلى المطالبة بالمزيد من
التعديلات في قانون الأحوال الشخصية. إنصافاً للمرأة. وأقرب نضال بين الفريقين ما
تتداوله وسائل الإعلام اليوم (2021م) من مناقشات حول إصلاح التشريع للأسرة حفاظاً
على الأطفال، ومزيداً من حصول المرأة على مزايا تربو إليها من زمن.
وسوف أنتظر صدور هذا
التعديل الجديد لقانون الأجوال الشخصية، لأدلي برأيي فيما يصلون إليه ويتفقون على
تنفيذه لتهدئة الصراع بين الجنسين.
[2]) اقرأ عن المزيد من العالمات اللائي ظهرن في المجتمع الإسلامي في كتابنا: “Zu Fragen der Frau im Islam” صفحة 97 وما بعدها.
[3] ) الزركلي م. 5 صـ 329.